المنشور

الإعراب عن القلق في العرف السياسي



تُبنى العلاقات بين الدول على أساس مبدأ الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها بعضاً . هذه مبادئ أساسية حرصت الدول المؤسسة لمنظمة الأمم المتحدة على تدبيجها في ميثاق تأسيسها عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية (في أكتوبر/ تشرين الأول 1945 تحديداً) .


ثم إن مبدأ السيادة الوطنية يوفر للدول الأعضاء في الأمم المتحدة (عددها اليوم 193 دولة) وضعاً خاصاً في المعاملات الدولية وفي مخاطبة بعضها بعضاً بلغة تعكس هذا المبدأ والمبادئ الأخرى المتكاملة معه . وكما في حالة مخاطبة كبار الشخصيات والقيادات السياسية وقيادات قطاعات الأعمال بلغة تفيض احتراماً وتقديراً (وتبجيلاً في بعض الأحيان)، كذلك الحال بالنسبة إلى مخاطبة الدول ككيانات اعتبارية تمثل شعوباً ومجتمعات لها كينونتها الثقافية والحضارية لابد أن تحظى بمعاملة حضارية راقية عاكسة لاحترام هذه الكينونة . . وذلك بغض النظر عن حجم مساحتها وعدد سكانها وثقلها ومساهمتها في الحضارة الكونية .


من هنا فقد تم الاهتداء إلى ما يسمى باللغة الدبلوماسية، في مخاطبة الدول بعضها بعضاً، حيث وُضعت البروتوكولات والنظم وتم التوافق على الأعراف الدبلوماسية التي يتبادل أعضاء الأسرة الدولية تطبيقها في علاقاتهم المتبادلة . . وتم الحرص خلالها على أن تجيء مفردات لغة التخاطب الدبلوماسي هذه أكثر ميلاً إلى التهذيب واللياقة وأقل فظاظة ونهراً وزجراً .


وبهذا المعنى فإن حكومات الدول والمنظمات الدولية وحتى المنظمات غير الحكومية حينما تريد توجيه رسالة لوم أو امتعاض أو نقد إلى حكومة دولة أخرى، فإنها تختار مفردات وعبارات رسالتها بدقة محسوبة، تكون قصراً، في العادة، على “الإعراب عن القلق” ويمكن أن تتدرج الرسالة المعنونة في مرحلة تالية إلى استخدام عبارة ذات نبرة عالية قليلاً مثل “الإعراب عن القلق العميق” .


وحين يتطور عدم الارتياح إلى نوع من الغضب، فإن اللغة المستخدمة يمكن أن تتخلى عن بعض “عبارات الدبلوماسية الناعمة” إلى عبارات أكثر قوة مثل “الإعراب عن عدم الارتياح” . . مروراً “بالإعراب عن السخط” و”الإعراب عن الغضب” . . وصولاً إلى عبارات الشجب والاستنكار التي تسبق عادة التلويح باتخاذ خطوات أو إجراءات عقابية .


على أن رسالة “الإعراب عن القلق” هي الرسالة الأكثر شيوعاً وتفضيلاً للاستخدام في العلاقات الدولية نظراً، على ما يبدو، إلى استمرار تعبيرها عن متوسط سقف المخاطبات الاحتجاجية للدول إزاء بعضها بعضاً، وذلك على الرغم من التصدعات التي أصابت “جدار” السيادات القومية للدول تحت عصف تيارات العولمة .


الناس العاديون والنخب السياسية والاجتماعية الوجاهية وجموع الأنتليجنسيا ذات المشارب الوطنية، لا تروق لهم مثل هذه اللغة الدبلوماسية التي يعدونها مهادنة ومخاتلة، وهي لا تستحق بالتالي إعارتها أي اهتمام . . ولسان حالهم يقول: هل يمنع الإعراب عن القلق زهق الأرواح؟ وهل يوقف ممارسات التعذيب في السجون؟ وهل يضع حداً للقمع وانتهاكات حقوق الإنسان؟


هي وجهة نظر على أية حال حتى وإن بُنيت على ظواهر الأشياء، مع أن القلق – الذي هو عبارة عن حالة نفسية مَرَضية ناتجة عن مؤثر خارجي مجهول بحسب توصيف علم النفس للقلق – نقول مع أن القلق في الفلسفة يعد أهم مصادر المعرفة، كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الألماني شوبنهور “حينما لا أجد ما يُقلقني فهذا بحد ذاته يقلقني!” .


وأما في الحقل السياسي، والحقل الدبلوماسي تخصيصاً، فإن الإعراب عن القلق، وإن بدا في اللغة الدبلوماسية تعبيراً رقيقاً، ومجاملاً إن شئتم، إلا أنه ينطوي على معانٍ ومغازٍ محددة تفهمها الدوائر السياسية، خصوصاً الحلقة المعنية بالمستوى الأعلى من صناعة القرار، وكذلك كبار العاملين في الحقل الدبلوماسي بوزارات الخارجية . فقد ترمي دولة ما ذات نفوذ معين في العلاقات الدولية من وراء إعرابها عن قلقها أو انزعاجها من مواقف أو سياسات دولة أخرى، إلى نقل حالة القلق والتوجس هذه إلى الدولة المعنونة لها رسالة الإعراب عن القلق . . وقد يصل مدى هذه الرسالة إلى حد اتخاذ خطوات رمزية تأكيداً للموقف المعبر عنه قلقاً .


وبهذا المعنى فإن الدولة حين تعرب عن قلقها إزاء موقف أو حدث أو سياسة ما، فإن قلقها يعني أن هذا القلق تشترك فيه مؤسساتها المدنية والعسكرية كافة . وأنه يعبر عن موقف حكومتها وشعبها معاً، وهو ما يكسبه معنى خاصاً ذا دلالة وقوة معنوية معبرة عن وزن الدولة وحكومة الدولة الذائعة لرسالة القلق .