المنشور

مدائن ما بعد الكارثة

عن النص: شاعرٌ في تأملاته يزورُ مدينة المستقبل، بعد حلول كارثةٍ كونيّة. ويتحاورُ مع ساكنيها.

1

في الهدوءِ المُتْقن، في الهدوءِ الصّافنِ كالجسدِ النشوانِ قُبيلَ توهُّج الفكرة، إِزميلٌ ذو إيقاعٍ فريدٍ. يدوِّن في الأوقيانوس المتجمِّد شمساً كُبْرى، وكانتْ للشّمسِ غايةُ واحدة، أن تسْطع على المدائن التي أراها:
يا لآلافِ الجُسورِ المعلّقةِ كإشراقاتٍ صوفيّة .
يا للتماثيلِ تُسَامقُ التآويلَ كأنَّها التّرانيمُ مُحنّطةً ..
أو هيَ الأزليةُ إِنْ نَطقتْ في الحجر .
يا للمعارف المُستقاةِ من كينونةِ النبْعِ: (تكنولوجيا الروحِ ـ لاوعيُ الأفلاكِ والمجرات ـ تاريخُ النبيذ ـ قوانينُ النُّعاس الإلهيِّ ـ ترجمات الكُمثرى ـ هندسة الفراغ (
مُدنٌ.. تنتعظُ كألحانٍ سَكْرى في نوتاتِ بتهوفن. مدنٌ حرّةٌ من تعاليمِ العُمرانِ كأنَّ أصابعِ الكَمالِ طَـيَّعتْ حدْس القَصْدير، أو أَنَّ منقارَ الخُرافة إعتشَّ في هملايا المعنى. مدنٌ تتـغنّجُ بالريفِ قلائدَ في جِيد الرُّخَامِ وتَنْتعل الغابة. مدنٌ صَمتٌ يَلعقُ فروةَ الأبدِ الكَسولِ ويهزُّ المَجازَ ذيلاً، مدنٌ لغاتٌ تهرولُ في العُروقِ فلا معاجمَ أو أَعاجِم. لاغريبٌ يحنُّ إلى حنينِ هناك. وأما الغريبةُ فهي آثارُ أقدام الصّدى في مَرْمر الرِّئتينِ.

2

لَمْ يكونوا بوذييّنَ، كانوا “بوذا” بأصابعَ مِطْواعةٍ للّعبِ بأزْرارِ الأَجْرام، ولَهُم في الفُكاهةِ تَصانيفُ شتّى لَمْ تمُرَّ ببالِ أرسطو: فُكاهةُ الشّك واليقينِ، فكاهةُ العَدمِ يَلْعب الغُمْيضةَ مع الذّكاءِ الاصطناعيِّ في حديقةِ الغموض، فكاهةٌ تُنَـبِّذ الزّمنَ، وتَرْشفُ المُفآجآتِ بأقداحِ الأقدارِ، فكاهةٌ توازنُ أَدْرينالينِ الكون وتَحلُّ معادلاتِ الدّهشة.
رأيتُهم أفرادًا كأنَّهم دُوَلٌ، ملوكاً بلا ممالكَ، أَشْياعاً في العُزلةِ الرهبانيةِ يُؤْمِنون بحكْمة النّمل، ويَكْتُبون قصائدَ في فلاحةِ الإنسانِ. أَعْمَالُهمُ الفُنونُ الجَميلة إِنْ عَمِلوا. رأَيْتُهم أجْساداً من سِيلكون العِرْفان وفي وجوههم.. ظِلُّ ابْتساماتٍ خالدةٍ .. كتلك التي تَرْسُمها دَغْدغات المَعرفة .
سَألْتُهم عن سِرِّ الكارثة، وعن إِنساننا الّذي كُنْتُ وكَانُوهُ ، فأَلْقوا في قَلبي كلماتٍ كالأُحْجِيةِ، كلماتٍ كأنّي في العَمَاءِ الأوّلِ قد لمستها تَتمَاوجُ في مَاء الرَّحِمِ المالح .فقالوا:
” عندما تُفتقَد السّعادة، تَسْتعدُّ الكارثة للعرس “
” أَنْ تشعر بالذّنب، وأَنْ تسقي وردة الكراهية “
” كنتم لا تسألونَ الشّجرةَ “ما اسمكِ؟”، بل تمنحونها اسمًا”
” انْحِرافٌ بسيطٌ في عجلات القطار “
” بوصلة لا تُشير إلى الجَمَال “
” الرّجل الذي يُمْسك مهْماز الوقت وآلامَ البطن “
” مَنْ يرى الفراشة ويقول: يالهُ من استثمار جميل”
” كان هناك أَحْمقٌ لا يَعْرف كيفَ يَضع الضّمائر في جملةٍ مفيدة، مثلاً : كان يضع “أنا” مكان “ه ” ولكَ أن تتخيلَ طَرائفه العجيبة “

3

أللمدائنِ أبوابٌ لأطرقها ؟. سألتُهم. ضحكوا، ثم أشاروا للذّاكرة فانبثقتْ في الماء الأملسِ فَسِيلةٌ خَضْراءُ تطَاولتْ، حتى تدلَّتْ من سَعفاتها صُورٌ شتّى: تلكَ أبوابكم التي قدستموها، وظننتُمْ أنّكم العَارفون ما أنتم وما الآخرون ،
بابُ المتاحف: سوّاحٌ يغتصبون الموناليزا. ممالكُ تبحث في البُراز عن تاج وصولجان .حتفٌ سكّيرٌ بمعطفه المرقعِ ولحيتهِ الرثة يُرْشد الزوار للحكمة!
باب صناديق الاقتراع: نفرٌ من المُكبّلين يبحثون عن الحُريةِ في صندوق أبكم!، أفلا يتأمّلون مُغَازلاتِ الطّير أو يدْرُسون بجديّةٍ أركولوجيا الأرصفة .
بابُ الإحصائيات: أديانٌ تتـنزَّل في البورصة، بشرٌ يَمْشون على أربع تشبُّهاً بالمُنْحنى الجَرسي، أرقامٌ تـسِمُ القفا وتُسَعّر المَحبّة ، أرقامٌ أراقِمُ تتلوّى في أرض السحرة .
وإذْ ذُهلتُ لفرْطِ ما وجدْتُّ من أبوابٍ عدُّوها ألفاً أو يزيدُ، كلُّ بابٍ يفضي لبابٍ، حدَّثْتُ نفسي: ما خلقنا الأبواب إلّا لنخدع قلبنا حين يشمُّ رائحة البحرِ، فيما صنعنا متاهاتٍ كاملة الإبداع، متاهاتٍ لا تكشف عن شيءٍ من نفسها، إلا لتدُسّنا في فخِّ أَكْمل .
4

كائنٌ منهم، نكادُ نُشْبههُ لولا أنَّه خِيميائيُّ الحِواراتِ وحَافظُ أسْرارِ التّحولات.
أوقفني في الحِيرة وقال: لا تُطْرق الأبوابُ ولكن تُطرق الألباب.
أوقفني في المحبة وقال: بالذي يَجْمع ما بين العناصر، هكذا بذرة المدائنِ تُسْقى.
أوقفني في اللاوعي وقال: شاعرٌ يَكتبنا ويكتُبك،.
فإذا صرختَ الآنَ يستيقظُ من حُلْمهِ الغَائِرِ في الآتي فتختفي، ونختفي .
ولا أمل سوى انتظارها، سوى انتظارِ الكارثة تأتي
معطّرةً باليورانيوم.
وإن تأخرتْ تَغنُجاً…
ينتظرونها، يأساً من اللاشيء
ينتظرونها، مُخَلّصاً لكل شيء
لَمْ تَكُن حُنْجرتي معي. وأَسْمعُ الهذرَ يسري في رُخَامِ المدائنِ. لغةٌ تَسيلُ فتذوي تماثيلٌ وجسورٌ ونوتاتُ. أرى صوتي يَدْخُلُ في حلقي .أصرخُ .أسْتيقظُ . ألهثُ . أرى نفسي في البياضِ. بلا أَبْعادَ أو نقطة ارتكاز. أرى إزميلاً ذا ايقاعٍ فريد يدوّن في الأوقيانوس المتجمّد…
شمساً كُبْرى.