المنشور

ألمانيا . . لا حول ولا قوة

في
عددها الصادر يوم الاثنين 28 إبريل/نيسان 2014 وجهت صحيفة “ليبراسيون”
الفرنسية انتقادات لاذعة لألمانيا ولمستشارتها أنجيلا ميركل على ما اعتبرته
مواقف ألمانية “مائعة” من روسيا، فيما يتصل بالأزمة الغربية الروسية حول
القضية الأوكرانية . واتهمت الصحيفة ألمانيا بترجيح علاقاتها ومصالحها
الاقتصادية مع روسيا على الموقف الغربي المتضامن ضد روسيا .


ومن متابعة
سريعة، ولكن متفحصة، للأوضاع الاجتماعية غير الصحية التي تجتازها أوروبا
الغربية، لاسيما بلدان مركزها الاقتصادي مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا،
والناجمة عن الفشل حتى اليوم في معالجة الأضرار التي خلفتها قوة انفجار
الأزمة المالية/ الاقتصادية خريف عام ،2008 سوف يجد أن الأزمة ألقت،
ومازالت تلقي، بظلالها على نزعات وتوجهات الخطاب السياسي والثقافي
الأوروبي، حتى صار من الصعب تحديد الفوارق بين اليمين وبين ما يسمى باليسار
المعتدل المتصالح مع جبروت مؤسسات الدولة العميقة، والقابل بشروط اللعبة
الرأسمالية ثمناً لإدماجه في المنظومة المؤسسية للنظام المهيمن على كافة
مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية بوجهها العام
الأشمل، النظام بشطريه المتوزعان على ضفتي الحكم والمعارضة الموازية
والموازنة لعملية إعادة الإنتاج اليومية لشؤون الحكم .


لما كان ذلك،
وآخذاً في الحسبان ما تتعرض له منذ أسابيع صحيفة “ليبراسيون” من أزمة مالية
جعلتها تصارع من أجل البقاء في السوق بعد خسارتها العام الماضي 3 .1 مليون
يورو نتيجة لتراجع مبيعاتها بواقع 15%، والتي أدت إلى استقالة رئيس
تحريرها نيكولاس ديموراند بعد اتهامه من قبل كتّاب وصحافيي الجريدة بالنفاق
والانحياز لتوجهات ملاك الصحيفة، وهما رجل الأعمال إدوارد دو روتشيلد
والمطور العقاري برونو ليدوكسي اللذان هددا بعدم تمويل الصحيفة لإسعافها
مالياً .


نعم إنها ذات الصحيفة التي أسسها في عام 1973 المفكر والفيلسوف
الفرنسي جان بول سارتر كمنبر لليسار الراديكالي، هي اليوم تنصب نفسها ضمن
جوقة المطبلين للنسخة الجديدة من الحرب الباردة المدفوعة بزخم أزمة
العجوزات والمديونيات المالية الأوروبية والأمريكية .


قبل أيام (26
إبريل/نيسان 2014) نشرت مجلة “الإيكونومست” البريطانية التي لا تخفي ميولها
المحافظة، في الاقتصاد كما في السياسة، مقالاً حفل بالتحفظات على بعض
السياسات الاقتصادية التي وافقت عليها ميركل وحزبها “حزب الاتحاد المسيحي
الديمقراطي” الذي يقود الائتلاف الحاكم في فترة حكمها الثالثة (الأولى من
2005-،2009 والثانية من 2009-2013) . المقال يأخذ على ميركل ضعفها
واستسلامها لبعض أجندات شريكها في الحكم الحزب الاجتماعي الديمقراطي الذي
يتمتع بنحو 20% من مقاعد البرلمان، والتي تتعلق بوضع حد أدنى للأجور لشرائح
عمالية معينة، ووضع بعض الضوابط المانعة لانفلات وتيرة ارتفاع إيجارات
العقارات، وإعادة النظر جزئياً في سن التقاعد باتجاه تخفيضها من مستواها
الحالي الذي كانت رفعته ميركل في دورتها السابقة من 65 سنة إلى 67 سنة .


ويمتد
تحفظ المجلة الإنجليزية على السياسات الألمانية ليطاول فضاء العلاقات
الدولية الألمانية، لاسيما فيما خص العملية الأمريكية الأوروبية لتصعيد
حركات اليمين الأوكراني المتطرف ذي النزعات الفاشية، المعلنة، إلى السلطة
في كييف . إذ تقرن المجلة تحفظاتها تلك بإيعاز ذي مغزى لأن تنهض ألمانيا
بمسؤولياتها في قيادة أوروبا في مواجهتها لروسيا .


أيضاً وقبل بضعة
أسابيع، حين كانت محاولات إطاحة الرئيس الأوكراني فيكتور ياناكوفيتش في
أوجها، ضُبطت مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأوروبية، فيكتوريا
نولاند، وهي تتحدث على الهاتف مع سفير الولايات المتحدة في أوكرانيا جيفري
بيات، ضُبطت وهي تتلفظ بكلمات غير دبلوماسية، غير لائقة ومسيئة للاتحاد
الأوروبي، حيث قالت “فليذهب الاتحاد الأوروبي إلى الجحيم”، تعبيراً عن
انزعاج واشنطن من عدم كفاية عدائية الموقف الأوروبي ضد موسكو، قبل أن تعتذر
للأوروبيين بعد أن تم تسريب ونشر المكالمة المسجلة على موقع “يوتيوب” مطلع
فبراير/ شباط الماضي . ومع ذلك لم تشأ كريستين فيرتز المتحدثة باسم
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تفويت الفرصة لتوجيه النقد لواشنطن على
ما اعتبرته برلين استخفاف أمريكا بدور الدبلوماسية الأوروبية في أوكرانيا،
وان ذلك “غير مقبول تماماً” .


وكانت سحابة داكنة قد غلفت علاقات واشنطن
ببرلين بعد الكشف عن قيام واشنطن بالتجسس على الهاتف الخلوي والبريد
الإلكتروني للمستشارة الألمانية، وأن الرئيس أوباما كان يطلع أولاً بأول
على محتوى مكالماتها ومراسلاتها .


والمثير أن إراقة ماء وجه ألمانيا
ومستشارتها أنجيلا ميركل لم يمنع الأخيرة من تلبية دعوة الرئيس الأمريكي
لزيارة واشنطن يومي الخميس والجمعة 1 و 2 مايو/أيار 2014 والالتقاء به في
البيت الأبيض لمناقشة ملف الأزمة الأوكرانية الذي توليه واشنطن أولوية هذه
الأيام وتريد من كل “شركائها” مجاراتها في المعركة التي تخوضها ضد روسيا .
وفي مشهد لافت وقفت ميركل بجوار الرئيس الأمريكي في حديقة البيت الأبيض
لإطلاع الصحفيين على جري العادة بما تمخضت عنه مباحثاتهما، وقفت تردد ما
قاله الرئيس أوباما بشأن الحزمة الثالثة من العقوبات المعتزمة ضد روسيا،
حيث بدت غير واثقة من هذه المسايرة المهنية، وهي التي تعلم أن قطاعات المال
والأعمال الألمانية المرتبطة مصالحها بالاقتصاد الروسي، ترغب في أن تنأى
بلادهم عن حرب العقوبات التي تقودها واشنطن ضد روسيا، وهو ما حدا برئيس
شركة “سيمنز” الألمانية للتعبير عن ذلك في لقائه مع الرئيس الروسي بوتين،
على نحو ما فعلت أيضاً شركة “بريتش بتروليوم” البريطانية .


بهذا المعنى، فإن ألمانيا تجد نفسها قد وضعتها أحداث أوكرانيا، والصراع الأمريكي الروسي المتجدد، في وضع لا تحسد عليه .





د . محمد الصياد