المنشور

“11 سبتمبر الفرنسي “!


هل صُدم الفرنسيون بالمجزرة التي نفذها إرهابيو داعش والقاعدة ضد العاملين في الصحيفة الاسبوعية الساخرة “شارلي إيبدو” الذين كانوا مجتمعين بمقر صحيفتهم في العاصمة الفرنسية باريس ظهيرة يوم الأربعاء 7 يناير/ كانون ثاني 2015 قبل أن يباغتهم 3 من الإرهابيين المحترفين بأسلحتهم الرشاشة وقاذفة صواريخ “آر بي جي” ويقتلونهم بدم بارد.
 
لتسفر الجريمة عن قتل 13 عاملاً منهم 8 صحافيين بينهم أشهر رسامي الكاريكاتير الفرنسيين ستيفان شاربونييه “شارب” (رئيس تحرير الصحيفة) وجورج وولينسكي وكابو وتينيوس، وجرح 11 آخرين بينهم 4 بحال الخطر ، نتساءل هل صُدم الفرنسيون بهذه المجزرة البشعة التي أراد لها تنظيم القاعدة الإرهابي أن تكون النسخة الفرنسية من “غزوة واشنطن” الإرهابية في 11 سبتمبر/ أيلول 2001؟

طبعاً كان لابد أن يُصدَموا، باعتبار ذلك ردة الفعل البشرية التلقائية، الغريزية، إزاء أي حادث طارىء غير متوقع وخارج سياق التقبل الاحساسي الاعتيادي . إنما السؤال يتجاوز هذه الحالة النفسية للحظة الصدمة الأولى، إلى ما بعدها؟

نزعم أن النخبة الفرنسية الحاكمة كانت تتوقع أن فرنسا مستهدفة إرهابياً على نحو مباشر ، وأنها أضحت معرضة في أية لحظة إلى هجمات إرهابية غير معلومة الحجم والمدى، انتقاماً لانعطافة طبقتها السياسية الحاكمة باتجاه سير الحرب التي أعلنتها وحشدت لها واشنطن ضد تنظيم داعش الإرهابي، وهي التي كانت تقف، حتى وقت قريب، إلى جانب القوى الغربية المؤتلفة بقيادة الولايات المتحدة في منظومة حلف شمال الأطلسي “ناتو”، في تقديم الدعم بصورة مباشرة للمجموعات المسلحة التي أنشأتها أجهزتها الأمنية على الأرض، بما فيها المجموعات الإرهابية، لقلب الأوضاع السائدة في كل من ليبيا وسوريا .

أولاً في ليبيا حيث تقدمت فرنسا صفوف دول “الناتو” في شن الحرب ضد ليبيا لإطاحة نظام معمر القذافي الذي كان إلى ما قبل سقوطه في أغسطس/ آب 2011 “صديقاً وفياً” للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي وسيلفيو بيرلسكوني رئيس وزراء إيطاليا حتى نوفمبر ،2011 واللذين حظيا من القذافي بتمويل مالي سخي لحملتيهما الانتخابية وخصهما وخص شركات بلديهما بالعقود المسيلة لِلّعاب . وفرنسا نفسها هي التي وفرت الاسناد الجوي لمجموعات القاعدة بقيادة عبد الحكيم بلحاج المنتمي لتنظيم القاعدة والذي قضى قبل ذلك سنوات في سجن غوانتانامو، لاحتلال العاصمة الليبية طرابلس، بعد أن سهلت وصول القاعديين إلى “أرض الرباط أو أرض الجهاد” من ملاذاتهم في إفريقيا ومن أحزمة البؤس في ضواحي المدن الفرنسية .

فرنسا بهذا المعنى، هي التي اندفعت بقوة طاغية “لفقس بيض” الوحش وتغذيته ثم اطلاق مارده في شوارع وأزقة المدن الليبية، من أجل اشباع جشعها ونهمها وأطماعها الاستعمارية المتجددة في الثروة النفطية والغازية الليبية، لتخرج “توتال” بحصة الأسد من قسمة الكعكة النفطية الليبية .

وتالياً، وكما صار معلوماً ومكشوفاً، كان الدور الفرنسي على سوريا، حيث ظلت باريس تعمل في العلن أكثر منه في السر، وبالتنسيق مع بلد استقبال “الإرهابيين” (تركيا) على تقدم صفوف الائتلاف الدولي الذي جرد حملة بالغة الضراوة ضد سوريا على مدى الأعوام الأربعة الأخيرة، بتقديمها كافة أشكال الدعم السياسي والعسكري واللوجستي لكافة المجموعات المسلحة، بما في ذلك تسهيل مرور الإرهابيين من أراضيها إلى اسطنبول ومنها إلى الداخل السوري .

فلدى فرنسا فيض من القوة العسكرية “العاطلة” ولديها أيضاً فيض، على ما صار ظاهراً، من “الخزين” البشري الذي يمكن استثماره عند الطلب . .طلب النخبة الحاكمة . ومن يذهب إلى مرسيليا أو إلى أي من مدن الداخل الفرنسي، وضواحيها تحديداً، سيجد أن فرنسا الإليزيه، حفيدة فرنسا الثورة . . ثورة “الحرية والإخاء والمساواة” لعام ،1789 شأنها شأن كل ضواحي مدن الأطراف الأوروبية تقريباً، قد أنشأت في مناطقها هذه ما يشبه الغيتوات المكتظة بالمهاجرين، الشرعيين وغير الشرعيين، العارضين بيع قوة عملهم بأبخس الأثمان هرباً من حياة معدمة وبائسة في بلدانهم . هذه البيئات الحاضنة (الشبيهة تماماً بالبيئات القبلية والعشائرية التي تشكل الحواضن الرئيسية للنزعات التكفيرية المتحولة إرهاباً في جميع بلدان العالم الإسلامي)، بمعاونة الجهود الحكومية (الفرنسية في حالتنا)، المُهيِّئة لنشوئها وترعرعها . . لابد وأن يخلق مُهمَّشوها وبائسوها من شبابها “سوقهم” الخاص بهم “لتصريف” قوة عمل بيئتهم البائسة، ما داموا لا يجدون لهم مكاناً في سوق العمل الفرنسي “الأوّلي” .

ولما كانت بوتقة الاحتضان من زوايا ومراكز تعبئة، دعوية في الشكل وتحريضية ضد الآخر المختلف في الجوهر، متوفرة ومرخصة بدفع من مصالح حزبية وشخصية انتخابية محضة، غير المكترثة بحقيقة وقوع هذه المراكز في أيدي الأصولية المتطرفة الصاعدة بمحفزات لمعان المال ورنين الذهب، فإن عملية “الاختطاف” والاستقطاب والإلحاق بأحد أجنحتها الإرهابية الضاربة (القاعدة، داعش، النصرة . . الخ من معروض السوق السلعي الإرهابي)، تضحى بالنسبة إلى خلايا هذه الأجنحة، بمثابة فسحة “إرهابية” مريحة لا يعكر صفوها سوى بعض نوبات الغضب والحنق المتقطعة التي تطلقها السلطات في وجه المنحرفين عن صراطها والمبالغين في أدوارهم الانفرادية .

فهل ستعيد فرنسا الطبقة الحاكمة، النظر في سياستها المفضية حكماً لهذه النتائج؟ الأرجح أنها لن تفعل . إنما هل كل ما تقدم ينهض مبرراً للإرهابيين لارتكاب جرائمهم ضد الأبرياء وضد كل من يختلف معهم في الرأي؟ ومن ذا الذي نصَّب هؤلاء الإرهابيين أوصياء على الدين الإسلامي الحنيف لكي يُوغلوا في جرائمهم الشنيعة التي أودت بسمعة المسلمين في العالم إلى الحضيض؟

إنها لمصيبة، مصيبة أمة بأكملها، وقد رضيت، على نحو من الأنحاء، إما جهراً، وهو القسم المعروف والمتعاظم من المنتمين للمؤسسة الدينية النافذة وجموع الدهماء السائرة في ركابهم، وإما صمتاً بداعي الخوف أو تعبيراً عن التواطؤ الضمني، قد رضيت بأن تتحكم في “رقابها” شراذم من المنحرفين والمشعوذين الدينيين، من دون أن تُبدي ردة فعل رادعة موازية لهول الجريمة التي تواصل ارتكابها تلك الشراذم . 
 



حرر في 23 يناير 2015