المنشور

الديمقراطية أولاً وأخيراً!

بغض النظر اتفقنا أم اختلفنا حول اهمية وصلاحيات المجالس التشريعية في دولنا العربية أو حتى في غالبية دول ما يعرف ب”العالم الثالث”، أو حول مدى استقلالية تلك السلطات التشريعية القائمة وما يكتنفها من عيوب ومثالب، وبالتالي قدرتها على إحداث الرقابة المطلوبة على أداء الحكومات، واجتراح الحلول والمقترحات التي تلبي طموحات مجتمعاتنا في تحديث وتطوير منظومة التشريعات والقوانين لديها، وتحقيق الإصلاح الحقيقي ومكافحة وجوه الفساد وحماية المال العام.
إلا أن تلك السلطات التشريعية على الرغم من مقوماتها المتباينة بين بلد وآخر، تبقى في البدء وفي الخاتمة مؤسسات موجودة ضمن الهياكل السياسية القائمة في بلداننا، ويبقى بعدها التحدي الأكبر الذي ليس لدينا للأسف، خيار آخر سواه هو مدى قدرة مجتمعاتنا ودولنا على الصبر على مهمة تطوّر تلك التجارب(..) لإحداث التحوّل الإيجابي وتقويم عوامل الإعوجاج والنكوص فيها.
وفي المجمل هي تجارب إما غير مكتملة أو معاقة أو حتى مشوّهة، ونحن بطبيعة الحال لا نريدها أن تبقى عنواناً فارغاً للتجاذبات السياسية العدمية إلى ما لا نهاية، في وقت تتسارع فيه تحولات الجغرافيا والتاريخ وتداخل المصالح وقوى النفوذ إقليمياً ودولياً، ويتمّ تهميش ادوارنا واضاعة أبسط الحقوق وإهدار أبسط المسلمات والثوابت والقيم ويكون علينا بعدها أن نقبل فقط بدور المتفرجين.
وكثيراَ ما يتمّ التعويل على حيوية المجتمع ودور مؤسساته ومواقفها تجاه مختلف القضايا وقدرتها على إحداث الفارق في الممارسة السياسية والاقتصادية بشكل عام، وهذه قضية تستحق فعلاً التوقف عندها طويلا، فتلك الحيوية هي باروميتر ومقياس التطور للمجتمعات، مضافا إليها فاعلية النخب من المثقفين والسياسيين وكتاب الرأي والفنانيين والباحثين وغيرهم، والمشكلة تصبح عصية على الجميع حين يغيب او يُغَيّب هذا الدور لسبب او لآخر، نتيجة ما تعانيه تلك المجتمعات من كبت سياسي وقهر اجتماعي، وانعدام للحريات، أو من تغييب لدور النخب والنقابات والشباب والمرأة، واستبدال مؤشرات وعوامل النهوض تلك، بأخرى تعزز السقوط في براثن التراجع والاسفاف وإشاعة الانتهازية في المجتمع والنكوص مجددا عن قيم التحديث والتطور والتقدم.
هنا يكون المجتمع أكثر تعطشاً لاستعادة واسترداد عوامل نهوضه مجدداً، ليبدأ في رفض واقعه الجديد الذي أصبح عبئا، محاولاً مقاومة السقوط المريع في مجموعة القيم والمبادىء والثوابت التي فقدها المجتمع عبر مراحل زمنية محددة، محاولاً التشبث بتلك القيم والثوابت، لأنها ببساطة هي آخر ما تبقى له من رصيد إنساني وحضاري ولا يريد أن يفقدها مهما كان الثمن.
ذلك هو شعور شرائح واسعة من مجتمعاتنا العربية والشرق اوسطية وسط هذا الكم من الدمار الاجتماعي والثقافي والفوضى وضياع الهوية الوطنية،وهنا بالضبط تبحث الشعوب الحية عن دور النخب والمؤسسات والأحزاب الحقيقية القادرة على قيادة واستنهاض تلك الروح التي سادت يوماً، وتلاشت لاحقاً بفعل عوامل الزمن وهيمنة السياسات المعقية لحركة المجتمع.
هنا يصحّ القول إن إرادة الشعوب تبقى هي الخيار الحاسم والمتاح، ولا سبيل أمامها سوى التعويل على مزيد من الوحدة والتلاحم، عوضاً عن الوضوح في الأهداف وتعزيز النظرة المتفائلة للمستقبل، والوعي بحجم ما هو قادم من تحديات ومخاطر لا طاقة للمجتمع على تحملها من دون أدوات حقيقية، في مقابل عالم هو أكثر تقدّما واستعداداً ويمتلك الكثير من أدوات وعوامل التقدم العلمي والتكنولوجي، ويحفل بصراع اقتصادي وهيمنة وتدخلات وسباق تسلح غير مسبوق.
أقول ذلك وأنا اتابع ما يجري في أكثر من دولة من دولنا العربية وحتى في بعض الدول المتاخمة لجغرافية منطقتنا العربية والخليجية، والتي إما أن تكون تورطت أو ورطت في العديد من الصراعات الداخلية والإقليمية والاضطرابات والحروب، حتى تقهقرت واستنزفت مواردها وخيراتها وقدراتها على لجم عوامل الانحدار والتراجع، وكان بعضها حتى سنوات قريبة خلت يحتل مواقع اقتصادية ويحظى باحترام دولي، وينظر لها باعتبارها مراكز اشعاع وتنوير حضاري وثقافي.
وعند البحث عن مسببات ذلك التراجع المريع نكتشف أنها قد فرطت في هيبتها واحترامها، وتنازلت راضية عن هويتها وسيادتها واستقلالها وسمحت بإهمال وتغييب أبسط مقومات صناعة القرار لديها عبر السماح باستشراء وهيمنة قوى الفساد، وتغلغل تأثير ما بات يعرف بالدولة العميقة، وتمكنها من قمع مجتمعاتها بأساليب وحيل متعددة وتلاعبت بالديمقراطية وحولتها لمسخ دون مضامين تمت لما بات يعرف بالحكم الرشيد، وتسببت تلقائيا في غياب الحريات وانعدام الأمن الحقيقي وتراجع الثقة في المستقبل وعدم قدرة مجتمعاتها على ادارة صراعاتها بحضارية أو على أسس من الديمقراطية وتحقيق العدالة الإنسانية، وتعاملت بفوقية وأساليب بآلية حيال صيانة عوامل التوازن المجتمعي، وساعدت على تحقيق الإنقسام المدمر لمجتمعاتها رغبة منها في إحكام السيطرة، ودون أن تسعى لوضع الحلول والمعالجات الوازنة لحركة المجتمع واستيعاب عوامل تطوره اللاحقة.