المنشور

لماذا نرفض وصفات صندوق النقد الدولي ؟ #ارفعوا_أيديكم_عن_التأمينات

يقدم صندوق النقد الدولي (ص.ن.د) والبنك الدولي (ب.د) نفسيهما رسميا كمؤسستين شقيقتين ضمن منظومة الأمم المتحدة، يعملان بتكامل من أجل رفع مستوى المعيشة في بلدانهما الأعضاء. يركز الصندوق على قضايا الاقتصاد الكلي بينما يركز البنك على التنمية الاقتصادية طويلة الأجل والحد من الفقر.

وعلى الأرض تختلف الوقائع. يقول بحث أجراه براين جونسون وبريت شيفير أنه بين عامي 1965 و1995 “أنقذ” ص.ن.د. 89 بلدا بفضل “توافق واشنطن”. لكنه حتى عام 2010 ظلت الحالة الاقتصادية الاجتماعية في 48 بلدا منها كما كانت تقريبا قبل “الإنقاذ”، وفي 32 بلدا ساءت الحالة أكثر. ولا مجال للحديث عن نجاعة تلك الحلول. إلى ذلك أشار جوزيف ستيجليتس، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد إلى أن “توافق واشنطن” كان وراء الأزمة المالية في آسيا. وبصرخة ضمير اعترف ستيجليتس : “يجب أن تكون لكل بلد سياسة اقتصادية تراعي خصائصه. لا يمكن أن تكون هناك سياسة واحدة وعامة للإصلاح في كل البلدان. وشخصيا كنت واهما عندما رددت بإرادتي في بداية التسعينات ” الخصخصة، الخصخصة ومرة أخرى الخصخصة”.

نجد في مقابل ذلك أن بلدانا كالصين والهند وفيتنام التي لم تذعن لشروط  “توافق واشنطن” ورسمت لنفسها سياساتها التنموية الوطنية المستقلة تحقق وتائر متصاعدة في نموها الاقتصادي وثماره الاجتماعية. وقد استطاعت الصين أن تواجه “توافق واشنطن” بـ “توافق بكين” الذي أعلنه دين سياوبين متسلحا بسياسة اقتصادية جديدة “النيب” وبالنموذج الكنزي المعزز لدور الدولة في الاقتصاد.

ما هو “توافق واشنطن” الذي يضفون عليه القدسية، وما هي شروطه ؟

أدرج “توافق واشنطن” كمصطلح في نهاية ثمانينات القرن العشرين من قبل البروفيسور الأميركي جون وليامسون ومختصين من ص.ن.د. وهو يعود بجذوره إلى مؤتمر بريتون وودز والسياسة الريغانية ويشكل نقيضا لمذهب كينز، الداعي لتعزيز دور الدولة في الاقتصاد. وتم تقديمه كبرنامج بشكل توصيات للخروج من الأزمة الاقتصادية التي مرت بها بلدان أميركا اللاتينية، الغارقة في الديون للمصارف الأميركية. لكن ذلك ولَّد بؤسا كارثيا لشعوب هذه البلدان، فاحتجاجات واسعة وانفجارات اجتماعية. وكان هذا أول استعراض لنتائج “توافق واشنطن” على الأرض.

وفي سنوات التسعينات أُبتليت بـ “توافق واشنطن” بلدان أوروبا الشرقية والبلطيق. وبينما كان “الربيع العربي” ملتهبا كانت المؤسسات المالية الدولية تجهز برامج “توافق واشنطن” للدفع بها فيما بعد  إلى المغرب والأردن ومصر، كما العراق قبلا. ولعلنا نلمس الآن ما يعتمل في هذه البلدان من تدهور اقتصادي واحتجاج اجتماعي نتيجة تطبيق هذه الوصفات.

يحتوي “توافق واشنطن” على وصفات عشر : التمسك بالانضباط المالي (تقليص عجز ميزانية الدولة)، أولوية الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية في إنفاق الدولة، خفض معدلات الضرائب، تحرير أسواق المال، سعر صرف حر للعملة الوطنية، تحرير التجارة الخارجية (خفض الرسوم الجمركية على الواردات)، خفض المحددات أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة، الخصخصة، عدم توجيه الاقتصاد، حماية الملكية الخاصة. وبالمعنى الأوسع يستخدم مصطلح “توافق واشنطن” لتشخيص عدد من الإجراءات ( ليست بالضرورة من بين المدرجة أعلاه)، الموجهة لتعزيز دور قوى السوق وإضعاف دور قطاع الدولة. يندرج ضمن هذه الوصفات إلغاء دعم أسعار السلع الضرورية، زيادة الرسوم على الخدمات، اقتطاعات الأجور والعلاوات، ضريبتا الدخل والقيمة المضافة، تقليص الحقوق التقاعدية وصولا لخصخصة النظم التقاعدية وغيرها من الإجراءات المؤثرة سلبا على الأوضاع المعيشية ( تتناولها على مثال البحرين مقالات أخرى في هذا العدد). وهكذا ففي مقابل تجريد الدولة من وظائفها الإقتصادية والاجتماعية تنشط وظائف الجباية وتشكيلات القوة.

بعد بدء الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 2008، وما تلا من انخفاض حاد في أسعار النفط بدت دول الخليج لأول مرة فريسة مغرية أمام المؤسسات المالية الدولية لاستهداف كامل الطبيعة التي تقوم عليها النظم الاقتصادية الاجتماعية في هذه البلدان التي عُرفت بدول “الرعاية الشاملة” في مقابل تحكم الدولة بعائدات النفط الفلكية. وحيث بدت آلة النموذج الاقتصادي الاجتماعي السائد في بلدان الخليج عاجزة عن العمل لأسباب تعود إلى السياسات وليس إلى الإمكانات الهائلة الكامنة في قدرات الدولة النفطية، بدأت جهود تشغيل برامج “توافق واشنطن” بدلا من إدخال إصلاحات حقيقية تعيد التوازن إلى السياسات الوطنية. وكما قال شكسبير يوما: “المصيبة يا عزيزي بروت ليست في نجمنا، بل فينا نحن”. وتتجلى في البحرين بشكل صارخ ومثير للقلق عملية الانعطاف الحاد الذي تحاول المؤسسات المالية الدولية إحداثه في طبيعة الدول الخليجية.

يتفق المرء إلى حد بعيد مع الرأي الجريء لرئيس مجلس إدارة بنك البحرين والكويت مراد علي مراد بأهمية ألا تلجأ بلادنا إلى الاقتراض من ص.ن.د، نظرا لشروطه المجحفة والصعبة جداً، خصوصا مع ارتفاع خدمة الدين العام لما يزيد على نصف المليار دينار ومع الأسئلة الكبيرة حول استخدامات أموال القروض. كما نتفق معه في أن القطاعين العام والخاص يفتقران إلى القيادات الكفوءة. لكن من الصعب الاتفاق مع نظرته إلى تعزيز دور القطاع الخاص بخصخصة قطاعات الصحة والتعليم والخدمات. فلا القطاع الخاص بقادر على أن يقدم هذه الخدمات بأفضل من الدولة، لكنه سيزيد من وطأة أسعارها على الناس، وخصوصا فقرائهم. أو أن تنشئ الدولة مؤسسات صناعية وإنتاجية ثم تحولها إلى القطاع الخاص بدءا بإدخاله شريكا. فبهذا وذاك نكون قد أوقعنا أنفسنا في مصيدة “توافق واشنطن” بتعزيز دورٍ، ولكن طفيليٍ، للقطاع الخاص.

نؤمن ونطالب بدور فاعل للقطاع الخاص في إصلاح حقيقي، في بناء هيكل اقتصادي متوازن وتحويل استثمارات القطاع الخاص نحو توسيع القاعدة الإنتاجية وإدخال التقنيات والتكنولوجيات المتقدمة في الإنتاج وإيجاد فرص عمل لائقة وبأجر يكفل العيش الكريم للمواطن. على أن تقدم الدولة كافة التسهيلات والإعفاء الضرورية لتمكينه في هذا الاتجاه. وأن تتوجه المصارف نحو تمويل المشاريع الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة بدلا من تغليب القروض الاستهلاكية. للقطاع الوطني الخاص دور إيجابي منتظر بالوقوف إلى جانب الجماهير الشعبية في رفض وصفات صندوق النقد الدولي وتقديم البدائل الواقعية بتغيير النهج الاقتصادي باتجاه تعميق بعده الاجتماعي، وليس النكوص عنه.

نشرة التقدمي لشهر يوليو 2018.