المنشور

المعارضة البحرينية وخطابها السياسي

إذا اتفقنا أن مجال السياسة هو مجال المقاربات العقلانية، فعلينا أن نتفق أنه مرتبط بالواقع بالضرورة. والواقع تحدده الظروف الموضوعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمرحلة التاريخية. لذلك فإن الخطط والأساليب والتوازنات السياسية متغيرة دائما. فمن لا يُقرن عمله السياسي بالواقع ومعطياتهِ يجنح نحو العشوائية والمثالية.

بعد أحداث فبراير 2011 ومخاضاتها المؤلمة راجعت أطراف المعارضة البحرينية جميعها عملها السياسي، فمنها من تعلم الكثير من الدروس في طبيعة مواقفهِ وأساليب نشاطهِ ولغة خطابهِ ومستوى أجنداتهِ وأهدافه. وآخرون لم تتغير مواقفهم ووسائلهم ومفردات خطابهم نحو الجماهير والسلطة.

أكثر من عقد من الزمان انصرم وأطراف في المعارضة البحرينية خطابها السياسي يراوح مكانه، بل أصبح أعنف في لغتهِ ومفرداتهِ، وأكثر مثاليةً وأبعد عن الواقع. فمنهم من لا يزال يرفع ذات الشعارات العاطفية التي رفعها قبل عشر سنوات، وكأن هذه الشعارات لم تُثبت هشاشتها وخوائها.

أطراف أخرى تُصرّ على ربط المعارضة البحرينية بما يُعرف بمحور المقاومة والتحرك في مسارهِ والتقاطع مع قواه ودوله. ما علاقة الحراك السياسي المعارض في البحرين بهذا المحور وأجندتهِ؟ وأي مصلحة لشعبنا ووطننا بادخالهما في هذه الصراعات الكبيرة على المستويين الإقليمي والدولي؟ أليس هذا ضرب من الجنون والتفكير السياسي البائس؟

تحدث الكوارث على مستوى العمل السياسي المعارض عندما يكون التباين واسعاً بين الإمكانيات والطموحات، فمن غير المعقول أن تفكر أو تتبنى قوى معارضة بحرينية ذات الطرق والأساليب لأحزاب سياسية ثورية كما هي في بعض البلدان العربية. أو أن يعود بها الحنين لأدبيات وذكريات الحركات الثورية والتحرر الوطني التي كانت سائدة منذ أربعينيات القرن الماضي.

ما نحتاجه في هذه المرحلة الحرجة والمثقلة بمشكلات وقضايا معقدة تمس وطننا وشعبنا، هو خطاب سياسي متعقل، يُدرك حقيقة الواقع وتفاصيلهِ جيداً، لا أن يُلغي الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية من عقلهِ السياسي، فيسبح في بحر من الأحلام ويكون مصيره الغرق في بحر الواقع.

المنطق السياسي المتزن لا المنطق الايديولوجي المتشدد، وحده من يقودنا إلى تحجيم الفجوة وتقريب المسافات مع سلطة الدولة نحو تبريد الساحة وإدخال الفرحة على قلوب مئات الأسر بالإفراج عن أحبتهم من السجون أو عودتهم من المنافي إلى وطنهم. فليس من مصلحة أحد الاستمرار في إنتاج خطاب سياسي متشنج ومغلق، لا يفتح أُفقاً نحو الحلول السياسية الوسطية.

اقرأ المزيد

أسئلة كبرى في ذكرى “صناعة” الكيان الإسرائيلي

ليس بالصورة التي ترغب فيها إسرائيل وداعموها مرّت الذكرى الثالثة والسبعون على “صناعتها”، ولا نقول تأسيسها، فهي لم تتأسس من تلقاء ذاتها، وإنما نتيجة ترتيب دولي مُحكم، بدأ بوعد بلفور سيء الصيت، وانتهى إلى إعلان هذا الكيان في صورة “دولة”، فُرضت كأمرٍ واقع بعد أن تمّ تهجيرجزء كبير من الفلسطينيين أهل الأرض، واستجلاب مستوطنين من مختلف بقاع العالم، وتولى الماسكون بمقادير الأمور في العالم مدّ هذا الكيان بكل أسباب الدعم والتقوية والتمكين، اقتصاديا وعسكرياً وأمنياً وسياسيا، ويكفي إلقاء نظرة على تاريخ ممارسة النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي، لمعرفة عدد مرات استخدام هذا “الحق” من قبل الولايات المتحدة، وربما غيرها من الدول الغربية لصالح إسرائيل وحمايتها من اية إدانة دولية.
حلّت هذه الذكرى المشؤومة في ظل انفجار الأوضاع في كامل الأرض الفلسطينية، بدءاً من القدس على خلفية الرغبة الصهيونية في مصادرة بيوت عائلات مقدسية في حي الشيخ جرار، حيث شهدت المدينة حراكاً شعبياً احتجاجاً على ذلك، سرعان ما امتدت آثاره في كامل الضفة الغربية، وغزة، وفي الأراضي الفلسطينية التي أقيم عليها الكيان في عام 1948، فبدا الشعب الفلسطيني موحداً بصورة لا سابق لها، وأدى العدوان الإسرائيلي، غير المسبوق أيضاً، في حجمه ووحشيته، على قطاع غزة، والحجم المهول من الضحايا المدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء والشيوخ، إلى إشعال مراجل الغضب في فلسطين وفي البلاد العربية عامة.
ما جرى ويجرى يطرح أسئلة كبرى، نتناول هنا بعضها.
(1)
شاهدتُ حوارات باللغة الروسية على إحدى القنوات لمهاجرين يهود من روسيا إلى اسرائيل تعبر عن المأزق الكبير الذي بلغه هذا الكيان، الذي يجد نفسه وجهاً لوجه أمام أسئلة وجودية كبرى، بعد أن وصلت الصواريخ الآتية من غزة إلى العاصمة تل أبيب والمدن الأخرى في الكيان، وانلاع مواجهات بين السكان الفلسطينيين في هذه المدن والمستوطنين اليهود ، الذين اضطر الكثيرون منهم للفرار من هذه المدن، فافاق هؤلاء المستوطنون على حقيقة أن “جنة الفردوس” الآمنة التي وعودوهم بالعيش فيها، إذا هاجروا إليها، قد استحالت إلى جحيم، وليس المهاجرون من روسيا وحدهم من يواجهون هذه الأسئلة المرّة، وإنما كل من أتوا من بلدان آمنة ومستقرة أدركوا أنهم أقدموا على حماقة، وأن مستقبل عيشهم واستقرارهم بات سوداوياً، وصاروا يطرحون الأسئلة عن جدوى وجودهم في إسرائيل، بل وأكثر من ذلك باتوا يطرحون أسئلة عن السبب الحقيقي لنشوء الصراع، والمتمثل في تهجير الفلسطينيين وإحلال سكان مستقدمين من الخارج محلهم، على أراضيهم وفي مدنهم وبلداتهم، لا بل وفي بيوتهم نفسها.
يراهن اليمين الإسرائيلي المتطرف بزعامة نتنياهو إن ما يجري من عنف الآن سيعزز من نفوذه وتأثيره، وسيعلي من المزاج العنصري داخل إسرائيل، وقد يحدث هذا فعلاً في المدى المنظور، لكن مضى الزمن الذي بوسع إسرائيل أن تنام فيه قريرة العين على أنها في وضع آمن، رغم ترسانتها النووية.

والتجربة تظهر أن إسرائيل اعتادت على كسب الضربات الخاطفة والسريعة، لكن أي مواجهة مستمرة ستعرضها لخسائلر وإركات شديدة، بما في ذلك في المجال الاقتصادي، ويتفل موقع “آر . تي” أن الاقتصاد الإسرائيلي تعرض لخسائر كبيرة بسبب الهجمات الصاروخية التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية على العديد من المدن الإسرائيلية.
وحتى منتصف الشعر الماضي ( مايو/ آيار) بلغت كلفة الصواريخ الاعتراضية في يومين فقط أكثر من 50 مليون دولار، حيث أن ثمن الصاروخ الواحد لمنظومة “القبة الحديدية” يبلغ نحو 150 ألف دولار. وتجاوز إجمالي كلفة النشاط العسكري الإسرائيلي 200 مليون دولار، فيما ألحق الإغلاق الكامل والجزئي للمصانع في غلاف غزة خسارة في الأنشطة الاقتصادية، وادت الهجمات الصاروخية الفلسطينية إلى توقف حركة المطارات وإلغاء شركات الطيران رحلاتها، فضلا عن تعليق العمل في حقل تمار للغاز الطبيعي في المتوسط، وإصابة خطوط أنابيب النفط بين عسقلان وإيلات.
(2)
السؤال الكبير الآخر تواجهه القيادة الفلسطينة الحالية، المترهلة عمراً وأداءً ونهجاً، والتي أظهرت عزلتها عن الحراك الشعبي الجاري، في كامل الأراضي المحتلة، سواء في عام 1948 أو 1967، وخسران رهاناتها بدءاً من اتفاقية “أوسلو” سيئة الصيت، التي انتفع منها كبار رموز السلطة، الغارقون في الفساد بصورة لا تقل عن نظرائهم من الحكام في البلدان العربية الأخرى، وعادت بالبلاء على أبناء الأراضي المحتلة وعلى القضية الفلسطينية برمتها.
آخر “خطيئة” اقترفتها هذه النخبة كان تأجيل الانتخابات الفلسطينية التي كان من الممكن أن تدفع بوجوه جديدة إلى المجلس التشريعي والسلطة، تعيد ضخ الدماء في الشرايين المتخثرة، وتفتح أفقاً وأملاً جديدين للفلسطينيين الصامدين، وتدفع بملف توحيد الصف الفلسطيني، في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذي يعاني من الجمود والتعثر رغم التحديات الخطيرة التي تواجهها القضية الفلسطينية، بما فيها موجة التطبيع العربي الأخيرة، التي شهدناها بضغط وتشجيع من الإدارة الأمريكية السابقة.
(3)
التحرك الشعبي الفلسطيني الآخر، باتساعه وشموليته، وضع مسألة التطبيع العربي في مأزق. فالكيان الذي سوّق نفسه كقوة اقتصادية وعسكرية مستقرة، يمكن الاعتداد بها في مواجهة تحديات اقليمية، اظهر أنه يعاني من أوجه هشاشة ظلّ يكابر في اخفاءها، ولسنا نقلل من خطورة ترسانته النووية ومن الدعم الخارجي المقدم له والمؤمن بدعم لوبيات صهيونية في دول غربية كثيرة في مقدمتها الولايات المتحدة، وهذا ما يبرز الآن من أشكال دعم معنوي وسياسي ودبلوماسي يتلقاها في حربه على غزّة، لكن ما عسى كل هذا أن يفعل أمام ما يجري داخل فلسطين نفسها اليوم، والقابل للاستمرار والديمومة، وحتى لو جرى قمعه بالبطش الشديد، فإنه قابل للتجدد في أي وقت، وبوتائر أشدّ.
هناك موجة من الغضب الشعبي العربي، والتعاطف الكبير مع الشعب الفلسطيني، يزيد من عزلة نهج التطبيع المرفوض وغير المستساغ شعبياً، تطرح هذا الموضوع بكل قوّة وإلحاح، والمطلوب هو الاصغاء لصوت الشعوب وتطلعاتها في ألا يكافىء هذا الكيان الغاصب بتطبيعٍ يُقويه ويزيد الموقف العربي ضعفاً على ضعف، ويسيء للشعب الفلسطيني الصامد والمرابط.

اقرأ المزيد

تراجع التجربة البرلمانية ….. مَن المسؤول؟

لم يكن دستور 2002 ، حين صدوره ينص على حق أعضاء مجلس النواب في طرح موضوع عام للمناقشة كوسيلة من وسائل الرقابة على أعمال الحكومة، وهو من الحقوق التي كان دستور 1973 قد نصّ عليها وسلبها الدستور الجديد، غير أن التعديلات التي أدخلت على الدستور عام 2012 أعادت هذا الحق في المادة (68 البند ب) فأجازت بناءً على طلب موقع من خمسة أعضاء على الأقل من مجلس النواب، طرح موضوع عام للمناقشة لاستيضاح سياسة الحكومة في شأنه، وتبادل الرأي بصدده، وفقاً للضوابط التي تحددها اللائحة الداخلية للمجلس، وقد جاءت هذه الإضافة، كما تقول المذكرة التفسيرية لتعديلات 2012 في إطار ما انتهت إليه الإرادة الشعبية في حوار التوافق الوطني من مرئيات بشأن التعديلات التي ترى إدخالها على الدستور القائم، ومنها منح دور أكبر لمجلس النواب في الرقابة.

غير أنه منذ إقرار مرئيات حوار التوافق الوطني وإصدار هذه التعديلات عام 2012 لم نجد ولم تجد الإرادة الشعبية بأنه قد تم منح مجلس النواب دوراً أكبر في الرقابة على أعمال الحكومة، بل وجدنا تراجعاً وتقييداً لهذا الدور، وللأسف أن من ساهم في هذا الانتقاص من هذا الدور الرقابي، هم أعضاء مجلس النواب وفي النظام الداخلي الخاص بالمجلس (اللائحة الداخلية).

تعديل المادة (173) من اللائحة الداخلية المتعلقة بطرح موضوع عام للمناقشة جاء من الحكومة بموجب مرسوم بقانون رقم (54) لسنة 2002، بتاريخ 3 سبتمبر 2020 أي صدر في اجازة مجلس النواب ما بين دور الانعقاد الثاني والثالث دون أن يتوافر له شرط الاستعجال أو بتعبير الدستور تدابير لا تحتمل التأخير، واشتمل على قيود وشروط جديدة لطرح موضوع عام للمناقشة العامة وقد وافق عليه المجلس في جلسته الماضية بالطريقة التي شاهدها الجمهور وعبر عنها باستياء وتهكم.

وإذا كنا (تنفهم) أن التعديل المذكور جاء من الحكومة، فإن الذي لا يمكن تفهمه أو قبوله هو أنه رغم الايجابية النسبية التي أوجدتها التعديلات الدستورية لعام 2012 في شأن الاستجواب على أن (تجرى مناقشة الاستجواب في المجلس مالم يقرر أغلبية أعضائه مناقشته في اللجنة المختصة)، هو قيام مجلس النواب بتقييد نفسه بتعديل المادة (145) مكرراً (1) الفقرة الثالثة من اللائحة، باقتراح بقانون مقدم من بعض أعضاء المجلس في الفصل التشريعي المنصرم الذي نصّ على أنه (لا يعد الاستجواب جدياً إلا إذا وافق على ذلك ثلثا أعضاء المجلس). وهي سابقة لا مثيل لها على الإطلاق وجاءت بالمخالفة للدستور الذي حدّد بنصوص صريحة وواضحة الحالات التي تشترط أغلبية الثلثين، فأصبحت مناقشة الاستجواب مستحيلة ليس في داخل المجلس فحسب بل في اللجنة المختصة كما جاءت في التعديلات الدستورية.

نحدد جوابنا على سؤال: من المسؤول عن تراجع الحياة النيابية، كما يلي:

إذا كان هناك ثمة إشكالية في الطريقة التي صدر بها دستور 2002 خلافا لمبادئ ميثاق العمل الوطني وفي بعض النصوص التي نصّ عليها وهي عديدة بينها ما تناوله المنبر التقدمي في “وثيقة الإصلاح الدستوري” التي نشرها في العام 2007، واشتملت على أبرز المواد الدستورية التي يتعين تعديلها وشابتها عيوب كشف عنها تجربة الفصل التشريعي الأول، فإن العلة الأكبر هي في التشريعات التي صدرت طبقاً لأحكام هذا الدستور ومذكرته التفسيرية والتعديلات التي تمت عليه، سواء كانت هذه التشريعات صدرت بأداة القانون، أو بمرسوم بقانون، او بمرسوم، إذ جاءت معظم هذه التشريعات تنتقص من الحقوق والحريات ونالت منها، ولعل أبرزها تلك المتعلقة بالنظام الانتخابي والتي أحسبها سبباً من أسباب أخرى رئيسة لهذا التراجع في التجربة النيابية في البحرين.

فهذا النظام الانتخابي هو الذي أوصل لمجلس النواب نوابا يوافقون على تعديلات للقانون الذي ينظم عملهم تنال وتنتقص من دورهم في الرقابة على أعمال الحكومة، وهو الذي أوجد نوابا يمتنعون أو يتغيبون منعاّ من الحرج ما بين الحكومة، وهموم الناخبين اللذين انتخبوهم. هذا النظام الانتخابي هو الذي اسقط الكفاءات أو جعلها تقاطع أو تمتنع عن المشاركة في التجربة البرلمانية، كفاءات وطنية تجمع بين القانون والسياسية ، تجمع بين السياسة والاقتصاد ، تجمع بين السياسة والثقافة، يعج بها مجتمع البحرين يشهد لها الداني والقاصي داخل وخارج البحرين ، وحين نقول كفاءة وطنية لا نعني أن تعبر عن حبها للبحرين وقيادتها السياسية فحسب بل وطنية بمعنى تلك التي لا تسعى كلما سنحت الفرصة لها بمدح وتبجيل صناع القرار، بل هي تلك التي تنشد إصلاحاً حقيقياً بمعالجة وانتقاد كل ما يعيق الإصلاح من فساد ومفسدين، تنشد العدالة الاجتماعية للمواطنين في العمل، في الصحة والتعليم والسكن وعند التقاعد. والتمتع بكافة حقوقهم السياسية دون انتقاص.

هذا النظام الإنتخابي جعل من الإقامة العادية سيفا مسلطاً على الكثير من المترشحين أصحاب الكفاءة وجعل من الشرطة رقبياً على المرشح لمعرفة أين ينام في مسقط رأسه أم في مكان إقامته العادية، فهذا النظام الذي يقسم مناطق البحرين إلى أربعين دائرة انتخابية ساهم إلى حد كبير في سقوط من يمتاز بالكفاءة من المرشحين لمجلس النواب، وعزز من دور العلاقات الأسرية والطائفية في اختيار المرشح.

كل ذلك جاء بالمخالفة لأحكام الدستور من أبرزها:

المادة(57/أ) من الدستور التي اشترطت في عضو مجلس النواب أن يكون اسمه مدرجاً في أحد جداول الانتخاب. غير أن مشرّع مرسوم بقانون مباشرة الحقوق السياسية اشترط في المادة الثانية الفقرة 3 من هذا القانون في كل مواطن لمباشرة الحقوق السياسية أن يكون مقيما إقامة عادية في الدائرة الانتخابية طبقاً لما هو ثابت في بطاقته السكانية في مخالفة صريحة للنص الدستوري المذكور. ونال من تكافؤ الفرص بين المواطنين التي نصت عليها المادة الرابعة من الدستور.

المادة (89/أ) التي نصت على أن عضو مجلس النواب يمثل الشعب بأسره، بمعني أنه لا يمثل دائرته بل يمثل كل مناطق البحرين التي يتعين أن تكون دائرة انتخابية فحين يقترح عضو مجلس النواب قانونا، او حين يراقب أعمال الحكومة فإنه يمارس هذه الاختصاصات ليس من أجل دائرة انتخابية بعينها بل يمارسه من أجل المواطنين جميعا أينما سكنوا في أي منطقة مناطق البحرين.

وتمتد عيوب النظام الانتخابي الذي يعد من أسباب تراجع الحياة النيابية في البحرين إلى التعديلات التي أجراها المشرع العادي عام 2006 على المادة الثالثة من قانون مباشرة الحقوق السياسية التي منعت المواطن من حق الترشح لمجلس النواب حتى وإن رُدّ إليه الاعتبار أو حصل على عفو خاص من جريمة كان قد ارتكبها.

وفي الوقت الذي كنا نتطلع فيه من مجلس النواب في فصله التشريعي الرابع المنصرم أن ينصرف إلى معالجة هذه التعديلات نجده يتقدم باقتراح بقانون يضع على القيود الموجودة في الأصل قيوداً جديدة تمنع من حق الترشيح لمجلس النواب قيادات وأعضاء الجمعيات السياسية الفعليين المنحلة بحكم نهائي، فنال ذلك من حق الاقتراع العام ومن سيادة الشعب باعتباره مصدر السلطات بل امتد إلى النيل من حقوق المواطنة وتعارض مع مبدأ شخصية العقوبة ومع المعايير الدولية والآثار المترتبة على ردّ الاعتبار والعفو الخاص من العقوبة.

لم يبق من وسائل الرقابة البرلمانية سوى الإقتراح برغبة التي لم يتم تقييده لآنه أضعف الوسائل، فالسؤال تمّ تقييده بموجب المرسوم بقانون رقم (49) لسنة 2018، والاستجواب لم يعد ممكنا، والمناقشة العامة غير قابلة للنقد أو اللوم، وتأليف لجان التحقيق سيتم تقيدها في الطريق.

اقرأ المزيد

أسباب الفساد وتبعاته

الفساد المالي والاداري ظاهرة عالمية، ولكن هناك دول تحارب مكامن الفساد لخطورتها على المجتمعات في كل المجالات، ونعني بها الدول التي توجد لديها قوانين فاعلة لمحاربة بؤر الفساد وتقديم الفاسدين للعدالة مهما كان شأنهم ومراكزهم السياسية، إلا إننا في الوطن العربي نرى بأن ظاهرة الفساد تنمو وترهق ميزانيات دولنا وتزيد من مديونيتها دون محاسبة أو ردع للفاسدين من سرّاق المال العام.
لقد ناضل الشرفاء بكافة اهتماماتهم وتخصصاتهم ضد هيمنة الفساد على مدار عقود، ومنهم من نال العقاب على يد الفاسدين وأعوانهم في سدّة القرار السياسي، فالفساد لا ينشأ ويتفشى لولا إن هناك حواضن تؤمن للفاسدين الحصانة في عدم الملاحقة القضائية، وهذه الحواضن لها نفوذ في سدّة القرار السياسي والاقتصادي.
كما أن سياسات القوى الفاسدة تعمل على خلق ثغرات وفرص للتلاعب بالمال أينما كان، في ظل الانتهاكات للقوانين والدساتير والإخلال بتأدية الواجب الوطني وبأسس الامانة والنزاهة، فالفاسدون بطبعهم انتهازيون ولديهم ميول الجشع ضاربين عرض الحائط بالمعتقدات والدين والقيم التي يتشدقون بها، متوسلين طرقاً عديدة منها تشجيع الوساطات وقبول الرشاوي والتوظيف بالمحسوبية والطائفية من القمة للقاعدة.
وفيما الإنسان العربي بحاجة للتعليم والخدمات الطبية والإسكانية وفرص التوظيف، في ظل وجود الإمكانيات الهائلة في أوطاننا، ومنها الثروات النفطية والغاز وغيرها من الثروات الطبيعية، فإن السياسات الفاسدة وهيمنة الفاسدين على الثروات، تهوى بأوضاعنا للفقر المدقع.
أدان المنبر التقدمي في بيان صدر له في مارس الماضي ما أعلن عنه رئيس مجلس ادارة التأمينات الاجتماعية من النية في اتخاذ الاجراءات القانونية ضد مجموعة من النواب الذين قد حاولوا بضمير كشف الصفقات الخاسرة في التأمينات الاجتماعية جراء الفساد المالي والإداري، وهذا يكشف عن التمادي في تكميم الأفواه، بما في ذلك أفواه نواب الشعب، الذين يحاولون التصدي لنهب المال العام، فضلاً عن التضييق على حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير لقوى المجتمع المدني.
إن مخاطر تفشي ظاهرة الفساد المالي والإداري لها سلبيات كبيرة وخطيرة في وسط المجتمعات العربية منها زيادة معاناة الشعوب جراء المشاكل العويصة مع تدني الخدمات المعيشية والاجتماعية، ومع الفساد لا يمكن أن تبنى حياة كريمة للشعوب العربية التي أصبحت في الغالبية تعيش على الهامش، حتى أن هناك من يقتات من صناديق القمامة ويسكن تحت الانقاض والمخيمات والملاجئ في ظل محاربة القوى السياسية الوطنية الفاعلة التي تعارض سياسة إفقار الشعوب العربية، خاصة في الدول التي ليس فيها استقرار سياسي، وتعاني من بطش أنظمة عسكرية أو دكتاتورية التي تُغيّب فيها أسس المشاركة الشعبية والقرار الديمقراطي الحقيقي.

اقرأ المزيد

قٌبلَة غير مرغوب فيها

لا أذكر أني صدمت حين قرأت قصّة الثلجة البيضاء (أو بياض الثلج) والأقزام السبعة، وهي قصة قرأتُ طبعاتٍ كثيرة منها، كلها تنتهي نهاية سعيدة، حين يظهر الأمير في ختام المشهد القصصي ويفتح التّابوت الزجاجي ويقبل بياض الثلج فتستيقظ من “نومها المميت” الذي حدث جرّاء قضمها لتفاحة مسحورة قُدِّمت لها من طرف المشعوذة الشريرة.
لم تصدمني القبلة، التي صدمت كاتبتان أمريكيتان ندّدتا في عموديهما في جريدة “سان فرانسيسكو كرونيكل” بها، لأنّها بشكل ما فُرِضت على بياض الثلج، وتمت ضد رغبتها. مع أنني ابنة مجتمع محافظ.
هكذا أثارت كلٌّ من كاتي دود وجولي تريمين جدلا في الفاتح من الشهر الحالي عبر مواقع التواصل الإجتماعي إثر افتتاح معلم جديد في “ديزني لاند بارك” بعد أربعمائة يوم من الإغلاق مُركِّزتين على فكرة القبلة التي اختلسها الأمير دون أي تبادل لنفس المشاعر مع الحسناء النّائمة.
القصّة الخرافية التي كتبها الأخوان غريم ضمن مجموعة من القصص التراثية التي كانت تروى في ألمانيا، تم تعديلها كما أغلب قصص الأخوين غريم لتناسب كل حقبة زمنية، وتتماشى مع الأفكار التربوية الجديدة، لكن كون القصة جزء من المخيال الشعبي ظلّت بنودها الأساسية دون تغيير، واعتبرت النهاية سعيدة ومفرحة ومقبولة لكل الحقبات. لكن هل فعلاً هي كذلك في زمن حركة “مي تو”؟ والثورة النسائية على التحرش بكل أنواعه؟
لنتركّر معًا أنّ ثمة نقاط تشابه بين هذه القصة وقصص أخرى، مثل تكرار الرقم سبعة، ونوم الأميرات الذي يحتاج دوماً لأمير مغامر ليستيقظن، والشوكة التي قد تكون ملعونة، ونقاط الدم الثلاث، والساحرات الشريرات، والجنيات الطيبات، وغيرها من العناصر المتكررة في مسارات الأحداث عند الأخوين غريم، ثم الشيء الثابت في الغالب وهو هذا الأمير المنقذ للأميرة المظلومة، وربّما هو أكثر ما أزعج الكاتبتين الأمريكيتين، والناشطين على السوشل ميديا.
بالرُّغم من أنّ بعضهم أثار نقطة أخرى. أليس الأجدر أن نغضب لأن بياض الثلج تم تسميمها وتركها ميتة من طرف السّاحرة؟ لماذا لم يُقلق هذا الأمر نشطاء ومدافعين عن حقوق الإنسان وحق الطفل ومناهضة العنف بكل أشكاله؟
وفقا للكاتبتين فإنّ ديزني التي حوّلت القصة إلى فيلم في ثلاثينات القرن الماضي، والتي لعبت دوراً مهما في التّرويج لأفكار سيئة للأطفال، فقد حان الوقت لتغيّر من أفكارها، خاصّة أنها عملت على تحوير أحداث كثيرة في قصص أنتجتها سينمائيا حتى لا تصدم مشاهديها من الصغار والكبار.
فكرة تجسيد القبلة غير المرغوب فيها وصفتها الكاتبتان ب “المتخلِّفة” حول ما يُسمح للرّجل بفعله للمرأة، وتقترحان نهاية مغايرة تكون أكثر تحضُّرًا.
فئة شاسعة من مستخدمي “تويتر” استنكرت استخدام ثقافة الألغاء هذه، والمساس بتراث يشهد على المحتوى الأدبي في الماضي. فيما قدّم البعض نهايات ساخرة للقصة على نسق أن يرمي الأمير سطل ماء بارد على الحسناء النائمة، أو يطلق زمورا قويا من بوقه، فيما تساءل البعض هل كانت الكاتبتان ستعترضان لو قام الأمير بإنعاش بياض الثلج بالطريقة الفموية التقليدية؟
هذه ليست أول مرة يُثَار فيها موضوع كهذا، فمنذ سنوات بدأت تُقَدّم اقترحات لكتب مناهضة للتحيُّز الجنسي، بدءا برفض تخصيص اللون الوردي للقصص الموجهة للإناث، والأزرق للذكور، وتعويض فكرة الأميرة المسجونة أو المظلومة بفكرة أخرى لا تمجّد من قوة الذكور وضعف الإناث، فالأمير أيضا بإمكانه ان يعيش في ورطة ويمكن للأميرة أن تنقذه. يُشيد البعض بقصّة “الجميلة والوحش” لأنّها عكست الآية، ووضعت الأنثى في موضع المُنقِذ.
إن فكرة أن الأمير هو المنقذ الوحيد للحسناء الفاتنة الواقعة في مصيبة ما تغرس في رؤوس الفتيات أنهن عاجزات لتخليص أنفسهن من الورطات التي قد تواجههن في الحياة، خاصّة أن أغلب هذه القصص المفعمة بهذا المحتوى تُحضّرهن لعمر النضج، أي أنها بشكل غير مباشر تهيِّئهنّ لمستقبلهن بخطّة حياة اتكالية محضة على الرجل، وهنا تكمن خطورة القبلة غير المرغوب فيها، كونها تتكئ على تقدمة جسدية من المرأة للرجل مقابل الحصول على خلاصها.
إن كان هذا هو التفسير الذي يقدمه مستخدمو مواقع التواصل الإجتماعي بكل أصنافهم، فإن أحد أقدم وأشهر المؤلفين الذين كتبوا في هذا الموضوع، المحلل النفسي برونو بيتلهيم (1903 -1990) قال أن الإعتقاد بأن الحكايات الخيالية قصص سخيفة غير هادفة اعتقاد خاطئ.
في كتابه “التحليل النفسي لقصص الجنيات الموجهة للأطفال” وجد أن لتلك “الحكايات قيمة علاجية للأطفال، كون محتوياتها ورسائلها الخفية توجه الطفل لاكتشاف المعنى العميق للحياة، وإثارة فضوله”. فالقارئ الصغير لديه رؤية مغايرة تماما للقارئ الكبير، ووفق المؤلف الذي نشر كتابه العام 1979، فإن “الكتاب موجّه للبالغين لفهم أهمية الحكاية الخرافية للأطفال” من خلال عرض العديد من الحكايات الشعبية مثل بياض الثلج والأقزام السبعة، وسندريلا، والجميلة والوحش وغيرها، مع تركيز بشكل خاص على الموضوعات الرئيسية مثل عقدة أوديب، والتنافس بين الأشقاء، وأهمية الحب في الحياة، ويوضح كيف تستجيب هذه الحكايات لمخاوف الأطفال حسب تصوّرهم غير الناضج للأمور.
بمجرّد بدء سرد الحكاية على الطفل بمقولة “كان ياماكان” ينتقل إدراك الطفل إلى عالم خيالي تحكمه المتعة، وبمجرد أنتهائها يعود للواقع الذي تحكمه القيود اليومية المرتبطة بالتنشئة الإجتماعية، والتي وفقا لبيلتهيم لا تسمح بإصدارات أخرى.
في إحدى فقرات كتابه يقول: ” كل حكاية خرافية هي مرآة سحرية تعكس جوانب معينة من كوْننا الداخلي، ولخطواتنا المطلوبة لمرورنا من مرحلة عدم النّضج إلى مرحلة النّضج” .
وهْمُ البالغين يبدأ من هنا، حين يعتقدون أن لا خيط فاصل بين الواقع والخيال، بالرغم من أنّهم كانوا أطفالا ذات يوم، وبالرغم من رؤيتهم لأحلام بالأبيض والأسود تفوق قصص الخيال خيالا، وهذا يعني أن كل سرد مرتبط بمخيلة عميقة تختبئ في أعماقهم.
يطالب الأطفال بقصص يوميا، والمحظوظون منهم فقط يحظون بقصص من محيطهم العائلي، سواء بقراءة الكتب أو سرد ما توفّر لهم من ميراث شعبي شفوي. يُفتَتَن الأطفال بقصص العائلة الغريبة التي يروونها عن أشخاص يعرفونهم، ويطلبونها باستمرار، وإن لم يجدوا من يشبع رغبتهم هذه يبتكرون قصصهم الخاصة فقط حاولوا الإصغاء إليهم وستكتشفون ذلك.
الهوس بالحكايات مرتبط بقلق أو مشكلة داخلية، غالبا ما تكون خوفا أو رهابا، وهي تريحه، وتقدّم له الإجابات والنهايات المطمئنة، فلا مصيبة أو مشكلة تدوم للأبد.
سنة 2017 قامت محامية بريطانية بالمطالبة بتغيير نهاية قصة “الأميرة النائمة ” وشطب القبلة التي أيقظتتها بعد أن أصابها الهلع حين وجدت إبنها ذي الست سنوات يطلع عليها، لكنّها لم تثر زوبعة إعلامية كما فعلت الأمريكيتين.
لكن إن عدنا للعقل ولم نتكئ حتى على التحليل النفسي للحكاية الخيالية بكل ما تحويه من أحداث غريبة، فإن لكل شخص رؤية مختلفة لما يقرأ. تولد معاني جديدة للحكاية نفسها اعتمادا على عمر القارئ، وتجربته، وخلفيته الثقافية والإجتماعية سواء للبالغين أو للأطفال. تفسير الحكاية مرتبط باحتياجات القارئ اللحظية.
إن اللافت في هذا الموضوع بالذات أنّ الأطفال في زمننا الحاضر يسخرون من قصص خرافية كهذه، وهي قصص وَقَعْنا تحت فتنتها ذات يوم حين كنّا في نفس أعمارهم. نعم، قد تكون ممتعة لهم، لكنّهم مقتنعون تماما أنها مجرّد خيال، كونها تُروى مع كم هائل من القصص المبتكرة وفق معطيات العصر الجديدة.
إن مشكلة القبلة غير المرغوب فيها في قصة بياض الثلج، تبدو لنا تافهة أمام فتاوى تُجيز زواج القاصرات في بعض بلداننا، يحارب النشطاء منذ عقود لتغييرها دون جدوى، والقائمة طويلة فيما يخص الإعتداءات المسموحة ضد الطفل والمرأة بدءا بالنصوص الشرعية والقانونية إلى القصص الشعبي والنصوص الروائية والدراما والسينما وهلُمّ جرّا…

اقرأ المزيد

قاطِع كالسيف

قصة قصيرة

عَدا أيَّامٍ معدودة يعتمر فيها أو يزور قبر الرسول الكريم؛ أمضى حياته كالقارب المربوط للمرساة، كادِحا وعاملا، في سبيل تأمين لقمة العيش لأبنائه.
لكنَّه اليوم ورغم مرور إسبوعين كاملين على دخوله المستشفى، لم يُطلَّ عليه أحد من أبنائه، أو حتَّى يسأل عنه، اللهم إلاَّ عِبر اتصال سريع، أو رسالة واتساب مُملَّة.
وهذان الشَّابان، تلتقي عيناه بعينيهما، فيشاهد الشفقة والرحمة، كلَّما اختلس نظرة لأبيهما، زميله في الغرفة، يكاد زوُّاره لا ينقطعون صباحا ومساء.
دخلت ممرَّضة، ابتسمت له، وأعطته حبَّة الدواءَ، فتناولها بمرَارة مُضاعفة…
– متى يمكنني الرجوع للبيت يا ابنتي؟
ردَّت وهي تناوله كوب الماء:
– حتّى يأذن الطبيب.
قال بانزعاج:
– لكّنني مللت يا ابنتي.. مللت.
هزّت يدها في تسليم:
– ما باليد حيلة يا أبي.
وخرجت، فعاد واستلقى على سريره، ووضع ذراعه على وجهه، مُخفيا عينيه، مستنجدا بالنوم، محاولا الهرب تحت وطأة إحسَاسه بظلم أقرب الناس إليه.
وغفت عيناه، حين وصل سمعَه صوت مُحبَّب إليه، جعله يلتفت بلهفة، ليفاجأ برؤية ولديه وبناته الثلاث.
قال وقد ردَّت إليه روحه:
– أخيرا تلطَّفتم بزيارتي.
ابتسم أكبرهم وقال:
– مشاغِلُنا كثيرة ونلتمس منك العذر.
أحَاطوا به في مشهد أعاد له الثقة بنفسه والرغبة في الحياة، حين دخلت ممرِّضة أخرى، ابتسمت للجميع، وأمسكت براحة يده، وراحت تبحث عن مكان في ظهر كفِّه الذي تحوَّل لجلد قنفذ لكثرة ما غُرز فيه من إبر.
وغرزت الإبرة، فتأوَّه، وتلفَّت فزعا، وأدار عينيه في المكان، وسأل بصوت مرتعش:
– أين هم؟
ردَّت المُمرِضة:
– مَن هم؟
– أبنائي.. أين ذهبوا؟ كانوا هنا منذ لحظات!.
بان عليها الارتباك، فابتسمت مشجّعة، ومضت، فأحسَّ بكآبة لا تطاق، وسارع فتلحَّف بفِراشه، وأدار ظهره للشَّابين، خجلا من حزنه ودموعه.

اقرأ المزيد

لعبة نيوتن

حين تنبعث كلمة صادقة من فم محبّ يرتد أثرها على المتلقي بحسب حميمية نبرتها لديه ومكانتها في قلبه. ألا يشبه هذا التصور الرومانتيكي «قانون نيوتن» الثالث في الحركة؟ الذي يشير إلى أن لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الإتجاه..

يجد هذا القانون تفسيرات منطقية للطائرات في الفضاء، والألعاب النارية في الهواء.. ففي الهواء والفضاء لا توجد «أرض ثابتة» تنطلق فوقها أو تتمسك بها فتطلق نفاثات من ورائها كي تنطلق للأمام برد فعل معاكس. صحيح أنها «نظرية فيزيائية» وخاصة بحركة المادة؛ ولكن بإمكاننا تطبيقها على العلاقات الاجتماعية. إذْ يمكن ملاحظة نتائج هذا القانون حتى في تربية الناشئة، حيث ينسل من بين فظاعة الشدّة والقسوة ردود فعل عكسية ماثلة على شخصية الطفل حين يستقل بذاته وحين يمعن أحدهم في العطاء وهو يستذكر فصول حرمانه!

في النهاية نحن بشر وتشكيلنا الجوانيّ يحمل الكثير من المتناقضات والمفارقات العجيبة، لسنا عملية حسابية محكمة أو طائرة بوينغ.. فنحن نملك إرادة تلقائية يمكنها التأثير على «قانون نيوتن» وتخلق حالات استثنائية يثبت فيها البعض على مواقفهم رغم ردود تواتر الأفعال داخلهم.. غير أن «قانون نيوتن» خارق جداً لدرجة أن الأغلبية تتراجع وتعود لسابق عهدها في رد فعل معاكس!

أحدث مسلسل «لعبة نيوتن» تبايناً فارقاً في التلقي، ومنذ حلقاته الأولى يمكن أن تستشعر بمزاجه المختلف وبخصوصية تعلن عن نفسها من دون أن يستنبط المشاهد سياقاً أو نهاية. تتقمص الممثلة المصرية منى زكي دور المرأة الخاضعة التى لا تملك قوة فاعلة تؤهلها للانتصار في صراعات الحياة، أو ربما هذا ما تتخيله هي ونتخيله نحن كمشاهدين؟

أمام علاقة تقليدية يطغى عليها الرجل الذى يشعر بالمسؤولية المطلقة تجاه كل جوانب الحياة وانعدام الثقة في حسن تصرف الزوجة وكياستها، وبالتالي تسعى لانتهاز الفرص لتبرهن لمن حولها أنها جديرة بالثقة، وفي ظل ذلك يخططان لولادة طفلهما الأول في أمريكا طمعاً في حصوله الجنسية، ولكن المغامرة تتعقد وتأخذهما إلى مواطن لم تكن في الحسبان، خاصة بعد سفر «هنا» إلى أمريكا منفردة بعد فشل محاولات. شكل التوتر سمة افتتاحية لاهثة جعلتنا نتابع بشغف الرحلة الغامضة. ثمة عمق زمني في التصوير لكل مشهد نعيشه مع «هنا» منى زكي في نيويورك، حيث تعود للزمن الماضي للقاهرة في نفس اللحظة لاستقرائه بناءً على المعلومة الحديثة التي قدمها السيناريو.

الغربة والشتات يخبرانها أنها تملك الكثير وبأن الإنسان عند المواجهة الحاسمة يتفاجئ بقوة كامنة لم يكن يتصور بأنه يمتلكها. تتوالى الأحداث في كل مشهد وفق ميزان ذهبي شديد الحساسية؛ لا يتحمل إيحاء بل قصد ولا تلعثم بلا حشرجة أو نظرة بلا هدف، وهكذا تنسجم الدراما بكل أبعادها البصرية والمسموعة.

يأخذنا السرد بين الماضي القريب والحاضر للتعرف على تفاصيل الإنجاب الصعبة التى واجهت الزوجين، مع الحفاظ على زيادة التعقيد بدخول تفاصيل وشخصيات جديدة إلى السياق، سواء مع حازم فى مصر مثل بدر «سيد رجب» و«أمينة» عائشة بن أحمد، أو في أمريكا مثل مؤنس «محمد فراج» وزوجته سارة. لنجد أنفسنا أمام معالجة مبتكرة وذكية ذات عمق اجتماعي عبر مجموعة من الشخصيات المرسومة بمهارة شديدة، وبسرد يغلفه التشويق والتوتر والتلاعب بالخطوط الزمنية كعوامل جذب رئيسية، وهى العوامل نفسها التى ستتحول لهدف محوري لاحقاً.

اتخذ المسلسل محاور صادمة عقب ولادة هنا، ومنها قرارها المتسرع بالزواج من «مؤنس» المتشبث بأهداب الدين والذي يرتدي الساعة فى اليد اليمنى مخالفةً لليهود، ولكنه فى الوقت نفسه لا يتورع عن الكذب والخداع والانسياق لمآربه الشخصية. اعترف «مؤنس» بحبه لـ «هنا» بعد أيام قليلة قضتها في ضيافته بعد مواجهة انفعالية بينهما، تلاها تطليق حازم لـ«هنا» وتهديده لها والتشكيك في شرفها وبحثه عن حبّ جديد مع أمينة، وهي أحداث حافظت مجملاً على عنصر التشويق؛ حيث يبنى الصراع بين الزوجين على سوء فهم كل منهما للآخر والمبالغة فى رد فعله رغم عمق الحب بينهما وكأن المسألة لا تعدو كونها شجاراً طفولياً بين عاشقين، وهو ما رصده المسلسل في رحلة تحولهما بعد عودة هنا إلى القاهرة بعد زواجها من مؤنس مرتدية الحجاب تتلمس اهتمامها بالمادّة فيما يتحوّل حازم بشكل عشوائي ويتجاوز حادثة قتل شاهين ولا يبقى معه منها سوى الرنين الصوتي لصوت النحل، حيث جعل النحل يتسبب فى موت شاهين، ويتجاوز أزمته الأخلاقية فى إنتاج العسل بالأفيون بل إنه يتجاوز علاقته الدافئة بابنه الذىي انتظره لسنوات وهو الذي يمثل دوره لمحور الارتكازي الذي تتقاطع عنده جميع خيوط اللعبة.

تفاصيل العناصر الإخراجية كانت جلية في التمثيل وإدارة الممثلين ليخرجوا أفضل ما يملكون من مهارات في الأداء بحسب تغيّر الموقف وموقعه العاطفي لتوظيفها بأقصى حد. هذا لا ينفي ضعف بعض الخطوط، إذ لم تنلْ «سارة» زوجة «هنا» بمساحة تمثيلية أكبر باعتبارها حلقة مهمة في «اللعبة». كما لا يُبرر كيفية إرسال «حازم» رسالة صوتية يُطلق فيها «هنا» ثم يدّعي بأنه لم يستطع حذفها، رغم أن هذا متاح بكب بأسرع بديهية إلكترونية؟ كيف يتورّط في جريمة قتل ولا يحدث إثرها أي تتبع جدي من السلطات الجنائية؟ كيف تُعالج عقدة القتيل بكل خفة؟

على الرغم من الهشاشة في هذه المواضع لكن المسلسل، يمثل خروجًا على التقليدية تحليقاً نحو الابتكار على مستوى البناء المركب، والأسلوب السردي ورسم الشخصيات وغيرها من الأسباب التى تؤكد أنه عمل مهم وجدير بالاستيقاف. إذْ شكّل المسلسل بناء درامي مركب متعدد الطبقات وحبكة مثيرة تنمْ رؤية إخراجية واعية لتامر محسن أكد فيها على قدرات إبداعية وهوية خاصة. ويبدو أن كون تامر محسن شارك في تأليف المسلسل جعله يكمل تلوين الصورة الذهنية للأحداث على الشاشة بشكل يحقق هدفه ورسالته وحلمه كما تمنى.. لا كلوحة باهتة بل أشبه بصورة فوتوغرافية حقيقية!

اقرأ المزيد

السودان وفصل الدين عن الدولة

وقعت الحكومة السودانية في مارس /أذار الماضي وثيقة اعلان مبادئ مع الحركة الشعبية لتحرير السودان لتمهيد الطريق امام إبرام اتفاق نهائي للسلام من خلال ضمان حرية العبادة للجميع وفصل الدين عن الدولة.
اتفق الطرفان على العمل لتحقيق سيادة السودان واستقلال ووحدة أراضيه، وبناء جيش مهني موحد. كما اتفقا على أن السودان بلد متعدد الأعراف والديانات والثقافات، لذلك يجب الاعتراف بهذا التنوع وإدارته ومعالجة مسألة الهوية الوطنية، وأكدا على تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية، تضمن حرية الدين والممارسات الدينية لكل الشعب السوداني وذلك بغض النظر عن الهويات الثقافية والإثنية والجهوية عن الدولة.
تذهب بعض التحليلات إلى أن مسألة فصل الدين عن الدولة ليست محل جدل في بلد مثل السودان في الوقت الراهن، وذلك لسبب بسيط هو أن المواطن السوداني أدرك بأنه لا يمكن أن تستخدم النصوص الدينية لاستقطاب الناس العاديين، ولاستنزاف الموارد وأن تكون مصدراً للترويج الإعلامي، وتشويش شخصية الإنسان. فالدين جزء من ثقافة المجتمع وتقاليده وأعرافه، كما أن التنوع في الثقافات أسهم في وجود تنوع عند تناول قضايا الدين.
مقابل ذلك رفض الاتحاد السوداني للعلماء والأثمة والدعاة فصل الدين عن الدولة، متهماً رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ب”تجاوز حدود ما أنزل الله”. وحينما نتحدث هنا عن العلمانية يمكن القول لا يبدو الأمر بهذه السهولة، باعتبار أن قضية العلمانية والجدل حول هوية الدولة من أكثر القضايا الشائكة، والتي عادة ما يثار انقسام حاد حولها، فهذا الجدل رافق السودان منذ ستينيات القرن الماضي وتسبب بأزمات وصراعات وانقلابات، ودخلت أطراف عربية ودولية على خط التجاذبات الداخلية.
عندما يقال إن العلمانية تقضي على الحروب الدينية وتزيل مسبباتها لآنها تضمن لكل انسان ممارسة نشاطه العقدي يقصد من وراء ذلك أن الدولة لن تتدخل، بل تضمن لكل انسان مزاولة معتقده، فالعلمانية ليست كما يروج لها تجار الدين بأنها ضد الدولة، وإنما هي ضد استغلال الدين.
ومن هنا تكتسب قضية فصل الدين عن الدولة أهمية خاصة في أي مجتمع من المجتمعات، وخاصة تلك التي ما تزال يسيطر عليها الفكر العقائدي، ويكتسب فيها رجال الدين دوراً مبالغاً فيه، مستفيدين من مفهوم القداسة الذي تكتسبه الشرائع الدينية، هذه القداسة التي تسحب من الشرائع ليرتديها الافراد، وبذلك تنتقل سلطة الله إلى سلطة الافراد مما يخلق تعارضاً بين ما هو دنيوي وما هو إلهي، وتسخير الشريعة لخدمة الحاكم، ما يؤدي إلى شكلٍ عميق من الطغيان والاستبداد سينعكس على مقومات الدولة، وحتى سينعكس على مفهوم الديانات بالوقت نفسه.
العلمانية مفهوم ليبرالي يشير إلى فصل الدين عن الدولة، والمجتمع المدني عن المجتمع السياسي، بمعنى ألا تمارس الدولة أي سلطة دينية، وألا تمارس الكنيسة والجامع والمعبد أية سلطة سياسية أيضاً، وربما هذا التعريف منطلق من المقولة الشهيرة التي صاغها محمد عبده: “لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين” وكذلك مقولة سعد زغلول الشهيرة “الدين لله والوطن للجميع”.
ولكن هل يعني فصل الدين عن الدولة تنحية الدين عن الحياة الاجتماعية؟ بالطبع لا، فالدين تاريخياً واجتماعياً هو أهم المكونات الهامة للقيم والشعائر والطقوس التي تنظم شئون الحياة الاجتماعية والدينية.
إن فصل الدين عن الدولة والسياسة يعني احترام الدين وقيمه الروحية، ويعني ايضاً حماية الدين والعقيدة من العابثين بهما وعدم السماح باستغلال الدين والشعائر والطقوس من أجل اشباع المصالح الخاصة وبصورة خاصة من تسلط وعاظ السلاطين على رقاب الناس عن طريق رفع شعارات “دينية” لاستغلال عواطف الجمهور، وإقحام الدين في السياسة يهدف دوماً إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وإقصاء الآخر.
صحيح أن الاتفاق بشكل خطوة بالنسبة لمستقبل السودان، ولكن هذا لا يعني أن كل العقبات أمامه قد انتهت، أو سوف تنتهي في المستقبل القريب، لأن ثمة إشكاليات لا تزال تمثل منغصاً أمام الاتفاق بينها. كما تَردد في الصحافة السودانية فإن “تحالف الحرية والتغيير” الذي يضمّ قوى مختلفة ليس على وفاق تام حول هذه القضية، والثانية تخص المؤسسة العسكرية التي تبدو قيادات نافذة فيها بمثابة “الحرس المؤتمن” على الشريعة، والمعضلة الثالثة تتجسد في وجود حركات إسلامية متشددة في دارفور أو غيرها، ربما تجد مبرراً في خروجها إذا احتل فصل الدين عن السياسة الواجهة السياسية وما يترتب على ذلك من توتر يجرف معه ما تحقق من تقدّم على مستوى السلام، ويعيد البلاد إلى أجواء التجاذبات والانقسامات بين الإسلاميين وغيرهم.
الخلاصة باختصار، إن فصل الدين عن الدولة بقدر ما هو مهم لخلق الدولة الحديثة، دولة المواطنة والقانون، سيكون مهماً أكثر للحفاظ على العقائد الدينية بعيدة عن استثمار الساسة.
إن أهمية الاتفاق، كما عبر مؤيدو فصل الدين عن الدولة تكمن في أنه للمرة الأولى في تاريخ السودان يحصل اجماع حول هذه القضية، لأنها تمهد الطريق أمام سودان جديد…سودان يضع خطواته الأولى على طريق الديمقراطية.

اقرأ المزيد

في ضرورة المادية المناضلة

في ضرورة المادية المناضلة

فلاديمير لينين

ترجمة وإعداد: هشام عقيل

في واقع الأمر ليس كل المساهمين في مجلة (تحت راية الماركسية) [Pod Znamenen Marksizma] شيوعيين، ولكن جميعهم ماديين صلبين. أرى بأن تحالف الشيوعيين بغير الشيوعيين هو ضروري إطلاقاً؛ وهذا هو غاية هذه المجلة بالتحديد. إن أكبر الأخطاء التي يقع فيها الشيوعيون (وهذا عادة ما تقوم به أي جماعة ثورية ناجحة في بداية ثورة كبرى) هو الاعتقاد بأن الثورة لا يقوم بها إلا الثوريين. على العكس، لكي تنجح الثورة لا بد أن يبدأ الثوريون بالاقتناع بإن دورهم محصور في كونهم طليعة الطبقة المتقدمة وعليهم أن يترجموا هذه الفكرة في كل عمل لهم. ومتى تعد الطليعة طليعة؟ حين تتفادى الانعزال عن الجماهير الشعبية، وبالتالي تتمكن من قيادتها إلى الأمام. من دون التحالف مع غير-الشيوعيين في شتى المجالات لن ننجح ابداً.

… من الواضح بأن المجلة التي تعرّف نفسها كمادية مناضلة عليها أن تكون هيئة نضالية في المقام الأول. عليها أن تفضح بلا كلل كل “الخدم الكهنوتيين المختبئين وراء العباءة الأكاديمية” (حسب تعبير ديتزغن)؛ سواء أكانوا ممثلي الأكاديميات العلمية الرسمية أو كتاب أفراد يطلقون على أنفسهم “اليسار الديموقراطي أو أتباع الآيديولوجيا الاشتراكية”.

…إن أكبر الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها الماركسي هو اعتقاده بأنه من الممكن للملايين من البشر (وبالأخص الحرفيين والفلاحين) الذي أخضعهم المجتمع الحديث لشتى الأشكال من الظلامية، والجهل، والخرافة، أن يخرجوا من هذا الظلام عبر التعليم الماركسي وحده. على هذه الجماهير أن تزوّد بالمواد الدعائية المادية، وعليها أن تتعرف على وقائع مختلف مجالات الحياة؛ يجب الاقتراب من الجماهير بكل طريقة ممكنة، وذلك لإثارة اهتمامهم وإبعادهم عن خمول الفكر الخرافي وتقريبهم لمختلف الزوايا بمناهج مختلفة، إلخ.

… بالإضافة إلى هذا النوع من التحالف الذي يقام مع الماديين الحقيقيين الذين لا ينتمون إلى الحزب الشيوعي، علينا أن نقيم تحالفاً (وهو لا يقل أهمية) مع علماء الطبيعة المعاصرين الذين يميلون نحو المادية ولا يهابون الدفاع عنها ولا الحديث باسمها ضد التقليعات والهذيانات الفلسفية المثالية المعاصرة السائدة في ما يسمى بالأكاديميا.

إن المقال الذي كتبه تيميريازيف حول النظرية النسبية لآينشتاين (المنشور في ”تحت راية الماركسية“، العدد 1-2) يجعلنا نأمل بأن هذه المجلة ستنجح في تحقيق هذا التحالف الثاني كذلك. علينا أن نعطي هذه القضية اهتماماً عظيماً. علينا ألا ننسى بأن التغيرات الكبرى الحاصلة في العلم الطبيعي الحديث دائماً ما تعطي فرصة لمختلف المذاهب الفلسفية الرجعية الفرصة للصعود، ومعها مذاهبها الفرعية، والموضات الفكرية هنا وهناك. وإذا لم نتابع القضايا التي تطرحها الثورة الحديثة في علم الطبيعة، وإذا لم يشارك علماء الطبيعة في العمل الجمعي في المجلة الفلسفية، لا يُمكن للمادية المناضلة أن تكون مادية ولا مناضلة. لاحظ تيميريازيف في العدد الأول للمجلة بأن نظرية آنيشتاين، التي حسب تيميريازيف لا تمثل تضاداً صريحاً بالنسبة لأسس الفكر المادي، استحوذت من قِبل عدد كبير من المثقفين البورجوازيين في كل البلدان؛ ونضيف بأن هذا لا ينطبق على آينشتاين وحسب، بل على عدد عظيم – وهذا إذا لم يكن أغلب – المصلحين الكبار في مجال علم الطبيعة منذ نهاية القرن التاسع عشر.

ولكي نكون واعين سياسياً تجاه هذه الظواهر، علينا أن ندرك بأن علم الطبيعة، ومعها المادية، لا يمكن أن تكون ثابتة في نضالها ضد هجمة الأفكار البورجوازية وهيمنتها ما لم تكن قائمة على أسس فلسفية صلبة. وشرط هذا هو على العالِم الطبيعي المعاصر أن يتبنى الفلسفة المادية المعاصرة، ايّ المادية الديالكتيكية، وبالتالي يكون مدافعاً عن المادية التي فسرها ماركس. ولتحقيق ذلك سيكون على مجلة (تحت راية الماركسية) أن تدرس بشكل منظم الديالكتيك الهيغلي من منظور مادي، أيّ الديالكتيك كما طبقه ماركس عملياً في كتابه (رأس المال) وفي مؤلفاته التاريخية والسياسية، وهو تطبيق ناجح للغاية لدرجة أن نهضة الشعوب والطبقات الشرقية في صراعاتها (اليابان، الهند، الصين) تثبت صحة الماركسية من جديد.

بلا شك فإن دراسة، ونشر، وتفسير الديالكتيك الهيغلي مهمة صعبة؛ والخطوات الأولى لهذه العملية ستكون ممتلئة بالأخطاء. لكن من لا يعمل لا يخطىء ابداً. إذا انطلقنا من منهج ماركس في التطبيق المادي للديالكتيك الهيغلي، سيتوجب علينا – وسنتمكن من – تفسير هذا الديالكتيك من كل الجوانب، فننشر مقتطفات من أعمال هيغل الرئيسية ونفسرها مادياً عبر أمثلة لتطبيقات ماركس العملية، بالإضافة إلى أمثلة للديالكتيك في حقل العلاقات السياسية والاقتصادية؛ خصوصاً بأن عالمنا المعاصر يمتلك وفرة من هكذا أمثلة (الحروب الامبريالية، الثورات، إلخ).

برأيي، على محرري مجلة (تحت راية الماركسية) أن يعدّوا أنفسهم شيئاً أشبه “بجمعية الأصدقاء الماديين للديالكتيك الهيغلي”. سيجد علماء الطبيعة المعاصرين في التفسير المادي للديالكتيك الهيغلي (ما إذا تعلموا كيف أن يبحثوا، وما إذا ساعدناهم في هذا البحث) سلسلة من الأجوبة على مختلف القضايا الفلسفية التي تطرحها الثورات الحاصلة في علم الطبيعة؛ تلك الثورات التي تجعل من المثقفين المنبهرين بالتحذلق والتقليعات البورجوازية الارتداد نحو الرجعية.

اقرأ المزيد

يسارنا بحاجة إلى ثورة ثقافية!

إلى حد الآن، كُل ما قام به اليسار البحريني هو نقد مظاهر الإنتاج الرأسمالي الكولونيالي في البحرين، بينما المطلوب منه تغييره. إلى حد الآن، كُل ما قام به هذا اليسار هو حمل هذا النقد من دون خطة، دون وجهة، دون مستقبل؛ أنه لم يحمل نقده إلى آخر مداه، ايّ إلى استنتاجاته النهائية وهو ضرورة التحويل البنيوي للأسس المادية للعلاقات الإنتاجية الرأسمالية نفسها.

إن الحركات السياسية، ولا سيما الأحزاب، تُقاس من برامجها السياسية؛ ولكن البرنامج السياسي لا يُمكن أن يقول للجماهير ما عليها أن تقوم به، بقدر ما الجماهير لها القدرة على أن تكون دائماً متقدمة بخطوة. ولما كان قياس أي حركة سياسية يأتي من برنامجها السياسي، إذن لن يختلف أحد معي بأن اليسار القائم لا يمت بصلة للاشتراكية.

اليسار لا يتحدد بحزب واحد أو جماعة واحدة، ولكنه بحاجة إلى حزب اشتراكي قوي يفعل الحركة اليسارية ككل، ايّ يكون عاملاً من عوامل تصادف كل الأطراف السياسية التقدمية التي لها مصلحة في تقويض الرأسمالية.

سأذكرُ في المقالات القادمة لهذه السلسلة بعض المقومات السياسية والاقتصادية والآيديولوجية لوجود مطالب اشتراكية لعلها تنبه القارئ ببعض متطلبات وجودها في البحرين، دون أن أدعي بأن في حوزتي هذا البرنامج إذ أن ذلك سيعني فوراً وجود تنظيم اشتراكي حقيقي في البحرين؛ وهذا يخالف واقع الأمر.

لينتبه القارئ: الاشتراكية ليست دستوراً دينياً يتوقع أن يأتمر الناس به ويهتدي عبره؛ إنها ليست نظاماً جاهزاً ينتظر التطبيق متى ما سنحت الفرصة لذلك. على العكس، إنها الطريق الذي تسلكه الجماهير، النضال اليومي الذي تحمله، نحو التحرر من العمل المأجور ورأس المال؛ لذا فإنها – الجماهير- تبتكر حلولاً جديدة كل مرة، تحاول أن تفهم الظروف المحاطة بها، تتقدم بصراعات جديدة خلاقة لا يُمكن التنبؤ بها. اسم هذا الابتكار هو الاشتراكية، وغير ذلك لن نكون سوى أمام أجناس مختلفة من الطوباوية.

إذا كانت الاشتراكية لا تقدم شيئاً لصراع الطبقات الشعبية اليومي، فلا حاجة لنا بها!

إذا كانت الاشتراكية لا تستطيع أن تتحدث بلغة جديدة خلاقة، لغة الجماهير، فلا حاجة لنا بها!

على البرنامج الاشتراكي المنشود ألا يكون إصلاحياً، بل صريحاً في دعوته للقضاء على العلاقات الإنتاجية الرأسمالية الكولونيالية، وبالتالي فك الربط من المنظومة الامبريالية العالمية. لا يُمكن المساومة على هذا المبدأ إطلاقاً. لكن مشكلة أساسية تكشف عن نفسها هنا: كون الاشتراكية بحد ذاتها عملية طويلة الأمد تحتاج إلى وقت وصراعات فعلية لتحقيقها. فما العمل؟

كان الانتهازيون قديماً يؤمنون بتقسيم مطالب البرنامج الاشتراكي إلى مطالب إصلاحية صغرى ومطالب كبرى؛ وهذا تقليد علينا التخلي عنه تماماً. وعلى العكس من مبتدعي البرنامج الإنتقالي، وهو برأيي استراتيجيا تتضمن في البحث عن حالات مصغرة للسلطة- الثنائية والسبل نحو توسعتها لتكون حالة عامة (1)، أدعو إلى برنامج يكون كل مطلبٍ فيه هو المطلب المصغر والنهائي في مثل الوقت. كل شيء يعتمد على هذه الحقيقة، إذ أن المطلب الذي قد يبدو إصلاحياً بحدّ ذاته يكشف عن نفسه، في صيرورته، كعامل من العوامل التي تؤدي إلى تقويض النظام الرأسمالي ككل، ايّ أنه حالما ما يكتسب وعياً سياسياً – وهذه هي وظيفته بالتحديد – لا بد أن يؤدي إلى ضرورة السيطرة الطبقية للبروليتاريا والطبقات الشعبية (سياسياً، واقتصادياً، وآيديولوجياً).

معنى ذلك هو: إن كان البرنامج الاشتراكي يحتوي على مطلب “مصغر” وآني، فإن هذا المطلب ما إذا تعمق في الصراع الطبقي الجماهيري بوعيٍ حقيقي لا بد أن يؤدي، حتماً، إلى استنتاج نهائي يؤكد على ضرورة نهاية النظام الرأسمالي. إن المطلب الاقتصادي لا بد أن يكون في ذات الوقت مطلباً سياسياً، إن فصلنا الاثنين (وهذا ما يقوم به كل اليساريين في البحرين) سينتهي بنا الأمر بتعزيز الممارسة السياسية البورجوازية. إن لم يكن البرنامج الاشتراكي، اياً كان، مصمماً بطريقة يكون فيها الاقتصادي مرتبطاً بالسياسي، فإنه لا يعدو كونه برنامجاً إصلاحياً أو في أفضل الأحوال ما يسميه اليسار الشعبوي اليوم: الإصلاح الثوري، وهو ليس بثوري في حقيقة أمره.

لهذا السبب لم يعد من الممكن أبداً أن نتحدث عن إصلاح الرأسمالية، ولم يعد من الممكن أن نتحدث عن إصلاحات مصغرة هنا وهناك إلى أن يأتي اليوم المنشود، بل عن إصلاحات تمثل مواقع استراتيجية لتحويل العلاقات الإنتاجية الرأسمالية أو لقيادة هذا الانقطاع البنيوي.

لعلي أفكرُ هنا بما قاله كارلو كافيرو يوماً: “ليس ثمة وقت غير مناسب للتغيير”، (رغم أنني لا أشاطره منظوره الأناركي وراء هذه العبارة). لكنني لا أدعو إلى طراز جديد من الإرادية السياسية من حيث اقفز فوق الظروف الحقيقية والواقعية للصراع الطبقي. كما لا أدعو إلى إصلاحات كمية جزئية تفضي في نهاية المطاف إلى تحولٍ نوعي، إذ إن ذلك فيه شيئاً من الانتهازية والطوباوية، لا وبل المثالية.

إنما ما أدعو إليه هو – كما أسلفت – الخوض في صراعات تشكل مواقع تحويل استراتيجي لنمط الإنتاج الرأسمالي، وهذه الصراعات بحد ذاتها تساهم في تشكيل الظرف الموضوعي العام لهذا التحويل، ايّ أنها تفتح الظرف الموضوعي العام للجماهير (ايّ، موضوعياً وذاتياً) في مواجهة الرأسمالية.

إنه من غير الممكن أن نتحدث عن برنامج اشتراكي من دون أن نضعه ضمن إطار الحالة الملموسة الراهنة، وهي الحالة التي تفرض علينا تطويق رأس المال الاحتكاري من كل جانب، أيّ تلك المنظومة الاقتصادية التي تمثل التحالف ما بين رأس المال الاحتكاري الكولونيالي ورأس المال الاحتكاري الامبريالي. إن واجب كل اشتراكي أن يدعو لذلك. ولا نعني بالتطويق كشيء من المقارعة أو المشاكسة بقدر ما نشير إلى تشكيل الظروف الموضوعية للتحول الاشتراكي. إن أهمية البرنامج الاشتراكي تكمن في أن الجماهير تصبح أكثر وعياً لظروفها المحاطة بها، ايّ لا تجابهها بالوعي الأيديولوجي اليومي بل بوعي سياسي حقيقي.

كُل إصلاح في المجتمع الرأسمالي لهو إصلاح بورجوازي، ايّ يعمل في إطاره. هذه حقيقة لا خلاف عليها. ولكن أيعني ذلك، تحديداً، بأن علينا نرفض أن نعمل من أجل كُل إصلاح لأن كله غير اشتراكي بشكله الخالص؟ إطلاقاً (2). سأوكد لكم هذه الفكرة، وسأقولها بدايةً، أن فكرة وجود اشتراكية خالصة هي هي الإصلاحية بالتحديد وهي – بحد ذاتها – تحريفية، إذ إنها تدفعنا لنفرق، في البرنامج السياسي للاشتراكية، ما بين (وهذا شيءٌ طرحته الحركة العمالية الأوروبية حينما كانت تحت سطوة هكذا نزعة، ايّ الأممية الثانية) المطالب الصغيرة أو الآنية، ايّ – صراحةً- البورجوازية الإصلاحية، وما بين المطالب الكبرى أو تلك التي تتحقق على المدى البعيد وحسب، ايّ الاشتراكية الخالصة المؤملة. ولكَ أن تسألهم، من يومنا هذا إلى ذاك اليوم.. ما العمل؟ سيجيبونك: نعمل على الإصلاحات شيئاً فشيئاً إلى قدوم اليوم المنشود. وهكذا، إن كانت لك الحنكة الكافية، تفقد كُل أملٍ في هكذا ساسة زائفين.

الوجهُ الآخر لهكذا تحريف هو الاعتزال السياسي الكامل، وأنا متأكدٌ بأن القارئ مثلما يستطيع أن يرى يساراً كالطراز الأول في البحرين أنه – بلا شك – يرى يساراً كالطراز الآخر هذا، فيحسبون بأنه لما كان كل إصلاح هو إصلاح بورجوازي، فما جدوى العمل عبره؟ أو اسوأ: ثمة طراز يخلط النزعتين فتجده يعتزل السياسة لأنه في بلد ليس ديموقراطياً بالمعنى الكامل؛ كما لو كنا، نحن الاشتراكيين، نأبه بالديموقراطية البورجوازية! كما لو لم تكن ديموقراطيتنا هي ديموقراطية مجالسية!

القارئ سيتفق حتماً بوجود هذه النزعات في البحرين: من اليساريين الذين اعتزلوا اليسار كلياً، إلى الداعين بتبريد الماركسية في المبرد (رسمياً “التعويم الآيديولوجي”)، إلى اليسار البرلماني الذي لا يمت بصلة لتعاليم المذهب الاشتراكي العلمي (الاشتراكيون في الأقوال، اصلاحيون في الأفعال). لن يستطيع أي أحد أن ينكر هذه الحقائق ابداً.

إن تاريخ اليسار البحريني مليء بالإنجازات التي ينبغي على كل اشتراكي دراستها، وفهمها بالكامل، وإعادة تأريخها علمياً. لكن لتحقيق أي شيء يُذكر في الاشتراكية سيكون علينا أن ندعو إلى الانقطاع التام عن كل شكل يساري تقليدي الذي وجد في البحرين إلى يومنا هذا. بهذه الطريقة، ووحدها هذه الطريقة، سنظل أوفياء لهذا التاريخ. أقولُ الانقطاع عن الشكل أو التقليد لا الشخوص، إذ ندعو مثل اليسار ليفهم ما نورده في هذا النص، وبلا شك نسعى أن نضع يدنا بيده في حدود أنه يقبل بشكل عام ما نقوله. ولكن ليس من الممكن إطلاقاً أن يكون هناك يساراً حقيقياً وخلاقاً من دون أن يقوم على أسس نظرية علمية صلبة وممارسة سياسية بروليتارية.

إذن، اليسار البحريني بحاجة إلى ثورة ثقافية!

بلا شك، قد يتردد أمام هذه المهمة التاريخية، أمام الدعوة ليكون قرننا قرناً اشتراكياً، لكن سيكون عليه أن يتذكر كلمات دانتي: “لا تخف وأصعد عالياً، فإنك شجاع!”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:

(1): هذا بالضبط ما آمن به إرنست مَندل حين قال حول الثورة البرتغالية في (الاستراتيجيا الثورية في أوروبا): ((نحن أمام بدايات السلطة-الثنائية، بدلاً من حالة عمومية لهذه السلطة-الثنائية… في هذا الوضع، إن الواجب الثوري للماركسيين هو تعميق، وتعميم، ومركزة هذه الهيئات القاعدية. لكن حين تطرأ تلك السوفيتات من دون أن تكون موجودة في كل مكان، فإننا نكون في حالة انتقالية ولا يُمكن أن نقول عنها بإنها تمثل “أزمة ثورية”)). من الواضح بأن هذه الفكرة خاطئة في حدود أنها تصور الدولة البورجوازية كما لو كانت تخلو من أية تناقضات داخلية، وكما لو كانت البورجوازية – وهذا تشخيص ماو للتقليد التروتسكي عموماً- تخلو من تناقضات داخلية. إنه- مَندل – ينسى أهم ما كتبه لينين بهذا الشأن وهو – في معناه – : الثورة لا تنشب إلا حين يتصادف عاملان، عدم رضا الجماهير بالوضع الراهن وعدم قدرة البورجوازية على الاستمرار في حكمها الطبقي (ايّ، حين تحتد تناقضاتها). هذه النظرة التي يمثلها مندل تنظر إلى جانب واحد من القضية، من حيث إنها تنظر إلى الثورة كما لو كانت تنشب فقط حين تكون الجماهير غير راضية عن الوضع الراهن؛ وهذا – بلا شك – موقع يسراوي في الفكر الاشتراكي.

(2): يقول لينين في (الماركسية والإصلاحية): ((على العكس من الأناركيين، يدرك الماركسيون ضرورة النضال من أجل الإصلاحات، أيّ تلك الإجراءات التي من شأنها تحسن من أوضاع الشعب العامل دون تقويض سلطة الطبقة المسيطرة. لكن في مثل الوقت، يشن الماركسيون أشرس هجوم ضد الإصلاحيين الذين، بشكل مباشر أو غير مباشر، يحصرون أهداف ونشاطات الطبقة العاملة في تلك الإصلاحات. الإصلاحية هي خديعة بورجوازية موجهة للعمال، إذ إنها تجعلهم – العمال – عبيداً لرأس المال اللهم بأوضاع أفضل— وهذا سيدوم بديمومة سيطرة رأس المال.))

اقرأ المزيد