المنشور

معاناة ما نكتب


سأل أحد الصحفيين غسان كنفاني مرة السؤال التالي: هل تحب الكتابة أم تكرهها؟ أجاب غسان بما معناه أنه عندما يعود إلى بيته بعد انتهاء عمله في مجلة «الهدف» ينتابه شعور بالإرهاق، مما يمنعه من ممارسة الكتابة، لذلك فإنه يفضل القراءة. وقال إنه يترتب عليه أن يقرأ ساعتين على الأقل لأنه لا يستطيع الاستمرار دون ذلك، لكن بعد الانتهاء من القراءة يشعر بأن الخلود إلى النوم أو مشاهدة فيلم سخيف أفضل بالنسبة له، لأنه، باختصار، لا يستطيع الكتابة بعد نهاية عمله.
 
قائل هذا الكلام كاتب عذب وبارع، متدفق، لكنه مع ذلك لم يقل إنه يحب الكتابة، بل أوحى لنا بأنه إلى النفور منها أميل من الإقبال عليها. ولن نقبل، بسهولة، أن غسان كان يكره الكتابة بالفعل، لأنه هنا يتحدث عن معاناتها التي تجعله يُفضل مشاهدة فيلم سخيف عليها، لأنها تتطلب منه شدّاً ذهنياً وتوتراً عصبياً.

ليس هذا فحسب، فهو، على الأرجح، يتحدث هنا عن الشعور العالي بالمسؤولية تجاه الكتابة وتجاه القارئ الذي سيقرؤها، ما يجعله لا يقبل عليها إلا عندما يكون جاهزاً لذلك.

في حوار آخر يعود إلى عام 1960، قال غسان: أفكر في كتابة قصتين: الأولى قصة إنسان مخذول، خذلته القيم التي اعتقد أنها مقياس الحياة الوحيد، وإذا بها قيم لا تعتبر في عالم الحضارة المعاصر، أنني لم أتوصل بعد إلى اصطياد الحادثة الملائمة، لكني أحتاج إلى أن أصل منها إلى التعبير عن الانخداع الكامل الذي يحسه إنسان صُفع بشيء آمن به، فإذا به عند الآخرين لا يساوي شيئاً، وليس يهمني أن يكون هذا الشيء خطأً أو صواباً، يهمني فقط أنه إيمان يحمل على دعائمه كل طموح ذلك الإنسان.

أما موضوع القصة الثانية فقد سمع به غسان من صديق رواه له «ببساطة حرقت محجري» كما يقول، ويتساءل: «أترى أستطيع أن أنقلها ببساطة إلى محاجر الآخرين، لأنني لم أصل بعد إلى صوغ جميع تفاصيل هذه القصة، لكنني أشعر بأني أستطيع أن أفهمها بإخلاص وصدق، بل وأعانيها».

وفي كلامه أعلاه شبكة مصطلحات وعبارات ذات شحنة دلالية عالية: «اصطياد الحادثة الملائمة» ،«يهمني فقط أنه إيمان» ،«فهم القصة بإخلاص وصدق معاناتها».

 هذه الأمور كلها تجعل المبدع نافراً من الكتابة، غير مقبل عليها، قبل أن تكون قد استوت في داخله، وأن يكون قد تمثلها
.


24/12/2015