المنشور

في ذكرى الاستقلال الوطني جمعيتا القومي والتقدمي تدعوان لاستعادة اللحمة الوطنية والخروج بالبلاد من عثراتها السياسية والاقتصادية

يحتفل شعبنا في الرابع عشر من أغسطس من كل عام بذكرى الاستقلال الوطني من التبعية البريطانية عام 1971، حيث بات هذا اليوم عنوانا لاستعادة السيادة والاستقلال والكرامة الوطنية، ولتنتهي بذلك مرحلة تاريخية امتدت منذ أواسط مايو/ أيار من العام 1861 واستمرت فيها مطالبات شعب البحرين بكافة أطيافه الوطنية ومكوناته بالاستقلال عن التاج البريطاني عبر نضال لم يهدأ وانتفاضات وتحركات شعبية ومطلبية توجت في نهاية المطاف بإستجابة هيئة الأمم المتحدة لتنظيم استفتاء شعبي تاريخي حول استقلال وعروبة البحرين الذي نظمته الأمم المتحدة استجابة للمطالب الوطنية العادلة والمشروعة التي اجمع عليها شعبنا نحو إقامة دولة عربية مستقلة كاملة السيادة، الأمر الذي أوقف بدوره كافة المطالب والأطماع الخارجية وسد جميع أبواب المؤامرات والدسائس المتربصة ببلادنا حينها، كما سمح بشكل تلقائي بإجراءات إعادة التنظيم السياسي والإداري لدولة البحرين الفتية، والذي أعقبه مباشرة الإعلان عن انضمام البحرين لكل من الجامعة العربية وهيئة الأمم المتحدة باعتبارها دولة مستقلة ذات سيادة.

لقد ترافق إعلان الاستقلال السياسي هذا مع زخم حراك جماهيري لشعب البحرين، عبرت من خلاله الجماهير وقواها الوطنية عن مطالبتها بضرورة المشاركة السياسية وتشريع حرية العمل السياسي والنقابي وتهيئة الأرضية اللازمة للمشاركة الشعبية في إدارة شؤون البلاد وبناء الدولة الديمقراطية ، وهو ما عبر عنه آنذاك بانتخاب المجلس التأسيسي عام 1972 وصدور دستور عام 1973 وما تزامن معه من تصاعد في المطالب النقابية والوطنية، واستمر حتى التوقف القسري للحياة النيابية الوليدة بعد حل المجلس الوطني في أغسطس 1975 واللجوء بعدها للخيار الأمني الذي ظل مهيمنا لمدة تجاوزت الـ25 عاما.

وقد جاء بعدها مشروع ميثاق العمل الوطني ليمثل حالة فريدة من الاستنهاض الوطني تمازجت فيه الإرادة الشعبية مع مشروع جلالة الملك الإصلاحي، للخروج من حالة الاحتقان السياسي إلى رحابة الأمل والانفراج السياسي والوطني، والذي عبرت عنه بوضوح النسبة الكبيرة في التصويت الشعبي على ميثاق العمل الوطني بلغت 98.4%. لقد مثلت مرحلة التصويت على الميثاق وما تبعها من مواقف وتصريحات رسمية وشعبية مطمئنة ومتوافقة بشكل عام، ومن ثم استئناف الحياة النيابية عام 2002، مثلت مرحلة تاريخية هامة ومفصلية في تاريخ بلادنا الحديث، حيث سبقها وتزامن معها تبييض السجون والمعتقلات من سجناء الرأي والضمير والسماح بعودة جميع المنفيين على خلفية نشاطهم السياسي، وتجاوب مختلف القوى السياسية مع النهج الإصلاحي الجديد، نظرا لما مثله في حينه من تلاحم بين القيادة والمواطنين والتفافهم حول هذا المشروع الإصلاحي الطموح. الا انه مع تعثر خطى المشروع الإصلاحي عبر العديد من مراحله الهامة، والتراجعات التي حدثت في بعض المفاصل السياسية، وما تبعها من تراكمات وإرهاصات وإخفاقات أفضت بدورها لتراكمات سياسية وشعبية سلبية اعتبرت سببا رئيسا لعودة شرائح شعبية واسعة في فبراير من العام 2011 للمطالبة بالحريات السياسية والحقوقية وتوسيع الصلاحيات البرلمانية وعدالة التمثيل وإلغاء كافة مظاهر التمييز والتجنيس وتحقيق العدالة الاجتماعية, لتدخل بعدها البحرين مجددا في سلسلة من التراجعات وحالات الانقسام والتضييق على الحريات وتغليب الحلول الأمنية مع تصاعد حدة الانقسام الاجتماعي وصعود مخاطر التفتيت الطائفي. ويزداد الأمر سوءا مع تزايد حدة الصراع على مستوى المنطقة بأسرها، وتزايد لعبة خلط الأوراق ضمن حالة الصراع الإقليمي المستمرة حتى الآن، بما في ذلك تنامي تغلل المشروع الصهيوني الذي بات يشكل تهديد جوهري لانتمائنا القومي واستقلالنا السياسي.

وإذ نمر اليوم بذكرى يوم الاستقلال الوطني، وإذ نسترجع تلك المحطات التاريخية المهمة والمفصلية من تاريخ بلادنا، فأننا في أشد الحاجة في وقتنا الراهن لنتعلم منها العبر والدروس علها تسعفنا للنهوض مجددا ببلادنا من عثراتها السياسية والاقتصادية، وفي مقدمة هذه الدروس الأهمية القصوى لاستعادة اللحمة الوطنية وإعادة الروح لمبادئ ميثاق العمل الوطني من خلال إيجاد الحلول السياسية بدلا من الأمنية وإطلاق سراح معتقلي الرأي وإعادة الجنسيات وإطلاق حرية العمل السياسي والمدني ووقف التضييق على الناشطين السياسيين والحقوقيين وإطلاق حوار وطني موسع تسنده إرادة سياسية صادقة، تقود بلادنا إلى حيث التوافق والوحدة والتلاحم الوطني على طريق إعادة قاطرة الإصلاح الدستوري والسياسي الحقيقي غير المنقوص إلى مسارها المنشود، من أجل رفعة وتقدم بلادنا وشعبها، ووقف كافة التدخلات الخارجية في سيادة واستقلال البحرين وإرادة شعبها.

المنبر التقدمي
التجمع القومي

اقرأ المزيد

قطاع الشباب والطلبة بالمنبر التقدمي وبمناسبة اليوم العالمي للشباب – الشباب هم رهان التغيير على كل الأصعدة الوطنية

قطاع الشباب والطلبة بالمنبر التقدمي وبمناسبة اليوم العالمي للشباب
الشباب هم رهان التغيير على كل الأصعدة الوطنية

إيماناً من قطاع الشباب والطلبة في المنبر التقدمي لما لهذا القطاع في البحرين من دور في النهوض بالمجتمع على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وبمناسبة اليوم العالمي للشباب الذي يصادف 12 من أغسطس من كل عام وعلى مدى الأعوام الماضية منذ أن أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1999 الذي نص على اعتبار هذا اليوم يوما دوليا للشباب دأب قطاع الشباب على الاحتفاء بهذه المناسبة.

وفي هذا العام 2019 تم تحديد شعار الاحتفال “إتاحة التعليم للجميع وتيسيره أمام الشباب” وهو شعار ينسجم مع مقتضيات الواقع الراهن الذي يفرض تحركاً جدياً ونوعياً للنهوض بواقع التعليم والنهوض بمقوماته واركانه لضمان التعليم الجيد والمنصف والشامل للجميع وذلك تأسيسا على الهدف رقم (4) من خطة التنمية المستدامة لعام 2030 للمفوضية السامية للأمم المتحدة، الذي ينص على “ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع”.

يؤكد قطاع الشباب والطلبة بالمنبر بهذه المناسبة بأن الشباب هم رهان التغيير على مختلف الأصعدة الوطنية وهم الذين بمقدورهم أن ينجزوا هذه المهمات إذا ما أتيحت لهم الفرصة في العمل وإبراز طاقاتهم والمشاركة في عمليات صنع القرار والتعبير عن أنفسهم بحرية، وهو ما يحتم على الحكومة والمؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني أن تعمل على إشراك الشباب في مختلف الفعاليات والحوارات وعلى كل الأصعدة لمناقشة جميع ما تعنى به هذه الشريحة من قضايا وهموم تواجهها ووضع الحلول والخطط المناسبة لها.

وحول شعار هذا العام بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للشباب وهو “اتاحة التعليم للجميع” يؤكد قطاع الشباب والطلبة بالمنبر التقدمي أنه بالرغم من العديد من الخطوات التي اتخذتها الحكومة من أجل تطوير التعليم في البلاد، فأن الواقع التعليمي لا يرتقي إلى طموحات شبابنا ولا إلى المعايير الدولية المتعلقة بالتعليم، ولازال بحاجة إلى الكثير من الجهود للنهوض به خاصة فيما يتعلق بعدالة توزيع البعثات والمنح الدراسية وضرورة تطبيق معايير الشفافية والمساواة والحيادية عند توزيع البعثات الدراسية، يضاف إلى ذلك أن الكثير من حملة الشهادات الجامعية من أبناء البلاد يعانون من البطالة وشحة فرص العمل في حين تبين التقارير زيادة العمالة الوافدة إلى مستويات عالية، إضافة إلى عدم الاستقرار الوظيفي للشباب البحريني، ناهيك عن زيادة تكاليف الدراسة الجامعية وتدني الأجور وغيرها من هموم يومية كتدني الخدمات الإسكانية والخدمات الصحية وزيادة تكاليفها التي يعاني منها الشباب وكل فئات الشعب البحريني.

ووفق أهداف ومبادئ “اليونسكو” التي تعزز الحقوق الإنسانية فإن قطاع الشباب والطلبة بمناسبة اليوم الدولي للشباب يدعوا إلى توسيع أجواء الديمقراطية للشباب وإتاحة الفرصة واسعة لهم للتعبير عن الرأي والمشاركة بحرية في الانضمام لمؤسسات المجتمع المدني وتشكيلها بلا قيود، تشجيع إقامة بيئة حرة ومستقلة وقائمة على التعددية في وسائل الإعلام المطبوعة والمذاعة والإلكترونية، وتطوير وسائل الإعلام بهذه الطريقة يعزز حرية التعبير ويسهم في إرساء السلام، وضمان الاستدامة، والقضاء على الفقر واحترام حقوق الإنسان.

10 أغسطس 2019
قطاع الشباب والطلبة
المنبر التقدمي

اقرأ المزيد

“النبيذة” وإيقاظ الشجن

بقيت بغداد ولازالت الشاطئ الاخر لحلمٍ جميل مستعاد من حياةٍ سابقة. أربعون عاما تفصلني عن ذلك التاريخ حين انتظمنا كطلاب في جامعة بغداد العريقة، وكما يذكر د.هاني الراهب في روايته “رسمت خطا في الرمال”: “في تاريخ العالم ثلاث مدن خرجت من دوائر الجغرافيا والسياسة الى أفق الأساطير والرموز الثقافية. اثنتان منها هنا: بابل وبغداد باب الإله، وعطية الإله، والثالثة هي روما”.

أربعون عاما وأنا في شوق دائم لتلك المدينة، تعلق في ذاكرتي رائحة الهواء وزوايا الطرقات وطعم الأمكنة التي زرتها وقضيت احلى أيامي فيها، الاعظمية، الشورجه، الكاظمية، باب المعظم، شارع الرشيد، السعدون، كربلاء، النجف، كرادة مريم … إلخ.

كل هذه الأمكنة شاخصة أمامي عندها تيقنت بأن رواية كرواية إنعام كجه جي (النبيذة) كفيلة بايقاظ كل هذا الشجن والحنين للعراق ونكأت جروحا لم تندمل بعد لما آل اليه الوضع فيه، بعد أن نهشت جسمه الضباع وتكالبت عليه الجيوش من كل الأصقاع بينما كان ينظر اليه بمهابة وعزة وكرامة في زمن قد ضاع.

رحت ألملم حنيني عند قراءتها وعادت بي الذاكرة لتلك الأيام الجميلة التى لا تنسى، وأكثر ما راود ذاكرتي بشحنة الرعب هو ما فعله ويفعله الحكام بشعوبهم وأوطانهم ليجلبوا الدمار لتلك الأوطان ويحيلونها الى رماد.
وبرهافة الأطفال تجاه جماليات العالم أصغيت لكل كلمة ولكل صفحة من تلك الصفحات الثلاثمائة والخمسة وعشرين مستمتعاً بالأسلوب والفن الروائي.

برشاقة وبراعة نجحت إنعام كجه جي في إثارة وإنعاش الذاكرة ومشاغبتها الجميلة لها وأخذتني الى الأجواء التي لازمت فترة من أجمل وأروع الفترات في حياتي، فكانت “النبيذة” خير معين لاستنطاق ما قد خبا على مرّ هذه السنين الطوال واستعادة شريط تلك الفترة.

رواية تقاطرت فيها الأحداث لحقب متباعدة من الزمن ولشخصيات جمعتهم هموم الحياة ومصائب الأوطان وكوارث الأنظمة ليلتقوا فى المنفى بعد ان عجز الوطن عن احتوائهم، فالشخصيات الثلاث تاج الملوك عبد المجيد الصحافية صاحبة مجلة “الرحاب” المشاكسة والجسورة، منصور البادي زميلها الفلسطيني في إذاعة كراتشي الذي هاجر إلى فنزويلا ووديان الملاح عازفة الكمان في الأوركسترا السمفونية العراقية التي عوقبت من قبل إبن رئيس النظام البائد وأصابها صمم في الأذن لازمها طوال حياتها بسبب تمردها على نزواته.

يفعل الزمن فعله في كل شخصية من هذه الشخصيات ليرووا ما عاشوه من خلال حبكة فنية رائعة لسيناريو رائع أوصلته إلينا الكاتبة ببراعة وتصوير دقيقين.

رواية يجتمع فيها الحب بالموسيقى والشعر بالجاسوسية في توليفة لا تخطر على بال، كما أن السياسة حاضرة من خلال الأحداث السياسية التى مرت على العراق منذ الإستعمار الإنجليزي ونضالات الشعب العراقي في تلك الحقبة وإعدام قيادات الحزب الشيوعي العراقي وعلى رأسهم سلمان يوسف (فهد) ورفيقيه زكي بسيم وحسين الشبيبي المعروفين باسميهما الحركيين حازم وصارم الذين أعدموا في العام ألف وتسعمائة وتسع واربعين.

ما يميز هذه الرواية هو أسلوبها الممتع، عبر سرد الأحداث بلغة جميلة وأحيانا باللهجة العراقية المحببة، وبالشعر والغناء العراقي تصيغ إنعام روايتها وبتمكن واضح كي تترك للقراء متعة القراءة، وهم يتابعون تسليط الكاتبة للضوء على حقبة مهمة من تاريخ العراق، حيث نجحت في رسم ملامح شخصياتها بدقة وأعطت لها أدوارا كما لو أن روح الحياة قد دبت في كل شخصية منها، فأبرزتهم كما لو أنهم احياء بيننا.

فى مهب الحنين قضيت وقتا ممتعا لاستعادة ما ولى من زمن لن يعود بعد أن دمرته الحروب وحاصرته الجيوش التي أحالت البلد الى خرائب، وجثم على صدور شعبه حكام قساوة ظلمة.

بعد قراءة آخر سطر من تلك الرواية أحسست بزفرة من الألم تقبض على صدري لما آل اليه العراق وشعبه العريق، حيث أصبح فيه المواطن جثة مرقمة ومختومة لتسلم للأهل ليدفنوها.

فشكراً للدكتور حسن مدن في إشارته لي بقراءة (النبيذة)، ومعنى هذه المفردة كما وجدته في معجم المعاني الجامع: صفة ثابتة للمفعول من نبذ، ملقي، مهمل، متروك، منبوذ.

اقرأ المزيد

البياض المرعب

بالصدفة وقعتُ على مقال لنيران العبيدي عن العجز عن الكتابة، قرأته لأن الموضوع يؤرقني شخصيا، لأني بدأت نصًا طويلًا، كتبت فيه الكثير، ثم ركنته جانبا، مضت سنة، ثم سنتان، وها نحن في الثالثة ولا شيء ينبئ أنني سأتممه، مع كل الزخم الذي يعشش في رأسي من أفكار، مع كل الرغبة التي تحثني لإتمامه، إلا أني كلما جلستُ إليه انطفأت الكلمات، وحلّت العتمة في رأسي، تخبو المشاهد التي كانت تملأني وأنا أسوق سيارتي، تختفي تماما كل الإيحاءات الجميلة التي تسكنني وأنا مع العمل أو مع الأصدقاء، لكن كلما اختليت إليه خبا كل شيء.
من بين الأشياء التي وردت في المقال السابق الذكر إعتراف لكاتب منعته الأدوية المضادة للإكتئاب من الكتابة. قال: “إنها تمنعني عن الكتابة، تسلبني مشاعري، تجمد الدموع في أحداقي، أنا بحاجة للدموع وإلى المشاعر في كل لحظة أعيشها….”، ويصف لحظة العجز تلك: “إنها لحظة الشعور بالعوق عن الكتابة، العجز الذي انتابني من البوح”. و يبدو أن المقارنة بين عجز وعجز تقودنا لذكر عمالقة الأدب الذين أنهوا حياتهم حين توقفت أقلامهم عن الكتابة لأسباب عديدة، لكنها حتما ليست السبب الذي أعاني منه ولا أعرفه.
يقال إن مراحل القحط هذه عادية، وإن الكاتب الغزير الكتابة عمره قصير، ليس بمعنى عمره المحسوب بالسنوات، بل العمر المحسوب بأمد قراءته… فالكاتب أيضا يعيش فصول عطائه كما تعيش الطبيعة كلها تلك الفصول، والأكيد أن فاكهة أفكاره تحتاج لوقتٍ كاف لتنضج، أما السلق السريع لها، فلن يعطينا المذاق المطلوب.
يعيش الكاتب عمرين، عمره كإنسان، وعمره ككاتب، أما نقاط التلاقي بين الإثنين فإنها تظل سراً يخصّ كل كاتب، ويصنع تميّزه عن غيره. ترتبط الكتابة بالتجربة اللغوية، والموهبة، والمغامرة لخوض معركة الظهور، لكنّها قبل كل هذا ترتبط بلحظة التورّط في الكتابة، وعدم القدرة من الخلاص منها، أستعمل كلمة خلاص لأني أراها مغامرة، قد تكون نهايتها غير مرضية، كما قد تكون نتائجها جيدة، تلك اللحظة التي تلقي فيها الكتابة القبض على أهدافها، قد تمر بلحظة تخلٍ، حين يقف سيل الكلمات عن التدفق في رأسه، حين يصمت ذلك الصوت الذي يسكنه ويوشوش كل الوقت له بما يجب فعله، تلك الرفقة العجيبة بين إنسان ولغة قد تنتهي بكارثة الحبيب الفاقد لمحبوبه، دون أن تكون انتحارا بالضرورة، لكنها في كل الحالات موت ما …!
إرتباط الكاتب بالكتابة، قضية حياة أو موت، عقد أبدي، إن أخلّ به أحد الطرفين خسر الآخر بالضرورة، ثم انعكست تلك الخسارة على الإثنين.
في تاريخ الأدب والأدباء، مرّ كثيرون بفترات قحط موجعة، جفّت فيها أقلامهم، ونضب فيها نتاجهم، بعضهم يصف تلك الفترات بفترات مرض حقيقية، “المرض المخزي للكاتب” و”شبح البياض المرعب” مرض تلف الأعصاب، الجنون والإنهيار والصدمة في خلطة واحدة، أمام ذلك العجز الذي لا وصف له، وقد لا يكون عجزا بل قلّة تقدير، أو لنقل تحقيراً لكل كلمة نكتبها، فتبدو لنا باهتة، وضيعة، مجرّدة من أي معنى، خاوية من الإحساس الذي نشعر به، يصف البعض الآخر هذه الحالة بمرض الشك، أو الوسواس ، كونه يشكك في كل كلمة يكتبها، فيكتب غيرها عشرات المرات، قبل أن يتوقف عن البحث عن المزيد.
لا أحد يستطيع أن يتنبأ بهذه المصيبة، ولا أحد بمأمن منها. حدث مثلا أن أصيب كاتب عظيم مثل جاو كسينجيان بهذا المرض، مباشرة بعد نيله جائزة نوبل سنة 2000، وقد صرّح قائلا “ثقل جائزة نوبل سحقني تماما، لقد أنهيت كتابة مسرحية خامسة بعنوان “القصة الليلية” سيتم نشرها من طرف ناشر أكاديمي صغير، أمّا كتابة الرواية فقد أصبحت مستحيلة ” لنا أن نتخيل حجم المعاناة التي حلّت به، وهي معاناة مضاعفة، منها ما يشعر به، و منها ما يمارسه الآخرون من ضغط عليه، بالأسئلة المتكررة ، هل كتبت اليوم؟ حاول، ننتظر منك رواية أجمل …إلخ
تجربة جاو تظل أخفَّ من تجربة الكاتب الإيطالي “إيتالو سفيفو” الذي قبل أن يكتب رائعته “ضمير السيد زينو” ظلّ عاجزا عن الكتابة لأكثر من عشرين سنة، العجز لازمه مع تأنيب ضمير، كما يلازم آخرين عبر كل الأزمنة، لأنه يشبه الخيانة، ويشي بالفشل مع أن الأمر لا يتعلّق أبدا بالفشل، بل بتقييم ذاتي واهم…
المختصون أمام هذا كله، يشرحون سر المعضلة، وأنها تتعلّق بالدرجة الأولى بعلاقة الكاتب بالكتابة، فقد تنجح هذه العلاقة وقد تفشل، إنطلاقا من زاده الخاص لغويا وفكريا. ثم بالدرجة الثانية تتعلّق بالمتلقي السلبي الذي يهرس كاتبه بالإنتقاد السلبي الذي قد يصل إلى تخوينه وطنيا أو اتهامه بالإلحاد كما حدث كثيرا في عالمنا العربي، ما جعل أسماء تختبئ مؤقتا، وقد أصيبت بخرس مؤقت من هول التهديدات و التحذيرات والرسائل السلبية معتقدة أنها غير صالحة للكتابة، لنتذكر بعض الجمل القاتلة التي تضع كاتبها في القبر مباشرة وتدفنه حياً، حدث ذلك لنصر حامد أبو زيد، وعبد الله القصيمي، وسيد محمود القمني، ووجدي الأهدل، ورشيد بوجدرة، وآخرين .
لقد كان النقد اللاذع السلبي أكثر الأسباب التي أدخلت بعض الكُتَّاب في حالة عجز عن الكتابة، لأن تلك الكلمة الجارحة، الخطيرة، التي توجه لكاتب بعينه، تشبه مشنقة سرعان ما تحيط برقبته، وتضع حياته على المحك.
أخيرا نسأل أين عامل الإلهام بين كل هذه العوامل؟ مع أنّه لا يخفى على أحد أن “الحب” هو الملهم الأول والأخير للكاتب، حب القضية، حب الآخر، حب النجاح والشهرة.
وقد تنتصر المرأة بين كل هذه العوامل، لهذا تختبئ “الحبيبة الملهمة” في كواليس حياة بعض الكتاب، كما قد تصبح إدمانا مثل الإدمان على الكحول، وتدخين الحشيش، التي تطلق عنان اللغة وتقلل من خوف المواجهة. ولنا في هذا الموضوع بالذات قصصا لا تنتهي، عن زيجات فاشلة، وخيانات ترمم ما تصدّع، وعلاقات غير مستقرة وسلوكات مهينة أحيانا يقع فيها البعض فقط من أجل إنقاذ شغف الكتابة، وجذوة الروح .
أمور معقدة تحدث، والسبب هذا البياض الذي يلتهم الكاتب حين يعجز عن الإنتصار عليه، البياض/ الكفن المنبئ بالموت، والذي يجعله يتصرف مثل تلميذ مشوش، لأن أهم عوائق الكتابة قد ترتبط بتجارب الطفولة، والصدمات الصغيرة التي تسبب فيها البالغون بانتقاداتهم الجارحة، والقسوة المرافقة لها، والإصرار على بلوغ الكمال وإلا فأي إنجاز يعتبر فاشلا.
يقضي “كاتب الكمال” هذا الكثير من الوقت باحثا عن الصيغة الصحيحة، ويعود إلى ما يكتبه، فيشطب ويغير، ويضيف، ولا يتحرّك العمل إلى الأمام أبدا، فيبقى حبيس عدم الرضى.
خلاصة القول هي إن الصعوبات والصدمات التي نواجهها، تقودنا إلى تكوين معتقدات حول أنفسنا، وعن الآخرين، وعن العالم. تصبح هذه المعتقدات مرجعنا ويبدو أنها تحمينا من تكرار الآلام التي عانينا منها. لكن هذه المعتقدات هي وسائل حماية زائفة تمنعنا من المضي قدمًا والإستفادة من مواهبنا.

اقرأ المزيد

المناضل أحمد الذوادي ومحطات العمر

مرّت قبل أيام ذكرى رحيل المناضل أحمد الذوادي (8 يوليو 2006 – 2019)، الشخصية الوطنية والأمين العام لجبهة التحرير الوطني البحرانية، إبان فترة العمل الجبهوي وأول أمين عام منتخب للمنبر التقدمي.
هذه الذكرى وكتابة الأخ الدكتور حسن مدن عنها أحيت ذاكرتي، وحثّتني على الكتابة حول محطات اللقاء مع المناضل أحمد، ويبقى رفاقه خير من يكتب عن سيرته النضالية.
أول مرة سمعتُ باسم المناضل أحمد الذوادي والتعرف على شخصيته كانت من خلال الأخ المحامي حسين النهاش. كان ذلك إبان المرحلة الثانوية بمدرسة الحورة الثانوية. يومها كنا مجموعة طلبة في بدايات تفتح الوعي أو لنقل الشقاوة السياسية، حيث جاءني الأخ حسين ليخبرني بأن أحمد الذوادي “سيف بن علي” – وهذا إسمه الحركي كما عرفتُ فيما بعد – قد عاد إلى الوطن بعد سنوات في المنفى والإغتراب، وكان هذا الحديث مع الأخ حسين في مطلع عام 1974، حيث كانت البلاد يومها تعيش بداية إنفتاح سياسي بعد انتخابات المجلس الوطني وقبلها انتخابات المجلس التأسيسي ووضع الدستور.
بعد أشهر تغيّر المزاج وأتت الرياحُ بما لا تشتهي السفن….حيث جرت إعتقالات طالت سياسيين ونقابيين وكان أحمد ضمن من شملهم الإعتقال.
تمرّ الإيام والشهور وتجري حملة إعتقالات جديدة شملت مناصري “الشعبية والتحرير”. كان ذلك في ديسمبر 1976، وكنا مجموعة أعتقلت ونقلت من سجن سافرة إلى سجن جزيرة جدا.
في سجن جزيرة جدا إلتقينا مع مجموعة من القيادات السياسية التي كانت تقضي سنوات الإعتقال منذُ يونيو 1974، بموجب قانون أمن الدولة، وكان أحدهم أحمد الذوادي.
ما يُميّز أحمد التواضع والبساطة فلا ترفّع. وبحكم التجربة رأيناه يمارس شعار “السجن ساحة نضال أخرى” على أرض الواقع بالحوار وتدريس المساجين سواء كانوا سجناء سياسيين أو جنائيين. خرجت من المعتقل في ديسمبر 1977 وإستمر إعتقال أحمد وبعض الأخوة حتى أطلق سراحه في ديسمبر 1979.
اللقاء الثاني مع الأخ أحمد كان في مطلع التسعينات وفي سوريا، وكانت وقتها موقع اللجوء وظل “أبو قيس” كما هو بسيطًا في علاقاته، وكان بيته في دمشق مقصداً للقادمين من الوطن البحرين، ورغم مرضه ظل متفاءلاً، والإبتسامة لا تغادر محياه حتى العودة للوطن بعد الإنفراج السياسي في مارس 2001.
بعد وفاته في 8 يوليو 2006، أقمنا في “وعد” لقاءاً حمل عنوان “أحمد الذوادي – سيرة مناضل” تحدّث فيه المناضل عبد الرحمن النعيمي وهو الذي رافق المناضل أحمد الذوادي طيلة فترة المنفى، وكانا ممثلين للحركة الوطنية بجناحيها “الشعبية والتحرير”.
وأشاد النعيمي في كلمته بالسيرة النضالية للمرحوم أحمد وبدوره في التقريب بين التنظيمين، وإصدار نشرة “الأمل” الناطقة باسم الجبهتين: “الشعبية والتحرير” إبان فترة التسعينات، كما تحدث في اللقاء الأخ عبد الجليل النعيمي رفيق درب أحمد ومن عاش معه الإغتراب، وكان لي شرف إدارة اللقاء لما يمثله الرفيق أحمد من مكانة في مسار العمل الوطني.
سيظل الرفيق أحمد “أبو قيس” في الذاكرة الوطنية وعَلماً للحركة السياسية في البحرين، وستظل سيرته مدرسة نتعلم منها الصبر والصمود والبساطة في العلاقات النضالية.

اقرأ المزيد