المنشور

تقييد المناقشة العامة مصادرة أخرى لدور البرلمان الرقابي

ناقش مجلس النواب في جلسته التي عقدت بتاريخ 20 ابريل المنصرم مرسوما ملكيا ساميا يتعلق بقضية مهمة تتعلق بتعديلات أدخلها هذا المرسوم على اللائحة الداخلية لمجلس النواب، مضمونها الأساس وضع ضوابط وقيود على آلية المناقشة العامة التي حددتها اللائحة ذاتها وتمت على أساسها اكثر من 18 مناقشة عامة على مدار عمر التجربة النيابية الوليدة منذ العام 2002 حتي تاريخه.

بطبيعة الحال فإن تغيير وتعديل لوائح المجلس أمر طبيعي يخضع في العادة لعدة أمور جلها تتعلق بتقادم عمر التجربة وما تستدعيه الممارسة البرلمانية ذاتها، وما يترافق معها من طموحات وتوجهات نيابية وسياسية تستوجب ضرورة اجراء تعديلات محددة، من شأنها ان تساعد على تحسين الأداء العام للمجلس والنواب علي حد سواء.

الا ان الملاحظ من خلال ما تابعه الشارع البحريني اثناء مناقشة المرسوم المذكور ان مواقف الكتل والنواب جاءت متباينة الى حد كبير حيال تلك التعديلات، واللافت فيها أن الرأي الموافق علي تلك التعديلات المقيدة لآلية المناقشة العامة كان ربما هو الأكثر غموضاً، وبدى وكأنه وافق على تمرير تلك التعديلات من دون أسباب مقنعة سواء للنواب الرافضين لتلك التعديلات او حتى للشارع في البحرين..وتلك مسألة ربما تحتاج من الشارع والمعنيين بحثها بشكل اكثر وضوحا ومكاشفة، فالنائب بغض النظر عن كتلته او حتى انتماءه السياسي وشريحته الاجتماعية، هو في الأساس ممثل الشعب، منه وإليه يعود ومن حق الناس أن تفهم مغزى كل هذا الغموض أولاً وقبل كل شيء حتى تقتنع بأسبابه.

ما يهمنا في هذا الشأن هو اسباب ومبررات الموقف الرافض لتلك التعديلات التي أدخلت على اللائحة والتي مررها المجلس في نهاية المطاف بموافقة 13 نائبا ورفض 12 نائبا وامتناع 9 وغياب 6 نواب عن الجلسة لأسباب بعضها غير مبرر، في الوقت الذي كان رفض تلك التعديلات يحتاج الى تصويت 21 نائبا رافضا، بحسب ما تشترطه المادتان ( 78) و(124) من لائحة المجلس.

الموقف الرافض الذي قادته كتلة “تقدّم” النيابية كان واضحاً إلى أبعد الحدود، حيث قابل حجج الحكومة بحجج ومبررات لم تجد لها إجابات مقنعة، وهذا ما عبر عنه أعضاء الكتلة ومعهم عدد مهم من أعضاء المجلس والذي تلخص في ان تطور التجربة الديمقراطية الذي وعد به ميثاق العمل الوطني وتعزيز الدور الرقابي لمجلس النواب، يفترض بطبيعة الحال ان يكون هناك تقدم ومراجعة تقود العمل البرلماني عبر مسار تدريجي نحو الأمام وليس الى الخلف وباتجاه النكوص، وملخص ماجاء في مداخلاتنا الواضحة مع بقية زملائنا الرافضين لتلك التعديلات، أن مجلس النواب في دورته السابقة صوّت على اعاقات واضحة تسببت فيها التعديلات التي أدخلت من قبل اربع سنوات تقريبا على أداة الاستجواب، ليصبح معها الاستجواب كأداة رقابية شبه مستحيل في ظل المعطيات القائمة، وبالمثل أعاقت فتوى المحكمة الدستورية منذ أشهر دور لجان التحقيق بتقليص فترة التمديد التي كانت مسموحة لأربعة اشهر إضافية، كما حصل في فصول تشريعية متتالية، مع اعتبار توصيات تلك اللجان غير ملزمة للحكومة!

في اعتقادي أنه لا توجد مبررات مقنعة لدى الجانب الرسمي للمطالبة بإدخال تلك التعديلات، والتي أرى من موقعي وكما ذكرت في مداخلاتي اثناء النقاش أن ذلك حصل على خلفية المناقشات العامة التي قام به المجلس الحالي في ملفين مهمين هما الملف التعليمي وملف إصلاحات سوق العمل وقضية البحرنة، التي اولاها المجلس الحالي جهداً استثنائياً بشهادة الجميع، حيث اتسمت تلك النقاشات حينها بالجدية والواقعية، كما شخصت أوضاع التعليم وسوق العمل بشكل واضح وشفاف ووضعت لها الحلول المناسبة، لكن كل ذلك لا يبدو بكل اسف انه مقبول من الطرف الرسمي، رغم أنه يؤسس لتفاعل خلاق ومثمر بين السلطتين،، ويخلق تكاملا في الأدوار طالما تمنيناه لتجربتنا الديمقراطية الوليدة التي علينا أن نحرص باستمرار على دعمها وإسنادها بكل السبل لترتقي، ولو بالتدرج البطيء، وعدم السماح بعودتها تحت أي مبررات الى الوراء، فالديمقراطيات الحديثة والناشئة منها تحديداً لم ترتق إلا بالصبر والتحمل والمكابدة من قبل جميع الأطراف.

تلك امنيات سنظل مدافعين عنها ونحن نمارس دورنا في رفد التجربة البرلمانية بخبراتنا المتواضعة مع بقية المخلصين للتجربة رغم كل التحديات، وتلك مهمات يجب ان لا تنتقص أو أن يسمح لها بأن تصيبنا باليأس والقنوط مهما عظمت تلك التحديات فتلك هي طبيعة العمل السياسي على أية حال.

اقرأ المزيد

دفتر أحوال “جنة”

تتبوَّأ الرقابة مكانة عفى عليها الزمن، منذ أن أصبح العالم الافتراضي خالياً من حراسه، وصار بالإمكان الحصول على كل المعلومات بضغطة زر واحدة. صحيح أن هناك ثوابت مجتمعية يجب المحافظة عليها، ولو في أطر شكلية، لكن هل من هذه الثوابت رفض نص مسرحي لمجرد أنه عُنون بـ”السرير”؟ ما الموحي في عنوان يشكل – مجازاً – قطعة أثاث عادية؟
هل كان نص بعنوان الكرسي، أو السجادة، سيثير القلق، وعليه سيجبر المؤلف أن يُغيّر العنوان، كما فعلت الكاتبة المصرية صفاء البيلي، وتحول النص إلى “جنة هنا”؟ برغم التأكيد على ألّا تماسّ مخالف بين العنوان وبين المعنى داخل النص، وبرغم المعاني المترادفة أيضاً، مثل أن يكون للسرير و /ظائفه الكثيرة المعروفة: التي تمثل الراحة/ السكينة/ الطمأنينة، وماذا أيضاً؟ هو مكان معتاد للعلاقة الزوجية، وغالباً هو نفسه ما رفضته الرقابة لأجله! القلق حتى ولو بإشارة تلميح من بعيد! بينما سرير البيلي هنا مغاير ومراوغ بين معنى الأمان بأوجهه، وبين ما قالته جنة لوالدتها: “رغبة قديمة جواكي في إنك تحتفظي بذكرى تولّد عندك الرغبة في الحياة..الحياة اللي فاتتك من زمان، من غير ما تنتبهي!”
و”جنة هنا” محنة بين أم وابنة تنتميان إلى فصيلين مختلفين، تناقشان فكرة الأب الغائب للعمل منذ فترة طويلة، بحيث إن الابنة تبلغ من العمر ثلاثين سنة، ولم تلتقِ قط به! لذا، أي مشاهد لا بد أن يستغرب طريقة الحوار بين جنة وهنا – الأم والابنة – هل هذا حوار خليق وملائم أن يقدم على الخشبة؟ حواسنا تتأمل – بحذر- الهجوم من البنت لوالدتها، نأمل أن تكون مبالغة في الأداء – رغم واقعيته في الحياة الراهنة وذوبان مسافة الاحترام بين الوالدين والأبناء – ونراهن أن ينتهي هذا سريعاً، لكننا – كمتلقين – نفاجأ بأن هذا هو السياق العام لكامل الحوار، لأنه يعبر عن حالة داخلية ستكشف عن نفسها رويداً رويداً، والصورة ذات البرواز الظاهر على يسار الخشبة، لرجل في مقتبل العمر هو محور الحدث، هو سبب لأن تمر جنة بالتجربة الصعبة الرئيسية في حياتها، بحيث يختل ميزانها وتصرح بأنها “مليش جدار أستند عليه”، أو أن والدها الغائب “حطمني، خلاني مخلوق مرتبك”، وغيرها من الجمل الكفيلة بنقل إحساسها للمتلقي بأنها الشخص الذي هي عليه.
الأم التي تحملت كثيراً في سبيل ابنتها، كانت تعبر عن شكل من أشكال القهر المجتمعي للأنثى تحديداً؛ هي أرملة دون أن تخبر أحداً، فضّلت أن يكون لها أب/زوج غائب موعود بالرجعة في أي وقت، تحسب له هيبة من كل دائرة الأهل والمعارف؛ كل الأمور معلقة حتى يعود، لأنه حال اكتشاف الأمر سيكون لوضعها الجديد إيقاع حياة مختلف، إذ سيتدخل الأهل في إعادة جدولة حياتها – كما حاول خال جنة تطليق أخته بعد أن طال غيابه رغم تمسكها به- حسب عرف المجتمع البائس الذي يرى من الأم العازبة (المطلقة/الأرملة) عبئاً وخطأ لا بد من تصحيحه عبر الزواج بأي خاطب، حتى لو كان أخا الزوج -على سبيل الإمعان في البؤس-، ومن باب “الستر” الذي لا يُرى مجتمعياً إلا من عين أن المرأة عورة لا بد أن تدارى في أسرع وقت، مهملين ومتناسين أن لها حاجات إنسانية أكثر منها جسدية، والأنثى هي الشخص الأمثل لتحديد هذه الحاجات حسب أولويتها في حياتها “هي”، لا عبر حسابات تقترب من التعامل معها كــ”مقتنيات”، خصوصاً من قبل أهل الزوج، إذا كان لديها أبناء “تخص” ابنهم الراحل.
لذلك فإن تعريف الرجل بالنسبة لجنة هو ذاك الكائن الذي يتحرش بها في الأتوبيس، أو زميل العمل الذي يلقي بالأعباء لمجرد كونها موظفة جديدة في المكان، رئيسها في العمل الذي لابد أن ينال منها لأنها المطلقة “المتوفرة” حتى تأخذ بالمقابل حقوقها في العمل، أو الجار العازب الذي أحبها ورغب في الارتباط بها، لكنه عزف عن الموضوع بهمسة من والدته: لا زواج من مطلقة! وهو أيضاً “ظل الراجل” الذي خضعت له تحت مسمى الزواج، لكن حتى هذا الرباط المقدس لم يستمر لسبب سخيف، وهو عودتها المتأخرة بالليل، بينما هو يقضي وقته أمام التلفزيون بدونها وحيداً!
لا يبدو أن البيلي اخترعت هذه الحالات المذكورة، بل هي مستقاة من حكايات الإناث اليومية التي يتداولنها فيما بينهن، والمجتمع يعرفها، وعلى يقين من عدم صحتها، ينادي بها أفراده حين تكون القضية عامة، أما في وقت اقتراب هذه الحالات من حياة نفس هذا الفرد الذي يصنف نفسه مثقفاً، وحراً، وربما ليبرالياً، وخارج منظومة التفكير الجمعي، ستظهر –غالباً- الطبيعة الأولى لهذا الفرد والمكونة من مجموعة العقد -محكمة الربط-، أعراف بائدة لا يمكن التخلي عنها، والكثير من القلق فيما لو خالف و”اختلف” عن بقية القطيع المسالم.
وليس من المستغرب أن تختلف جنة وهنا على أبسط المفاهيم القريبة لبيئتهما. على سبيل المثال: ترى الأولى أن الشرف يساوي منديل دم البكارة، بينما ترى الثانية أنها “شكليات عقيمة” ليست لها قيمة. مفهومان متناقضان، لا توجد منطقة وسطى تجمع بينهما. الحديث أيضاًعن تجربة الختان المؤثرة كما ترويها جنة، في تجسيد موفق بصرياً، وعميق حسياً، عن الغفلة التي شعرت بها، والألم والخيبة اللذين شعرت بهما حين سلمتها والدتها لمجموعة من النساء اللاتي قطعن جزءاً منها، ثم أعطوها قطعة حلوى لم تفلح في إلهائها عن ما شعرت به هي وأخريات كن معها في نفس المذبحة المشروعة: “كل ما وحدة تخرج أمها بتزغرد..احنا نصرخ وأنتوبتزغردوا..”!
أما عن تبعات هذا الفعل، فتأتي لاحقاً حين باحت جنة لوالدتها:”جوزي ده أنا مش حاساه..تقولي لي عيب..أقولك أنا رحت للدكتورة يمكن ألاقي حل..تقولي لي عيب..وهو كان بيقوليأنتي زيك زي لوح الثلج..”، حتى مع تبرير الأم أنه فعل عادي، وحدث ولازال -في المجتمعات الضيقة طبعاً- لم تقنع البنت التي تشربت من التمرد وجعلها تنظر لكل الأشياء من حولها بعلياء وترفع، وأحياناً بتطرف، لأنها لا تستطيع رؤية الأشياء إلا بالروح التي كبرت معها.
وجنة لم تحكِ إلا عن جزء هين من تبعات الختان المتعلق بكيفيته -حسب تجربتها المرة-، ولاحقاً عن الأثر الذي تركته هذه العملية في جسدها، ورغبتها في الحياة الزوجية الطبيعية، وهو اختصار لكل الآلام الجسدية والنفسية التي لا تزال تمارس ضد الإناث الصغيرات بالعمر، في سن ما قبل التمييز وتكوين رأي أو موقف، وتبدأ التبعات من ضعف التجاوب الجنسي، ولا تنتهي بالأورام السرطانية والصدمات النفسية الوشيكة التي يتم التهاون بها والتقليل من شأن حصولها. لم تحكِ عن عدم الثقة في الآخر، وعدم الإحساس بالأمان بوجه عام، بل جسَّدته مباشرة على الخشبة.
والملفت في نص “السرير” أنه تعمّق بهدوء داخل قضية تبدو لآخرين عادية وواردة الحدوث، وأعني بذلك مفهوم “الأسرة المستقرة”، والمكونة من أم وأب وأولاد. غياب أحد هذه المكونات يخلق شعوراً بالنقص أو الفراغ الذي يجب أن يعبأ – وبماذا يعبأ؟ فتلك مسألة أخرى-، وغياب الأولاد/ عدم الإنجاب يخلق ضغطاً اجتماعياً على الزوجين. أما غياب أحد الوالدين، أو كلاهما، فيخلق أثراً كبيراً سيئاً على شخصيات الأبناء، قد لا يلاحظ بسهولة، لكنه يتبين مع التعامل القريب، في اختلال الميزان، كما في مثال جنة بتعاملها مع الذكور في محيطها.
على مستوى الرؤية، خدمت السينوغرافيا جزءاً من العرض في قطعة الديكور الرئيسية، المتمثلة في السرير، واستعمالاته المتعددة التي دار عليها الحدث كله، مدمجاً بالإضاءة المختلفة التي صنعت من السرير ضريحاً لولي من أولياء الله الصالحين تارة، أو إلى غرفة الولادة/ غرفة الختان، وغيرها. ومن باب التكثيف، كان المتأمل أن تكون القطعة الوحيدة على الخشبة مع صورة الأب، من حيث تأكيد المعنى للسرير؛ وجوداً ومعنى، ويمكن إضافة الكرسي الهزاز من باب التنويع في الحركة. أما بقية القطع، فشكلت عبئاً ثقيلاً على الخشبة، لعدم الحاجة المادية والدلالية لها، حيث حجّمت من حركة فتاتي الاستعراض اللتين تظهران في بعض المقاطع كخيال ظل، أو تدعمان الفعل القائم على الخشبة من خلال أداء حركي معزز، لكسر الحوارات “الديو” المتتالية بين جنة وهنا.
وحتى الأزياء المتطابقة الألوان بين الشخصيتين الرئيستين وفتاتي الاستعراض، كانت موفقة إلى حد كبير في تأكيد فكرة انتمائهم الواحد للفكرة/ للمجتمع/ للمكان/ للمصير، بحيث إنه لما زادت حدة التوتر بين جنة وهنا، تخلت الأولى عن جزء من أكمام الزي الذي ترتديه، كان بمثابة إعلان انفجار وتمرد رسمي على كل ما هو بائد من وجهة نظرها.
عرض لا يمكن بأي حال من الأحوال إلا أن تتماهى معه، في مباراة الأداء الصادق بين عبير الطوخي وهالة سرور، ترقب تراكيب الجمل وصياغتها بشكل أقرب للحوار الواقعي بين أم وابنة وقعتا في المسافة الضائعة بين علاقة الاحترام الطبيعية في هكذا أحوال، وبين فارق السن الذي يتلاشى مع الاحتكاك اليومي والأسئلة الملحة التي لا يوجد لها إلا إجابات نموذجية جاهزة، روح التمرد التي تعلو يوماً بعد يوم، تقابلها هزيمة وانكسار وقلب يمتلئ شجناً وألماً وخوفاً من الاستسلام وكشف المخبوء، تكتشف لاحقاً أنه لا يناقش قضايا الإناث وحسب، بل يجر كل المجتمع الذي غرّب العائل الوحيد للأسرة، وحكم على أسرته بالوضع الذي رأيناه، مع التبعات الكثيرة التي تُحكى ولا تُرى.
كُتب هذا النص بروح أنثوية عالية، تستوعب معاناة الأنثى بكل التفاصيل التي تصعب على ذكر التعبير عنها، إلا بعض الاستثناءات. فبدءاً من إهداء النص إلى سعاد عمران، والدة المؤلفة البيلي،حتى التسلسل الذي ظهرت به القضايا التي قدمها العرض بتتابع مترابط لا يستشعر فيه المتلقي بإقحام أو تكرار، بالإضافة إلى المنطقية والواقعية “الجارحة” إلى حد ما، للمفعول به مثل جنة وهنا، والفاعل الذي يمكن أن يأتي على أشكال مختلفة لا يمكن حصرها. فليست المصادفة التي جعلت “عنوان” نص السرير غير مقبول رقابياً. فالأفراد في الرقابة هم هم الأفراد في المجتمع الذين تواجدوا في “جنة هنا”، حتى ولو كان هذا بين السطور.

اقرأ المزيد

الجولاني في البذلة

رغم مرور أسابيع على الحوار الذي أجراه الصحفي الأمريكي مارتن سميث مع زعيم “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقاً)، أبو محمد الجولاني، ما زال هذا الحوار مثار نقاش وجدل، من عدة جوانب.
أكثر ما لفت الأنظار في أمر هذا الحوار هو الصورة التي نشرها سميث وتجمعه مع الجولاني، حيث ظهر فيها الأخير مرتدياً بذلة وصفها البعض بالأنيقة، حاسر الرأس، محاولاً لفت الأنظار إلى مظهره الجديد، المخالف للمظهر الذي عرفه العالم به أول مرة، مرتدياً سروالاً من ذاك الذي عرف به مقاتلو “القاعدة و”طالبان” في أفغانستان، وواضعاً على رأسه عمامة كتلك التي كان أسامة بن لادن أو أيمن الظواهري زعيما القاعدة يضعانها على رأسيهما.
المراقبون راوا في الأمر رسالة سياسية المحتوى، وبالمناسبة فإن الجولاني الذي سبق له أن استبدل العمامة “الأفغانية”، بغطاء رأس عربي منذ أن اعلن قطع ارتباط تنظيمه ب”القاعدة”، وغيّر اسمه إلى “هيئة تحرير الشام” بديلاً ل”النصرة”، أراد بمظهره الجديد في صورته مع سميث، أن يقدّم نفسه بوصفه رجلاُ منفتحاً، راغباً في الوصول إلى تفاهمات مع الأمريكان والغرب، بشأن الملف السوري الشائك، يُمكّن تنظيمه، في أي تسوية محتملة.
ما أثار الانتباه أيضاً في أمر هذه المقابلة هي أنها أجريت في إدلب، معقل الجولاني، والتي يسيطر تنظيمه عليها وعلى محيطها، ولم يمنع ذلك كون الجولاني مصنفاً في قوائم الإرهاب، ومطلوب القبض عليه، بل إن مكافأة مالية مجزية رصدت لكل من يدّل على طريقة للوصول إليه، ما يطرح سؤالاً عما إذا كان هناك ضوء أخضر أعطي لمارتن سميث من جهات أمريكية مسؤولة بإجراء الحوار، برغبة “تسويق” الجولاني سياسياً، كزعيم له نفوذ على الأرض، بالتزامن مع مجيء إدارة بايدن، التي سيكون لها نهج مختلف في إدارة الملف السوري، سيؤدي إلى إطالة الأزمة وزيادتها تعقيداً.
ثمة مؤشرات، إن في محتوى الحوار المذكور، أو في ظروف ومكان إجرائه،على أن الجولاني التقط الرسالة، وأنه يجهد لتبديد الصورة المأخوذة عنه كزعيم لتنظيم إرهابي عنيف ودموي، أصولي التفكير، لتحل معها صورة بديلة كزعيم سياسي، وحتى مدني، براجماتي المنهج، قابل لأن يكون طرفاً في مساومات وتسويات، تمنحه دوراً مقبلاً يتجاوز دور زعيم تنظيم مسلح منبوذ دولياً.
واشنطن خير العالمين أن خلع العمامة واتداء البذلة غربيّة الطراز، لا يجعل من تفكير من قام ذلك مدنياً، ولا يغير من جوهر وطبيعة البرنامج السياسي – الفكري الذي يتبناه، وإن الجولاني سيظل هو نفسه، لكنها حسابات السياسة وألاعيبها، فالأمر لا يعدو كونه “إعادة تأهيل” للجولاني كي يكون جاهزاً لأي دور محتمل في المرحلة القادمة، و”إعادة التأهيل” هذه لا تشمل طبعاً “غسل دماغ” الجولاني المتطرف والأصولي والمصنف بالإرهابي، إنما تنحصر في إلباسه البذلة الغربية، وخلع العمامة، أمام الكاميرا على الأقل، وإفهامه أن يُظهر ما هو مطلوب من “مرونة” فقد تكون “رجلنا” القادم، أو “تعشيمه” بدور ينتظره إن هو أحسن الأداء المطلوب عنه.
هل يطابق حساب الحقل حساب البيدر هذه المرة؟ . علينا أن ننتظر ونراقب، فلعلّ الإجابة قادمة بعد حين قد يطول وقد يقصر تبعاً للمسار الذي ستسير عليه الأمور، وهي لا تسير بالإرادة الأمريكية والغربية وحدها، فعلى الأرض السورية تتبارى الإرادات وتتصارع، والتوازنات هناك شديدة الدقة والحساسية بحيث لا تجعل من الأمريكان وحلفائهم هم اللاعب الوحيد، وبالتأكيد لن يكون الحاسم.

اقرأ المزيد

الخطأ ليس في الفلسفة بل في التنفيذ

التشابه هو الشرط الأساسي لحياة جيدة، أي طاعة نفس القواعد والرغبة في نفس الأشياء مثل أي شخص آخر، أما “جون كيتنغ” فيرى أن التشابه هو الشرط الأساسي للموت، أي شيء يجب محاربته ضد، لذلك كما يقول، يجب أن تقاوم الحياة الجيدة التماثل والتوافق الأعمى، نظرًا لأن الحياة قصيرة جدًا، ويجب على الطلاب الاستفادة القصوى من وقتهم على الأرض، أو ما يدعوه ب “اغتنام اليوم”.

وأفضل طريقة لتحقيق أقصى استفادة من الحياة هي أن تكون مبدعًا وأصلياً – لاغتنام اليوم – وليس مجرد تكرار حياة الوالدين والأجداد. باختصار هدف كيتنغ كمعلم هو تعليم طلابه التفكير بأنفسهم واستكشاف شغفهم والعيش وفقًا لذلك.

مأساة مجتمع الشعراء الميتين هي أنّ بعض طلاب كيتنغ يسيئون تفسير احتفاله بالحياة والأصالة. وعقلية ” Carpe Diem” تعني أنّ الحياة بدون الإبداع والأصالة لا قيمة لها ولا تستحق العيش.

بدأ “نيل بيري”، أحد أكثر تلاميذ كيتنغ حماسة مسيرته المهنيّة كممثل، متأثراً من تشجيع معلمه “كيتنغ” على فكرة “اغتنام اليوم”. ولكن عندما اكتشف والده السيد بيري أنّ نيل كان يهمل دراسته بسبب انغماسه في المسرح، منعه من الأداء،، فأصيب نيل بالذهول من ذلك ، لدرجة أنّه قتل نفسه.

ماذا يعني هذا؟ هل هو خطأ نيل المأساوي الذي هو تحريف فكرة كيتنغ، “لأننا سنموت، فلنعش الحياة على أكمل وجه” إلى فكرة أكثر كآبة: “لأننا لا نستطيع أن نعيش الحياة على أكمل وجه، يجب أن نموت”؟

فلسفة “جون كيتنغ” هي، قبل كل شيء الاحتفاء والاحتفال بالحياة على الموت. بينما أدى سوء تفسير نيل لنظرية أستاذه إلى وفاته. بالرغم من أن كيتنغ قد ألهم العديد من طلابه لعيشوا حياة مبنية على شغفهم الفريد، متجاهلاً إملاءات والديهم ومعلمي ويلتون الآخرين.

إذا، الخطأ ليس في الفلسفة بذاتها، بل في طريقة تنفيذها، أو مدى استيعابها من قبل مريديها.

اقرأ المزيد

السيدة نخلة

بدء حكمتي وانتهاؤها
لي قد تجلّيا :ماالذي سمعته؟
رنينه الآن مختلف تماما
لا أسمع غير آه وأوّاه!
غير اجترار شبابي القديم
نيتشه
لا أعرف لماذا تسحبني المقاهي لحكاياها، رغم أني لست ممن يطوف بها كثيراً، لكنها تتربص بي لتسقيني شاياتها المبتكرة، كان يوما شاقا أشعل في جسدي فتيل التعب حين حدثتني لتدعوني للخروج ،أخبرتني بحاجتها الملحة للتغيير، غريبة هي، تحاصرها وحدة قاتلة، كان للاعتذار طعم الخيبة. سار بنا الوقت وسرنا به حتى استقرّ بنا في مقهى شعبي. أخذتني رائحة السمك المشوي لطفولة يزخر بها البحر قبل أن يقرر الرحيل تاركا زرقته تجلدنا كل يوم ربما مل قنانينا التي كنا نحشوها ألما وخيبة، حزناً نتفرد به، استغاثات لا تسمع، مواويل نحفظها لنرددها عنده وبين آه وآه كان يتسرب منا، فاض به الحزن وامتصّ ما تبقى من مياهه فأصبحنا ننوء بحزننا حيث لا معبر له، لا بحر نخبئ الحزن في ماءه، ولا طبيعة نتكئ على لونها لتخضر قلوبنا من جديد،كنت أغوص بهمومي فأشرد عن حديثها كثيرا،لكنها سحبتني لصوتها وهي تردد كلمة سر نحن النساء كم نحب هذه الكلمة ، أقسمت بأغلظ الإيمان أن لا أخبر أحداً. كنت صادقة جداً وأنا أردد اسم الله. ضحكنا حين علقتُ على طرق القسم التي كنا نقولها ونحن صغار.
(والله العظيم، في ذمتي، في صلاة أمي وأبوي)…هي ثقافتنا ياعزيزتي تاريخنا الذي تجهلين، براءة قلوبنا الندية، أفياء النخل المزروع بعروقنا،حتى تعرفي ذلك لابد أن تشربي ملح البحر، لابد أن ترتسم الخرائط على جسدك وأنت تغازلين بحرا كان جارا لك،
قولي …. فللأسرار لذة لذيذة فبوحي بما لديك، أخبرتني حينها أنها تحب هكذا بكل بساطة لولا الناس لصرخت من فرحتي، سعدت كثيراً بهذا الخبر، خاصة وأنا أعرف كم تحتاج لهذا الحب، كان الفضول يبعثر ألوانه على ملامحي وأنا أسألها عمن يكون ……… كانت الإجابة (…..) صارخة، مميتة، قاتلة، إنه هو حبيبي كدت أصرخ بها، لكني تعقلت ورددت بيني وبين نفسي هذا حبيبي يا عزيزتي، هذا الذي يبعث الهواء في الهواء كي أتنفس حين تمر بي أزمة الربو أو حين تنفث مصانعنا سمومها على صدري فأقبل الأرض من أجل نسمة هواء لولاه لكنت اختنقت يا صديقتي، عذرك أنك لا تعرفين، كنتِ كثيرا ما تسألينني عما إذا كنت أحب فأخبرك كذبا بأن قلبي يغرد وحيداً لا لسبب سوى أنه كان يحب أن أبقي علاقتي به سرية حتى لا تسلط علينا العيون فنسعد بحبنا، كانت تكمل حديثها بينما عقلي يفكر بسرعة أية قدرة هذه التي تمتلكها عقولنا على التفكير في ثواني بسيطة كنت أمر بكل محطاتنا، كل البساتين التي زرعنا نخيل مشاعرنا عليها، كلما رسمت لوحة كنت أستمدها من شموخ عينيه كان يحب النخيل كثيرا وكنت أسرف في رسمها حتى أن أحد أصدقائي يسميني بالسيدة نخلة، أكان يستمد شموخه منها أم انه سرق الخضرة وخبأها بقلبه، أم من العناقيد كان عطاءه ودفء مشاعره إنه حبيبي يا صديقتي فلا تدمي قلبك وقلبي، تقولين يحبك ؟
نعم أخبرني منذ ثلاثة شهور أنه يحبني، قال بأنه يجهل كيف تسرب الحب لقلبه هو البتول الذي ماعرف الحب، يبدو أنني حللت عقدته، هل كان يحتاج لحب مستورد كي يتقن فعل الرجولة، قولي لي هل أنا جميلة؟ نعم ياحبيبتي جميلة جدا والدليل أنك أوقعتي به …. يعود عقلي لتفكيره السريع تطوحني الأسئلة قلبه بتول لابد أنها كاذبة، كم يحتوي ضميرك من كذب لايطاق بدأت أضيق بكلي وبك وبالسمك والناس ، لكن لا هي لاتكذب كأني سمعت هذه الجملة من قبل
( أجهل كيف تسرب الحب لقلبي، إنها أنتِ وعيناكِ التي انطقت شراييني). هي قالت تسرب الحب لقلبه هذا كلامه، هذا ماقاله لي ذات بوح، لا هي حتماً كاذبة، كانت ابتسامتها تشرق بالمكان لتبوح بسعادتها، ياربي أي ارض تلك التي تحتملني، سأريك شيئا اختبأت داخل حقيبة يدها الكبيرة، تفتش عن سكين أخرى لتطعنني بها، أخرجت هاتفها النقال، وراحت تبحث في رسائلها وبدأت تقرب شاشته من عيني، هذه رسالة منه (…………………..) إنها الرسالة التي أرسلها لي البارحة، يا إلهي .. رسالة أخرى.. وأخرى كلها ياعزيزتي تسكن صندوق الوارد في هاتفي.
ست سنوات مضت على ما أظن، ست سنوات وأنا….. بماذا أصف نفسي ؟ أمشي على الجليد فتتجمد أطرافي لا… هي نار تحرقني، صوتك ياصديقتي تحول لنقيق ضفادع، هل تسكتين، دقائق فقط لألملم أطراف الحزن الخانق، هل أخبرها وأقضي على هذا الفرح، هل أصمت، كدت أكسر أصابعي من الطرقعة كحالي كلما استبد بي قلق ما، أيتها السماء ألن تمطريني برحمتك، لماذا أفقد السيطرة، أنا عاجزة تماماً، كان خالي يقول أنت لاتشبهين النساء، راقية كشمس، شامخة كنخلة، متلألئة كنجمة أفسدتني ياخالي بتكرار كلامك، أمي…. لماذا أحسنت تربيتي؟ لماذا أرضعتني قيمك؟ أريد أن أخبرها وأمزق سعادتها أجمع أشواك السمك وأغرسها في جسدها أو جسده، أخنقها بشالها ، أسلط عليه من يوسعه ضربا، أرمي عليه كل الشتائم ، قلت له يوما أني سأقتله لو خانني ،سأقتله إذن، عيناها وهذا البريق أعرفه تماما كان يرافقني وأنا أنظر لعينيه أو حين أخلو بألواني أبعثرها على نخلاته، مرة رسمت النخلة بلون برتقالي ومرة أخرى كانت سطوة الأحمر تخترق سعفات نخلاتي أما حين جربت أن ألون السعفات بألوان مختلفة كنت متيمة حينها بدت السعفات مزهوة بألوانها كقلبي وهو يزهو بصدقك،عدت للبيت وإخطبوط الحقيقة يعتصرني، ربما أحبها فعلا، حملت هاتفي وكلمته، سأرمي عليه شرر حقدي، وتخونين صديقتك تلقين بسرها إليه …. جاء صوته يقطع ماتبقى ..
ضحكت فشر البلية مايضحك، حبيبتي قال فابتلعتني السابعة، ربي لماذا لم تجعلهن مئة أرض كي يحتوي عمقها ألمي ، أحبك بعثرها كشظايا اخترقت ظهر معارض وهو يسقط غضبه على شارع مرصوف ليتعرج كحياته التي قرعت عليها طبول الجوع والبطالة، يصله صوتي مبحوحا، أحقا تحبني،ألم تحب غيري، قبلني عبر الهاتف تلك الليلة أكثر مما يجب كأنه يعرف أنه لن يسمع صوتي بعدها …. أغلقت الهاتف كان الهواء يتناقص، ناديته كي يمرر لي نسمة من هواء، صورته بقرب سريري يخرج من إطارها يتغير لون وجهه، يسقط على الأرض، يتحلل، رائحة العفن تملأ الغرفة، أسعل بشده، يسرع والدي بجهاز التنفس، تقرأ والدتي ماتبقى من سورة الوطن فينكسر جناح الطير الذي حام بين عيني وأتحول فراشة تحمل نخلات بلا سعف لوادٍ بذاكرة معطوبة أحرقتها كي أنام بلا أسئلة .

اقرأ المزيد

خطوات تعيدنا إلى الوراء

حين يُكشف عن مظاهر الفساد في دوائر الشركات الكبرى التي تمتلك حصصاً شبيهة بالحصص الحكومية لا تمس بشفافية من قبل دوائر التفتيش، فإن البعض من المسؤولين يعتبرون ذلك مساساً بالديموقراطية، وهو تناقض غير طبيعي نسعى جاهدين في حركتنا الوطنية والتقدمية، وكذلك الوجوه الجادة في المجلس النيابي لإبرازه، لأنه يصب في الفساد ذاته.
إن التقارير التي تخرج في المجلس النيابي عن دوائر الفساد لا تجد طريقاً جدياً وصريحاً في الأخذ بمحتوياتها بصدقية، بل يتم التبرير والتستر عليها ومحاولة التهرب في الرد بطرق ملتوية، لكنها مكشوفة.
إن النواب الوطنيين في المجلس النيابي في نقدهم للسلبيات لا يهدفون تصيد الأخطاء كما تروج بعض الدوائر التي تتهرب من مسؤوليتها عن الفساد الذي يجري كشفه من النواب، بل إن هؤلاء النواب كثيراً ما يقفون إلى جانب الإيجابيات، ويشيدون بما يصدر من مواقف تدفع الأمور نحو الإصلاح والتطور.
لا يتم النجاح الديمقراطي في ظل تهرب القوى المتنفذة من المسؤولية وتخليها عن الجدية في الوقوف إلى جانب المجلس النيابي ونوابه الحريصيين كل الحرص على الثوابت الوطنية والدفاع عن حقوق من انتخبوهم، أما المواقف المتناقضة المكشوفة ومطاطية القوانين فما هي إلا خدمة للجشع والايتزاز بذرائع واهية لنهب المواطن بصورة سافرة متبعين مبدأ (ترك الحبل على الغارب).
إن عدم الوقوف إلى جانب الديموقراطية وقواها هو تعدّ على حقوق الناخبين الذين ينتظرون تلبية مطالبهم المعيشية لبناء مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وهذا ما دعا إليه المشروع الإصلاحي وميثاق العمل الوطني، وهو نفسه الذي يعزز ثقة الشعب بكافة شرائحه في المؤسسات الديمقراطية والتي بدونها لا يمكن التطور الاقتصادي والسياسي.
اخيراً نقول إن عدم الالتفات لهذا التهرب يرجع ديمقراطيتنا إلى الوراء بعد أن حققنا خطوات مهمة من التطور على طريق إرساء مجتمع متطور يسير إلى الأمام، ما يتطلب الحفاظ على ما تحقق من منجزات والسعي إلى تطويرها، خاصة في الظروف الصعبة التي سببها وباء (كوفيد 19).

اقرأ المزيد

السياسات النيوليبرالية واستهداف الحقوق المعيشية للمواطنين

جاء في مقدمة العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية :(إن الدول الأطراف في هذا العهد، إذ ترى أن الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل، وفقاً للمبادئ المعلنة في ميثاق الأمم المتحدة، أساس الحرية والعدل والسلام في العالم، وإذ تقر بأن هذه الحقوق تنبثق من كرامة الإنسان الأصيلة فيه، وإذ تدرك أن السبيل الوحيد لتحقيق المثل الأعلى المتمثل، وفقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في أن يكون البشر أحراراً، ومتمتعين بالحرية المدنية والسياسية ومتحررين من الخوف والفاقة، هو سبيل تهيئة الظروف لتمكين كل إنسان من التمتع بحقوقه المدنية والسياسية، وكذلك بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإذ تضع في اعتبارها ما على الدول، بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة، من الالتزام بتعزيز الاحترام والمراعاة العالميين لحقوق الإنسان وحرياته).

ولأن هذه الحقوق لا تنحصر في حق معين بل هي عديدة، لهذا نُصّ عليها في الاتفاقيات الدولية والدساتير للعديد من البلدان في العالم لتكون ملزمة لها، وأصبحت حقاً دستورياً لا يمكن التنصل منها تحت أي ظرف من الظروف، ولابد من الالتزام بها وتنفيذها تجاه مواطنيها في البلدان المقرة في دساتيرها، وتُساءل وتُحاسب من قبل السلطات التشريعية المنتخبة وتُثار إشكالية حولها مع المنظمات الدولية المعينة بحقوق الإنسان.

موضوعنا عن الحقوق المدنية المثبتة كمواد في دساتير بعض البلدان الخليجية بما فيها بلادنا البحرين، حيث توجد تلك المواد في دستور مملكة البحرين 2002 (7 “أ”، 8 “أ”، 9، 13 “ب”)، ولا يسع المقام هنا لنقل تلك المواد الدستورية، لذا نكتفي بالمادة ( 8) أ- : “لكل مواطن الحق في الرعاية الصحية، وتعنى الدولة بالصحة العامة، وتكفل وسائل الوقاية والعلاج بإنشاء مختلف أنواع المستشفيات والمؤسسات الصحية”، ورغم أهمية بقية المواد إلا أننا نتوقف أمام هذه المادة بالذات، لما لها من خصوصية لأنها تعنى بالصحة العامة، صحة الإنسان التي بدونها لا يستطيع القيام بالعديد من الواجبات والالتزامات في الأسرة، العمل، المجتمع، وأن توفر التعليم، العمل، السكن، في بعض الاحيان، وإن كان في حالات عديدة لا تتوفر للمواطن جميع تلك الحقوق وبالأخص المواطنين أصحاب الدخل المحدود، وإن حصلوا عليها تأتي بعد معاناة وانتظار لسنوات طويلة، بالأخص السكن الذي هو أيضاً حق دستوري، حيث أن طلبات المواطنين في وزارة الإسكان بالآلاف ينتظرون مدداً تصل إلى 20 و25 سنة، فكيف يطلب من المواطن القيام بالواجبات الدستورية ولا تُلبى حقوقه المنصوص عليها في الدستور؟.

والأكثر من هذا وذاك تستمر سياسة النيوليبرالية بتحميل المواطنين أعباء مالية إضافية من خلال فرض الضرائب والرسوم عليهم، وهم ليسوا شركاء في القرار السياسي ويدفعون الثمن باهظاً لأخطاء وسياسات الدولة الفاشلة والتي لم تستطع التصدي للفساد والفاسدين وسارقي المال العام. ولو تحدثنا فقط عن الفترة الماضية طوال العشرين سنة الأخيرة، فيمكن العودة إلى تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية، وهو جهة رسمية تابعة للدولة، لنرى حجم الفساد، ولكن لم نقرأ بأن هناك مسؤولين متورطون في قضايا فساد وسرقة المال العام تمت محاكمتهم، مثلما حدث في بعض الدول الخليجية، وليس الاكتفاء بمحاكمتهم، بل صدرت بحقهم أحكام بالسجن في قضايا فساد وغيره، فالفساد وباء خطير وفتاك يجب مكافحته والتصدي له، لا غض النظر عن الموضوع وترك الفاسدين والمتورطين فيه يمرحون ويسرحون دون مساءلة قانونية لهم بتقديمهم للمحاكمة، وكأنها مكافأة لهم على أفعالهم المشينة في سرقة المال العام وهي جريمة بحق الوطن والمواطن.

تمضي التوجهات لتنفيذ السياسة النيوليبرالية تحت عناوين ومسميات متنوعة، بذريعة تقوية الاقتصاد الوطني بانتشاله من حالة الركود والضعف، من خلال الذهاب بعيداً بتنفيد عمليات الخصخصة، وإن كانت إجراءات التحول متفاوتة وتأخذ وقتاً في تلك القطاعات الحيوية (الصحة، التعليم، الإسكان، الكهرباء والماء) التي تمسّ حقوق المواطنين وبالأخص الفئات الفقيرة والكادحة وترك الفاسدين والمتسببين في التراجعات والصعوبات التي يعاني منها الوضع الاقتصادي في البلاد ماقبل جائحة كورونا وتداعياتها مما أدى إلى العجز في الموازنه لعام 2021 و 2022 وارتفاع ملحوظ في الدين العام، يفاقم من استمرارية الأزمة ولن تفيد نصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، نصائح كارثية تحمِّل المواطنين الأعباء المالية وبالأخص الفئات الشعبية الفقيرة بمزيد من فرض الضرائب والرسوم .

تدعو النيوليبرالية “إلى تبني سياسة اقتصادية تقلل من دور الدولة وتزيد من دور القطاع الخاص قدر المستطاع، و تسعى لتحويل السيطرة على الاقتصاد من الحكومة إلى القطاع الخاص، بدعوى أن ذلك يزيد من كفاءة الحكومة ويحسن الحالة الاقتصادية للبلد.” وبكلمات فإن النيوليبرالية تزيد الفقير فقراً والغني غنًى وتسلب من الفئات الفقيرة والكادحة حقوقها وبالأخص الحقوق المكتسبة طوال سنوات بل وعقود، وتخلق في المجتمع حالة من التمييز والفوارق الطبقية، وتغيب مبادئ وقيم المساواة والعدالة الاجتماعية .

مهمة أعضاء مجلس النواب كبيرة بالتصدي للتوجهات النيوليبرالية التي تمضي نحو الخصخصة للقطاعات الحيوية (الصحة، التعليم، الإسكان، الكهرباء والماء) لكي لا يكونوا شركاء السلطة التنفيذية في إفقار المواطنين، عليهم التعلم من درس الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي، لكي لا تتكرر الأخطاء والمآسي ويتحملها المواطنون ويخسر الوطن.

اقرأ المزيد

موافق .. وممتنع .. وشر البليّة !

ها نحن فى المشهد ذاته، لازيادة ولا نقصان، مشهد قد يؤدى بنا الى ما هو أسوأ من اليأس، أو أدى بنا وانتهى الأمر، لا سيما انه يصب فى مجرى مشاهد أخرى سابقة وجدنا فيها نواباً وهم يتبارون فى تقييد اي مشروع استجواب وتقليص صلاحيات مجلس النواب فى توجيه الأسئلة، والآن جاء منع توجيه اللوم أو النقد أو الاتهام فى عملية تفضح نفسها بنفسها تجعل هذا المجلس منزوع الدسم بعد أن كان قليل الدسم!
كان من المستغرب، بل من المستهجن تلك التبريرات التى ساقها بعض النواب لتبرير إقرارهم تعديل اللائحة الداخلية لمجلس النواب، حتى أولئك النواب الذين امتنعوا عن التصويت، ومعهم الذين تغيبوا أو غيّبوا انفسهم، وجميعهم فى غنى عن التعريف لا يجب أن يعفوا أنفسهم من مسؤولية هذا الاعتداء الجديد الصارخ على ما تبقى من صلاحيات برلمانية، الامتناع عن التصويت ليس حياداً، والتغيب بعذر أو بدون عذر هروب من مواجهة الموقف وكلاهما فى حكم الموافقة، والمشاركة فى الدفع بالعمل البرلماني والتجربة البرلمانية برمتها الى قعر الهاوية، هو مشهد جديد ومرير لاينسي يعجز فيه نوعية من النواب عن إثبات جدارتهم والذهاب بنا إلى محطة القنوط واليأس.
أهم ما فى التعديل أنه وتحت ذريعة ضبط “المناقشات العامة” يمنع توجيه النقد أو اللوم أو الاتهام من قبل أي نائب لأي مسؤول، أو أي جهة حكومية، ويحدد مدة أي مناقشة تحت قية البرلمان بما لا يتجاوز 5 دقائق لا غير، وهذه خطوة من حيث الجوهر والمغزى والمعنى خطوة جديدة فى مسار عرقلة تطوّر التجربة البرلمانية، وابقاءها فى مكانها تراوح، والمؤسف حقاً أن هذه الخطوة جعلت الكثيرين من المراهنين والواعدين أنفسهم بإمكانية أن نصل إلى برلمان معتبر قادر على أن يناقش بحرية، وأن يساءل ويحاسب ويستجوب ويشرّع ويحارب الفساد ويواجه من يهدرون المال العام، ويجاهدون فى سبيل كل ما يدخل الارتياح والثقة والتفاؤل إلى نفوس أبناء البحرين الذين يعيدون النظر فى تفاؤلاتهم وتوقعاتهم، فماحدث أثبت أننا أمام حالة متداعية فى العجز والمراوحة وسباق الى الهاوية وبات اليأس يطوق الجميع من الجهات الأربع.
يكفى التمعن فى ردود الفعل فى المقدمة منها ما زخرت به الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي من تعليقات صبت معظمها فى مجرى التأكيد على أن ما يجرى هدفه “ضعضعة” و”تقزيم” العمل البرلماني والمضي بالتجربة البرلمانية الى المزيد من التراجع معنى وسلطة وشرعية وتمثيل وهيبة، مع علامات استفهام وتعجب حول حقيقة الوضع البرلماني وأفق هذا الوضع، والمصيبة أن ذلك حدث من جانب نواب بفترض أنهم يمثلون الشعب وليس غيرهم، والمصيبة الأكبر أن منهم من فعل ذلك وهو يتفنن فى التبرير كما لو انه يتكلم بصوت الحكمة، أو حكيم يستنار بضوئه والحريص على قيّم العمل الوطنى والبرلماني، والمحافظة على هذه القيم، فيما هو وآخرون ممن يعملون معاولهم فى صروح هذه القيم تهديماً.

للتذكير، التعديل الذى عرض على مجلس النواب فى 20 ابريل 2021 وافق عليه 13 نائباً، و تغيّب أو غيّب نفسه عن حضور الجلسة 6 نواب، أما الرافضين له فقد بلغ عددهم 12 نائباً ومن ضمنهم نواب كتلة تقدم (عبدالنبي سلمان، فلاح هاشم، يوسف زينل ) والحقيقة انه يشهد لهؤلاء انهم اعترضوا على المقترح بشجاعة، أما المثير للريبة حقا فهو امتناع 9 نواب عن التصويت، الأمر الذى فرض سؤالاً يبحث عن اجابة تشفى الغليل يدور حول ماهية تفسير الممتنعين عن التصويت، أحد المتابعين قال “إذا عرفنا مرامى الموافق وغير الموافق وحتى المنسحب، هل من تفسير لموقف الممتنع، وعلى أي أساس هو ممتنع، هل من حكمة وراء هذا الامتناع، أم هى مسرحية مصطنعة “؟
ربما علينا أن نتذكر بأن الجلسة وفقاً لبعض الصحف المحلية شهدت المناقشات مشادات وشدٍ وجذب وتبادل فى الاتهامات بين النواب، المؤيدين الذين اعتبروا بأن التعديل “سيضبط انفعالات بعض النواب إثناء المداخلات وسيشجع على المحافظة على أسلوب مرتب فى النقاش، وتحقيق المزيد من العصف الدهنى، أما الرافضون فقد وجدوا فى التعديل بأنه “يعود بالحياة النيابية خطوات الى الوراء، ويقلص من صلاحيات النواب، مؤكدين بأن النقد أمر صحي طالما أنه ايجابي، وأن الوزراء موظفين فى الحكومة وهم ليسوا فوق النقد الذى يمنح المجلس النيابي الحيوية المطلوبة ويدفع إلى إصلاح الأوضاع وتصحيح أوجه الخلل، وأن البرلمان مؤسسة سياسية يجب أن يقول النائب آراؤه والدفاع عن مصالح الشعب، وأن ميثاق العمل الوطنى وعد البحرينيين بتطوير التجربة البرلمانية وما يحدث لا يثبت ذلك”.
وهناك تساؤلات مهمة طرحت من نوع “اذا كان الاستجواب لم يعد ممكناً، والمناقشة العامة قلصت، وتوجيه اللوم والنقد ممنوع، فما هو اذن دور النواب ..؟” ، وسؤال آخر: “لماذا يراد منا أن نراعى مشاعر الوزراء فى حين نهمل مشاعر الشعب”، وسؤال ثالث: “مجلس النواب لم نعد نعرف جدوى استمراره هو اليوم يمثل السلطة التنفيذية اكثر مما يمثل الشعب، لماذا لا نكتفى حتى ولو من باب تقليص النفقات بالاكتفاء بمجلس الشورى” .. إنها تساؤلات فى الصميم ستظل تبحث عن اجابات واضحة، لا أجوبة مبهمة مطلقة!
نعم، ومئة نعم نتفق مع تلك التساؤلات والآراء التى تصدت للتعديل فى تلك الجلسة التى يمكن أن نخلص إلى أن مجرياتها تؤدى بنا الى خلاصة بأن الحقيقة صارت حقائق متنوعة، متصادمة هى أيضاً من فرط ما شهدناه تحت قبة البرلمان من محاولات المستعجلين من نواب على تفريغ العمل البرلماني من مضمونه بإهدار ما تبقى من صلاحيات، وكأنهم فى سباق لجعل حدود الممكن فى هذا العمل فى تراجع دائم تحت مبررات واهية لحد الاستهبال هى بالنهاية وباختصار تستصّغر عقولنا، والذين يحسنون القراءة بين السطور لا يمكن لهم تجاهل العلة والسبب، وهذا أمر قد يؤدى بنا الى نتيجة وهى أن الناخبين وبصراحة صارخة شركاء فى تحمل المسؤولية بخياراتهم التى أدت بنا من جديد إلى هكذا وضع وأداء برلماني يستحق الرثاء على واقع حاله، وعلى واقع أداء معظم نوابه!
لا ننسى أن ما جرى لا يختلف عما حدث فى فصول تشريعية سابقة حين وجدنا نواباً وهم يتنازلون فى مشاهد هزلية لا تنسى عن ارادتهم أو “استرهانها”، فى أكثر من لعبة فضحت نفسها بنفسها، هى بالنهاية لعبة التواطئ على تمرير ما يراد تمريره للانتقاص من صلاحيات يفترض أن يتمتع بها أي مجلس برلمانى حقيقي، وكأن هناك من يربد الحيلولة دون بلوغ سن الرشد البرلماني، وجعل البرلمان يعانى البليّة والعجز ..!

لا بأس أن نتمعن في التبريرات الواهية التي تستر بعضها النواب لتوضيح موقفهم من القبول بالتعديلات، فعلوا ذلك وكأنهم يكشفون المستور من حب وهيام هؤلاء النواب الغنيين عن التعريف – ولكل امرئ ما تعوّد من غايات وأهداف – والأمر أولاً وأخيراً هو افتراس لما تبقى للبرلمان من صلاحيات رغم كل “البهارات” التى تضمنتها هذه التبريرات كتلك التى ساقها بعضهم ممن وجدوا فى التعديل المزايا التالية:

– إنه تعديل عصرى يتواكب مع احتياجات الزمن !
– سيسهم فى تركيز النواب على الفكرة المطروحة والنقاط الجوهرية، ويجعل النواب بمنأى أن يكونوا ظاهرة صوتية!
– سيضبط انغعالات بعض النواب، ويحد من شغفهم المبالغ فيه للظهور أمام وسائل الاعلام لإرضاء الناخبين!
– سيوقف استفزاز الحكومة، ويوقف تجاوز النواب على الوزراء ومكانتهم السياسية !
تلك عيّنة من التبريرات الهزلية التى وردت ضمن “بازارات تبريرية” لم تقنع أحداً، ولكنها أقنعتنا أن هناك نواباً لا همّ لهم إلا التودد إلى السلطة التنفيذية والتعوّد على إغداق المديح والثناء والإشادة فى مواقف وتصريحات يطلقونها ناسين او متناسين أنهم كما هو مفترض يمثلون شعب البحرين وليسوا بمثابة موظفين لا يجيدون إلا التبرير والتأييد والإشادة بحنكة هذا المسؤول او ذاك الوزير.
نريد نواباً حقيقين، نواب مبادئ ومواقف، نواباً يهزون المقاعد من تحت الوزراء بأسئلتهم واستجواباتهم وآرائهم وأفكارهم ومواقفهم كممارسة ديمقراطية حقيقية تتبنى المناقشات الحرة، وتتقبل النقد وتعدد الأراء، لا نريد نواباً من ورق غير قادرين على الاعتراض أو المناقشة أو إبداء الرأي ويجيدون السير فى الطريق نفسه الذى سار عليه سلفهم من نواب استطابوا اعتماد سياسة النعامة، او لنقل نواباً يتولون بأنفسهم هزيمة أنفسهم، وبالنهاية هم عار على الديمقراطية.
الديمقراطية الحقة هى طريق حياة، وليس ثمة ديمقراطية هى سباق إلى العجز والمراوحة، وخيراً علينا أن نقرّ ونعترف أننا وحدنا المسؤولون عما نحن عليه من حال برلمانى بائس، ونحن وحدنا كنا المسبّبين المباشرين فى اعطاء الفرصة لمثل هؤلاء النواب ليمثلوا شعب البحرين، فهل هذا هو البرلمان الذى ناضل وضحى من أجله شعب البحرين؟

اقرأ المزيد

لا أتخلى عنهم

في المرة الأولى ربما كنت أحلم. كان لدي ثلاثة أطفال. أرضعتهم. لاطفتهم. وكانوا يلعبون حولي لأيام. ثم فجأة اختفوا. صحوت من النوم ولم أرهم. لم يكن باب البيت مفتوحا ليهربوا. ولا أظن أن لديهم أية أسباب تدفعهم للهرب، إلا ربما بعض الفضول الذي قد يكون دفعهم نحو الخارج. سأنتظر أن يعودوا. وانتظرت. لكني لم أرهم مرة أخرى أبدا.
في المرة الثانية لم أكن أحلم. أنا متأكدة. كان لدي أربعة أطفال. حممتهم أيضا ولاعبتهم، ثم صحوت فجأة ذات يوم ولم أجدهم. إلى أين يذهبون. رائحتهم في كل مكان في البيت حيث نعيش. لكنها تنتهي عند الباب. من يفتح لهم الباب ليهربوا؟ لا أظن أنه صاحب البيت. فأنا أعيش معه منذ سنين، وأعتقد بأنه يحبني. لماذا سيتخلص من أطفالي ؟.
في المرة الثالثة، حرست أطفالي طوال الليل. أمضيت أياما لا تغمض لي فيها عين. أخشى أن أنام وأصحو فلا أجدهم، كما يحدث في كل مرة. لدي أربعة أطفال هذه المرة أيضا. وأريد أن يبقوا معي. ليتهم لا يكبرون حتى !. لكن …
هذه المرة، أخذني صاحب البيت الذي أعيش فيه إلى مكان ما. أنا غالبا حبيسة المنزل وأشعر بالدوار حين أخرج منه. لكني لم أعاند حين أخذني معه ربما استطاع العثور على أطفالي السابقين وسيأخذني إليهم. بقي أطفالي الجدد في المنزل، حيث أنا متأكدة أنهم في أمان، وزوجة صاحب المنزل معهم سترعاهم في غيابي.
بدا لي الطريق طويلاً. وشيئا فشيئا لم أعد أرى أية مبان ولا أي بشر يمشون في المكان. أوقف السيارة، ونزل معي في مكان كبير. فارغ. لا يمكن أن يكون أطفالي هنا، فكرت. وبينما أتأمل المكان من حولي بفضول، أحسست به يمشي بعيدا عني. التفت، كان ذاهبا باتجاه سيارته. ربما نسي شيئا ما وعاد ليحضره. لكني سمعت صوت كلاب تنبح من بعيد فركضت نحوه بسرعة وأنا خائفة، وتمكنت من الدخول من باب سيارته المفتوح قبل أن يهم بغلقه. كان قد جلس على مقعد القيادة فوقعت في حضنه. ضحك. وغمغم بشيء لم أفهمه. ثم تحرك بالسيارة لمكان آخر. وتوقف في مكان كبير أيضا وفارغ، ونزل معي. قدم لي بعض الطعام. كنت جائعة قليلاً. لكنني خائفة أكثر، فلم أتركه يغيب عن عيني. كلما حدقت في الأكل راودتني وساوس تجعلني أرفع بصري سريعا لأبحث عنه. وصدق حدسي! . كان يخطو مبتعدا عني، رويدا رويدا، ويتخفى خلف الصخور. بدأت أدرك، ولا أصدق …. أيعقل أنه يريد التخلص مني؟ حقا! لماذا؟. كنا نتشارك المسكن طوال عمري، ولم أعرف أي حياة خارج بيته. كان كريما معي جداً، هو وزوجته وأطفاله، الكل كان يحبني. وكنت أفكر دائما بأنني محظوظة لأنهم أهلي. فكثيرا ما رأيت من مثلي يزورون بيتنا وهم بحالة يرثى لها. فنتبادل نظرات الاستغراب. وأحمد الله أنني أفضل منهم، وأن لدي عائلة.
نظرت له باستكانة. أتوسله. إن لم تكن ستعيد لي أبنائي فلا تتركني هنا. أنا لا أعرف كيف أعيش خارج البيت. وعلى الأغلب فلن ينقذني أحد. سأموت في هذه الصحراء أو ستنهشني الكلاب التي لا تزال تنبح.
لحقت به. أمسكت ببنطاله بقوة أم تريد أن تعود لأطفالها .. أيكون نصيبي من الحياة هو إما أطفال أحرم منهم أو يحرمون مني؟! . استعطفته بصوت ضعيف. لقد ربيتني صغيرة فلماذا الآن ترميني بهذا الشكل؟ هل صرت تحب أطفالي أكثر مني؟ ولم أنتظر أن يتأثر بكلامي ويقربني إليه بحنان غامر، بل فرضت نفسي عليه واستطعت الامساك بكتفه. ثم بسرعة، تمسكت جيدا بقميصه وغرزت جزءا صغيرا من أظافري الطويلة في سطح جلده، بحيث أهدده . إن حاول إفلاتي، سأغرز أكثر.
عدنا للسيارة مرة أخرى، وكان غاضباً. بدا وكأنه شخص آخر غير الذي عرفته طوال حياتي. قاد السيارة الآن بسرعة جنونية، الشباك إلى جانبه مفتوح ولسوء حظي، أنا ممسكة بكتفه القريب من الشباك. يترك المقود لبرهة كل حين كي يدفعني بيده الأخرى. يريد أن يلقي بي للخارج. تزحزحت من مكاني قليلا بعد عدة ضربات. لكنني استطعت التشبث بذراعه، ففتح باب السيارة كله !!. شعرت بتيار الهواء المار بقرب السيارة المسرعة يساعده في التخلص مني. ما زال يقود بسرعة. الهواء قوي. وقلبي يدق بقوة شديدة حتى أنه يؤلم صدري. أنظر إليه. لا يبدو عليه تأنيب الضمير. أستغيث. فيزداد وجهه قسوة. يسحبني الهواء نحو الخارج، فأعرف أني إذا خانتني قواي الآن في أي لحظة، وتراخت أظافري، فلن أقع على أقدامي كما أقع في كل مرة بل ستدهسني عجلات السيارة وأموت .. أنظر إليه .. لا ينظرإلي. يستفزني بتجاهله. وتحركني غريزتي للانتقام منه. أنا كائن أليف ووديع ولكن عند اللزوم لا تنقصني الشراسة. بل لست أبالغ لو قلت بأن في جيناتي ما يجعلني أعود لعائلة الأسود. بل أنا حقا أسد صغير. ويمكنني أن أدافع عن نفسي جيدا دون الحاجة للاستعطاف. ولكني لآخر لحظة كنت أريد للأمر أن ينتهي دون أن أؤذيه. أو ربما كنت لآخر لحظة لا أصدق أنه سيؤذيني.
في النهاية، كان لا بد أن أصدق وإلا سيفوت الأوان للتصرف. من حقي أن أدافع عن نفسي، وعن حقي في الحياة . وسأفعل .
**********
لم أواقفه يوماً على ما يفعله. حتى أنني حين عاد للبيت وعلى وجهه ويديه جراح وآثار عض، شعرت بالراحة. أنا أم مثلها وأشعر بما تشعر به.
بدأ يشتكي، وهو يضمد جراحه: المشاغبة. كاد أن يصطدم بالصخور بسببها، ويموت. تعاركت معه أثناء القيادة. عضت أنفه وكادت أن تفقأ عينه. وفي النهاية اضطر لشراء حبل وربطها به إلى إحدى الصخور.
غدا، سيتخلص من ثلاثة من أطفالها ويترك الأنثى الأجمل من بينهم لتعيش معنا، كالعادة. يربيها، ثم يزوجها لتنجب، ويبيع أبناءها كل مرة لعدد ثلاث بطون. وبعد ذلك يتخلص منها . كما تخلص من أمها قبل قليل ومن أم أمها وأم جدتها قبل سنين. هل يحق له أن يفعل ذلك؟. يقول لي دائما بأن شكل حياتهم مختلف عنا. هم لا يعيشون كأسرة. بل إن الأم منهم لا تحب العيش مع أطفالها وبعد فترة بسيطة تهجرهم. بل إنها أحيانا تأكلهم !!. وهم أيضا لا ينتظرون منها البقاء معهم طويلا بعد الفطام. لا أصدق كل كلامه. لأنني في قرارة نفسي أؤمن بأنه لا أم تترك أبناءها أبدا. قد يكون الانسان هو من ابتكر هذه الكذبة، من أجل أن يتسنى له تفريق عائلات الآخرين كما يروق له، ودون أن يشعر بتأنيب الضمير.
يقول لي أيضا بأن تلك المشاعر هي خاصة فقط بالإنسان!. ولا أصدقه . لأنني رأيت كيف اعتنت بأطفالها. كيف كانت السعادة بادية عليها وهم يطوفون حولها. وكيف جُنّت حين باع المجموعة الأولى من أطفالها، والثانية ! .. كانت تبحث عنهم في كل مكان. وتموء، مواءً يشبه البكاء. تطوف كل أرجاء البيت. ثم تتوقف لتموء في وجهي. كأنها تتوسلني لتعرف ماذا حل بأبناءها. وحين قلت له بأن المسكينة قد فقدت عقلها بعد اختفاء أبناءها، أجاب ساخرا بأنها لم تكن تملك واحدا من الأصل.
ضميري يعذبني. وأريد أن أوجه له تهمة قتل القطط والاتجار بأطفالهم. ولكن الاتجار بالحيوان .. لا يعتبر جريمة !. ليس بعد.
**********
أعرف أنني سأموت بعد قليل. فقد رماني في مكان لا يمكن فيه لأحد أن ينقذني ، وقيدني بشكل لا تكون لدي معه أي فرصة للنجاة. سأموت مقيدة، وجائعة، وحزينة. وكل ما أفكر به هو أبنائي الذين لن أراهم مرة أخرى. هل سيظنون أنني تخليت عنهم؟. ثم بدأت ألوم نفسي وفكرة غريبة تسيطر علي … لو كنت أعلم ما سيفعل بي، لكنت أكلتهم قبل أن نخرج من البيت. نعم، كنت أكلتهم. فما كان شي ليفرق بيننا لو أنني فعلت ….
آكلهم. ولا أتخلى عنهم.

اقرأ المزيد

حين عاد سعيد إلى قريته شهيداً

في تلك الليلة الموحشة بدت قرية بلاد القديم تصحوا من كابوس طويل يمضغون المرارات على وقع أخبار تناهت اليهم عن استشهاد سعيد راودتهم أسئلة معذبة سرت في الدم كالنار في الهشيم. لم يصدقوا الخبر وبدت الدهشة على وجوههم مرتبكين ومأخوذين بما سمعوه، فهرعوا مسرعين يتسقطون الأخبار من هنا وهناك علّهم يقبظون علي الحقيقة والتي تمنوا في قرارة أنفسهم أن لا تكون إلا إشاعة من الإشاعات المغرضة الشائعة آنذاك بعد حلّ المجلس الوطني وحملة الاعتقالات الواسعة في صفوف الحركة الوطنية.

على وقع ما حدث قال صديقه صالح: “مخي تهاوى وبدأت لطخات الظلمة تسرق ما تبقى من نور ولم أعد أعرف حقيقة ما حصل، بعدها أفقت وانا في حضرة الحقيقة المرة، قُتل سعيد شرّ قتله ومُثل بجسمانه”.

قال: بقي أن أقول، لا مصلحة لي فيما أرويه، إلا إنني شيء عشته وأحسسته، أو تراءى لي مجرد كابوس في حلم أو روؤيا، ولكن هي الحقيقة شاخصة أمامي، إذن لم يكن كابوسا ولكنه شيء يشبه الحقيقة، جسد مثخن بالجراح من آثار التعذيب، ممدد بين أيدينا لا نعرف من أين نبدأ في تغسيله وتجهيزه للدفن فقد تناثرت أشلاؤه كالخرقة وما عاد سوى بقايا جثة، ملامحه تلاشت،غابت ابتسامته وشُوهت وسامته. كان ذلك يوم شؤم، الثاني عشر من ديسمبر في العام 1976.

أضاف: للأسف رحل سريعاً، ونـحن في مسيس الحاجة إليه، فشاعر مثله قد أصبحت قصائده نيراناً تلسع الظالمين ونبراساً ينير طريق الكادحين ترسم لهم خط النضال من أجل غد أفضل. تدعوهم لانتزاع حقوقهم وتشكيل نقاباتهم، فمنحوه ما شاءوا من حبهم وثقتهم فكل شيء بدأ بقصيدة وانتهى بقصيدة.

قلت: ناولني ما كتبه سعيد؛ قال: إليك ما دوّنه في ديوان شعره: (إليك أيها الوطن إليك إيتها الحبيبة)، أخذت الكتاب ورحت أقرأ بشغف ولهفة. وجدت في شعره حلاوة وفي أبياته نقاوة، تعابيره دقيقة، أسلوبه معبر وجميل، لغته عميقة وفي أشعاره تتجلى إبداعات أخاذة يشعل الذاكرة بالحب والنضال من أجل الوطن الحرّ والشعب السعيد.

حاول عبثاً أن يسترجع ما تبقى من خوفه ليزيد على ما شاهده في حين بدا ذهنه شارداً ومشتتاً، لا يستقر على حال من شدة الصدمة ومن هول الفاجعة، كل شيء أصبح فيه مرتبكا وقلقا وقال: أية يد غادرة فعلت بك ما فعلت يا سعيد؟

تأكد لصالح بأن ما رآه لم يكن كابوساً، كان كالطوفان أتى على البلد ليدمر كل ما تحقق، أيام قاسية وإن فداحة ما حصل كان أكبر مما تصورها. شعر بالاختناق مصحوبا بحالة يأس وبكى بحرقة وندم.

الدنيا بعدك رخيصة يا سعيد، ارفع صوتك عاليا في وجوههم. إنهم لا يعرفون آلامك وأحلامك، إنهم لا يعرفون مقدار حبك لبلدك الذي عشقته بجنون وللشغيلة التي دافعت عنها باستماتة حدّ الاستشهاد: “مقبلً موعد المهرجان/ الذي نكتب الآن تاريخه”.

كم من مهرجان أُقيم على شرفك أيها الفارس المغوار، وهل باستطاعتنا عدّ ما كُتب وما دبج عنك من قصائد، إنك الغائب الباقي الحاضر دوماً. أغمض عينيه كي لا يهرب منه أي شيء ثم تذكر بعض التفاصيل، وقال سعيد الذي أعرفه كان يهجس لي بأشعار حزينة وكأنما يعرف ما ينتظره وألقي علّي بعض منها: “هاهو القاتل المختبئ/ قلتُ ماذا؟/ بكيت/ ولكنني صرتُ قنبلةً في المحيط/ وفجرت بعضي، فتاه الجميع/ الجواسيس جاءوا معاً/ القنابل موقوتة/ هاهو الانفجار الذي كان ارتقابا/ هنا أدخلوني السجون/ ولم أُمضِ شهراً لكي أستريح”.

قال: تذكرت أيضاً اللحظة التي قادته فيها الجماعة الملثمة إلي تلك السجون بعد أن استباحوا حرمة منزله، وقلبوا عاليه سافله ولم يتركوا له خيار توديع عائلته وأحبته، فساقوه وهو مغلول اليدين. أوسعوه ضرباً وركلاً حتى قبل أن يأخذوه إلى زنازينهم المظلمة، عندها لم أشّك لحظة وأيقنت من أنهم سيقتلوه.

كنا نـحاول أن نداوي غربتنا بعدك يا سعيد بـحنين القلب وبصباحات شعرك الذي ما عادت الا أطلال من ذاكرة حزينة مليئة بالجروح والخوف والآمال الموعودة والمؤجلة، حتى السماء الزرقاء في ذلك اليوم، يوم استشهادك تحولت إلى سواد، ثم إلى ظلام. والغضب الذي كظمناه تحوّل إلى قنبلة موقوتة كادت أن تنفجر فينا ومن حولنا، ماذا بقى بين أيدينا غير رماد الهزائم والدمار والخوف من المجهول ونجاة مما يحدث لم تعد مؤكدة.

بعد أن انسحب عنه الخوف شيئا فشيئا الذي لازمه طويلاً، شيء ما ظل يغلي في قلبه، أسئلة عصية على الحل: هل كان حلما؟ أم كابوساً؟ أم شيء آخر؟ ظلّ في حيرة لازمته سنين طوال .

أن تقتل شاعراً قلبه ممتلئا بالنور والوجد، يعني بأنك قتلت وطناً، وسلبت نفسا من الحياة وأطفأت شمعة تضئ ظلمة الكون وأمل الناس وآمالهم وأطلقت رصاصات على رجليك، فليس من الرجولة بمكان أن تقتل إنساناً أعزلاً، لا يملك سوى الكلمة وحروف يدبجها في قصيدة حبً في الوطن والمرأة والانسان، فبإمكان الجبان أن يقتل أكبر شجاع بكاتم للصوت بدمٍ بارد ومع ذلك لن يصبح شجاعاً.

ساقوك يا سعيد إلى سجونهم مقيداًً بالحديد وصليل البنادق وأصوات العسس المتداخلة التي تصلك دون أن تعرف الكثير منها سوى تهمة الانتماء لجبهة التحرير، فما كان منهم الا أن تقاسموا الأدوار على جثتك.

أنت يا شاعر الفقراء والكادحين، كنت منهكاً ومتعباً، ورغم الجراح زممت فمك ولم تتفوه بكلمة واحدة، بانت العظام من كثرة الضرب وانسلخ اللحم، ولم يتوقفوا، تحملت كل العذابات، جسدك كان هشاً، ولكنه ظلّ شامخا وبهذه الصلابة انتصرت عليهم فانهزموا كالجرذان المذعورة.

حين انبلج الصباح كان صالح قد ابتلعته أزقة القرية والناس عادوا إلى أعمالهم وفي قلب كل واحد منهم سؤال لم يجدوا له جواباً: لماذا قتلوه ومثلوا بجثته؟

أنت يا سعيد ما تبقى من صدق هذا الزمن الذي مضى، وهذا الوقت العسير الناكر للجميل، أهجسك تتلالأ نوراً، وتفيض عطراً هزّ ذاكرتهم الميتة، وقل لهم: “مقبل موعد المهرجان الذي نكتبُ الآن تاريخه”، فلأنك سرّ خوفهم قتلوك، وأرادوا إطفاء حروف النور من كتاباتك. شاعر بقامتك يقضّ مضاجعهم. أرادوا لك أن تغيب عن الذاكرة فأصبحت عكس ما يريدون وسيلة لإنقاذ الوطن والذاكرة من التلف، نحن صدرك وحنينك والبذور التي زرعتها. يا سعيد أينعت بساتين، وأشعارك أغاني وقوافيك أناشيد للحبيبة والوطن، تفتحت قصائدك ورورداً قانية في الأحياء الفقيرة وشتلات تمرد في وجه الظلم والظالمين.

فيك سحرالحياة الذي يُحول عشقُ الوطن إلى قداسة مُحملا بالأحرف والجراح، بهمجيتهم تلك أوصلوك إلى سقف الشهادة لتصبح إيقونة للتمرد على الخوف والظلم وقيثارة لأناشيد الكادحين. لن تصمت الأغاني ولن تقتلوا الأناشيد ولن يُغيب سعيد، ولم يمحه الزمن الذي ما برح حتى يومنا هذا يلوح ويومئ إبداعاً وشعراً في الوعي الوطني، فهو باقً فينا بفكره وشعره، فمدننا لن تُقتل وأشواقنا لن تُباد وأحلامنا لن تُنحر.

سارت جموع غفيرة إلي مقبرة أبو عنبرة، مقبرة كبيرة وواسعة، غصّ المكان بالمشيعين. كان يوم الاثنين يوما مؤلماً، على الوجوه علامات الحزن واللوعة والغيظ، لملموا ما تبقى من جثته وواروه الثرى.

قال صالح وهو يجر ذيل أحزانه بعد أن غاص لوهلة في جوف أفكاره: لم يمهلوه. ظلّ لديهم ساعات فقط ليسلموه إلى عائلته جثة ممزقة وبقايا إنسان لم يكد يبقي من جثته شيء يوارى تحت التراب.

انفضّ عقد العزاء … وبقيت ذاكرة سعيد لعنة دائمة تطارد القتلة والجلادين!

اقرأ المزيد