المنشور

ما عجزتُ عن قوله في يوم الوفاء



أصدقائي الأعزاء حضور فعالية يوم الوفاء لتكريم مجموعة من المناضلين. 



  إسمحوا لي أن أعتذر منكم مرة أخرى –عبر موقع التقدمي- على عدم قدرتي على إتمام كلمتي عن أحمد الشملان في الفعالية المذكورة، فقد غلبني التأثر ودكتني العبرات.. واسمحوا لي فيما يلي أن أقول ما عجزت عن قوله في تلك الأمسية. 


 أحسب أن غالب ما يمكن أن يقال عن تجربة أحمد الشملان الحياتية والنضالية قد ورد في سيرته “أحمد الشملان. سيرة مناضل وتاريخ وطن”. أما الآن فيمكن تسليط الضوء فقط على جانبين هما: حياة أحمد الشملان في كنف المرض بدءاً من العام 1997 حتى اليوم(ثمانية عشر عاماً)، والخصال الإنسانية-النضالية التي اكتسبها الشملان عبر مسيرته النضالية، ومعه حتما كثير من المناضلين. 


1. لو لم يمر أحمد الشملان بتجارب نضالية طويلة ومريرة لما أمكنه التعايش مع الحالة المرضية الصعبة التي يعيش. ببساطة هو غير قادر على الكلام والتعبير عن نفسه وتوصيل ما يريد قوله للآخر، اللهم سوى كلمات منفردة غير مترابطة في الغالب. في الوقت نفسه تعز الكتابة على أبي خالد لعدم توفر قدرة دماغية توجه لذلك. أما القدرات القرائية فهي محدودة جداً نظراً لحالة التعب الذهني التي تصيب أبا خالد أثناء القراءة، إلى جانب القدرة المحدودة على استيعاب التفاصيل. ما أقسى الحياة لو تصور الواحد منا نفسه معزولاً محاطاً بسياج يقطع قنوات التواصل بينه وبين الآخرين بمن فيهم الأقربين، في حين تتطلب الحياة اليومية وكافة احتياجاتها ألف تواصل وتواصل. لكن ومنذ أيام مرضه الأولى أظهر أبو خالد رغبة عارمة في مواجهة المرض ومقاومته، وحين استوعب صعوبة الحالة أظهر نية قوية على التعايش مع المرض وهو كذلك اليوم. 


 وليس معنى القول هنا أن أبا خالد لا يعاني ولا يتألم في حضرة هذا النمط الحياتي القاسي وهو الذي كان يملأ الدنيا بقوله وقلمه، فهو يمر أحياناً بحالات من الضيق والإكتئاب وعدم الرغبة في الإنفتاح على الحياة. وتؤكد الكتب الطبية المتخصصة أن غالب من يعانون من الحالة المرضية ذاتها يكونون عرضة لاكتئاب شديد. لكن – وهذا من حسن الطالع- لا تُصنف حالة أبي خالد اليوم كاكتئاب مرضى السكتة الدماغية، بل كاكتئاب ظرفي دوري بسيط. أما غالب وقته فهو مقدم على الحياة محب لها، ساع لإسعاد نفسه ومن حوله بالقدر الذي تتيحه حالته المرضية. 


2. لم تأت قدرة أبي خالد على التعايش مع حالته المرضية القاسية من فراغ، فقد أهّلته لذلك خصال إنسانية ونضالية اكتسبها عبر السنين مثله كمثل آخرين من المناضلين. وأحسب أن التطرق لهذه الخصال مهمٌ اليوم في حاضرنا السياسي الصعب كي – كما ذكر الأستاذ خليل يوسف مقدم الفعالية- نستلهمها ونقتديها. تميز أبو خالد بالطهرانية النضالية التي تذهب إلى الحرص الشديد على عدم تدنيس السلوك النضالي بأي تصرف أو دافع ذاتي قد يمسه بالتشويه، بل والعبور إلى خصال نضالية أخرى كالإيثار والإستعداد الكامل للتضحية والقابلية الكبيرة للصمود. وقد لمستُ الخصال ذاتها في رجال منحتني الحياة فرصة ثمينة في التعرف عليهم عن قرب، هو قرب الأصدقاء، كالشهيد الصديق هاشم العلوي والشهيد الصديق محمد غلوم اللذين أرى فيهما شبهاً خصالياً كبيراً مع أبي خالد فيما أسميته الطهرانية النضالية ومتطلباتها. مع الزمن تشرّب أحمد الشملان تلك الطهرانية وما يتبعها من خصال حتى تلبسته وأصبحت هي حياته كما عبّر لي عن ذلك الأستاذ بدر عبدالملك بقوله:”أحمد تفانى إلى درجة حالة الإنسان الذي يقول عنه الحلاج: ذاته تذوب في تلك الذات، أقصد في ذات القضية الوطنية، أنت تشعر أن لديه طهرانية وهو مؤمن بشيء صحيح وشيء نبيل، وغير مستعد أن يناقش أن الأمر صحيح أو خاطىء”. 


 ومع تكرار المحطات النضالية التي خاضها الشملان اكتسب سماتاً أخرى كالشجاعة وكالإقدام على المغامرة، وهما خصلتان لمستهما في مناضل تعرفت عليه لفترة قصيرة في عمر مبكر هو الشهيد محمد بونفور. وللصدفة كلهم شهداء، ولعمري لو عُذب أبو خالد كمثل ما عُذبوا لكان اليوم من الشهداء، فرغم عدد مرات اعتقاله لم ينل أبا خالد تعذيبٌ قاسٍ إلا خلال أول اعتقال له في انتفاضة 1965. وقد عذبه الضابط البريطاني “بوب” بالضرب بالخيزرانة، وعرفتُ بعد نشر السيرة أن أبا خالد كان أثناء تعذيبه يباغتُ بوب ويسحب منه الخيزرانة بقوة ويرد عليه ضربا بضرب مما جعلهم يسرعون في تقييده. قد لا يكون ذلك سببا في عدم تعذيب الشملان خلال اعتقالاته اللاحقة، لكنه أعتقل بعد ذلك أربع مرات على مدى ثلاثة عقود ولم ينله أي تعذيب. ومع تكرار الإعتقالات كان الشملان كغيره من كثير من المناضلين قد اكتسب خصلة الصبر وتحمل الشدائد والتعايش مع ظروف الإعتقال الأكثر من قاسية. ولا أجد غير تجارب المعتقل في صقل شخصية أبي خالد وتعوّيدها على الصمود في مواجهة الشدائد وأعظمها حالته المرضية الحالية. 


  ذلك لا يعني قطعاً أن أبا خالد يخلو من الخصال السلبية فهو بشرٌ، وبظني لقد ظلت خصال كالإندفاع وروح المغامرة – رغم أنها مطلوبة بدرجة معينة كخصلة نضالية- تنقلب أحياناً ضد ما يروم أبو خالد حين يخونه حسبان العواقب. وطوال حياته ظل الشملان عصبي المزاج متمسكاً برأيه، ولقد أسهمت العقاقير المهدئة التي يتناولها حالياً بانتظام في التخفيف من تلك العصبية، كما خففت الحالة المرضية من تمسكه برأيه. وهنا أود أن أتوجه بالشكر الجزيل لإنسان جميل على دنو كبير من أبي خالد في مكتبه هو الصديق المحامي فيصل خليفة الذي يتفهم الحالة المرضية لأبي خالد ويُظهر الكثير من المرونة في التعامل معه، وتحمل توتره حين يعجز عن التعبير عن نفسه وعما يريد توصيله. 


أعتذر منكم مجدداً وأتمنى لكم ولأبي خالد الصحة والسعادة وطول العمر.