المنشور

إيران في بؤرة استراتيجيات القوى العظمى

قيل قديما: “الجار قبل الدار”. هذا بالنسبة لاختيار الإنسان مكان سكناه، أما الجيرة بين الدول فهي معطى جغرافي طبيعي، لا خيار فيه، ووجب التعايش معه. وإذا كنا قد أوصينا على سابع جار، فهو بالنسبة لدول التعاون الخليجي إيران بعد العراق الشقيق. غير أن العلاقات مع إيران بأبعاد استراتيجية هي عقدة العقد ليس فقط بالنسبة لبلدان التعاون الخليجي، بل وبلدان العالم الأخرى، وخصوصا القوى العظمى. والسبب بسيط، كما هو معقد للغاية: في إيران تتشابك وتتضارب استراتيجيات القوى العظمى بالنسبة لمستقبل العالم برمته. ولشعورها بأهميتها في مستقبل الاستثمار الاقتصادي الاستراتيجي تزداد لدى إيران طموحات الزعامة الإقليمية واعتبارها لذاتها ضامن الأمن الإقليمي وند القوى العظمى. ونعني بالقوى العظمى ما اصطُلِح على تسميته بـ”الإمبراطوريات” الأربع: أميركا، الصين، الاتحاد الأوروبي وروسيا، وبتسمية أخرى دول (5+1)، أي الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس أمن الأمم المتحدة + ألمانيا (قاطرة الاقتصاد الأوروبي)، التي خاضت المفاوضات مجتمعة قبالة إيران وتوصلت معها في 14 يوليو 2015 إلى “خطة العمل الشاملة المشتركة”، التي عرفت بـ”الاتفاق النووي”. سبقت هذا محاولات مضنية منذ عام 2002، بعد أن نجحت إدارة الرئيس بوش في إشراك طهران في القضية الأفغانية. لكنها توقفت مرارا بسبب اختلاف مواقف الطرفين، بما في ذلك توقف العمل باتفاقية باريس 2004 بعد تولي الرئيس أحمدي نجاد منصبه عام 2005 والعودة إلى تخصيب اليورانيوم عام 2006. أما بعد أحداث “الربيع العربي”، ثم ظهور “داعش” وأخواتها تداعت الأطراف مجددا إلى التفاوض مع إيران، ما تمخض عن اتفاق 14 يوليو 2015.
ويدرك الجميع أن ليس البرنامج النووي الإيراني، ولا حتى أمن دول المنطقة الداخلي، هو أصل الموضوع. البرنامج النووي (السلمي) هو مشروع قومي إيراني بدأ في عهد الشاه. وقد قدمت الولايات المتحدة مساعدة فنية لتطوير البرنامج النووي الإيراني الذي أطلق عام 1960. حينها اعتبرت إدارتا نيكسون وفورد إيران “المدافع الأساسي” عن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. ومنذ العام 2015 توقع كثير من الاستراتيجيين أن “خطة العمل الشاملة المشتركة” ستحوِّل إيران إلى قوة إقليمية ناشئة، ستصبح فيما بعد جوهر تشكيل الاستراتيجيات الاقتصادية والجيوسياسية للقوى العظمى.
طبيعي أنه عندما تجلس القوى العظمى على مائدة تقاسم النفوذ في منطقة ما من العالم، فهي لن تدعو إلى المائدة دول المنطقة – موضوع الاقتسام. فيما عدا إيران، التي يدرك الجميع أن التفاوض معها يشكل المفتاح إلى هذا التقاسم، بل وإلى صياغة استراتيجيات عالمية بمديات مكانية وزمانية بعيدة. وتدرك إيران جيدا أنها، رغم الإنهاك الذي أحدثه الحصار الاقتصادي، تمتلك كل المقومات للإنتقال من حالة المستهدَف إلى حالة الشريك الفاعل.
خلال العقدين الأخيرين أخذت أميركا تنظر إلى الوضع في الخليج على أنه يقرر الكثير بالنسبة لمستقبل تشكيل الفضاء الاستثماري ليس في الشرق الأوسط وحده، بل وكل العالم. وقد أدارت لعبة واضحة لهدم مأسسة التنظيم القطاعي في المنطقة بضرب “أوبيك” كأهم مؤسسة من هذا النوع. ومن الجهة الأخرى عملت للإبقاء على هيمنة الدولار في تداول عائدات النفط والغاز باعتماد كبير على المؤسسات الاستثمارية والحسابية الأميركية. وظل التوتر الأمني الناشئ في منطقة الخليج مُوجَّه ويُستخدم من أجل الحيلولة دون، أو على الأقل إبطاء، تشكل “نواة” نظام استثماري – حسابي يقع خارج “الفضاء الدولاري”، على قاعدة العائدات النفطية لدول المنطقة، والحفاظ على القنوات التقليدية لاستنزاف القدرات الاستثمارية من اقتصادات بلدان المنطقة. ويفترض المشروع الأميركي للنظام الاستثماري الاقتصادي الاستراتيجي للمنطقة اعتبار إيران مركزا له. وفي كل النقاشات الدائرة فوق الطاولة أو تحتها يركز كلٌ من الطرفين على تحقيق مكاسب أكثر.
وقد ظل الصراع الأميركي – الأوروبي حول إيران موجودا، لكنه تَبدَّى أكثرَ وضوحا في عهد الرئيس ترامب الذي حدد هدفه بصرامة – إزاحة رأس المال الأوروبي من كل القطاعات الهامة في الاقتصاد الإيراني – بل وحتى إدراج الموارد الاستثمارية الإيرانية ذات العلاقة بتصدير النفط في النظام المالي الممركز أميركيا، وإلا ففصل هذه الموارد كلية من التداول النشط.
وفي حين عجزت أوروبا عن الدفاع عن مصالحها خصوصا ما يتعلق بحاجاتها لمصادر الطاقة في إيران، وعجزها عن تطوير هذه المصالح، بسبب تبعيتها للسياسة الأميركية، فإن روسيا والصين في موازاة سريان “الاتفاق النووي”، ثم انسحاب ترامب ثم عودة بايدن إلى المفاوضات بشأنه، عملتا بنشاط على تطوير استرتيجياتهما الخاصة في العلاقات الاستراتيجية مع إيران. وقد وجد ذلك تعبيره في تطور التعاون الروسي الإيراني الفعال في مجال الصناعات العسكرية والصاروخية والفضائية والتكنولوجيات المختلفة وفي أسواق النفط والتبادل التجاري، إضافة إلى التعاون العسكري والأمني في سوريا ومناطق أخرى.
الصين رأت نفسها فائزًا محتملاً في “الاتفاق النووي” مع إيران. فهو يوفر لها فرصة للمناورة ليس فقط باعتبارها أكبر مستورد للنفط وشريك تجاري واستثماري، طامح إلى تطوير مشاريع البنية التحية في إيران، ولكن أيضًا باعتبارها أكبر فاعل وشريك إقليمي في مجال السياسة الأمنية. وكان أشد ما تخشاه الصين، وتحاول منع وقوعه، احتمالان : حرب أميركية إيرانية تغلق الطريق أمام إمدادات النفط إلى الصين، أو تحالف أميركي إيراني قوي يشكل تهديدا للشركات الصينية الراغبة في الاستثمار في إيران. من هنا كانت السياسة الصينية الحذرة بين مسايرة المواقف الأميركية ومراعاة المصالح الإيرانية. لكنها عززت علاقاتها التجارية مع إيران، فساعدتها في تخفيف الضغط الاقتصادي في فترة العقوبات. وفي حين لا تشجع الصين تطوير أسلحة نووية في إيران، إلا أنها ترى في تزايد قوتها إمكانية للحد من النفوذ الأميركي في المنطقة.
في الوقت ذاته عمل الطرفان بعد توقيع “الاتفاق النووي” على إعداد وثيقة معاهدة بينهما تمتد لربع قرن تحت إسم “برنامج التعاون الشامل” الذي تم التوقيع عليه أواخر شهر مارس 2021. وهو الآن بالنسبة لإيران أهم بما لا يقاس من “الإتفاق النووي” ذاته. يربط البرنامج الماضي بالحاضر إذ ينطلق من كون كل من البلدين يشكل “حضارة آسيوية قديمة”، وأن هذه الوثيقة هي “فصل جديد في مجال العلاقات بين الحضارتين الآسيوتين العظيمتين” في مختلف المجالات في إطار مبادرة “طريق الحزام”. وهذا الربط إذا يؤكد على القواسم المشتركة فإنه يحترم الخصوصيات ويؤكد على علاقات سيادية متكافئة. وينص على اعتبار “كل منهما شريكا استراتيجيا” للآخر على أساس “المصالح المتبادلة والربح المتساوي”. وبما أن البرنامج هو في إطار “طريق الحزام” فيفترض فيه مبدأ المنفعة المتبادلة المتساوية مع جميع الدول التي ترتبط مباشرة بهذه المبادرة وذكرتها الوثيقة بالإسم (أفغانستان، تركيا، ذربيجان، باكستان، العراق وسوريا)، بما يعني انتقال تأثير وتطبيق هذا المبدأ من الإطار الثنائي إلى القاري من الصين إلى غرب آسيا إلى شرق المتوسط، وفي ذلك بُعدُ جيوسياسي بالغ الأهمية.
وامتاز البرنامج بشموليته لجميع القطاعات الإنتاجية والخدمية والاجتماعية والنشاطات الدينية والترفيهية والسياحية والنشاطات المعرفية المدنية والعسكرية والأمنية والقضائية ومشاريع البنى التحتية في معظم المرافق الإيرانية في البر والبحر. وجرى التأكيد على البحث والتطوير التكنولوجي المتقدم والاتصالات السلكية واللاسلكية والتعاون المالي والاقتصادي والتجاري وتنمية الطاقات البشرية والمؤسسية في معظم قطاعات الاقتصاد الإيراني. برنامج بهذه الشمولية، إن تم التغلب على تحديات تنفيذه، فسينقل الاقتصاد الإيراني إلى آفاق تنموية متقدمة، بحيث تحتل إيران دورا مركزيا في مبادرة “طريق الحزام”. ولا شك أن ما تتمتع به الصين من احتياطات مالية هائلة تؤمن عنصر اليقين في تمويل تحقيق هذا البرنامج وبمعزل عن عملة الدولار الأميركي. وبهذا أيضا لن تتحول عائدات النفط إلى “فوائض” مالية، بقدر ما تتجسد مباشرة في برامج تنموية مادية وخدمية وثقافية وتطويرية لراس المال البشري وتعظبم قدرات الدولة.
ولا شك أن برامج طموحة بهذه المديات الاستراتيجية تحتاج إلى استتباب الأمن والسلم في المنطقة. وبديهي أن الصين معنية إلى حد الحساسية بعلاقات سعودية – إيرانية تحول دون نشوء أي صدام، إذ أنها مستورد أساسي للنفط من البلدين كليهما. ولذلك تدعم الصين بقوة المشروع الروسي (السوفييتي الأصل منذ الثمانينات) لتحويل الخليج إلى منطقة سلم وتعاون من أجل التنمية. هذا المناخ تحتاجه جميع دول المنطقة التي ضاعت عليها فرص تاريخية كبيرة لاستثمار “فوائضها” المالية التي استنزفتها أخيرا التقلبات الحادة في أسعار النفط والأزمات المالية والاقتصادية والتوترات الأمنية والحروب وجائحة فيروس كورونا.
سيبقى التعامل ليس سهلا مع إيران كدولة تحمل مستقبلا بالمعنى الاستراتيجي العالمي، بغض النظر عن نظامها الاجتماعي السياسي القائم. لكن مسار المفاوضات حول “الاتفاق النووي” وفي العلاقات مع أوروبا وروسيا والصين يبين أن الجانب الأيديولوجي، بما في ذك تصدير الثورة الإسلامية، ليس هو المكون والمحرك الوحيد في السياسة الخارجية الإيرانية. فالجانب الأيديولوجي يسبقة الشعور بالتهديد الخارجي المحفز للتهديد الداخلي، والذي يمثله الوجود العسكري الأميركي في المنطقة. ويُقدر بعض الخبراء أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على دعم تواجد عسكري دائم في المنطقة ارتباطا باستراتيجيات عسكرية في مناطق أخرى، وخصوصا بحر الصين. وعاجلا أم آجلا فسيتراجع الوجود العسكري الأميركي كثيرا في المنطقة، ما سيساعد على جعل توافق بلدان المنطقة على الأمن الإقليمي أكثر ضرورة وأكثر منالا. المكون الذي لا يقل أهمية والدائم في السياسة الخارجية الإيرانية هو الدولة القومية بحضارتها الفارسية التي تبحث دائما عن اعتراف بمكانتها كقوة فاعلة في الشرق الأوسط. وهنا يتراجع الجانب الأيديولوجي لمصلحة المساومات التاريخية مع الشركاء الدوليين والإقليميين. فقد أظهرت إيران استعدادا للتراجع عن التزاماتها الأيديولوجية الخارجية في سبيل تعزيز مصالحها الجيوسياسية. فهي، مثلا، تدعم أرمينيا المسيحية وليس أذربيجان الشيعية. كما امتنعت عن دعم الحركات الإسلامية في آسيا الوسطى لتلافي استياء روسيا. وتسعى الصين إلى التعاون مع إيران في مسائل أمن آسيا الوسطى، بما يعنيه ذلك ما يتعلق بالأنشطة الإنفصالية الموجهة للمجتمعات المسلمة في مقاطعة هينيانغ وأمن الحدود الصينية الباكستانية والصينية الأفغانية، وكذلك كشمير.
ومن العوامل المؤثرة على السياسية الخارجية الإيرانية توازن مراكز القوى في هذا البلد. في كل الحالات تبقى الكلمة الفصل للمرشد الأعلى في جميع قضايا السياسة الخارجية. وهو ينطلق من لازمته المتسقة وعنوان كتابه “أنا ثوري ولست دبلوماسي”، خصوصا عندما يتعلق الموقف بأميركا. بكلمة، هو أقرب إلى مراكز القوى المتشددة، ولكنه يأخذ في النهاية مواقف القوى “الإصلاحية” بعين الاعتبار. يميل “الإصلاحيون” عادة إلى التركيز أكثر على تنفيذ الإصلاحات المحلية بدلا من التغييرات الجذرية في السياسة الخارجية. ولا شك أن السياسة الخارجية الإيرانية تتأثر بشدة بمن هو في الحكم في المقطع الزمني المعني. والاحتمال الأكبر بأن يصل المتشددون إلى السلطة في الانتخابات خلال الشهرين القادمين. غير أن التجارب والزمن وارتقاء الاستراتيجيات في التعامل مع العالم الخارجي كفيلة بإضفاء نوع من البراغماتية على سياسات الحكومة القادمة.
أخذا بعين الاعتبار تفاعل هذه المكونات الأساسية في السياسة الخارجية الإيرانية تستطيع دولنا في مجلس التعاون الخليجي رسم استراتيجية بناء للتعامل مع جميع القضايا الخلافية مع إيران، من حيث حسن إدارة الخلافات أولا، ثم العمل على حلها على أساس توازن المصالح والمصالح المشتركة.
إن ما يجري من تحضيرات لمستقبل منطقة الخليج أشبه بانزياحات جيولوجية تحدث تحت سطح الأرض، وستكون بمثابة إرهاصات لإحداث تغييرات كبرى على مستوى الاستراتيجيات الدولية والتطورات الإقليمية. ويجب أن تستعد بلداننا منذ الآن لاستنفار كل مصادر قواها الداخلية من تعبئة موارد وخلق مناخات اجتماعية سياسية ديمقراطية صحية وعدالة اجتماعية في توزيع الثروة وإعادة العافية لكامل مجلس التعاون الخليجي كتنظيم إقليمي، وذلك من أجل ضمان التعامل مع الإقليمي والعالمي كشريك قوي، فاعل حقا، لا شريك تابع.