المنشور

المرأة كائن مخلوق لمتعة الرجل

تدور هذه الأيام بين أروقة مجلس الشورى قضية المرأة والتحرش الجنسي، وقد طرح عضو المجلس «مازن عبدالرزاق بليلة» فكرة إيجاد قانون صارم في وجه كل من يتجرأ على التحرش الجنسي بالمرأة أيا كان نوعه.
أتصور أن قضية التحرش الجنسي في المجتمع السعودي قضية شائكة، وهناك بعض الشواهد التي من خلالها سأحاول توضيح وجهة نظري ومدى تعقيد هذه القضية. الجميع يتذكر قضية فتيات «نفق النهضة»، عندما قام تسعة مراهقين بملاحقتهن في أثناء ممارستهن رياضة المشي في شارع النهضة في مدينة الرياض، وتعرضت الفتيات بحسب ما رأينا في مقطع الفيديو الذي تم تصويره بواسطة الهاتف المتحرك إلى ألفاظ بذيئة، وتطاول باليد في مشهد تجاوز سقف كل الأخلاقيات. في ذلك الوقت خرج أحد المتشددين في وسائل الإعلام يلقي بالتهمة على الفتيات، باعتبار أنهن لم يتقيدن باللباس الشرعي -على حد قوله- ويقصد باللباس الشرعي العباءة الكبيرة التي تغطي الرأس، في حين أنني رأيت بنفسي ذلك البلوتوث، ولم أر أي جزء قد ظهر من الفتيات، كما أنهن مسدلات على وجوههن الغطاء.
أيضا ما قرأته في بعض مواقع الإنترنت من تقريع وتجريم للفتيات، جاء في لغة توحي لقارئها أن الجريمة من أولها لآخرها المدان فيها تلك الفتيات.
ما أردت قوله من خلال الاستشهاد بهذه القصة، هو أننا نعيش أزمة فكر محقون بتراكمات وضعت النظرة من خلاله إلى المرأة نظرة متراصة في قوالب جاهزة، إذ إن البعض لازال يعيش داخل رؤية واحدة، هي القائلة بأن المرأة مصدر الفتنة، وبذلك تكون المتهم الوحيد في أي حالة إغواء للرجل!
وهذا ما حصل مع أحد الفتيات عندما حدثتني عن موقف حصل لها مع أحد رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حين نهرها وأمرها أن تستر وجهها، أو تخرج من السوق، مع أن الفتاة من ضمن مقاييس الدين الإسلامي «محتشمة»، لكنها من ضمن مقاييسه لم تكن كذلك!
أعجبتني بردها وثقتها بنفسها، مع أنها لم تتجاوز العشرين من عمرها، حينما قالت له: «يا شيخ، ربي أمرك بغض البصر، وقد أمر عز وجل بهذا، لأن هناك من يرى في أجسادنا الفتنة، وهي من خلق الله نسترها، لكن لا نستطيع طمسها»، اختفى رجل الهيئة عن نظرها ولم يرد.
حول هذا دار النقاش فيما تلاقيه الفتيات من تحرش، سواء في الأسواق أم في الشوارع العامة من قِبل الشباب المستهتر، وأن الفتاة عندما تتعرض لمثل هذا التحرش والملاحقات التي تجعل منظرها وهي داخل سيارتها مؤسفا، فلا تجد من ينقذها، قالت لي إحداهن: «عندما أتوجه إلى رجل الشرطة، فهو لا يحرك ساكنا، باعتبار أن هذا الأمر ليس من مهام عمله، وإن توجهت إلى رجل الهيئة، فهو يلقي باللوم عليّ، وقد يحتجزني، ويستدعي ولي أمري ليقوم بالتوقيع على تعهد زاخر بالتهم التي يرى أني اقترفتها.. فإلى أين أذهب؟».
فعلا أين تذهب؟ سؤال بريء ومشروع. إذا كانت الفتاة تخرج وتتعرض لما تتعرض له من شباب، هم أيضا ضحية لفكر نشأوا عليه وتشربوه في المدرسة والبيت، يقول إن المرأة كلها عورة، لذا فهو يرى أن هذه العورة طالما خرج منها شيء، كالعينين أو الوجه، صارت بلا حرمة، متاحة له، ولن يجد من يردعه، لأنها في مجتمع يرى أنها لم تتجرأ على هذا إلا لأنها رخيصة، وهنا يتم إهدار عرضها بمباركة الجميع.
بحكم اهتمامي بهذا الموضوع ومتابعتي له منذ سنوات، سواء عبر عملي الصحافي وعبر متابعتي لبعض الحالات التي تتصل بي أم تراسلني عبر البريد الإلكتروني، بحثت عن إحصائية على الأقل من خلالها أستطيع قياس حجم المشكلة، لكني لم أجد، فيما وجدت أن عددا من الدول العربية من خلال منظماتها النسوية والحقوقية قد وضعت أرقاما وإحصائيات ونسب تساعد المهتمين في تلمس خيوط هذه المشكلة، تمهيداً للبحث عن حلول لها، هذا ما وضعني في حيرة أمام تقاعس الجهات المخولة بعمل الدراسات والبحوث، علما بأني سألت عن دراسات حول هذه القضية وغيرها وأتاني الرد بأنه يوجد دراسات لكنها سرية..!
لا أدري إلى متى سنعيش في سرية، وإلى متى القضايا الاجتماعية ستظل مدفونة تحت ركام الجراح، ويبقى تداولها العلمي محكورا على أرفف الجهات الرسمية والمراكز البحثية بين الخشب والتراب.
مثل هذه المواقف ما عدت أجد لها أي مبرر، وطالما أن هذه الدراسات ستظل حبيسة مراكزها، فلنلتفت بجدية أكثر إلى مطالبة عضو مجلس الشورى هذه، ولا ننتظر كما انتظرنا في كثير من القضايا الأخرى أن تتغير نظرة المجتمع، فالخطوات الإصلاحية هي التي تتحرك لإيجاد قوانين وأنظمة تُفرض على الجميع، ومع تطبيق الأنظمة المفترضة ستتغير النظرة. هذا ما قلته في أكثر من محفل حول «قيادة المرأة للسيارة»، التي لا يوجد أي مانع عنها سوى نظرة المجتمع، هذه النظرة التي صارت الشمّاعة التي نعلق فوقها تقاعسنا، لن يتغير المجتمع إلا إذا سار على قوانين يمارسها في حياته ويلمس بنفسه نتائجها، وهنا سيتحمل مسؤوليته بنفسه وسيملك القدرة على تصنيف النتائج الإيجابية عن السلبية.
هذا الانتظار الطويل جعل النظرة الخارجية لنا كمجتمع سعودي نظرة قاصرة لا تتعدى كوننا مجتمعا جامدا، غير قادر على اتخاذ قراراته بنفسه، ومرة أخرى أؤكد أن القانون الذي ينظم الحياة الاجتماعية، هو من سيخلق الأجواء الصحية في أبجديات التعامل ما بين الرجل والمرأة، وإزالة المصطلحات الجاهلية التي ركزت على أن المرأة، ما هي إلا كائن مخلوق لمتعة الرجل.

نقلا عن الصحيفة الالكترونية “أوان”

اقرأ المزيد

نواب وشوريو المصالح يكشفون عن انتهازيتهم

ان نواب تيار الاسلام السياسي سواء بعضويتهم النيابية في البرلمان للفصل التشريعي الأول او الفصل التشريعي الثاني قد فتحوا الابواب على مصاريعها للانتهازيين والوصوليين، حينما طالب هؤلاء النواب وأولئك بـ (مشروع تقاعد النواب) بالرغم من حداثة عضويتهم في البرلمان التي لم تتجاوز فترة الفصل التشريعي الأول، أو دور الانعقاد الثاني للفصل التشريعي الثاني.
كما ان هذه المبادرة من المطالبات الانتهازية للنواب الاسلاميين حول (مشروع تقاعد النواب) قد حفزت العديد من الشوريين الاعضاء المعينين في مجلس الشورى لعقد التسعينيات والعديد من النواب المنتخبين الاعضاء بالمجلس الوطني لعقد السبعينيات من القرن الماضي ودفعتهم بقوة خارقة في ان يتسابقوا باستماتة نادرة في الاستئثار بالمنافع والمغانم وسعيهم بحثيث الخطى في هدر مقدرات الشعب والمال العام. ولعل المقالة المنشورة في صفحة بريد القراء بجريدة أخبار الخليج بتاريخ 7 مايو 2008م والمعنونة بـ “أعضاء المجلس الوطني والشورى السابقون.. ألسنا نواباً.. ولنا استحقاق؟”
ونشرت كذلك في جريدة الايام بتاريخ 17 مايو 2008م، قد اكدت مضامينها وماهيتها أن هؤلاء يخاطبون المسئولين في الدولة بأن مطالبتهم بمشروع تقاعد النواب والشوريين لعقدي السبعينيات والتسعينيات توجب ان تكون على قدم المساواة مع مطالبات نواب وشوريي المجلس الوطني في عهد الاصلاحات العامة، محاولين هؤلاء وأولئك حصولهم على حصة نصيب الاسد من الكعكة المتنازع عليها ما بين الجشعين والمتسلقين.. كل ينازع الآخر من دون تردد.. وكل يصارع الآخر بلا توقف خلال سباق محموم لا مثيل له وعبر ماراثون بلغت سرعته سرعة الطوفان، ليؤكد هؤلاء النواب وأولئك الشوريون، وفي مقدمتهم نواب تيار الاسلام السياسي أنهم غائيو الاهداف ذاتيو المطالب وشخصيو الأهواء والمصالح الذاتية، بحسب ما يمثلونه من مواقف انتهازية في انتهاك القوانين وتجاوز الدستور وحفز الطامعين بتشبثهم بمطالب غير مشروعة اصلاً. ولعل حينما اسلفنا القول ان نواب تيار الاسلام السياسي هم الذين وضعوا اللبنات والمرتكزات الاساسية في تمهيد الارضية اللينة لنواب وشوريي السبعينيات والتسعينيات الامر الذي دفع بهم إلى نشر موضوع مطالبتهم بـ (مشروع التقاعد) في الصحافة المحلية، وذلك بعد فشل هؤلاء بمشروعهم المتمثل في عريضتهم التي اخذوا يمررونها على أعضاء من البرلمانيين وأعضاء من الشوريين السابقين من اجل اخذ تواقيعهم لتحقيق مآرب مشروع الراتب التقاعدي، بقدر ما لاقى هؤلاء المواقف الصلبة بمواجهتهم وشيء من الاحراجات من قبل بعض النواب الشرفاء المستنيرين لبرلمان عام 1973م الذين ابدوا شديد استيائهم وامتعاضهم بمعارضتهم هذا المشروع غير الشرعي.. ورفضوا التوقيع على عريضتهم، وقالوا لهم بصريح العبارة “إنكم تهدرون مقدرات الشعب والمال العام”.
ان من الأهمية بمكان القول ان مشروع التقاعد لهذا الكم الكبير من النواب والشوريين يمثل عملية الهدر المنظم للمال العام مثلما تجسد مفاهيمه وحقائقه ظلماً في حق المتقاعدين لدى (هيئتي صندوق التقاعد والتأمينات الاجتماعية). هؤلاء المتقاعدون احيلوا لنظام التقاعد بعد استنفاد جوهر طاقاتهم واهدار قواهم وتلاشي زهرة شبابهم خلال الخدمات الوظيفية الطويلة الامد التي امتدت ما بين (30 عاماً الى 40 عاماً)، وبحسب ما يمثل نظام المعاش التقاعدي لهؤلاء النواب والشوريين تجاوزاً للدستور وتعارضاً مع قانون التقاعد وقانون التأمين الاجتماعي والقوانين المتعلقة بديوان الخدمة المدنية ايضاً، فإن اصحاب هذا المشروع من النواب والشوريين وعلى رأسهم نواب تيار الاسلام السياسي قد حملوا الافكار الميكافيلية الضيقة المفعمة بنظرتهم الغائية البراجماتية، وما يتمخض عنها من تحقيق المصالح الشخصية والفئوية والغايات الذاتية.
لا يهمهم اي مصلحة كائن من كان سواء من بين صفوف الشعب او صفوف الناخبين او شرائح الطبقات الفقيرة والمسحوقة او المصلحة الوطنية العليا مثلما يظل أولئك النواب.. نواب الموالاة ونواب الخدمات ونواب المشاريع المتخلفة عن روح العصر مفتقرين إلى معايير النائب الحقيقي الذي ينشده الشعب والناخبون.. نوابا مفتقدين صفات ومميزات ممثل الشعب الحريص على أمانة شعبه التي انيطت به وبعنقه. فهكذا نواب يسعون من اجل تحقيق مآربهم ومصالحهم فإنهم يسقطون في مزبلة التاريخ.
وهكذا شوريون يستميتون بتأمين مستقبلهم بطرق ملتوية فإنهم يظلون خارجين عن طبقات المجتمع بعيدين عن اهداف الشعب.. اذاً ليس من الغرابة بشيء حينما تأثرت مواقف بعض نواب السبعينيات وشوريي التسعينيات بالافكار الانتهازية لنواب تيار الاسلام السياسي في برلمان 2002م وبرلمان 2006م، طالما انصهرت افكار الجميع من هؤلاء النواب والشوريين في بوتقة المصالح المشتركة الذاتية والفردية والشخصية والفئوية والانتهازية على حد سواء.
 
صحيفة اخبار الخليج
30 مايو 2008

اقرأ المزيد

أولويات الشأن الاقتصادي‮..‬

منذ أن انتقل الشأن الاقتصادي‮ ‬إلى مجلس التنمية الاقتصادية،‮ ‬قيل كلام كثير حول الإصلاح الاقتصادي‮ ‬وكلام كثير عن أولويات النهوض بالعمل الاقتصادي‮ ‬والتنموي،‮ ‬وكلام أكثر عن الرؤية والاستراتيجية الاقتصادية المستقبلية التي‮ ‬بُشِّرنا ووُعدنا بها‮.‬
ولازلنا في‮ ‬انتظار تفاصيل هذه الرؤية والاستراتيجية التي‮ ‬نأمل أن تكون بمثابة‮ “‬البوصلة‮” ‬الهادية للجميع؛ والقادرة على تحديد أولوياتنا وخياراتنا الاستراتيجية،‮ ‬هل نريد الدولة الموجهة؟ أم الدولة الراعية،‮ ‬أم الدولة المديرة،‮ ‬وتالياً‮ ‬هل نريد أن تكون البحرين مركزاً‮ ‬مالياً‮ ‬ومصرفياً‮ ‬عالمياً‮ ‬أم مركزاً‮ ‬إقليمياً‮ ‬للمعلوماتية والفرص الواعدة والتدريب والصحة والتعليم،‮ ‬أم دولة سياحة وخدمات من النوع التي‮ ‬تشكل قيمة مضافة عالية للاقتصاد،‮ ‬أم دولة صناعية،‮ ‬وأي‮ ‬صناعة نريد،‮ ‬هل نريد صناعة بحرينية في‮ ‬البحرين،‮ ‬أم نريد أن نقيم صناعة في‮ ‬البحرين،‮ ‬وفي‮ ‬أي‮ ‬اتجاه ندفع الاستثمارات،‮ ‬وأي‮ ‬استثمار نريد؟
واذا كنا لا نجد تفسيراً‮ ‬منطقياً‮ ‬حتى الآن للسرية المفروضة على مشروع الرؤية والاستراتيجية،‮ ‬ولم‮ ‬يفصح حتى الآن من باب الشفافية على الأقل عن ملامحها العامة أو خطوطها العريضة،‮ ‬فإن ما‮ ‬يجب أن‮ ‬يفهم على وجه الدقة أن المستقبل الاقتصادي‮ ‬للبلاد‮ ‬يجب أن‮ ‬يكون أهم شواغلنا وأدقها في‮ ‬هذه المرحلة،‮ ‬وأنه لم‮ ‬يعد مقبولاً‮ ‬أمام التحولات الجارية والتحديات القائمة أن نقف جامدين أمام بوابة الإصلاح الاقتصادي ‬الحقيقي ‬المنشود دون أن نطرق بابه،‮ ‬كما‮ ‬يجب أن‮ ‬يفهم بأن الرؤية والاستراتيجية الاقتصادية‮ ‬يجب أن تكون مشروعاً‮ ‬وطنياً‮ ‬يفترض أن‮ ‬يتحول إلى برامج وخطط مدروسة وسياسات معلومة لها اطار زمني‮ ‬للتنفيذ،‮ ‬وقدرة والتزام على التطبيق بصدق وحزم،‮ ‬وهذا‮ ‬يقتضي‮ ‬أن نخضع هذا المشروع الوطني‮ ‬للنقاش والحوار على أوسع نطاق حتى‮ ‬يكون هذا المشروع ملبياً‮ ‬للقدر المأمول من التطلعات والتوقعات والنتائج والحسابات المدروسة دون أن ننسى بطبيعة الحال المسؤولية التضامنية بين مجلس التنمية الاقتصادية والحكومة من جهة،‮ ‬ومجلس النواب من جهة أخرى‮ – ‬رغم كل تحفظاتنا على اداء هذا المجلس‮ – ‬كشرط أساسي‮ ‬للدفع بمشروع الرؤية الاقتصادية،‮ ‬والإصلاح الاقتصادي‮ ‬إلى الأمام، ‬على أمل أن لا‮ ‬يخضع النواب الشأن الاقتصادي‮ ‬لمناكفات وتجاذبات،‮ ‬ومواقف معرقلة وشكوك متبادلة لمصالح ضيقة ولحسابات خاطئة‮.‬
ولا بأس اذا وجدنا أنفسنا ونحن نتحدث عن الرؤية والاستراتيجية الاقتصادية المستقبلية للبحرين أن نبدد طاقتنا من جديد في‮ ‬إثبات البديهيات،‮ ‬وفي‮ ‬هذا السياق وحتى‮ ‬يكون هذا المشروع الوطني‮ ‬فاعلاً‮ ‬ومجدياً‮ ‬ويأخذ مداه الحقيقي،‮ ‬فإن من صميم متطلبات هذه الرؤية والاستراتيجية‮: ‬
‮- “سياسة‮” ‬مالية واقتصادية ثابتة من حيث الأساس ومتطورة من حيث الزمن‮.‬
‮- “‬إدارة‮” ‬مالية واقتصادية نزيهة وكفوءة،‮ ‬لأن أي‮ ‬خطة اقتصادية مهما بلغت من النضج والواقعية لا‮ ‬يمكن أن تأخذ طريقها الجدي‮ ‬إلا اذا توفرت لها ادارة قادرة على حمل عبء هذه المسؤولية،‮ ‬وادارتنا الحالية لديها ما‮ ‬يكفي‮ ‬لتكبيل وتجميد أي‮ ‬خطة‮.‬
‮- “‬قضاء‮” ‬مالي‮ ‬واقتصادي‮ ‬فاعل وناجز وسريع ويتمتع بكامل الاستقلالية‮. ‬
‮- “‬أمن‮” ‬مالي‮ ‬واقتصادي‮ ‬يشعر المرء بأنه في‮ ‬دولة حاكمها الأول القانون‮.‬
‮- “‬إعلام‮” ‬مالي‮ ‬واقتصادي‮ ‬صادق ودقيق وعلمي‮ ‬ومعبر عن الالتزام بالشفافية‮.‬
كل ذلك‮ ‬يقتضي‮ ‬من جملة ما‮ ‬يقتضيه التسليم بضرورة التخلص من النظرة إلى المال العام على أنه إرث أو‮ ‬غنيمة،‮ ‬بل أمانة تستوجب حمايته وصيانته والدفاع عنه من أي‮ ‬عبث أو تطاول أو تعدٍ‮ ‬واعتبار ذلك مساساً‮ ‬بالخيارات التنموية ومعرقلاً‮ ‬لها ولأي‮ ‬جهد اصلاحي‮.‬
وصار لازماً‮ ‬إلى جانب ذلك تفعيل آليات محاسبة البيروقراطية في‮ ‬الإدارة الحكومية التي‮ ‬تربت في‮ ‬أجواء ومناخات جعلتها محصنة من أي مراجعة أو محاسبة أو مساءلة،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬أوجد أناساً‮ ‬يرتزقون منها،‮ ‬ويقتاتون منها،‮ ‬ويكوّنون حساباتهم منها،‮ ‬وبنوا العمارات واشتروا الأراضي‮ ‬في‮ ‬البر والبحر بسبب ما أفرزته من مظاهر شتى من التجاوزات والانحرافات والفساد،‮ ‬ويصبــح‮ “‬الإصلاح الإداري‮” ‬أمراً‮ ‬حتمياً‮ وملحاً‮ ‬ولا‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يكون شعاراً‮ ‬كغيره من الشعارات،‮ ‬إصلاحاً‮ ‬ادارياً‮ ‬يعزز النزاهة والمساءلة والإدارة السليمة للشؤون العامة والممتلكات العامة،‮ ‬ولا‮ ‬يدفع بالجلوس على مقاعد المسؤولية من‮ ‬يأتي‮ ‬بالصدفة أو الخطأ أو سرعة الاختيار بذريعـة‮ “‬هذا ولدنـا‮” ‬وهــذا‮ “من جماعتنا‮”‬،‮ ‬وهذا‮ “‬من طائفتنا‮” ‬وهـذا‮ “‬موضع ثقتنا”‬،‮ ‬فالمرحلة الراهنة والمقبلة لا تحتمل هذا العبث،‮ ‬ولا تتطلب سوى وضع الرجل المناسب في‮ ‬المكان المناسب،‮ ولابد أن‮ ‬يؤخذ في‮ ‬الحسبان أنه لم‮ ‬يعد مجدياً‮ ‬ولا منطقياً‮ ‬ونحن نتحدث عن التغيير والإصلاح والتطوير أن نجد أشخاصاً‮ ‬بعينهم مهما بلغت كفاءتهم وحكمتهم،‮ ‬ومهما كانت نزاهتهم وقدراتهم أن تناط بهم مواقع قيادية ومسؤوليات متعددة هنا وهناك وهنالك في‮ ‬آن واحد،‮ ‬فيما تعطل فرص كفاءات شابة قادرة على أن تتبوأ المناصب بكل اقتدار،‮ ‬وقادرة على تحمل المسؤولية،‮ ‬وأن تكون صفاً‮ ‬قيادياً‮ ‬ثانياً‮ ‬اذا ما أعطيت لها الفرصة لتضخ دماء جديدة في‮ ‬شرايين العمل العام‮.‬
وسيكون من قبيل القصور الشديد في‮ ‬أي‮ ‬رؤية أو استراتيجية اقتصادية اذا لم‮ ‬يؤخذ بعين الاعتبار خطورة انحسار الطبقة المتوسطة التي‮ ‬هي‮ ‬عادة ما تكون في‮ ‬أي‮ ‬مجتمع صمام أمان وعماد أي‮ ‬اقتصاد وقاعدة التوازن الاجتماعي،‮ ‬وبانعدامها تفقد السفينة بوصلة التوجه وتمسي‮ ‬عرضة للمجهول وهواجس أهوائه،‮ ‬هذا أولاً،‮ ‬وثانياً‮ ‬لابد أن ندرك تمام الإدراك أن أي‮ ‬تنمية اقتصادية بشقيها الاقتصادي‮ ‬والاجتماعي‮ ‬لا‮ ‬يستفيد منها المواطن لا ‬يمكن أن تكون تنمية،‮ ‬وإن كان البعض‮ ‬يراها تنمية فهي‮ ‬تنمية تنفخ في‮ ‬قربة مقطوعة مادام المواطن ليس هو الهدف أولاً‮ ‬وأخيراً،‮ ‬وإذا كانت الأرقام التي‮ ‬تعلن بين الفينة والأخرى عن النمو والتنمية والإنجازات هي‮ ‬أرقام قد نتفق أو نختلف حول دقتها ومصداقيتها،‮ ‬إلا أنها طيبة تدل بحسب رأي‮ ‬البعض على ما حققناه ونحققه من تقدم على المسار الاقتصادي،‮ ‬إلا أن تلك الأرقام برأينا لا تعكس حقيقة أحوال الناس على أرض الواقع،‮ ‬فهي‮ ‬ليست على المستوى الذي‮ ‬يتمشى ويتسق مع ما تؤكده أو تعبر عنه تلك الأرقام،‮ ‬خاصة أمام مظاهر تزايد من باتوا في‮ ‬حاجة إلى الحماية من مخاطر الضنك وقبضة الفقر‮.‬
واذا جاز لنا أن نجتهد وأن نعرض المزيد من الأولويات التي‮ ‬يتعين أن تتضمنها الرؤية والاستراتيجية الاقتصادية أو تكون موضع اعتبار،‮ ‬فإننا نحسب في‮ ‬هذا السياق اعتماد منهج التخطيط الذي‮ ‬يعني‮ ‬بطبيعة الحال عكس الارتجال،‮ ‬بالإضافة إلى ضرورة حسن استثمار الزيادة الكبيرة في‮ عائدات النفط لتوفير وسائل التنمية ومقوماتها،‮ ‬وتعزيز أدوات التنبؤ بآفاق الاقتصاد وفرصه،‮ ‬وسيادة حكم القانون على الجميع،‮ ‬وإزالة حالة عدم اليقين حول جدية الإصلاح الاقتصادي‮ ‬الفعلي‮ ‬لتكون جميعها من بين الأولويات،‮ ‬علاوة على أولويات تتصل بتحقيق أكفأ توزيع وأفضل استخدام للموارد والثروات الوطنية بما في‮ ‬ذلك الموارد البشرية،‮ ‬والانتقال من اقتصاد قائم على الثروة النفطية إلى اقتصاد منتج قادر على معالجة الضغط على سعر صرف الدينار،‮ ‬والتضخم،‮ ‬وتراجع مداخيل المواطنين،‮ ‬اقتصاد‮ ‬يشجع على توسيع الطبقة الوسطى خاصة من خلال زيادة معدلات الإنتاجية والوظائف ذات القيمة المضافة والرواتب العالية،‮ ‬ويرسي‮ ‬المبادىء والقيم التي‮ ‬تربط العملية الاقتصادية بأجملها بالعدالة الاجتماعية والتنافسية والتنمية المستدامة دون أن‮ ‬يتجاهل تحسين مناخ الأعمال وتنمية الصادرات وتعزيز دور كل من القطاع الخاص المعني‮ ‬بتحمل نتائج القرار الاقتصادي‮ ‬وأول المعنيين بتنفيذه ودور المجتمع المدني‮ ‬في‮ ‬المحاسبة والمساءلة والرقابة ومواجهة الفساد،‮ ‬ولذلك لابد أن نفتح ملف الإصلاح الاقتصادي‮ ‬كاملاً‮ ‬وبجرأة وحسم دون تردد أو ترضيات،‮ ‬وإلا فلا.
 
صحيفة الايام
30 مايو 2008

اقرأ المزيد

الغلاء و تدهور مستوى معيشة المواطن

هناك الكثير من القضايا و الأمور التي لا يكترث لها المواطن العادي أو يتأثر بها والتي لا تمس حياته اليومية بشكل مباشر بقدر تأثيرها وارتباطها بتدني الحياة المعيشية سواء أن كان ذلك بما يتعلق بدخله الشهري أو ارتفاع الأسعار وانخفاض القوة الشرائية.  وباتت قضية اليوم والتي تمس حياة شعوب العالم قاطبة هي الارتفاع الحاد والمتواصل في أسعار السلع الأساسية وحتى الغير الأساسية، وما نحن بصدده هو رصد ظاهرة الغلاء الآخذة في الصعود بوتيرة لم يسبق أن مرت بها غي تاريخ الشعوب مع الانخفاض الحاد للقوة الشرائية. 
نحن هنا لسنا بصدد تحديد الأسباب أو جذور القضية من الناحية الاقتصادية وبشكل أكاديمي بل لإلقاء الضوء على بعض جوانبها قدر ما أمكن وترك ذلك لكي يستنبط المواطن هذه الأسباب والعوائق التي تحول دون التوصل إلى حلول ايجابية تخفف عن كاهله هذه المعاناة. فالملايين من الأفراد حول العالم يواجهون مستقبل مجهول غير مضمون مهدد بالمجاعة وسوء التغذية. 
في الآونة الأخيرة كتب الكثير والكثير حول هذا الموضوع حتى بات المواطن لا يكترث بما يكتب، بل ربما احدث له بعض البلبلة. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن وبإلحاح وفي هذا الوقت هو هل هذه الظاهرة تختلف عن سابقيها أم هي مجرد تكرار لما حدث في نفس الدورات السابقة؟ .والشيء المثير هو الارتفاع المستمر في أسعار النفط دون أن يؤثر ذلك على مستوى معيشة المواطن!!! ويتساءل البعض فيما إذا كانت هذه الارتفاعات في الأسعار مقدمة لما هو أسوأ أو ما يعرف بقمة الجبل الجليدي. من وجهة نظر اقتصادية، يمكن تفسير ذالك بجملة من الأمور والقضايا المتداخلة وذات طابع كلاسيكي بشكل مباشر أو غير مباشر وهي كالتالي:  
1. كساد أو فتور اقتصادي مقترن بالبطالة (DEPRESSION) .
2. فترة ركود أو فتور مؤقت في النشاط الاقتصادي (RECESSION) وهنا يجب أن يتبادر إلى الذهن فقدان الوظائف  وإغلاق المصانع وأوقات عصيبة للعائلات والأفراد .
3. تضخم مالي (INFLATION)  بسبب إصدار الأوراق النقدية من غير غطاء ذهبي أو ما إلا ذالك، والتضخم المالي هو بمثابة حركة تصاعدية في معدل مستوى الأسعار وعكس ذلك هو ما يعرف بالانكماش DEFLATION)) الذي هو بمثابة حركة تنازلية في معدل مستوى الأسعار. والحدود بينهما هو استقرار الأسعار. 
4. إحدى أزمات الرأسمالية بتطورها الحالي هي العولمة والخصخصة واتفاقيات التجارة الحرة ونسبة الصادرات البحرينية إلى الولايات المتحدة الأمريكية ومع تدهور قيمة الدولار حيث تزداد المدفوعات. 
 
وكذلك وجب التنويه بفترات تجربة الدول الاشتراكية، فهل ما حدث خلال الـ70 عاما وما نشاهده الآن وعلى هذا الشكل المدمر، فبالرغم من أن مركزية الدولة كانت لها بعض التبعات السلبية ولم تكن قادرة على إيصال التقنية الحديثة في الإنتاج على ما هو عليه الآن حيث أن ذلك يعد بمثابة قمة التطور الرأسمالي. وإن علل بعض منظري الرأسمالية ذالك بحتمية حدوثه بالنظر لزيادة عدد سكان العالم فإن الابتكارات العلمية قد أدت إلى زيادة الإنتاج العالمي بشكل لم يسبق له مثيل جنبا إلى جنب مع افتقار الشعوب والمجاعة والدمار الاقتصادي لشعوب كثيرة. 
وعليه فقد لاحظ الفيلسوف الاشتراكي الثوري “كارل ماركس” بشكل ثاقب تلك الجدلية عندما أعلن قبل 150عاما بأن الرأسمالية سوف توفر لأول مرة في تاريخ البشرية  إمكانية اتساع رقعة الإنتاج لأجل تلبية الحاجات الأساسية لسكان العالم لكنه لاحظ أيضا انه على الرغم من أن الرأسمالية سوف تضاعف الإنتاج ولحد معين، وفي النهاية فإن النظام سيضع زيادة الأرباح فوق جميع الاعتبارات، وهذا بنفسه سوف يكون عقبة لأي تطور آخر.
وهذا ما نتوقع أن نواجهه مستقبلا، أن الملايين من البشر سيعانون من الجوع وملايين أخرى سوف يعانون سوء التغذية وهذا لأن النظام معد لجني الأرباح فقط، بدلاً من تلبية حاجات الأفراد الأساسية. 
هذا من منظور فلسفي، أما من منظور واقعي وبعد الحرب الباردة فيمكن تلخيص العوامل المؤثرة كالآتي:
1. سيطرة وتحكم الدول الصناعية “الاستعمارية سبقاً” على مقدرات الشعوب.
2. تنامي وتضخم الصناعة الحربية لتلك الدول، الأمر الذي أدى بدوره إلى خلق مناطق التوتر الدائم والحروب والنزاعات و”احتلال” الدول الغنية بالخيرات المادية وعسكرة الاقتصاد، الأمر الذي أدى إلى القضاء على التنمية في الكثير من الدول النامية التي كانت مصدر المواد الأساسية إبان الحقبة الاستعمارية. حيث أصبحت هذه الدول تعتمد كلياً على إمدادات الدول الصناعية الكبرى والذي أدى بدوره إلى دورة مديونية بشكل تراكمي، وبهذا أصبحت الشعوب تدفع فواتير الغلاء ويئن تحت وطئتها الفقراء في العالم كله.
3. إن حكومات الدول الصناعية تلجئ إلى شتى الوسائل لجعل الأسعار في ارتفاع دائم، وتاريخيا لا يمكن نسيان تدمير المنتجات من قبل الدول الصناعية للحفاظ على ارتفاع الأسعار.
4. الاتجاه إلى زراعة ما يسمى بالوقود الحيوي (BIOFUELS) والذي بدوره أصبح تجارة مربحة جدا على حساب إنتاج الضروريات مثل القمح والأرز. فالولايات المتحدة وحدها قد حولت أكثر من 40 مليون طن من إنتاج الذرة إلى “إيثانول” كوقود حيوي. 
وما نستنتج مما سلف ذكره أن سبب الغلاء بالأساس هو سياسة العرض والطلب وسياسات الدول الصناعية الكبرى. فما العمل إذا؟؟!! 
للجواب على هذا السؤال يجب الرجوع إلى الشأن المحلي، ففي الوقت الحالي لا يمكن الدفاع عن الكادحين والفقراء خارج الإطار القانوني أي خارج البرلمان، ولكن بإيصال أشخاص يمثلون كافة أفراد الشعب ولا يمثلون طوائف بحد عينها. فإن الوضع الحالي للبرلمان لا يمكن أن يؤدي إلى إجراءات عملية للحد من تدهور الحالة المعيشية للمواطنين، والجميع آخذ في دفع ضريبة إيصال هؤلاء النواب إلى قبة البرلمان . وعلى هذا الأساس يتطلب الأمر تواجد الممثلين الحقيقيين للشعب في سدة العمل النقابي والنيابي، والذين بإمكانهم الدفاع عن حقوق الشعب وبالأخص الفئات الكادحة والفقيرة منه. 
  
خاص بالتقدمي

اقرأ المزيد

فتى الانتفاضة الأولى بين صورتين

لربما لم تحظ صورة سياسية معبرة عن جرائم الاحتلال خلال احداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي تفجرت خلال خريف عام 2000م بمثل ما حظيت به صورة والد محمد الدرة مع ابنه وهما يحتميان بأحد الجدران من قذائف قوات الاحتلال الصهيوني المنهمرة تجاههما والتي انتهت كما نعلم باستشهاد الابن الصغير في ذلك الموقف الفاجع المثير الذي هز العالم بأسره حينذاك. واذا كانت هذه الصورة هي أهم الصور المؤثرة في تعبيرها عن جرائم الاحتلال الفاشية اللاانسانية خلال الانتفاضة الثانية فإن ثمة صوراً عديدة تعبر ايضاً عن صمود وبطولات الشعب الفلسطيني الاعزل في وجه قوات الاحتلال المدججة بالاسلحة الثقيلة والطائرات القاذفة، ولعل من اشهر هذه الصور صورة السيدة الفلسطينية التي تحتضن جذع شجرة زيتون متشبثة بها بكلتا يديها لحماية حقل الزيتون من الاقتلاع والتجريف على اثر قدوم دورية اسرائيلية للتخطيط لمثل هذه العملية الاجرامية.
اما خلال الانتفاضة الأولى فلعلنا نتذكر جميعاً تلك الصورة الشهيرة المعبرة عن همجية سلطات الاحتلال بقيام مجموعة من قواتها بالانفراد بأحد ابطال الانتفاضة الشباب فوق رابية من مكان اجرد خارج المدينة بتكسير اذرعه بحجارة صخرية. اما الصورة المعبرة الاشهر عن صمود وبطولات انتفاضة الشعب الفلسطيني وما لعبه ابناؤه الاطفال من دور محوري في مكافحة قوات الاحتلال بسلاحهم البسيط “الحجارة” فهي صورة طفل فلسطيني لا يتعدى الثالثة عشرة وهو يهم بقذف احدى دوريات القوات التي تحتل اراضي وطنه بالحجارة.
ومع ان ثمة صوراً عديدة عبرت عن بطولات وشجاعة الشعب الفلسطيني فلربما لم تحظ شهرة كما حظيت بها هذه الصورة وذلك لما تنطوي عليه ملامح للفتى وهو يقذف الحجر من ايماءات معبرة في تقاسيم محياه عن شجاعته في وجه الموت والممزوجة بالحنق والغضب الشديد والمرارة من وجود الاحتلال الجاثم على الأرض والعباد. وأتذكر جيداً أن احدى المجلات العربية الشهرية التي تصدر في قبرص وذات المستوى المتوسط، نشرت على غلاف احد اعدادها صورة لهذا الفتى الفلسطيني كصورة ارشيفية تستعين بها للتعبير عن شقاوة الاطفال باعتباره الموضوع الرئيسي للمجلة! وكنت ان علقت بالاستنكار على هذا التوظيف الاخراجي الساذج الفاقد لأي احاسيس وطنية وقومية وانسانية.
الآن وقد دار الزمن دورة طويلة كاملة سريعة على امتداد عقدين منذ تلك الانتفاضة الاولى فإذا بالصحافة ووكالات الانباء تنبئنا بأن طفل الانتفاضة الذي اراد الاعلام الصهيوني والغربي تصويره كنموذج من نماذج “الارهاب” الفلسطيني وسقط بعض الصحافة العربية بتصويره نموذجا من نماذج مشكلة العنف “الشقاوة” لدى الاطفال العرب.. طفل الانتفاضة الشهير هذا قد شب عن الطوق وأصبح اليوم شاباً يافعاً في الثلاثينيات من عمره ليقدم للعالم صورة اخرى من صور نضالات هذا الشعب الحضارية التي لطالما عمد الاعلام الاسرائيلي والغربي المعادي الى تشويهها.. هذه الصورة هي لذات الطفل الشاب وهو يحمل “الكمنجة” كعازف محترف مبدع، حظي بهذه الصفة بشهرة عالمية تضاهي شهرة صورته كمقاوم لوحشية قوات الاحتلال بسلاح الحجارة البسيط. العمل الفني الذي قام بالعزف خلاله المناضل الوطني الفلسطيني رمزي ابورضوان، وهو ذاته فتى الانتفاضة الذي ظل اسمه مجهولاً في تلك الصورة، يحكي بالعزف الموسيقي قصص التشريد واللجوء الفلسطيني الى الشتات خلال نكبة 1948م بالاشتراك مع عدد من الفنانين الفلسطينيين والعرب والعالميين، وقد اقيم هذا العرض الموسيقي مؤخراً في رام الله عشية مرور 60 عاماً على هذه الذكرى المشئومة، علماً بأن هذا العمل الفني هو من تأليف الكاتبة الاسرائيلية الوطنية التقدمية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية عميرة هس.
وفتى الانتفاضة الأولى المبدع الموسيقي الشاب رمزي ابورضوان هو الآخر تمثل سيرته العائلية واحدة من تلك الحكايات باعتبار اسرته هي واحدة من العائلات التي جرى تشريدها من اراضي 1948م. وقد اضطلع ابورضوان في مهمته النضالية الجديدة بتثقيف وتوعية اطفال مخيمات اللاجئين بأهمية وتأثير الموسيقى في نضالات الشعوب وتواصلها وتفاعلها مع العالم مستعيناً في ذلك بالاستشهاد بتجربته الموسيقية المثمرة حيث كان وراء فكرة تأسيس مركز “الكمنجاتي” الموسيقي. وكان للكاتبة عميرة هس دور في تعرف المخرج الايطالي جويدو باربيري على هذا المبدع الفلسطيني من خلال مقال صحفي لها نشر عام 2005م، وقدم دعمه لقدوم الفرقة الى ايطاليا حيث قدمت عرضاً مسرحياً ممتعاً هناك نال اعجابا منقطع النظير، واستقطب مشاركة عدد من الفنانين والفرق الموسيقية في ذات العمل مثل الفلسطيني صالح بكري والاردنية نادرة عمران والايطالي موني اوفاديا ببببب والنرويجية فينكي اريثون والمخرج اوسكار بيزو وغيرهم.
ان قصة فتى الانتفاضة الاولى هي نموذج من نماذج عديدة لقصة نضال شعب بمختلف الوسائل من اجل تحرير وطنه من الاحتلال وبضمنها الوسائل الفنية التي تجسد عشقه للحياة الجميلة كشعب مسالم متحضر مثل اي شعب في العالم.
 
صحيفة اخبار الخليج
28 مايو 2008

اقرأ المزيد

معراج الفكرة نحو النضج


الفكرة السائدة عن المسودات تجعلها في‮ ‬مرتبة أقل من تلك المرتبة التي‮ ‬للنصوص في‮ ‬صيغتها النهائية المعدة للنشر أو المنشورة‮. ‬ فالثانية حسب الاعتقاد السائد هي‮ ‬الخلاصة المتقنة أو الأقرب إلى الاتقان،‮ ‬أما المسودة فإنها أقرب إلى الأفكار المبعثرة‮ ‬غير المترابطة،‮ ‬إنها أشبه بالتدريب الأولي‮ ‬على كتابة ما‮ ‬ينوي‮ ‬الكاتب كتابته وتقديمه للآخرين،‮ ‬أقرب إلى‮ “‬السكتش‮” ‬الذي‮ ‬يضعه الفنان التشكيلي‮ ‬للوحته‮.‬ لكن ما أكثر ما تجري‮ ‬العودة للمسودات سواء من قبل الكتاب أنفسهم الذين‮ ‬يظنون أن فيها‮ “‬خامات‮” ‬أفكار للكتابة لم تستثمر كفاية في‮ ‬النص النهائي‮ ‬الذي‮ ‬أخذ من هذه المسودات،‮ ‬أو من قبل الباحثين الذين‮ ‬يهتمون بدراسة ما تركه كبار الكتاب والمفكرين من أعمال أو بسيرهم الذاتية‮.‬
وما أكثر المفكرين الذين نشرت مسوداتهم بعد وفاتهم تحت عناوين من نوع‮ “‬المخطوطات‮” ‬تمييزاً‮ ‬لها عن تلك الأعمال التي‮ ‬نشرها هؤلاء المفكرون في‮ ‬حياتهم،‮ ‬لنجد أن في‮ ‬المخطوطات أطروحات جديدة لم تنشر،‮ ‬وأحياناً‮ ‬تبدو بعض أحكام هذه المخطوطات متناقضة مع تلك الأحكام التي‮ ‬نشرها هؤلاء الباحثون أو المفكرون على القراء‮.‬ ربما لأنهم،‮ ‬عند وضع المخطوطات،‮ ‬كانوا‮ ‬يتدربون على الوصول لحلول للقضايا التي ‬كانوا‮ ‬يبحثون فيها،‮ ‬ولكنهم في‮ ‬مجرى البحث أعادوا النظر في‮ ‬هذه الحلول،‮ ‬أو استنتجوا حلولاً‮ ‬أخرى مغايرة تماماً،‮ ‬كتلك الاستنتاجات التي ‬يتخلى عنها الفيزيائي‮ ‬أو الكيميائي‮ ‬بعد المزيد من التجارب في‮ ‬المختبر على الفرضيات التي‮ ‬يقدمها‮.‬
لاعب الشطرنج الشهير كاسباروف قال مرة إنه‮ ‬يعتبر النقلات التي‮ ‬فكر فيها ولكنه لم‮ ‬يقم بها على قطعة الشطرنج جزءاً‮ ‬من النقلات التي‮ ‬قام بها فعلاً‮. ‬ كأنه‮ ‬يقول أن تلك النقلات التي‮ ‬كانت مجرد أفكار في‮ ‬الذهن قبل أن تأخذ طريقها للتنفيذ،‮ ‬هي‮ ‬المقدمة التي‮ ‬لا بد منها للنقلات التي‮ ‬نفذت‮. وفكرة‮ “‬كاسباروف‮” ‬تحيل إلى فكرة المسودة،‮ ‬فكرة‮ “‬السكتش‮”،‮ ‬أو الشيء وهو في‮ ‬صورته الأولية قبل أن‮ ‬يصبح منجزاً‮. ولكن الأمر في‮ ‬حالة المسودات أو المخطوطات التي‮ ‬لم‮ ‬ينشرها أصحابها‮ ‬يختلف لأنها تقدم فكرة أوسع عن مخاض الوصول إلى المعرفة،‮ ‬أو مخاض الإبداع،‮ ‬وكم من المناطق التي‮ ‬على المرء عبورها للوصول إلى ما‮ ‬يظنه الأداء الأفضل أو القناعة الأصح.
 
صحيفة الايام
28 مايو 2008

اقرأ المزيد

إرهاصات التغيير في انتخابات الكويت 2008

كتب الأديب الروسي إي. سيروس (مواليد 1948) بأن ‘أفضل طريقة لجعل الشعب يعرف نفسه هو أن يفسح له في المجال لينتخب قادته’. نظريا، يصدق هذا القول على نتائج الانتخابات الديمقراطية الحقة التي تمثل إرادة الناخبين أصدق تمثيل. وحتى عندما تتداخل في العملية الانتخابية عوامل خطيرة وشديدة التأثير كالمال السياسي أو الفزعة القبلية أو النعرات الطائفية أو الولاءات الحكومية، فإنه تبقى لهذا القول درجة معينة من الصدقية، إذ تعكس النتائج قدرة المجتمع على مقاومة تأثير هذه العوامل. إلا أن القوانين والنظم الانتخابية هي التي تحدث أثرها الأكبر على صدقية النتائج.
سعدت مع أصدقاء من بلدان عربية وأجنبية بمتابعة العملية الانتخابية التي جرت في 17 الشهر الجاري في دولة الكويت الشقيقة. وكان من نصيبي أن زرت في النصف الأول من ذلك اليوم خمسة مراكز انتخابية في الدائرة الخامسة ذات الثقل القبلي، وبعد الظهر خمسة أخرى في الدائرة الأولى ذات الثقل الشيعي، وسبعة مقار انتخابية قبل وبعد الانتخابات.
في هذه الانتخابات خطت الكويت خطوات مهمة تعزز مقولة الكاتب سيروس، وأخرى بالعكس. لقد نجح الشعب الكويتي في إلغاء نظام تفتيت الدوائر الانتخابية وتوزعها على 25 دائرة، واستجاب مجلس الأمة (البرلمان) المنحل للمطلب الشعبي الواسع ‘نبيها خمس’ بإقرار نظام الخمس دوائر لتشكل هذه الاستجابة الإنجاز الأكبر، وربما الوحيد لذلك المجلس. وقد ساعد هذا النظام إضافة إلى الرقابة الأكثر تشددا في الحد كثيرا من ظاهرة شراء الأصوات بسبب كلفتها الباهظة بعد أن توسعت الدوائر وبسبب حزم الدولة في مكافحتها. ورغم أن الحكومة قد غضت الطرف عن بعض الانتخابات الفرعية للقبائل، إلا أن صدور قانون يمنعها وبعض الإجراءات الحازمة لمنع بعضها قد حد من هذه الظاهرة. بل إن بعض القبائل الصغيرة المتحالفة حاولت هذه المرة أن تدفع من بينها بمرشحين شباب ذوي كفاءات لينالوا دعم القبائل الحليفة والناخبين في تنافسها مع القبائل الأكبر حجما. أما الخطوة إلى الوراء، فكانت بسن قانون التجمعات الذي نال من الحريات الديمقراطية التي يتمتع بها شعب الكويت في محيط خليجي يفتقدها عموما.
في هذه الظروف المستجدة جاءت النتائج لتستحق التمعن فيها، بما لها من انعكاسات على عمل مجلس الأمة الذي سيعقد جلسته الأولى في الأول من يونيو القادم قبل أن يغط في إجازته الصيفية الطويلة، وعلى احتمالات تطورات الأوضاع بالنسبة للقوى الديمقراطية والمرأة الكويتية. كان المتوقع أن تسفر هذه الانتخابات عن وصول المرأة إلى مقاعد البرلمان لأول مرة في تاريخ الكويت، وأن يحقق ممثلو القوى الديمقراطية مواقع أكثر تقدما. ولم يتحقق الأمران. في عدد من المراكز الانتخابية النسائية شاهدت الناخبات وفرق العمل النسائية وحتى من عرفن أنفسهن بالمفاتيح الانتخابية للمرشحات والمرشحين يتقدن حماسا لدرجة الجرأة الملحوظة في تجاوز شروط الدعاية الانتخابية في يوم الانتخابات. لكنه، ولمرتين متتاليتين في البحرين والكويت، عملت وصوتت المرأة بنشاط ضد نفسها لشديد الأسف. ومع ذلك، ورغم عدم فوزهما أبلت المرشحتان أسيل العوضي ورولا دشتي بلاء حسنا. أسيل العوضي (التحالف الديمقراطي) جاءت مباشرة بعد آخر الفائزين في الدائرة الثالثة، كما حصدت رولا دشتي عددا ليس قليلا من الأصوات. ويشير ذلك إلى ارتفاع حظوظ المرأة بالفوز في الانتخابات القادمة، خصوصا إذا ما عقدت بعد عامين من الآن.
عانى التيار الوطني الديمقراطي من تشتت أصواته بسبب تنافس مرشحيه وتوزعهم بين قائمتي التحالف الوطني الديمقراطي والمنبر الديمقراطي ومرشحين مستقلين. فالتحالف أوصل ثلاثة فقط من مرشحيه الثمانية وفي دائرة واحدة فقط. وكان عدد الأصوات متباعدا بين مرشح وآخر ما يعني تشتتها. وفاز صالح الملا (المنبر الديمقراطي) في الدائرة نفسها بعدد كبير من الأصوات ما كان يعني إمكانية أن تنعكس إيجابا على نتائج الثلاثة لو أن تنسيقا حدث. ولم ينجح كل من الشخصيتين البارزتين أحمد الديين ومحمد عبد القادر في الدائرة الثانية. وقد عانيا من فجوة تباعد عدد الأصوات بينهما. ولا شك أيضا أن تشتتا في الأصوات قد حدث بينهما وكذلك بينهما وزملائهما في قائمتي المنبر والتحالف. وكذلك الحال بالنسبة لرولا دشتي، الرئيسة السابقة لجمعية الاقتصاديين الكويتية. وتستحق هذه الظاهرة دراستها من قبل القوى الديمقراطية في الكويت والبحرين على السواء للاستفادة من دروسها سواء لبناء التحالفات بالنسبة للانتخابات القادمة.
لقد حملت نتائج هذه الانتخابات نتيجتين مهمتين ومتناقضتين بالنسبة للإسلاميين. فمن جهة عاقب الشارع الكويتي الحركة الدستورية الإسلامية (حدس) بقسوة، فمن بين 14 مرشحا لم يفز لها سوى ثلاثة مقارنة بستة في مجلس .2006 وفي حين تساق لذلك أسباب كثيرة، إلا أن أهمها هو تناقض مواقفها إزاء قضايا الناس، واتهامات الفساد التي انتشرت أدلتها بشكل واسع وتبعيتها للحكومة، إضافة إلى تاريخ ممارساتها بإقدامها (الإخوان المسلمون) العام 1981 على تنظيم الانتخابات الفرعية، بل والطائفية لأول مرة في تاريخ الكويت لحيلولة دون وصول ممثلي الشيعة. لكن الناخبين، من الجهة الأخرى، رفعوا عدد الإسلاميين السلفيين الأكثر تشددا إلى أربعة،. وعموما وصل عدد النواب الإسلاميين السياسيين إلى 18 نائبا. وارتفع عدد النواب الشيعة إلى خمسة.
ومن جديد ناخ الحضور القبلي بكلكله على المجلس بما له ثقل كبير في المجتمع الكويتي. فقبيلتا العوازم والعجمان اللتان تتمتعان بما يزيد عن 18 ألف و 16 ألف صوت لكل منهما على التوالي، إضافة إلى تحالف قبائل المطران والرشايدة وعنيزة وعتيبة وبني هاجر والدبوس الذي يقترب مجموع أصواتها مجتمعة من 19 ألفا. وبنتيجة ذلك بلغ عدد نواب القبائل في المجلس الحالي 25 نائبا. ويلفت النظر تداخل نواب القبائل والإسلاميين، إذ يضم نواب القبائل 9 من الإسلاميين (أي 36%)، بينما يضم الإسلاميون 9 من ممثلي القبائل ويشكلون أكثر من نصف إجمالي عددهم (53%).
وفي حين يصل عدد النواب المستقلين إلى 20 نائبا، من بينهم 4 من الشيعة، فإن المتوقع أن تتشكل المعارضة في مجلس الأمة من 15 نائبا فقط من مختلف الاتجاهات.
بهذه التوزيعة تبدو توازنات مجلس 2008 في الكويت حرجة للغاية. ومع وجود عدد ممن اصطلح على تسميتهم بنواب التأزيم، خصوصا من ممثلي الدائرة الرابعة، فالسؤال المفتوح هو هل سيستطيع المجلس إكمال فترته الانتخابية أم أن على القوى الديمقراطية والمرأة خصوصا أن تستعد منذ الآن لجولة انتخابية مستخلصة الدروس المفيدة من نتائج انتخابات السبت قبل الماضي؟
 
صحيفة الوقت
27 مايو 2008

اقرأ المزيد

دروس اتفاق الدوحة

لبنان هذا البلد العربي الفريد في جماله الطبيعي، وفي تكوينه الثقافي الحضاري، وفي تعدديته السياسية والدينية التي تلون فسيفساء نسيجه الاجتماعي البديع.. لبنان بلد الحريات والصحافة والثقافة والموسيقى والابداع الفني.. هل مازال يستحق كل هذه الحروب الاستنزافية المتواصلة على امتداد اكثر من 40 عاماً منذ هزيمة يونيو 1967م؟ الم يحن بعد لهذا البلد الجريح ان يرتاح والذي كتب عليه ان يدفع فاتورة ليست تناقضاته السياسية والدينية والاجتماعية بل ان يجعل ساحة مفتوحة للتناقضات والصراعات العربية والاقليمية والدولية المختلفة وتصفية الحسابات المتبادلة، وغالبا ما يتم ذلك بمساعدة قوى سياسية ودينية داخله بوعي منها او من دون وعي؟
هل يكون اتفاق الدوحة هذه المرة مسك الختام لسلسلة التسويات التي سرعان ما تنهار على الارض لتبدأ سلسلة جديدة من الحروب والمعارك الداخلية؟ الى متى سيظل اللبنانيون لا يتعظون من دروس حروبهم العبثية المدمرة العاجزة عن فرض انتصارات نهائية لهذا الطرف او ذاك على حساب الاطراف الاخرى؟ ومتى تدرك القوى المتصارعة انها مهما اوغلت في التحدي والعناد تجاه طرف غريم او مكون اساسي من المكونات اللبنانية فإن هذه القوى جميعها محكومة في النهاية بحل بالتوافق والتراضي فيما بينها وان لا حل بغير ذلك وان كل المراهنات العسكرية او على القوى الدولية ثبت عقمها او عدم جدواها؟
ألم تكن تجربة 15 عاماً من الحرب الاهلية المدمرة التي اكلت الاخضر واليابس بكل معنى الكلمة كافية للاتعاظ من دروسها المريرة، وهي الحرب التي اعترف كل اطرافها، بعد ان طارت سكرة الطيش العسكري المتبادل وحلت الفكرة، بأنها كانت حربا عبثية مجنونة وخرج جميع اطرافها منها خاسرين؟ اذا كان واحد من ابلغ الشعارات مغزى التي شكلت ضغطاً على المتحاورين في الدوحة هو ذلك الذي رفعته مجموعة من المقعدين وجلهم من ضحايا الحرب الاهلية على طريق مطار بيروت “اذا ما اتفقتوا ما ترجعوا” اثناء توجه مواكب وفود الفرقاء الى المطار للمغادرة الى الدوحة، فلعل الشعار الأهم والاكثر مغزى من ذلك يتمثل في التساؤل الساخر المرير الذي اطلقه العديد من اللبنانيين من سياسيين وعاديين غداة اتفاق فرقائهم في الدوحة: هل كان لزاماً عليهم ان يدخلوا في تجربة كل هذا الجنون المدمر والخراب والدم ليتفقوا بعدئذ في الدوحة؟ اما كان توافقهم قبل كل ذلك الخراب والدماء التي سفحت افضل واكثر جدوى؟
ان غياب العقلانية وتضييع قراءة الواقع اللبناني بكل تضاريسه المعقدة في لحظة التأزم وتصاعد التوتر والتوهم بانتزاع مكاسب ساحقة بتركيع الخصم او بسجنه تحت شعارات ديماغوجية وشعبوية مختلفة هي غالباً تقف خلف انفلات ضبط النفس والدخول في حلقة جديدة من مسلسل المغامرات العسكرية المتواصلة، ولن ينتهي هذا المسلسل الا اذا ظلت العقلانية والحكمة متقدتين حتى في احلك الظروف، واخذ اللبنانيون شئون بلدهم بزمام ايديهم متوافقين متحدين بعيداً عن اي تدخلات او اي وصايات خارجية عربية كانت ام اقليمية ام دولية. ومن دون ذلك سيظل لبنان اسيراً الى هذه الدوامة او الحلقة المفرغة من الحروب والمعارك المتصلة لتضاعف من نزيف هذا البلد العربي الجميل المعذب المنهك.. فهل يتعظ اللبنانيون هذه المرة بعد اتفاق الدوحة من دروس الماضي؟ نأمل ذلك.
 
صحيفة اخبار الخليج
27 مايو 2008

اقرأ المزيد

المسيحيون‮ ‬يرحلون

قرأت لرئيس مجلس الأمناء في‮ ‬المعهد الملكي‮ ‬للدراسات الدينية الأمير الحسن بن طلال حديثاً‮ ‬صحافياً‮ ‬يدعو فيه إلى الاهتمام بأوضاع المسيحيين العرب،‮ ‬ملاحظاً‮ ‬أن الغرب‮ ‬يقدم حوافز لمسيحيي‮ ‬الشرق الأوسط للهجرة إليه،‮ ‬انطلاقا من شعور بأن المسيحية تتمحور حول الغرب،‮ ‬وللخلاص من جوٍ‮ ‬متوتر ليس من صنع أيديهم‮.‬
والحق أن الهجرات المسيحية من البلدان العربية ليست جديدة،‮ ‬فأغلبية المهاجرين العرب في‮ ‬الأمريكتين،‮ ‬خاصة في‮ ‬الولايات المتحدة والأرجنتين والبرازيل وكولومبيا والدومينيكان والإكوادور وغيرها هم مسيحيون،‮ ‬وفي‮ ‬البرازيل وحدها‮ ‬يبلغ‮ ‬السكان من ذوي‮ ‬الأصول العربية نحو اثني‮ ‬عشر مليوناً،‮ ‬معظمهم من المسيحيين‮.‬ ويبلغ‮ ‬عدد المسيحيين المتحدرين من القدس في‮ ‬مدينة سيدني‮ ‬باستراليا وحدها أكثر من عدد المتبقين منهم في‮ ‬القدس نفسها‮.‬
لكن تفريغ‮ ‬العالم العربي‮ ‬من مسيحييه‮ ‬ينطوي‮ ‬على مخاطرة كبيرة،‮ ‬لأنه‮ ‬يمس جوهر التعددية الدينية والحضارية في‮ ‬الشرق العربي،‮ ‬التي‮ ‬كانت مصدر ثراء فكري‮ ‬وتفاعل ثقافي‮ ‬وحضاري‮ ‬خلاق،‮ ‬أعطى العروبة أبعاداً‮ ‬أكثر عمقاً،‮ ‬خاصة حين نتذكر أن عددا من أبرز رواد النهضة العربية ودعاة الفكر القومي‮ ‬والتحديثي‮ ‬فيها كانوا‮ ‬يتحدرون من أصول مسيحية‮.‬ وأظهر هؤلاء مقدرة على استيعاب مكونات المجتمع العربي،‮ ‬ولدور الاسلام بوصفه حاملاً‮ ‬تاريخياً‮ ‬للتكون العربي،‮ ‬لذا فإنهم لم‮ ‬يسعوا إلى تأسيس حركات للمسيحيين،‮ ‬بل كان ما أسسوه،‮ ‬أو ساهموا في‮ ‬تأسيسه من حركات تضم المسلمين والمسيحيين وغيرهم من أبناء الأقليات الدينية والعرقية‮.‬
حسبنا هنا أن نورد بعض الأمثلة،‮ ‬فالمسيحي‮ ‬اللبناني‮ ‬سليم تقلا هاجر إلى الإسكندرية المصرية ليصدر منها الجريدة العربية الأهم،‮ ‬من وجهة النظر التاريخية،‮ ‬نعني‮ ‬بها جريدة‮ “‬الأهرام‮”.‬ مثله‮ ‬يمكن أن نذكر الشاعر ابراهيم اليازجي،‮ ‬وناصيف اليازجي‮ ‬الذي‮ ‬أسس الجامعة الثقافية ووضع قاموساً‮ ‬جامعاً‮ ‬للغة العربية،‮ ‬ويمكن أن نضيف أسماء أخرى،‮ ‬في‮ ‬مراحل تاريخية مختلفة،‮ ‬من دعاة النهضة والتنوير والإصلاح من المسيحيين العرب مثل جورجي‮ ‬زيدان ومارون عبود‮.‬
وكان عدد من مؤسسي‮ ‬الحركات القومية والتحررية العربية مسيحيين،‮ ‬مثل أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري‮ ‬القومي‮ ‬الاجتماعي‮ ‬الذي‮ ‬دعا إلى وحدة سوريا الكبرى،‮ ‬وميشال عفلق وصلاح البيطار اللذان أسسا حزب البعث،‮ ‬وكان‮ ‬يوسف سلمان‮ “‬فهد‮” ‬وبعض أبرز رموز الحركة اليسارية والديمقراطية العراقية في‮ ‬بواكيرها مسيحيين،‮ ‬وتأسست حركة القوميين العربي‮ ‬بمبادرة من قسطنطين زريق وجورج حبش ووديع حداد‮.‬ في‮ ‬ظروف الاحتلالات والغزوات الأجنبية والحروب الأهلية التي‮ ‬تجتاح أكثر من بلد عربي،‮ ‬تزداد ظاهرة هجرة المسيحيين العرب من بلدانهم تحت ضغط التطرف والتعصب،‮ ‬الذي‮ ‬اتخذ في‮ ‬حالات كثيرة مظاهر العنف الدموي‮ ‬ضدهم،‮ ‬كما حصل في‮ ‬العراق في‮ ‬الفترة الأخيرة،‮ ‬ويبدو ذلك وجهاً‮ ‬من أوجه الأزمة الشاملة التي‮ ‬تطال مجتمعاتنا في‮ ‬أحد أهم مكوناتها‮.‬
 
صحيفة الايام
27 مايو 2008

اقرأ المزيد

حوار الدوحة والواقعية السياسية

نجحت اللجنة الوزارية العربية في‮ ‬لم شمل الفرقاء اللبنانيين وأقنعتهم بسرعة بإيقاف الصدامات العنيفة في‮ ‬الساحة اللبنانية والجلوس على طاولة الحوار في‮ ‬الدوحة عن طريق حوار وطني‮ ‬سياسي‮ ‬يتوصل فيه الطرفان المتخاصمان‮ – ‬المعارضة وفريق الأغلبية في‮ ‬النظام‮ – ‬على صيغة‮ ‬يتوصلون فيها إلى تسوية عادلة ترضي‮ ‬الأطراف جميعها بحيث تنقذ تلك التسوية الواقعية القائمة على سياسة التنازلات والواقعية السياسية حول مصير لبنان المهدد بحرب أهلية مدمرة‮. ‬
ولكي‮ ‬يخرج الجميع من قاعات شيراتون الدوحة وهم متفقون على مبادئ وأسس،‮ ‬ويوقعون اتفاقات‮ ‬يحترمونها ليس في‮ ‬الدوحة فقط،‮ ‬وإنما على أرضهم وبين شعبهم بعد أن‮ ‬يزيلوا عنهم كل ألوان الجفوة ويدخلوا حلبة التنافس الديمقراطي‮ ‬والقبول بما‮ ‬يتفقون عليه ويجعلوا من الشرعية الدستورية ميثاقاً‮ ‬لا بد وان‮ ‬يتم تقديسه واحترامه والدفاع عنه بدلا من الدخول في‮ ‬لعبة الانقلابات المسلحة،‮ ‬وفرض سياسة القوة والأمر الواقع على أي‮ ‬حكومة منتخبة وعدم ترك القوى الخارجية تتدخل بشكل سافر في‮ ‬الشأن اللبناني‮. ‬
ولكي‮ ‬ينجح كل اتفاق وتسوية لبنانية‮ – ‬لبنانية،‮ ‬فإن أهم مسألة هو عدم الخضوع لأي‮ ‬مؤثر إقليمي‮ ‬أو دولي‮ ‬في‮ ‬التدخل واللعب بالورقة اللبنانية، ‬فمثل هؤلاء لا‮ ‬يرون من لبنان إلا ساحة لمصالحهم أولا وأخيرا،‮ ‬وهم لا‮ ‬يهتمون بحجم الاقتتال والخسائر البشرية والمادية بقدر ما‮ ‬يرون في‮ ‬الحروب الأهلية مصالحهم الاستراتيجية،‮ ‬وسيكون حوار الدوحة مقياسا لمثل صداقة هؤلاء إلى لبنان وتقدمه ونجاح مفاوضاته الداخلية‮.. ‬فكل الأسلحة والمبالغ‮ ‬والضغوطات السياسية التي‮ ‬مارستها تحديدا إيران والولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي‮ ‬بزعامة فرنسا لا تعبر إلا عن رغبات ونوايا خفية لصراعات وتصفية حسابات مع بعضهم البعض،‮ ‬كما إن تصرف بعض البلدان العربية في‮ ‬التلاعب بالورقة اللبنانية ودخولهم في‮ ‬نزاعات سياسية ومذهبية وخلافه جعلت من الواقع اللبناني‮ ‬مركز صراع وتوازنات بينها،‮ ‬ما دفع التجاذبات السياسية والعـصيان المدني‮ ‬مؤخرا نحو العنف والاقتتال وفتح بوابة وشهية التيارات الأقرب إلى تنظيم القاعدة كما حدث في‮ ‬نهر البارد،‮ ‬مهددة لبنان بنهج العراق وتجربته المريرة‮. ‬
فإذا ما كان النزاع بين الأغلبية والمعارضة سابقا نحى في‮ ‬مظـاهره وتوجهاته إلى أشكال سياسية،‮ ‬فإن تحول التوترات السـياسية هذه الأيام في ‬بيروت بدا برائحة طائفية عكـست نفسها بقوة في‮ ‬الاقتتال في‮ ‬طرابلس،‮ ‬فقد ارتفعت حدة ولغة الطائفية بكل وضوح،‮ ‬فوجد الراغبون في ‬إشعال الفتنة فرصة بتحويل الصراع السياسي‮ ‬بين طرفين احتضن في‮ ‬داخله كل مقومات الشـعب والطوائف اللبنانية كما نراها في‮ ‬صفوف المعارضة وصفوف الأغلبية بالجبل‮.‬
وفي‮ ‬مدينة طرابلس القائمة تاريخيا على التـعددية الدينـية والـطائفية؛ فخرجت للشوارع هذه المرة بدوافع طائفية معلنة تلك الأعلام السوداء رغبتها في‮ ‬المواجهة والصدام وكأنما رائحة وذكرى نهر البارد تسـتيقظ وجحـافل بن لادن المتوثبة تشعل فتيل النيران الأولى لكي‮ ‬تتحول‮ ‬غابة لبنان حريقا،‮ ‬وبعدها ستكون المشاعل تلك موجهة إلى ثلاث فرق دفعة واحدة،‮ ‬المسيحيون والدخلاء من الاستعمار الأمريكي‮ ‬الصليبي‮ ‬وحليفته إسرائيل والطرف الثالث الشيعة المدعومون من إيران مالا وسلاحا‮. ‬
هكذا سيجد العرب وضع لبنان ممزقا بحرب أهلية طائفية إذا ما تركوا للقادمين من خارج لبنان وداخلها القبول بلعبة طائفية مقيتة وقاتلة،‮ ‬إذ على اللبـنانيين أن‮ ‬يضعوا نصب أعينهم التجربة العراقية بكل صرامة وألم وواقعية،‮ ‬ولكي‮ ‬ينقذوا بلدهم عليهم تجنب المصير العراقي‮ ‬والتعلم من تجربتهم السابقة في‮ ‬حرب أهلية مدمرة لم تجلب إلى بلدهم إلا التعطيل والخراب والتأخر عن مواصلة التنمية والازدهار الذي‮ ‬بإمكان لبنان المتوازن والعادل تحقيقه بكل جدارة‮.. ‬
المهم أن‮ ‬يحدد اللبنانيون وهم‮ ‬يذهبون إلى انتخابات مقبلة أي‮ ‬نوع من الأنظمة السياسية‮ ‬يريدون مستقبلا؟ فالانتخابات والانتصار على طريقة حماس وسيطرتها على الحكومة لا‮ ‬يعني‮ ‬أنهم قادرون على تـغيير الـعالم؛ فهـناك قوى دولية قادرة على عزل لبنان وتدميره وحصاره إذا ما حاول أي‮ ‬طرف تغيير دفة النظام السياسي‮ ‬في‮ ‬لبنان عن مساره الليبرالي‮ ‬وديمقراطيته المطلوبة وانفتاحه على العالم الخـارجي؛ فالمهم أن لا‮ ‬يفهم المنتصرون والخـاسرون في‮ ‬الانتـخابات المقبلة أن لبنان مشروع إيراني‮ ‬ونموذج مماثل،‮ ‬مثلما لا‮ ‬ينبغي‮ ‬للإسلاميين من الطرف الآخر أن‮ ‬يتخيلوا أن مشروعا إسلاميا سلفيا هو حلمهم القادم‮.. ‬فلبنان بلد قام على التعددية،‮ ‬ومن الضروري‮ ‬أن‮ ‬يبقى لبنان ديمقراطيا تزدهر فيه الحريات‮. ‬
وينبغي‮ ‬أن‮ ‬ينظر أثرياء الأغلبية في‮ ‬النظام إلى واقع البؤس والعطالة والفساد،‮ ‬فكلما تعمقت التناقضات في‮ ‬لبنان فإن الانفـجارات الاجتماعية لن تكون بعـيدة ولن تتفرج عليها المعارضة دون اهتمام،‮ ‬إن لم تقدْها وتحركها فالمهم في‮ ‬كل حكومة لبنانية تحقـيق التوازن الاقتـصادي ‬والاجتماعي ‬بين السكان وتوزيع الكعكة بين الجميع بشكل عادل‮.. ‬وقد كان لطيفا الشعار الذي‮ ‬حمله ضحايا الحرب الأهلية السابقة حين كتبوا‮: “‬إذا ما اتفقتوا ما ترجعوا‮”.. ‬فلعلها تكون دلالة عميقة لذوي‮ ‬البصيرة،‮ ‬وبأنهم ضاقوا ذرعا بالجميع؛ فضحايا الاقتتال والحرب الأهلية‮ ‬يدركون نتائجها‮. ‬

صحيفة الايام
27 مايو 2008

اقرأ المزيد