المنشور

سلمى المري فارسة للحكاية وحارسة للحياة بفرشاة من شعر

سلمى المري فنانة تشكيلية من الإمارات، تخرجت من كلية الفنون الجميلة بجامعة حلون قسم الرسم والتصوير، عضو جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، أقامت سبعة معارض شخصية مهمة في غاليرات دبي والشارقة والقاهرة، وشاركت في ثلاثين معرض جماعي لرسامين عرب وأجانب، ومثلت الإمارات في عشرة ملتقيات ثقافية فنية في العالم، حاصلة على جوائز مهمة في الخليج والوطن العربي ومن الأمم المتحدة واليونسكو. لها نشاطات كثيرة في رعاية المواهب الشابة والطفولة.
تضيء سلمى المري لوحاتها بعبقرية اللون الشرقي، المحلي والعربي، تطوف مناخها وخليط رياحها وأجوائها والذي يعطي للبيئة ألوان الصحراء وخصوصيتها، ذلك الفعل اللوني يخترق روح الإنسان، ويضيئها ماشياً في دروب الذاكرة مثل انسياب ماء دافق، نقي، فيسقي جفاف المشاعر بماء البدايات ومطر الجنات، بزخات من نواميس حنون تاجها الحب والعرفان، فتتكشف في الروح مسرّات مباغتة، حتى وان كانت في أوج حزنها ذلك الغسيل الروحي الذي ينفضها كما تنفض الرياح الشجر فتعيده جديدا، نضراً.
مسرات تذهب بها بعيداً إلى طفولة آمنة وأحضان الأمهات الوثيرة تحت ظل من شجر، يتحول في لوحاتها إلى صور من جنات مجهولة وفراديس حالمة، تتأرجح الأرواح حول شجرة المعرفة، تلك الشجرة التي تختبيء في وجدانها لتظهر بهيأة أم أو طفلة عائدة بأسرار الخلود، كأنها تشي لنا بسر الموت وحقيقته التي تتكشف عبر فلسفتها بأنه بدء لحياة جديدة، فلاتخافوا هذا المأزق الذي يتصارع مع رهافة حسها وكيف عانت من الفقد، حولته إلى آمال كونية مبشرة ببدء جديد وأكوان موازية.
سنلتقي بها بمن أحببنا وفقدنا، هذه العرافة العتيقة الطاعنة بالنبل، نبتت أوتاد استشعارها مع سماوات بعيدة، وهبطت علينا من كوكب الإبداع الذي يرمي إلى الأرض بمخلوقاته النادرة والقليلة، برفق فيضيؤوا ماحولنا بلوحة أو قصيدة أو حكاية.
ذلك هو الميراث البشري الذي نقل الينا عبر العصور صبر الانسان وعناده وتحدياته أمام محنة الوجود وغموضه، فمنحنا دهشة الحياة ولذة المعرفة، زاده الخيال وعين خفي،ة ورثتها سلمى من ربة الإبداع التي هبطت بها وغيرها إلى الأرض وأودعتها برفق في رحم حنون وأرض طيبة، ورافقت مسيرتها إشارات بدء من بيكاسو وفان جوخ وعلاء بشير إلى شاكر حسن آل سعيد وجواد سليم، فتتلمذت في مدارسهم وأعطوها جوازات المرور.
العيون التي تضج بالحكايات والانتظارات تارة، والدعة والرضا تارة، ثم الهيمنة وزمام الحكمة. العيون التي خرجت من جب لوحاتها بالف حكاية بدءاً من زنوبيا وصولجانها وعشقها وثيابها الملكية حتى قناع النساء وتيجان رؤوسهن التي تحكي لأزمنة تندثر فتخرجها لنا وهي تنفض عنها غبار النسيان وانفلات الذاكرة لتحفظها من الغياب والفناء، فتوحي لنا بذاك الوتد الذي جعلته شاخصا كأبراج دبي حولها مظللاً بشمس من ابداع متفرد وعين صافية لم يلوث بصرها تشوهات العصر وقسوته.
الأبواب العتيقة، وجوه النساء الآمنة والمكتظة بحزن شفيف ورضا انساني عميق يشذب الروح المتلقية من نتوءات غضبها، فتنصت صاغرة بعد أن تسرّب إليها ذلك الهدوء الحكيم، عبر طاقة كونية غامضة تبثها بلوحاتها، وقد لاتعلم هي كيف ومتى ومن أين أتت تلك الطاقة التي عبرت ممرات روحها وفرشاتها وانتقلت إلينا.
ذلك هو سر الإبداع وشفرة الموهبة وهالة الجمال التي تتجول في الروح الخلاقة والمبتكرة للنور، ومثلما يقول الإغريق هم سارقو النار، نار الخلق والإبداع، تلك السرقة المشروعة التي تمنحها الآلهة لهم بكل امتنان. أولئك سكنة ذلك الكوكب البعيد الهابطين الينا بأروماتهم الندية، حملة شعلة الأمل، وماجعل الأرض والحياة محطات طمأنينة وسلام.. تلك الشعلة التي تجوب الكون الشاسع لتلتقط منه الأسرار وتلك الروح المحلقة بألف جناح فتضيء بألف قنديل أخضر تعرفه الأرواح التائقة للعتق والحرية من ربقة الهموم وأصفاد الحزن نتحسس وجودها فنبتهج برقصة الإبداع.
ما ذهبت إلى مدرسة نقدية لأكتب عن سلمى المري وابداعها المميز، بل كتبت روحي ما ألهمتني به هذه الربة الجميلة من ربات الإبداع وهي تخلق مخلوقاتها التي تتبارك بها الأمكنة والجدران، لتنقل لنا مايدور خلف ذلك الجدار من حكايا تنادي بصوتها الخفيض إلى ماض مهمل، متروك، تطعمه حبات دررها فيغتسل بنورها من براثن الترك وفجيعة الإهمال تعيده لأمتها، ذاكرة متجددة، زاهية بهية تحمل صولجان العودة وكبرياء الحضور موازية بشهوقه الأبراج العالية التي ارتاب منها هذا الماضي من أن ينسحق دون أن يلتفت اليه أحد.
سلمى تعاملت مع هذا الماضي بحرفية عالية وحب وموهبة فذة وعين راعية لحكايات الأرض وأساطير قومها، ومثلما توحي الشمس والينابيع مفردات وجودها للقصائد أوحت لي فرشاتها بمفردات اللون وعبقرية تنقلاته وانزياحاته، ذلك الإيحاء الذي يحرض الطفلة البرية في داخلي فأطارده مثل ريام البر وهي تستشعر رائحة الماء والعشب فتركن إلى واحاتها ماسكة لحظة الطمأنينة وغافية على سحر هذا الوهج الصوفي الاصهب لتغمرني بفيض المحبة والتصالح مع الكون، فأعبر جحيم الذاكرة المكتظة بالحروب والفقد وهي تمنحني كفاً من ضوء يجرني إلى جناتها البريئة كأنها استدعاء للحياة وتجاوز مأزق الحزن، وأزمة الضياع، والإغتراب والوحشة وبلغتها البكر ومشاعرها الممزوجة مع اللوند كأنها أتية من فلوات غربتها معبأة بالحنين ورغبة العطاء الإنساني للانسان بكل مكان، وهي تخلق عالمها الجمالي بمعركة ناعمة ضد القبح، تفتح العيون برؤى جديدة وعميقة عبر خزين ثقافي وروح صوفية كونية.
تتجرد من أحمال التملك والأنانية فتبدو مثل فراشة عملاقة، تأتي بلقاحات المحبة والسلام إلى مدن الهدأة وقرى الجمال تقنعنا أن للحزن نبل ومهابة، وهو زائل في رحيله الأبدي، ومثلما يمنح هذا الخليج مسرات اللؤلؤ والخير، فإنه يمنحنا رسامة تجعل حياتنا أجمل وترتقي بنفوسنا إلى أرقى المتع البريئة.
هي كاهنة أمل وفرشاة شاعرية وفارسة للحكاية وحارسة للحياة، هي ذي سلمى المري الخارجة من نقاء لؤلؤة كبيرة، والمانحة لنا دهشة الالوان في عماء هذا العصر القاسي عائدة بالماضي وموروثاته بعرس بهيج، نافضة غبار أرواحنا.