المنشور

كيانات وُجدت لتفكك



منذ سنوات أخبرني
زميل عربي يعمل في إحدى السفارت الأوروبية في بلده، أن دبلوماسياً في تلك السفارة
قال له، وهو بين المزح والجد: من الأفضل أن تنال جنسية دولة أوروبية لتضمن مستقبل
عائلتك وأطفالك، فما يُخطط له تجاه بلدانكم، سيدخلها خلال السنوات القادمة في
دوامات من الفوضى، وحين استفسر منه عن طبيعة تلك الخطط أخذه نحو أقرب خريطة معلقة
على الخائط، وراح يشير بأصابع يده إلى كيانات بعينها، قائلأً انها ستفكك، وإن
خريطة جديدة ستتشكل للمنطقة، جاء  هذا
الحديث في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تتوحد، ومحل الكيانات- الدول ينشأ اتحاد
يأخذ شيئاً فشيئاً من سيادة تلك الدول في اتجاه بلورة هوية أوروبية مشتركة، أما
عالمنا العربي – الإسلامي فيزداد تفككاً، وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه،
فعلينا توقع انبثاق كيانات جديدة أصغر فأصغر. 
  
يدفعنا ذلك إلى
مشارف الاستنتاج، فنقول إن الدولة- الأمة في أوروبا قد استوت إلى مرحلة النضج،
التي لا تجعلها خائفة من الاندماج في كيانٍ أوسع، يُثريها وتثريه، أما الدولة
الوطنية، أو القطرية إن شئنا، في عالمنا العربي – الإسلامي فقد شارفت مرحلة
إفلاسها التام، قبل أن تنجز مهمتها، في بناء كيانات حديثة، قوية ومتطورة، ونواة
تمزق هذه الكيانات وانحلالها إلى عشائر وقبائل ومذاهب كامنة في بنيتها الهشة من
الأساس. 
  
هذا ما لحظه وزير
الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، في مقالةٍ له نشرت منذ سنوات، حين أشار
إلى أن الحدود التي رسمت الدول والكيانات القائمة هي صنيعة المنتصرين في الحرب
العالمية الأولى الذين قسموا بلدان هذه المنطقة بشكلٍ اعتباطي، يوائم توزيع
الغنائم فيما بينهم، وما اتفاقية سايكس – بيكو إلا التعبير الأبلغ عن هذا
“الترسيم” الاعتباطي، كإن الغرب، خاصة بريطانيا وفرنسا وهما يتقاسمان
مناطق النفوذ في منطقتنا كانتا “تقيمان” كيانات وجدت لتتفكك بعد حين، لا
لتبقى. 
  
إنه افتراض ينطوي
على وجاهة، إذا ما عاينا هذا الهجين الغريب الذي تشكلت منه هذه الكيانات، وفاقم من
ذلك أن من حكموها لم يتوفروا على برامج واضحة لبناء دول حديثة، تمتلك أسباب القوة
والمنعة، وتحقق لشعوبها ما هي في حاجة إليه من عيشٍ كريم وحياة حرة، فلا هي أمنت
لقمة العيش ولا فضاء الديمقراطية، مما جعل من هذه المجتمعات على حافات الانفجار
الذي ظل مؤجلاً حتى حانت لحظته، التي يعدها كيسنجر واحدة من ثورات ثلاث في عالم اليوم. 
  
في كلماتٍ أخرى،
أضاعت هذه الحكومات فرصة أن تصهر الهجين الذي منه تشكلت هذه الكيانات في دولٍ
للمؤسسات والقانون، قائمة على الحقوق والواجبات المتكافئة لمواطنيها، وتتخطى عناصر
ما قبل الدولة، في اتجاه بناء الدولة. 
  
يبقى السؤال الأصعب
عن حدود مسؤولية التدخلات الخارجية في دفع الأمور نحو هذا المآل، وكما في حال
“اصطناع” كيانات كثيرة في المنطقة، حين كان لفعل فاعل خارجي أكبر الأثر
فيه، فإن تفكيك هذه الكيانات إلى وحدات أصغر، لا يبدو أنه يجري بعيداً عن تأثير
فعل فاعل خارجي مشابه، مع فارق أن مركز القرار انتقل من لندن وباريس، إلى ما وراء
المحيط، في واشنطن.