المنشور

السياسات النيوليبرالية واستهداف الحقوق المعيشية للمواطنين

جاء في مقدمة العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية :(إن الدول الأطراف في هذا العهد، إذ ترى أن الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل، وفقاً للمبادئ المعلنة في ميثاق الأمم المتحدة، أساس الحرية والعدل والسلام في العالم، وإذ تقر بأن هذه الحقوق تنبثق من كرامة الإنسان الأصيلة فيه، وإذ تدرك أن السبيل الوحيد لتحقيق المثل الأعلى المتمثل، وفقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في أن يكون البشر أحراراً، ومتمتعين بالحرية المدنية والسياسية ومتحررين من الخوف والفاقة، هو سبيل تهيئة الظروف لتمكين كل إنسان من التمتع بحقوقه المدنية والسياسية، وكذلك بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإذ تضع في اعتبارها ما على الدول، بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة، من الالتزام بتعزيز الاحترام والمراعاة العالميين لحقوق الإنسان وحرياته).

ولأن هذه الحقوق لا تنحصر في حق معين بل هي عديدة، لهذا نُصّ عليها في الاتفاقيات الدولية والدساتير للعديد من البلدان في العالم لتكون ملزمة لها، وأصبحت حقاً دستورياً لا يمكن التنصل منها تحت أي ظرف من الظروف، ولابد من الالتزام بها وتنفيذها تجاه مواطنيها في البلدان المقرة في دساتيرها، وتُساءل وتُحاسب من قبل السلطات التشريعية المنتخبة وتُثار إشكالية حولها مع المنظمات الدولية المعينة بحقوق الإنسان.

موضوعنا عن الحقوق المدنية المثبتة كمواد في دساتير بعض البلدان الخليجية بما فيها بلادنا البحرين، حيث توجد تلك المواد في دستور مملكة البحرين 2002 (7 “أ”، 8 “أ”، 9، 13 “ب”)، ولا يسع المقام هنا لنقل تلك المواد الدستورية، لذا نكتفي بالمادة ( 8) أ- : “لكل مواطن الحق في الرعاية الصحية، وتعنى الدولة بالصحة العامة، وتكفل وسائل الوقاية والعلاج بإنشاء مختلف أنواع المستشفيات والمؤسسات الصحية”، ورغم أهمية بقية المواد إلا أننا نتوقف أمام هذه المادة بالذات، لما لها من خصوصية لأنها تعنى بالصحة العامة، صحة الإنسان التي بدونها لا يستطيع القيام بالعديد من الواجبات والالتزامات في الأسرة، العمل، المجتمع، وأن توفر التعليم، العمل، السكن، في بعض الاحيان، وإن كان في حالات عديدة لا تتوفر للمواطن جميع تلك الحقوق وبالأخص المواطنين أصحاب الدخل المحدود، وإن حصلوا عليها تأتي بعد معاناة وانتظار لسنوات طويلة، بالأخص السكن الذي هو أيضاً حق دستوري، حيث أن طلبات المواطنين في وزارة الإسكان بالآلاف ينتظرون مدداً تصل إلى 20 و25 سنة، فكيف يطلب من المواطن القيام بالواجبات الدستورية ولا تُلبى حقوقه المنصوص عليها في الدستور؟.

والأكثر من هذا وذاك تستمر سياسة النيوليبرالية بتحميل المواطنين أعباء مالية إضافية من خلال فرض الضرائب والرسوم عليهم، وهم ليسوا شركاء في القرار السياسي ويدفعون الثمن باهظاً لأخطاء وسياسات الدولة الفاشلة والتي لم تستطع التصدي للفساد والفاسدين وسارقي المال العام. ولو تحدثنا فقط عن الفترة الماضية طوال العشرين سنة الأخيرة، فيمكن العودة إلى تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية، وهو جهة رسمية تابعة للدولة، لنرى حجم الفساد، ولكن لم نقرأ بأن هناك مسؤولين متورطون في قضايا فساد وسرقة المال العام تمت محاكمتهم، مثلما حدث في بعض الدول الخليجية، وليس الاكتفاء بمحاكمتهم، بل صدرت بحقهم أحكام بالسجن في قضايا فساد وغيره، فالفساد وباء خطير وفتاك يجب مكافحته والتصدي له، لا غض النظر عن الموضوع وترك الفاسدين والمتورطين فيه يمرحون ويسرحون دون مساءلة قانونية لهم بتقديمهم للمحاكمة، وكأنها مكافأة لهم على أفعالهم المشينة في سرقة المال العام وهي جريمة بحق الوطن والمواطن.

تمضي التوجهات لتنفيذ السياسة النيوليبرالية تحت عناوين ومسميات متنوعة، بذريعة تقوية الاقتصاد الوطني بانتشاله من حالة الركود والضعف، من خلال الذهاب بعيداً بتنفيد عمليات الخصخصة، وإن كانت إجراءات التحول متفاوتة وتأخذ وقتاً في تلك القطاعات الحيوية (الصحة، التعليم، الإسكان، الكهرباء والماء) التي تمسّ حقوق المواطنين وبالأخص الفئات الفقيرة والكادحة وترك الفاسدين والمتسببين في التراجعات والصعوبات التي يعاني منها الوضع الاقتصادي في البلاد ماقبل جائحة كورونا وتداعياتها مما أدى إلى العجز في الموازنه لعام 2021 و 2022 وارتفاع ملحوظ في الدين العام، يفاقم من استمرارية الأزمة ولن تفيد نصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، نصائح كارثية تحمِّل المواطنين الأعباء المالية وبالأخص الفئات الشعبية الفقيرة بمزيد من فرض الضرائب والرسوم .

تدعو النيوليبرالية “إلى تبني سياسة اقتصادية تقلل من دور الدولة وتزيد من دور القطاع الخاص قدر المستطاع، و تسعى لتحويل السيطرة على الاقتصاد من الحكومة إلى القطاع الخاص، بدعوى أن ذلك يزيد من كفاءة الحكومة ويحسن الحالة الاقتصادية للبلد.” وبكلمات فإن النيوليبرالية تزيد الفقير فقراً والغني غنًى وتسلب من الفئات الفقيرة والكادحة حقوقها وبالأخص الحقوق المكتسبة طوال سنوات بل وعقود، وتخلق في المجتمع حالة من التمييز والفوارق الطبقية، وتغيب مبادئ وقيم المساواة والعدالة الاجتماعية .

مهمة أعضاء مجلس النواب كبيرة بالتصدي للتوجهات النيوليبرالية التي تمضي نحو الخصخصة للقطاعات الحيوية (الصحة، التعليم، الإسكان، الكهرباء والماء) لكي لا يكونوا شركاء السلطة التنفيذية في إفقار المواطنين، عليهم التعلم من درس الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي، لكي لا تتكرر الأخطاء والمآسي ويتحملها المواطنون ويخسر الوطن.

اقرأ المزيد

موافق .. وممتنع .. وشر البليّة !

ها نحن فى المشهد ذاته، لازيادة ولا نقصان، مشهد قد يؤدى بنا الى ما هو أسوأ من اليأس، أو أدى بنا وانتهى الأمر، لا سيما انه يصب فى مجرى مشاهد أخرى سابقة وجدنا فيها نواباً وهم يتبارون فى تقييد اي مشروع استجواب وتقليص صلاحيات مجلس النواب فى توجيه الأسئلة، والآن جاء منع توجيه اللوم أو النقد أو الاتهام فى عملية تفضح نفسها بنفسها تجعل هذا المجلس منزوع الدسم بعد أن كان قليل الدسم!
كان من المستغرب، بل من المستهجن تلك التبريرات التى ساقها بعض النواب لتبرير إقرارهم تعديل اللائحة الداخلية لمجلس النواب، حتى أولئك النواب الذين امتنعوا عن التصويت، ومعهم الذين تغيبوا أو غيّبوا انفسهم، وجميعهم فى غنى عن التعريف لا يجب أن يعفوا أنفسهم من مسؤولية هذا الاعتداء الجديد الصارخ على ما تبقى من صلاحيات برلمانية، الامتناع عن التصويت ليس حياداً، والتغيب بعذر أو بدون عذر هروب من مواجهة الموقف وكلاهما فى حكم الموافقة، والمشاركة فى الدفع بالعمل البرلماني والتجربة البرلمانية برمتها الى قعر الهاوية، هو مشهد جديد ومرير لاينسي يعجز فيه نوعية من النواب عن إثبات جدارتهم والذهاب بنا إلى محطة القنوط واليأس.
أهم ما فى التعديل أنه وتحت ذريعة ضبط “المناقشات العامة” يمنع توجيه النقد أو اللوم أو الاتهام من قبل أي نائب لأي مسؤول، أو أي جهة حكومية، ويحدد مدة أي مناقشة تحت قية البرلمان بما لا يتجاوز 5 دقائق لا غير، وهذه خطوة من حيث الجوهر والمغزى والمعنى خطوة جديدة فى مسار عرقلة تطوّر التجربة البرلمانية، وابقاءها فى مكانها تراوح، والمؤسف حقاً أن هذه الخطوة جعلت الكثيرين من المراهنين والواعدين أنفسهم بإمكانية أن نصل إلى برلمان معتبر قادر على أن يناقش بحرية، وأن يساءل ويحاسب ويستجوب ويشرّع ويحارب الفساد ويواجه من يهدرون المال العام، ويجاهدون فى سبيل كل ما يدخل الارتياح والثقة والتفاؤل إلى نفوس أبناء البحرين الذين يعيدون النظر فى تفاؤلاتهم وتوقعاتهم، فماحدث أثبت أننا أمام حالة متداعية فى العجز والمراوحة وسباق الى الهاوية وبات اليأس يطوق الجميع من الجهات الأربع.
يكفى التمعن فى ردود الفعل فى المقدمة منها ما زخرت به الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي من تعليقات صبت معظمها فى مجرى التأكيد على أن ما يجرى هدفه “ضعضعة” و”تقزيم” العمل البرلماني والمضي بالتجربة البرلمانية الى المزيد من التراجع معنى وسلطة وشرعية وتمثيل وهيبة، مع علامات استفهام وتعجب حول حقيقة الوضع البرلماني وأفق هذا الوضع، والمصيبة أن ذلك حدث من جانب نواب بفترض أنهم يمثلون الشعب وليس غيرهم، والمصيبة الأكبر أن منهم من فعل ذلك وهو يتفنن فى التبرير كما لو انه يتكلم بصوت الحكمة، أو حكيم يستنار بضوئه والحريص على قيّم العمل الوطنى والبرلماني، والمحافظة على هذه القيم، فيما هو وآخرون ممن يعملون معاولهم فى صروح هذه القيم تهديماً.

للتذكير، التعديل الذى عرض على مجلس النواب فى 20 ابريل 2021 وافق عليه 13 نائباً، و تغيّب أو غيّب نفسه عن حضور الجلسة 6 نواب، أما الرافضين له فقد بلغ عددهم 12 نائباً ومن ضمنهم نواب كتلة تقدم (عبدالنبي سلمان، فلاح هاشم، يوسف زينل ) والحقيقة انه يشهد لهؤلاء انهم اعترضوا على المقترح بشجاعة، أما المثير للريبة حقا فهو امتناع 9 نواب عن التصويت، الأمر الذى فرض سؤالاً يبحث عن اجابة تشفى الغليل يدور حول ماهية تفسير الممتنعين عن التصويت، أحد المتابعين قال “إذا عرفنا مرامى الموافق وغير الموافق وحتى المنسحب، هل من تفسير لموقف الممتنع، وعلى أي أساس هو ممتنع، هل من حكمة وراء هذا الامتناع، أم هى مسرحية مصطنعة “؟
ربما علينا أن نتذكر بأن الجلسة وفقاً لبعض الصحف المحلية شهدت المناقشات مشادات وشدٍ وجذب وتبادل فى الاتهامات بين النواب، المؤيدين الذين اعتبروا بأن التعديل “سيضبط انفعالات بعض النواب إثناء المداخلات وسيشجع على المحافظة على أسلوب مرتب فى النقاش، وتحقيق المزيد من العصف الدهنى، أما الرافضون فقد وجدوا فى التعديل بأنه “يعود بالحياة النيابية خطوات الى الوراء، ويقلص من صلاحيات النواب، مؤكدين بأن النقد أمر صحي طالما أنه ايجابي، وأن الوزراء موظفين فى الحكومة وهم ليسوا فوق النقد الذى يمنح المجلس النيابي الحيوية المطلوبة ويدفع إلى إصلاح الأوضاع وتصحيح أوجه الخلل، وأن البرلمان مؤسسة سياسية يجب أن يقول النائب آراؤه والدفاع عن مصالح الشعب، وأن ميثاق العمل الوطنى وعد البحرينيين بتطوير التجربة البرلمانية وما يحدث لا يثبت ذلك”.
وهناك تساؤلات مهمة طرحت من نوع “اذا كان الاستجواب لم يعد ممكناً، والمناقشة العامة قلصت، وتوجيه اللوم والنقد ممنوع، فما هو اذن دور النواب ..؟” ، وسؤال آخر: “لماذا يراد منا أن نراعى مشاعر الوزراء فى حين نهمل مشاعر الشعب”، وسؤال ثالث: “مجلس النواب لم نعد نعرف جدوى استمراره هو اليوم يمثل السلطة التنفيذية اكثر مما يمثل الشعب، لماذا لا نكتفى حتى ولو من باب تقليص النفقات بالاكتفاء بمجلس الشورى” .. إنها تساؤلات فى الصميم ستظل تبحث عن اجابات واضحة، لا أجوبة مبهمة مطلقة!
نعم، ومئة نعم نتفق مع تلك التساؤلات والآراء التى تصدت للتعديل فى تلك الجلسة التى يمكن أن نخلص إلى أن مجرياتها تؤدى بنا الى خلاصة بأن الحقيقة صارت حقائق متنوعة، متصادمة هى أيضاً من فرط ما شهدناه تحت قبة البرلمان من محاولات المستعجلين من نواب على تفريغ العمل البرلماني من مضمونه بإهدار ما تبقى من صلاحيات، وكأنهم فى سباق لجعل حدود الممكن فى هذا العمل فى تراجع دائم تحت مبررات واهية لحد الاستهبال هى بالنهاية وباختصار تستصّغر عقولنا، والذين يحسنون القراءة بين السطور لا يمكن لهم تجاهل العلة والسبب، وهذا أمر قد يؤدى بنا الى نتيجة وهى أن الناخبين وبصراحة صارخة شركاء فى تحمل المسؤولية بخياراتهم التى أدت بنا من جديد إلى هكذا وضع وأداء برلماني يستحق الرثاء على واقع حاله، وعلى واقع أداء معظم نوابه!
لا ننسى أن ما جرى لا يختلف عما حدث فى فصول تشريعية سابقة حين وجدنا نواباً وهم يتنازلون فى مشاهد هزلية لا تنسى عن ارادتهم أو “استرهانها”، فى أكثر من لعبة فضحت نفسها بنفسها، هى بالنهاية لعبة التواطئ على تمرير ما يراد تمريره للانتقاص من صلاحيات يفترض أن يتمتع بها أي مجلس برلمانى حقيقي، وكأن هناك من يربد الحيلولة دون بلوغ سن الرشد البرلماني، وجعل البرلمان يعانى البليّة والعجز ..!

لا بأس أن نتمعن في التبريرات الواهية التي تستر بعضها النواب لتوضيح موقفهم من القبول بالتعديلات، فعلوا ذلك وكأنهم يكشفون المستور من حب وهيام هؤلاء النواب الغنيين عن التعريف – ولكل امرئ ما تعوّد من غايات وأهداف – والأمر أولاً وأخيراً هو افتراس لما تبقى للبرلمان من صلاحيات رغم كل “البهارات” التى تضمنتها هذه التبريرات كتلك التى ساقها بعضهم ممن وجدوا فى التعديل المزايا التالية:

– إنه تعديل عصرى يتواكب مع احتياجات الزمن !
– سيسهم فى تركيز النواب على الفكرة المطروحة والنقاط الجوهرية، ويجعل النواب بمنأى أن يكونوا ظاهرة صوتية!
– سيضبط انغعالات بعض النواب، ويحد من شغفهم المبالغ فيه للظهور أمام وسائل الاعلام لإرضاء الناخبين!
– سيوقف استفزاز الحكومة، ويوقف تجاوز النواب على الوزراء ومكانتهم السياسية !
تلك عيّنة من التبريرات الهزلية التى وردت ضمن “بازارات تبريرية” لم تقنع أحداً، ولكنها أقنعتنا أن هناك نواباً لا همّ لهم إلا التودد إلى السلطة التنفيذية والتعوّد على إغداق المديح والثناء والإشادة فى مواقف وتصريحات يطلقونها ناسين او متناسين أنهم كما هو مفترض يمثلون شعب البحرين وليسوا بمثابة موظفين لا يجيدون إلا التبرير والتأييد والإشادة بحنكة هذا المسؤول او ذاك الوزير.
نريد نواباً حقيقين، نواب مبادئ ومواقف، نواباً يهزون المقاعد من تحت الوزراء بأسئلتهم واستجواباتهم وآرائهم وأفكارهم ومواقفهم كممارسة ديمقراطية حقيقية تتبنى المناقشات الحرة، وتتقبل النقد وتعدد الأراء، لا نريد نواباً من ورق غير قادرين على الاعتراض أو المناقشة أو إبداء الرأي ويجيدون السير فى الطريق نفسه الذى سار عليه سلفهم من نواب استطابوا اعتماد سياسة النعامة، او لنقل نواباً يتولون بأنفسهم هزيمة أنفسهم، وبالنهاية هم عار على الديمقراطية.
الديمقراطية الحقة هى طريق حياة، وليس ثمة ديمقراطية هى سباق إلى العجز والمراوحة، وخيراً علينا أن نقرّ ونعترف أننا وحدنا المسؤولون عما نحن عليه من حال برلمانى بائس، ونحن وحدنا كنا المسبّبين المباشرين فى اعطاء الفرصة لمثل هؤلاء النواب ليمثلوا شعب البحرين، فهل هذا هو البرلمان الذى ناضل وضحى من أجله شعب البحرين؟

اقرأ المزيد

لا أتخلى عنهم

في المرة الأولى ربما كنت أحلم. كان لدي ثلاثة أطفال. أرضعتهم. لاطفتهم. وكانوا يلعبون حولي لأيام. ثم فجأة اختفوا. صحوت من النوم ولم أرهم. لم يكن باب البيت مفتوحا ليهربوا. ولا أظن أن لديهم أية أسباب تدفعهم للهرب، إلا ربما بعض الفضول الذي قد يكون دفعهم نحو الخارج. سأنتظر أن يعودوا. وانتظرت. لكني لم أرهم مرة أخرى أبدا.
في المرة الثانية لم أكن أحلم. أنا متأكدة. كان لدي أربعة أطفال. حممتهم أيضا ولاعبتهم، ثم صحوت فجأة ذات يوم ولم أجدهم. إلى أين يذهبون. رائحتهم في كل مكان في البيت حيث نعيش. لكنها تنتهي عند الباب. من يفتح لهم الباب ليهربوا؟ لا أظن أنه صاحب البيت. فأنا أعيش معه منذ سنين، وأعتقد بأنه يحبني. لماذا سيتخلص من أطفالي ؟.
في المرة الثالثة، حرست أطفالي طوال الليل. أمضيت أياما لا تغمض لي فيها عين. أخشى أن أنام وأصحو فلا أجدهم، كما يحدث في كل مرة. لدي أربعة أطفال هذه المرة أيضا. وأريد أن يبقوا معي. ليتهم لا يكبرون حتى !. لكن …
هذه المرة، أخذني صاحب البيت الذي أعيش فيه إلى مكان ما. أنا غالبا حبيسة المنزل وأشعر بالدوار حين أخرج منه. لكني لم أعاند حين أخذني معه ربما استطاع العثور على أطفالي السابقين وسيأخذني إليهم. بقي أطفالي الجدد في المنزل، حيث أنا متأكدة أنهم في أمان، وزوجة صاحب المنزل معهم سترعاهم في غيابي.
بدا لي الطريق طويلاً. وشيئا فشيئا لم أعد أرى أية مبان ولا أي بشر يمشون في المكان. أوقف السيارة، ونزل معي في مكان كبير. فارغ. لا يمكن أن يكون أطفالي هنا، فكرت. وبينما أتأمل المكان من حولي بفضول، أحسست به يمشي بعيدا عني. التفت، كان ذاهبا باتجاه سيارته. ربما نسي شيئا ما وعاد ليحضره. لكني سمعت صوت كلاب تنبح من بعيد فركضت نحوه بسرعة وأنا خائفة، وتمكنت من الدخول من باب سيارته المفتوح قبل أن يهم بغلقه. كان قد جلس على مقعد القيادة فوقعت في حضنه. ضحك. وغمغم بشيء لم أفهمه. ثم تحرك بالسيارة لمكان آخر. وتوقف في مكان كبير أيضا وفارغ، ونزل معي. قدم لي بعض الطعام. كنت جائعة قليلاً. لكنني خائفة أكثر، فلم أتركه يغيب عن عيني. كلما حدقت في الأكل راودتني وساوس تجعلني أرفع بصري سريعا لأبحث عنه. وصدق حدسي! . كان يخطو مبتعدا عني، رويدا رويدا، ويتخفى خلف الصخور. بدأت أدرك، ولا أصدق …. أيعقل أنه يريد التخلص مني؟ حقا! لماذا؟. كنا نتشارك المسكن طوال عمري، ولم أعرف أي حياة خارج بيته. كان كريما معي جداً، هو وزوجته وأطفاله، الكل كان يحبني. وكنت أفكر دائما بأنني محظوظة لأنهم أهلي. فكثيرا ما رأيت من مثلي يزورون بيتنا وهم بحالة يرثى لها. فنتبادل نظرات الاستغراب. وأحمد الله أنني أفضل منهم، وأن لدي عائلة.
نظرت له باستكانة. أتوسله. إن لم تكن ستعيد لي أبنائي فلا تتركني هنا. أنا لا أعرف كيف أعيش خارج البيت. وعلى الأغلب فلن ينقذني أحد. سأموت في هذه الصحراء أو ستنهشني الكلاب التي لا تزال تنبح.
لحقت به. أمسكت ببنطاله بقوة أم تريد أن تعود لأطفالها .. أيكون نصيبي من الحياة هو إما أطفال أحرم منهم أو يحرمون مني؟! . استعطفته بصوت ضعيف. لقد ربيتني صغيرة فلماذا الآن ترميني بهذا الشكل؟ هل صرت تحب أطفالي أكثر مني؟ ولم أنتظر أن يتأثر بكلامي ويقربني إليه بحنان غامر، بل فرضت نفسي عليه واستطعت الامساك بكتفه. ثم بسرعة، تمسكت جيدا بقميصه وغرزت جزءا صغيرا من أظافري الطويلة في سطح جلده، بحيث أهدده . إن حاول إفلاتي، سأغرز أكثر.
عدنا للسيارة مرة أخرى، وكان غاضباً. بدا وكأنه شخص آخر غير الذي عرفته طوال حياتي. قاد السيارة الآن بسرعة جنونية، الشباك إلى جانبه مفتوح ولسوء حظي، أنا ممسكة بكتفه القريب من الشباك. يترك المقود لبرهة كل حين كي يدفعني بيده الأخرى. يريد أن يلقي بي للخارج. تزحزحت من مكاني قليلا بعد عدة ضربات. لكنني استطعت التشبث بذراعه، ففتح باب السيارة كله !!. شعرت بتيار الهواء المار بقرب السيارة المسرعة يساعده في التخلص مني. ما زال يقود بسرعة. الهواء قوي. وقلبي يدق بقوة شديدة حتى أنه يؤلم صدري. أنظر إليه. لا يبدو عليه تأنيب الضمير. أستغيث. فيزداد وجهه قسوة. يسحبني الهواء نحو الخارج، فأعرف أني إذا خانتني قواي الآن في أي لحظة، وتراخت أظافري، فلن أقع على أقدامي كما أقع في كل مرة بل ستدهسني عجلات السيارة وأموت .. أنظر إليه .. لا ينظرإلي. يستفزني بتجاهله. وتحركني غريزتي للانتقام منه. أنا كائن أليف ووديع ولكن عند اللزوم لا تنقصني الشراسة. بل لست أبالغ لو قلت بأن في جيناتي ما يجعلني أعود لعائلة الأسود. بل أنا حقا أسد صغير. ويمكنني أن أدافع عن نفسي جيدا دون الحاجة للاستعطاف. ولكني لآخر لحظة كنت أريد للأمر أن ينتهي دون أن أؤذيه. أو ربما كنت لآخر لحظة لا أصدق أنه سيؤذيني.
في النهاية، كان لا بد أن أصدق وإلا سيفوت الأوان للتصرف. من حقي أن أدافع عن نفسي، وعن حقي في الحياة . وسأفعل .
**********
لم أواقفه يوماً على ما يفعله. حتى أنني حين عاد للبيت وعلى وجهه ويديه جراح وآثار عض، شعرت بالراحة. أنا أم مثلها وأشعر بما تشعر به.
بدأ يشتكي، وهو يضمد جراحه: المشاغبة. كاد أن يصطدم بالصخور بسببها، ويموت. تعاركت معه أثناء القيادة. عضت أنفه وكادت أن تفقأ عينه. وفي النهاية اضطر لشراء حبل وربطها به إلى إحدى الصخور.
غدا، سيتخلص من ثلاثة من أطفالها ويترك الأنثى الأجمل من بينهم لتعيش معنا، كالعادة. يربيها، ثم يزوجها لتنجب، ويبيع أبناءها كل مرة لعدد ثلاث بطون. وبعد ذلك يتخلص منها . كما تخلص من أمها قبل قليل ومن أم أمها وأم جدتها قبل سنين. هل يحق له أن يفعل ذلك؟. يقول لي دائما بأن شكل حياتهم مختلف عنا. هم لا يعيشون كأسرة. بل إن الأم منهم لا تحب العيش مع أطفالها وبعد فترة بسيطة تهجرهم. بل إنها أحيانا تأكلهم !!. وهم أيضا لا ينتظرون منها البقاء معهم طويلا بعد الفطام. لا أصدق كل كلامه. لأنني في قرارة نفسي أؤمن بأنه لا أم تترك أبناءها أبدا. قد يكون الانسان هو من ابتكر هذه الكذبة، من أجل أن يتسنى له تفريق عائلات الآخرين كما يروق له، ودون أن يشعر بتأنيب الضمير.
يقول لي أيضا بأن تلك المشاعر هي خاصة فقط بالإنسان!. ولا أصدقه . لأنني رأيت كيف اعتنت بأطفالها. كيف كانت السعادة بادية عليها وهم يطوفون حولها. وكيف جُنّت حين باع المجموعة الأولى من أطفالها، والثانية ! .. كانت تبحث عنهم في كل مكان. وتموء، مواءً يشبه البكاء. تطوف كل أرجاء البيت. ثم تتوقف لتموء في وجهي. كأنها تتوسلني لتعرف ماذا حل بأبناءها. وحين قلت له بأن المسكينة قد فقدت عقلها بعد اختفاء أبناءها، أجاب ساخرا بأنها لم تكن تملك واحدا من الأصل.
ضميري يعذبني. وأريد أن أوجه له تهمة قتل القطط والاتجار بأطفالهم. ولكن الاتجار بالحيوان .. لا يعتبر جريمة !. ليس بعد.
**********
أعرف أنني سأموت بعد قليل. فقد رماني في مكان لا يمكن فيه لأحد أن ينقذني ، وقيدني بشكل لا تكون لدي معه أي فرصة للنجاة. سأموت مقيدة، وجائعة، وحزينة. وكل ما أفكر به هو أبنائي الذين لن أراهم مرة أخرى. هل سيظنون أنني تخليت عنهم؟. ثم بدأت ألوم نفسي وفكرة غريبة تسيطر علي … لو كنت أعلم ما سيفعل بي، لكنت أكلتهم قبل أن نخرج من البيت. نعم، كنت أكلتهم. فما كان شي ليفرق بيننا لو أنني فعلت ….
آكلهم. ولا أتخلى عنهم.

اقرأ المزيد

حين عاد سعيد إلى قريته شهيداً

في تلك الليلة الموحشة بدت قرية بلاد القديم تصحوا من كابوس طويل يمضغون المرارات على وقع أخبار تناهت اليهم عن استشهاد سعيد راودتهم أسئلة معذبة سرت في الدم كالنار في الهشيم. لم يصدقوا الخبر وبدت الدهشة على وجوههم مرتبكين ومأخوذين بما سمعوه، فهرعوا مسرعين يتسقطون الأخبار من هنا وهناك علّهم يقبظون علي الحقيقة والتي تمنوا في قرارة أنفسهم أن لا تكون إلا إشاعة من الإشاعات المغرضة الشائعة آنذاك بعد حلّ المجلس الوطني وحملة الاعتقالات الواسعة في صفوف الحركة الوطنية.

على وقع ما حدث قال صديقه صالح: “مخي تهاوى وبدأت لطخات الظلمة تسرق ما تبقى من نور ولم أعد أعرف حقيقة ما حصل، بعدها أفقت وانا في حضرة الحقيقة المرة، قُتل سعيد شرّ قتله ومُثل بجسمانه”.

قال: بقي أن أقول، لا مصلحة لي فيما أرويه، إلا إنني شيء عشته وأحسسته، أو تراءى لي مجرد كابوس في حلم أو روؤيا، ولكن هي الحقيقة شاخصة أمامي، إذن لم يكن كابوسا ولكنه شيء يشبه الحقيقة، جسد مثخن بالجراح من آثار التعذيب، ممدد بين أيدينا لا نعرف من أين نبدأ في تغسيله وتجهيزه للدفن فقد تناثرت أشلاؤه كالخرقة وما عاد سوى بقايا جثة، ملامحه تلاشت،غابت ابتسامته وشُوهت وسامته. كان ذلك يوم شؤم، الثاني عشر من ديسمبر في العام 1976.

أضاف: للأسف رحل سريعاً، ونـحن في مسيس الحاجة إليه، فشاعر مثله قد أصبحت قصائده نيراناً تلسع الظالمين ونبراساً ينير طريق الكادحين ترسم لهم خط النضال من أجل غد أفضل. تدعوهم لانتزاع حقوقهم وتشكيل نقاباتهم، فمنحوه ما شاءوا من حبهم وثقتهم فكل شيء بدأ بقصيدة وانتهى بقصيدة.

قلت: ناولني ما كتبه سعيد؛ قال: إليك ما دوّنه في ديوان شعره: (إليك أيها الوطن إليك إيتها الحبيبة)، أخذت الكتاب ورحت أقرأ بشغف ولهفة. وجدت في شعره حلاوة وفي أبياته نقاوة، تعابيره دقيقة، أسلوبه معبر وجميل، لغته عميقة وفي أشعاره تتجلى إبداعات أخاذة يشعل الذاكرة بالحب والنضال من أجل الوطن الحرّ والشعب السعيد.

حاول عبثاً أن يسترجع ما تبقى من خوفه ليزيد على ما شاهده في حين بدا ذهنه شارداً ومشتتاً، لا يستقر على حال من شدة الصدمة ومن هول الفاجعة، كل شيء أصبح فيه مرتبكا وقلقا وقال: أية يد غادرة فعلت بك ما فعلت يا سعيد؟

تأكد لصالح بأن ما رآه لم يكن كابوساً، كان كالطوفان أتى على البلد ليدمر كل ما تحقق، أيام قاسية وإن فداحة ما حصل كان أكبر مما تصورها. شعر بالاختناق مصحوبا بحالة يأس وبكى بحرقة وندم.

الدنيا بعدك رخيصة يا سعيد، ارفع صوتك عاليا في وجوههم. إنهم لا يعرفون آلامك وأحلامك، إنهم لا يعرفون مقدار حبك لبلدك الذي عشقته بجنون وللشغيلة التي دافعت عنها باستماتة حدّ الاستشهاد: “مقبلً موعد المهرجان/ الذي نكتب الآن تاريخه”.

كم من مهرجان أُقيم على شرفك أيها الفارس المغوار، وهل باستطاعتنا عدّ ما كُتب وما دبج عنك من قصائد، إنك الغائب الباقي الحاضر دوماً. أغمض عينيه كي لا يهرب منه أي شيء ثم تذكر بعض التفاصيل، وقال سعيد الذي أعرفه كان يهجس لي بأشعار حزينة وكأنما يعرف ما ينتظره وألقي علّي بعض منها: “هاهو القاتل المختبئ/ قلتُ ماذا؟/ بكيت/ ولكنني صرتُ قنبلةً في المحيط/ وفجرت بعضي، فتاه الجميع/ الجواسيس جاءوا معاً/ القنابل موقوتة/ هاهو الانفجار الذي كان ارتقابا/ هنا أدخلوني السجون/ ولم أُمضِ شهراً لكي أستريح”.

قال: تذكرت أيضاً اللحظة التي قادته فيها الجماعة الملثمة إلي تلك السجون بعد أن استباحوا حرمة منزله، وقلبوا عاليه سافله ولم يتركوا له خيار توديع عائلته وأحبته، فساقوه وهو مغلول اليدين. أوسعوه ضرباً وركلاً حتى قبل أن يأخذوه إلى زنازينهم المظلمة، عندها لم أشّك لحظة وأيقنت من أنهم سيقتلوه.

كنا نـحاول أن نداوي غربتنا بعدك يا سعيد بـحنين القلب وبصباحات شعرك الذي ما عادت الا أطلال من ذاكرة حزينة مليئة بالجروح والخوف والآمال الموعودة والمؤجلة، حتى السماء الزرقاء في ذلك اليوم، يوم استشهادك تحولت إلى سواد، ثم إلى ظلام. والغضب الذي كظمناه تحوّل إلى قنبلة موقوتة كادت أن تنفجر فينا ومن حولنا، ماذا بقى بين أيدينا غير رماد الهزائم والدمار والخوف من المجهول ونجاة مما يحدث لم تعد مؤكدة.

بعد أن انسحب عنه الخوف شيئا فشيئا الذي لازمه طويلاً، شيء ما ظل يغلي في قلبه، أسئلة عصية على الحل: هل كان حلما؟ أم كابوساً؟ أم شيء آخر؟ ظلّ في حيرة لازمته سنين طوال .

أن تقتل شاعراً قلبه ممتلئا بالنور والوجد، يعني بأنك قتلت وطناً، وسلبت نفسا من الحياة وأطفأت شمعة تضئ ظلمة الكون وأمل الناس وآمالهم وأطلقت رصاصات على رجليك، فليس من الرجولة بمكان أن تقتل إنساناً أعزلاً، لا يملك سوى الكلمة وحروف يدبجها في قصيدة حبً في الوطن والمرأة والانسان، فبإمكان الجبان أن يقتل أكبر شجاع بكاتم للصوت بدمٍ بارد ومع ذلك لن يصبح شجاعاً.

ساقوك يا سعيد إلى سجونهم مقيداًً بالحديد وصليل البنادق وأصوات العسس المتداخلة التي تصلك دون أن تعرف الكثير منها سوى تهمة الانتماء لجبهة التحرير، فما كان منهم الا أن تقاسموا الأدوار على جثتك.

أنت يا شاعر الفقراء والكادحين، كنت منهكاً ومتعباً، ورغم الجراح زممت فمك ولم تتفوه بكلمة واحدة، بانت العظام من كثرة الضرب وانسلخ اللحم، ولم يتوقفوا، تحملت كل العذابات، جسدك كان هشاً، ولكنه ظلّ شامخا وبهذه الصلابة انتصرت عليهم فانهزموا كالجرذان المذعورة.

حين انبلج الصباح كان صالح قد ابتلعته أزقة القرية والناس عادوا إلى أعمالهم وفي قلب كل واحد منهم سؤال لم يجدوا له جواباً: لماذا قتلوه ومثلوا بجثته؟

أنت يا سعيد ما تبقى من صدق هذا الزمن الذي مضى، وهذا الوقت العسير الناكر للجميل، أهجسك تتلالأ نوراً، وتفيض عطراً هزّ ذاكرتهم الميتة، وقل لهم: “مقبل موعد المهرجان الذي نكتبُ الآن تاريخه”، فلأنك سرّ خوفهم قتلوك، وأرادوا إطفاء حروف النور من كتاباتك. شاعر بقامتك يقضّ مضاجعهم. أرادوا لك أن تغيب عن الذاكرة فأصبحت عكس ما يريدون وسيلة لإنقاذ الوطن والذاكرة من التلف، نحن صدرك وحنينك والبذور التي زرعتها. يا سعيد أينعت بساتين، وأشعارك أغاني وقوافيك أناشيد للحبيبة والوطن، تفتحت قصائدك ورورداً قانية في الأحياء الفقيرة وشتلات تمرد في وجه الظلم والظالمين.

فيك سحرالحياة الذي يُحول عشقُ الوطن إلى قداسة مُحملا بالأحرف والجراح، بهمجيتهم تلك أوصلوك إلى سقف الشهادة لتصبح إيقونة للتمرد على الخوف والظلم وقيثارة لأناشيد الكادحين. لن تصمت الأغاني ولن تقتلوا الأناشيد ولن يُغيب سعيد، ولم يمحه الزمن الذي ما برح حتى يومنا هذا يلوح ويومئ إبداعاً وشعراً في الوعي الوطني، فهو باقً فينا بفكره وشعره، فمدننا لن تُقتل وأشواقنا لن تُباد وأحلامنا لن تُنحر.

سارت جموع غفيرة إلي مقبرة أبو عنبرة، مقبرة كبيرة وواسعة، غصّ المكان بالمشيعين. كان يوم الاثنين يوما مؤلماً، على الوجوه علامات الحزن واللوعة والغيظ، لملموا ما تبقى من جثته وواروه الثرى.

قال صالح وهو يجر ذيل أحزانه بعد أن غاص لوهلة في جوف أفكاره: لم يمهلوه. ظلّ لديهم ساعات فقط ليسلموه إلى عائلته جثة ممزقة وبقايا إنسان لم يكد يبقي من جثته شيء يوارى تحت التراب.

انفضّ عقد العزاء … وبقيت ذاكرة سعيد لعنة دائمة تطارد القتلة والجلادين!

اقرأ المزيد

أهمية خلق الكادر النقابي

بمناسبة يوم العمال العالمي
أهمية خلق الكادر النقابي

لابد من إدراك أهمية خلق الكادر الطليعي المناضل والذي يتمتع بالوعي الحقيقي، الكادر المثقف والمدرك لما يجري من حوله من صراعات على الساحة السياسية، خصوصاً تلك المعادية، والموجهة ضد حقوق الطبقة العاملة والجماهير الكادحة، لذلك وجب على القوى الوطنية وفي مقدمتها اليسارية أن تعدّ الكوادر التي يعتمد عليها لكونها متمكنة ومبدعة، وذات صلة بما يجري من تطورات على الساحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وأثرها على الحركة العمالية والنقايية وسائر الحركة الجماهيرية.
لقد بيّن الصراع الطبقي المستمر بين الطبقة العاملة عبر عقود من الزمن ومعها سائر الشغيلة والشعوب المضطهدة ضد سياسات النظام الرأسمالي العالمي، أهمية بروز الكادر الطليعي لاستمرارية هذا النضال لخلق اساليب النضال المتجددة في كل الظروف والمستجدات لحشد جماهير العمال من أجل استمرارية هذا النضال بأنواعه المختلفة.
اكتسبت الحركة العمالية قي ظل صراعها الطبقي الكثير من الخبرة والمعرفة في اكتشاف ألاعيب رأس المال العالمي وطرق الظلم والاستغلال الذي تديره بالأساس الامبريالية العالمية عن طريق الاحتكارات متعددة الجنسيات، وهنا يأتي دور الكوادر الطليعية في معرفة احتواء الانظمة الرأسمالية للأنشطة العمالية والنقابية، ومحاولات العمل على تغييب دور النضال العمالي والنقابي، خصوصاً محاولات الوقوف بأساليب مختلفة لسلب القرار العمالي والنقابي المستقل، ومن ثم جعل النقابات العمالية والمهنية ذات الصفة الصفراء هي السائدة.
وهذا ما نراه بوضوح تام في سياسة البرجوازية العربية التي عملت دائماً على أن تهمش الحركة العمالية وتهيمن عليها بالترهيب والبطش تارة، وأخرى بالترغيب، لتجعلها ضعيفة من خلال تحجيم دور قياداتها واجبارها على أن تخضع لتوجهات المؤسسات الاحتكارية خصوصاً في ظل الاستعانة باصدار القوانين والتشريعات، ومن بينها تشريعات خطيرة تكبل وتحجم دور الحركة العمالية من أجل الانقضاض على المكتسبات المختلفة، بما في ذلك عن طريق خصخصة المشاريع الاقتصادية التي بنيت في عهد النهضة الوطنية بعد الاستقلال.
وتحصن الحركة العمالية والنقابية بخلق الكوادر والقيادات المناضلة الطليعية لا يأتي من فراغ، فلا يمكن للحركات الغارقة في وحل العنصرية والطائفية بأن تصنع مثل هذه الكوادرالقادرة على تحليل ما يجري من حولها من احداث وتطورات وتغييرات، فمثل هذه المهمة منوطة بالحركة الماركسية واليسارية بقواها وأحزابها المختلفة في عموم الوطن العربي من أجل تقوية النضال اليومي ضد صنوف الإفقار والتجويع والبطالة التي يعاني منها ملايين الكادحين، وللحركة الماركسية في العالم تاريخ من الانجازات المشهودة، فقد حققت الكثير من المكاسب في وسط الحركة العمالية والنقابية، ووفرت الأسس والمفاهيم النقابية والدراسات الكثيرة من أجل النهوض بهذه الحركة، والتي من خلالها نضمن زيادة الوعي الحقيقي، ولم يكن ذلك ممكناً لولا النجاح في خلق الكادر الطليعي.
فلنجعل من مناسبة الأول من مايو آيار عيد العمال العالمي دافعاً لإستمرارية تجديد الانشطة للحركة العمالية والنقابية.

اقرأ المزيد

منطق الخاشكيرية

يحكى أن في قديم الزمان عامل مهنته التدليك في الحمامات، حيث يجلس الزائر بين يدي المدلك لأكثر من ساعة، ولكي لا يشعر بطول الوقت يأخذ هذا الزائر بالحديث مع المدلك والذي يتسم بخبرة عالية في العديد من مجالات الحرف والفنون. وفي ذات يوم شكا أحد الزبائن للمدلك معاناته من ألم شديد في الظهر حرمه القدرة على النوم ولم ينفع معه أي دواء. قال له عامل الحمام: بالمناسبة لدي علاج بسيط جدا لألم ظهرك، خذ قليلا من الخاشكير ونقّعه في الماء ليلة كاملة وتناوله في الصباح الباكر!
شكر الزبون العامل على هذه الوصفة السريعة، وبعد قليل عاود الزبون الشكوى قائلاً: لا أدري إن كانت هذه من علامات الهرم والشيخوخة أم لا، فإن بصري ضعيف ويقول الطبيب أن عليَّ أن أرتدي نظارة وأنا لا أطيق النظارات ولا أدري ما أفعل، وخصوصاً أني أحب تلاوة القرآن. قاطعه المدلك بالقول: لدي علاج مجرّب لهذه المشكلة أيضاً، إذا عملت هذا ثلاث ليالٍ ستشفى إن شاء الله.
ولا يمرّ وقت طويل إذ بالزبون يجدد شكوى بعد أخرى، والعامل يصف له ذات العلاج. فما كان من الزبون بعد أن سئم من طريقة العامل إلا أن يغير مجرى الحديث، فقال: لقد تبدل نمط الحياة هذه الأيام، فلقد كنت أعيش حياة مرفّهة بأقل من هذه الأجور التي أتقاضاها اليوم، والآن ازدادت الرواتب والأجور، ومع ذلك فقد أصبحت أربط لحيةً بأخرى لأجل تمشية أمور المعاش دون جدوى وتراني أتهرّب ممن لهم عليَّ ديون ولا أكاد أخرج من داري!
قاطعه المدلك كعادته قائلاً: خذ قليلاً من الخاشكير ونقعه في الليل و… . هنا انتفض الزبون بوجه العامل صائحاً: ما هذا الدواء الذي يصلح لعلاج الظهر وضعف البصر وتسديد الديون؟!
في البحرين ابتلينا بفئة تفكر بهذا المنطق الخاشكيري! فئة من الصحفيين والإعلاميين والكتاب اعتادوا على اتهام غيرهم بالعمالة للخارج. فما من أحد البحرينيين يطالب بتحسين الأوضاع المعيشية أو انتقاد سياسة وزارة من الوزارات في سوء خدماتها للمواطنين، أو مطالبات من الشباب البحريني المتعلم بالحصول على وظيفة وعدم تفضيل الأجنبي عليه، أو مناشدات الحقوقيين بمراعاة من هم في مراكز التأهيل والإصلاح من ڤايروس كورونا… مباشرة يتحرك الخاشكيريون ويرجعون سبب كل ذلك إلى أجندات خارجية وعمالة بحرينيين لها.
الوصفة جاهزة فهي تصلح للرد على كل من يخالف آراءهم وتوجهاتهم التي تتصف في حقيقتها بالحقد والأنانية، وهم في الواقع لا يحققون ذواتهم وأهدافهم إلا من خلال الأجواء المسمومة بالكراهية والطائفية.
من المؤسف أن أمثال هؤلاء الكتاب والصحفيين يتم إعطاؤهم مساحة واسعة في أشكال الإعلام المختلفة يسرحون ويمرحون في الإساءة إلى المواطنين أفراداً وجماعات ومؤسسات، من دون أي رقابة ومحاسبة لما ينفثونه من سموم ضد طبيعة المجتمع البحريني المتسامحة والمسالمة. ولا يخفى على أحد اعتماد هذه الفئة في خطابها على الطائفية ومفرداتها التي تدعو في الظاهر إلى الترابط المجتمعي والوحدة الوطنية، ولكن في حقيقتها تدعو إلى الإساءة إلى مكون أساسي في المجتمع البحريني، وإلى الصورة الزاهية للشعب البحريني من المحبة والسلام التي عُرف بها عبر التاريخ القديم والحديث.
إن البحرين في حاجة إلى ما هو نقيض لخطاب الخاشكيريون، إلى خطاب العقلانية والمرونة في إيجاد حلول للمشكلات السياسية والاقتصادية التي تؤدي حتماً إلى تقريب المسافات وتجسير الفجوات وتحقيق المنجزات.

اقرأ المزيد

جعفر حسن فنان المحبة بين البشر

انه الفنان الوطني النبيل، صاحب القلب العالمي، الذي لم تغيّره الأزمنة، ولا الأمكنة، ولا الأحداث. بقي ثابت القيم الوطنية والانسانية، غرس صوته فينا التحدي منذ الصغر وألهب حماسنا للوطن والتضحيات: وكأنني أسمعه الآن ينشد:
لا تسألني عن عنواني/ لي كلّ العالم عنوان/ لا تسألني أبداً أبداً/ أنا بيتي في كل مكان..
الله ياجعفر حسن لصوتك الجهوري الصافي الذي يجعل الجميع تلهج بعنفوان الحب الوطني .الله يا تلك الابتسامة الدائمة والسامية ابدا..
لم ترخّص نفسك يوما ولم تذلها أمام اعداء المحبة وعاشقي الحروب والسلطة. بقيت شامخا بنبل روحك العراقية الأصيلة
غنيت للناس في كل العالم، للشعوب المضطهدة، للفقراء، للأطفال، للمضطهدين، للعمال، للفلاحين، للمناضلين في السجون، للمرأة المقموعة، لأصحاب الفكر، للثوار جميعا، غنيت لفلسطين وأهلها وثوارها، ولبنان ومحنته في حروبه، وأمريكا اللاتينية وفقرها وتهميش ابناءها، غنيت لليمن الديمقراطي الذي احببته وأحبك كثيرا، اليمن الديمقراطي الذي كان سعيدا بنجاح تلك التجربة الرائعة التي تم التآمر عليها وانهائها، غنيت لكل الشعوب المتألمة شرقا وغربا، شمالا وجنوبا من هذه الأرض، وكم غنيت للعراق، وأعطيته الكثير، وكم بكيت وأبكيت الناس على مظلومية شعبه بكل مكوناته زمن الطاغية، وسجنائه ومضطهديه ودماره زمن الحروب..
دائما كنت أراك امتداداً للفنان الأصيل أحمد الخليل الذي غنى للوحدة الوطنية والأخوة بين العرب والكرد، ولن أنسى قبل أعوام كنا في مؤتمر للدفاع عن الأقليات بالعراق الذي عقد بمدينة أربيل، حين أشعلت بصوتك القاعة محبة وبهجة بأغنية هربجي كرد وعرب رمز النضال، أغنية الفنان أحمد الخليل الذي تشبهه بوطنيته ونزاهة روحه وحبه للعراق وتشبهه حتى بشكله.
الله يا تلك اللحظات حيث أحييت أمامنا زمناً جميلاً مضى من تاريخ العراق، يوم كانت المحبة ترفرف على أبنائه بعيدا عن الانتماءات والتكتلات العنصرية،حيث المحبة بين أبناء الوطن كانت هي الطبيعية، وكان العداء أو التفرقة استثناء مرفوضا ومنبوذا..
الله ياذاك الزمن الذي كنت نجمه ، حيث كان صوتك يهز قاعات الثوار، والطامحين بحياة أفضل، والعاشقين للسلام والحرية، والمعاندين للظلم في العالم..
حزننا عليك كبير أيها الراحل بأناقة وسرعة وهدوء، وكم كنت أنيقا مثل رحيلك، نظيفا في علاقاتك وشخصك وملتزما في اختيارك لكلماتك وتعاملك مع الناس. مهذبا وراقيا ونجما لامعا في كل تعاملاتك، وهكذا هي النجوم التي تبقى شامخة وتعطي النور للجميع.
لقد أعطيت الزمن الجميل حقه بكل شئ.
خسارتك لاتعوض أيها الراحل الكبير جعفر حسن ، وهل يمكن تعويض شريان نابض قُطع من قلب الوطن ؟
لروحك السلام أيها الانسان الكبير بقامته والفنان السامق سيرا نحو الشمس.
ستبقى معنا في كل ما أعطيت من فنٍ، ونبلٍ، وحسن سيرة وفكر.
ألف حمامة حزينة تهدل لرحيلك صارخة باسمك رافعة علم المحبة بين البشر كما فعلت أنت.
وداعا أيها المبدع الطيب ولتخلد روحك بسلام أبداً…

اقرأ المزيد

وضعت خطاً فاصلاً بين عصرين، ماذا ينتظرنا بعد الجائحة؟

ترتفع بعض الأصوات مؤخرا لتلقي اللوم الأكبر على الحكومات التي حُذِّرت من طرف جهات علمية منذ 2009 من خطر الفيروسات القادمة، ولا من مجيب. تعود بعض تلك ألأصوات إلى بداية ظهور فيروس أنفلونزا الطيور، ومنها ما نبه إليه الكاتب الإقتصادي والإجتماعي الفرنسي جاك أتالي الذي كان مستشارا للرئيس فرانسوا ميتران، والذي شغل مناصب أخرى في غاية الأهمية. لكن قدرته على قراءة المستقبل من خلال معطيات الماضي والحاضر مذهلة، ولولا تعاطيه السياسة وتواجده في دائرة المسيرين في المواقع الحساسة لما انتبه الإعلام لآرائه ربما، فقد كانت آراء أهل الفكر موجهة دوما لفئة قليلة من الجمهور المتابع للأخبار العالمية.
لم يتصدّر الخبر العلمي المحطّات الإخبارية إلاّ حين حطّ فيروس كورونا علينا وبسط نفوذه على كامل الكرة الأرضية. حتى أن محطات غير إخبارية دأبت على بث أخبار الحجر وأرقام المصابين والموتى على مدار الساعة لعدة أسابيع، وحين طال مقام الفيروس بيننا وملّ الناس من الحجر وتبعاته عادت شيئا فشيئا لبرامجها المعتادة.
في أوائل أيام الجائحة نبّه جاك أتالي إلى أهمية “المعلومة”، لأنها تشكل رمزا للحياة، وحذّر من الشائعات لأنها تتصرّف مثل الفيروس تماما، فهي تقوم بتدمير الدفاعات المناعية لضحيتها. ومع هذا لعبت الشائعة دورا مهما لنشر الفيروس بشكل جنوني، فقد أحبّ الناس دوما إبتكار ما يسليهم، دون وعي لخطورة ما يفعلون، أطلق البعض شائعة أن الفيروس لا وجود له، رفضت نسبة كبيرة من البشر على هذه البسيطة إرتداء الكمامة لفترة طويلة، ورفض مثلها الرضوخ للحجر، حتى أن بعضهم خرج في مظاهرات سياسية لا علاقة لها بالواقع الصحي، وادعت فئة لا بأس بها من هؤلاء أن “الكورونا اختراع أنظمة دكتاتورية، تريد تخويف شعوبها لمنعهم من التظاهر”
ورغم لجوء مثقفين كبار إلى تنبيه الشعوب لخطورة خصمهم على نسق المقولة الشهيرة :”يمكن رؤية الأسد ولكن يستحيل رؤية فيروس” إلا أن كُتّاب ذوي شهرة ومكانة أدبية وإعلامية سلكوا الطريق المعاكس لهذا الرّأي، وطبعا لا أدري ما شعورهم اليوم وقد شاركوا بقسط مهم في ارتفاع عدد المصابين والموتى بهذا الفيروس.
هاوي الأدب الإنجليزي روبن كوك، الذي استلم وزارة الخارجية واستقال من حكومة توني بلير بسبب معارضته لحرب العراق، والشهير بمواقفه الإيجابية تجاه القضايا العربية، قال في كلمة سبقت عصر الكورونا الذي لم يشهده :” الفيروس هو آخر مفترس للبشر” .
طبعا بإمكان هواة الإشاعات أن يجدوا في هذا الكلام ما يغذي مخيلتهم فينسبون لكوك في قبره مسألة اطلاعه على المخطط الفيروسي التدميري الذي حضّر له أحدهم لتدمير البشرية…! كل شيء وارد في غياب تعاون حقيقي بين العقلاء وحكام هذا العالم.
لقد أُطلقت تحذيرات عن احتمال ظهور جائحة فيروسية منذ ظهور H1N1 ولم تكن تحذيرات واهمة أو مجرّد توقعات مبالغ فيها، ولكنها قائمة على معطيات علمية حسب تحورات السلالة الفيروسية ومدى سرعة انتشارها كلما وجدت بيئة حاضنة، لكنّها لم تجد آذانا صاغية، أو ربما تعمّدت الجهات المسؤولة إهمال الأمر لأن أي تحضير لمواجهة جائحة محتملة يعني صرف الكثير من القروش.
في نصوص روائية وقصصية وأفلام سينمائية عديدة استغل بعض المخرجين الخبر العلمي الذي لا يتصدّر الواجهة – لأن الصحف تعطيه مساحة على الهامش بحيث تقلل من أهميته، تفاديا لإثارة الهلع بين السكان- فصنعوا أفلامهم في صمت، مثل فيلم 93 يوما –موجود على نتفليكس – الذي أخرجه ستيف جوكاس العام 2016 عن فيروس إيبولا مأخوذا عن قصة حقيقية.
التفاصيل المختصرة عن حقيقة فيروس إيبولا والتي تقدم لنا عبر مواقع لا حصر لها، لا تنقل كمية الرعب التي يحملها الفيروس اللامرئي لتدمير الأجساد البشرية التي يلامسها، ولهذا ظلّ الفيروس خارج محصلتنا المعرفية، كما كل الفيروسات التي لم تدخل البرامج التعليمية لتلاميذ المدارس، ومدارس تعليم الطبخ، والمؤسسات الغذائية بصرامة كالتي نعيشها اليوم. من الإهمال المبالغ فيه إلى نظام شدّ الأحزمة، بلغنا اليوم مرحلة وضعت خطا فاصلا بين عصر ما قبل الكورونا وما بعده.
بالنسبة للمشاهد الذي تابع فيلم 93 يوم، سيتوقف حتما عند معلومة مؤسفة وهي أن الطبيب عاجز عن التصرف بدرايته وحكمته أمام تعنت مرضى “السلطة والثروة” الذين يتسببون في الغالب في تفجير كوارث من هذا النوع.
يروي الفيلم قصة تشبه ما نعيشه هذه الأيام، ويقدّم لنا بشاعة النهايات المأساوية للمصابين بفيروس إيبولا، كما يمرر رسائل سياسية مهمة وإن كان بإيقاع بطيء، واضعا التضحية الطبية في مقدمتها. لكن السؤال الخطير الذي يُطرح بعد متابعة تلك التجربة الناجحة لتطويق الفيروس في بلد غير مجهز لمواجهته، هو ما الذي تغيّر في نيجيريا بعد إيبولا؟ لأن ما شهدته كان فعلا “بروفا” أمام جائحة كورونا التي لم تعرف تطويقها بنفس الطريقة. القوة الإقتصادية الأولى في أفريقيا لم تعرف تجهيز البلاد لمواجهة أمراض مماثلة خاصة أنها لا تخلو من أطباء متمكنين كرروا تحذيراتهم من أمراض فيروسية قادمة قبل عشرين سنة من ضرب إيبولا للغرب الأفريقي.
بعد عام من الجائحة لا يزال العالم في قلبها، لا تقدّم حتى في انتاج ما يكفي من اللقاحات وتوزيعها بالشكل الصحيح بين سكان الأرض. ويبدو أن الإنسان بطبيعته البشرية الهشة يختبئ حين يشعر بالخطر، وحين لا ترصد مشاعره ذلك الخطر لأسباب عديدة لا يتردد في رمي نفسه إلى التهلكة مجدّدا.
من منظور تاريخي محض وضح أحد مؤرخي طب العصور الوسطى بجامعة باريس 8 أن الأوبئة نادرا ما تغيّر مسار التاريخ ولكنّها تسرّعه. على نسق ما يحدث عندنا اليوم، عادت مخابر طبية كثيرة للعمل بعد أن كانت معطّلة بعد تمويلها من جديد، وأطلق سراح أدوية تمّ تعطيل تسويقها للسبب نفسه.
كما أُكتشفت إمكانية العمل عن بعد، وقد وفّرت ملايين الدولارات لبعض القطاعات والتي كانت تصرف من أجل الإيجارات وفواتير أخرى. وعاد العقل إلى الواجهة العالمية في صورة المنقذ الحقيقي للبشرية، ليس فقط لعلاج الأزمة الصحية بتجنيد الأطباء ومساعديهم وعمال المستشفيات بل لفهم الجائحة في حدّ ذاتها بالإستنجاد بالفلاسفة والمؤلفين وعلماء الإجتماع لفتح أبواب المعرفة من جديد عبر سجالات إعلامية طويلة، ما جعل نسبة الوعي العام ترتفع ولو بنسب متفاوتة بين المجتمعات.
يبقى الغائب الأهم في خلال هذا التدريب العصيب لمواجهة كورونا، أو أي فيروس على شاكلته هو حماية المشاعر من التفتت، فالحرب معه تفرض علينا العزلة والإبتعاد عن الآخر عكس كل الحروب التي تتطلب التجمعات والتكاتف والتّراصّ لمواجهة أي عدو كان.
التعليم عن بعد لتلاميذ المدارس فشل فشلا ذريعا، لقلّة التفاعل مع الأساتذة، وغياب الإحتكاك معهم مباشرة ما أدى إلى فقد السيطرة على تركيز التلميذ وتوجيهه، كما فقد روح التعامل مع الآخر، وفي هذا الأمر ما يجعلنا نفكّر كيف ستكون الأجيال القادمة إذا ما طال زمن الجائحة لعدة سنوات؟
ماذا ينتظرنا إذن بعد الجائحة؟ الإجابات الصادمة تقول أن مستقبل الشركات أقلّ عولمة وتكلفة، وأكثر رقمنة، قد تتراجع قطاعات صناعية كثيرة، أمام تقلّص حركة الإنسان فحتما سيشهد العالم تقلصا في صناعة وسائل النقل، أو أنها ستحتاج لتصميمات آمنة مختلفة. غير ذلك أعتقد أن القيود البيئية ستفرض نفسها، عصر الإستهتار بالبيئة سينتهي وإلاّ فإننا سنبقى في الدوّامة نفسها. فقد أثبتت نتائج أبحاث كثيرة أن الفيروسات تتطور وتزداد شراسة كلما ازداد النشاط البشري في هتك البيئة.
يتوقع البعض أن هندسة البيوت ستتغير، إذ فيما تأخذ مكاتب العمل في الإختفاء، تصبح بالمقابل غرفة العمل ضرورية في كل بيت، كغرفة إضافية ضرورية وإن لم تتوفر يجب إلغاء غرفة مثل الصالون أو غرفة الضيوف حتى تستعمل للعمل. البنايات العملاقة، والتجمعات المكتظة لن تصبح مرغوبة فقد اكتشف الناس متعة العيش بسلام في القرى وبيوتها المتابعدة منذ طبقت قوانين الحجر الصارمة عليهم.
إن التغيُّرات قادمة، وإن كان البعض مصرٌّ للعودته لعاداته السيئة، فإن البعض الآخر بدأ يمضي قدما في نمطه الحياتي الجديد، بعيدا عن كل الملوثات التي عاش فيها سابقا.

اقرأ المزيد

الجمعيات السياسية في البحرين تدين وتستنكر اجراءات الاحتلال القمعية في القدس المحتلة

أدانت الجمعيات السياسية في البحرين الاجراءات القمعية والوحشية التي تقوم بها قوات الاحتلال الصهيوني ضد أبناء الشعب الفلسطيني ومقدساته في مدينة القدس الشريف المحتلة.

إن هذه الاجراءات التي تأتي وسط صمت عربي ودولي مرفوض ومدان تهدف إلى فرض المزيد من اجراءات التهويد في المدينة المقدسة من خلال التشديد على دخول المصلين من محافظات فلسطين للصلاة في المسجد الأقصى بهدف عزل المدينة عن باقي مدن الوطن، مع قيام قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين الصهاينة بالاعتداء على المصلين في المسجد الاقصى المبارك مما أدى إلى إصابة المئات بجروح مختلفة جراء استخدام قوات الاحتلال الهروات والقنابل المسيلة، كما سمحت لهؤلاء المستوطنين المسلحين، وبحماية من الجيش والشرطة، باستباحة باحات المسجد الأقصى المبارك بشكل يومي والاعتداء على المصلين.

إن الجمعيات السياسية إذ تحي نضال وتضحيات أبناء الشعب الفلسطيني في القدس الشريف وكل مدن وحواضر فلسطين المحتلة وصمودها وتصديها للعدو الصهيوني، تعتبر أن ما يقوم به العدو ليس مستغرباً عن طبيعته العنصرية لكون هذا الكيان المحتل هو دولة “ابارتهايد”. وإنما المستغرب هو الصمت الذي يخيم على موقف النظام الرسمي العربي بكل أطرافه، والذي ذهب بعضه إلى التطبيع مع العدو بكافة أشكاله مما أعطى الضوء الأخضر لقوات الاحتلال للتغول في ممارسات القمع والتهويد ضد أبناء الشعب الفلسطيني.

إن الجمعيات السياسية إذ تطالب المجتمع الدولي بالوقوف بحزم عند مسؤولياته تجاه ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من اعتداءات وانتهاكات يومية من قبل الاحتلال ومستوطنيه وخاصة مدينة القدس المحتلة وذلك بتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني ومقدساته، فإنها تدعو الشعب البحريني بكل أطيافه لتصعيد تضامنه مع الشعب الفلسطيني من خلال رفض كافة أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني. كما ندعو الدولة إلى اتخاذ المواقف المدافعة عن القدس والمسجد الأقصى والقيام بما يمليه عليها واجب الانتماء لأمتها العربية والإسلامية وندعوها إلى الغاء كافة أشكال التطبيع الرسمي مع الكيان الصهيوني الغاصب.

الجمعيات السياسية الموقعة على البيان:
التجمع القومى الديمقراطي
المنبر التقدمي
المنبر الوطني الإسلامي
تجمع الوحدة الوطنية
التجمع الوطني الديمقراطي الوحدوي
الصف الإسلامي
التجمع الوطني الدستوري
الوسط العربي الإسلامي

24 أبريل 2021

اقرأ المزيد

الجمعيات السياسية تستنكر خطوة مجلس النواب تقليص صلاحياته تراجعات النواب تهمش التجربة البرلمانية وتحول دون الارتقاء بها إلى مستوى طموحات الشعب

استنكرت الجمعيات السياسية الموقعة على هذا البيان ما وصفتها بالخطوة الجديدة التي استهدفت
تقليص صلاحية النواب بذريعة ضبط المناقشات العامة في جلسات مجلس النواب، والتي بموجبها تم “منع توجيه النقد أو اللوم أو الاتهام، وأي أقوال تتضمن ما يخالف الدستور والقانون أو تشكل مساساً بكرامة الأشخاص أو الهيئات أو إضراراً بالمصلحة العليا للبلاد، وتحديد 10 نواب كحد أقصى للمشاركة في المناقشة العامة مع تحديد 5 دقائق للنائب الواحد”.

إن هذه الخطوة الجديدة التي تستهدف القضاء على ما تبقى من صلاحيات للمجلس النيابي بطريقة تحول دون العمل البرلماني الذي يلبي طموحات شعب البحرين، وإن هذه المحاولات مستمرة للإبقاء على هذا العمل في حال من المراوحة وجعل البرلمان فاقداً للصلاحيات التي لابد أن يتمتع بها أي مجلس برلماني خاصة فيما يخص دوره في الرقابة والمساءلة والنقد، ومما يثير الدهشة أن ذلك يتم على أيدي مجموعة من النواب ومنهم الذين وافقوا أو امتنعوا عن التصويت على المرسوم بقانون رقم (26) لسنة 2020 بتعديل المادة (173) من اللائحة الداخلية للمجلس على النحو المذكور، وقد تم تمرير التعديل بطريقة تفضح هزالة أداء المجلس وتخبط مواقفه إزاء مسألة النهوض بواقع التجربة البرلمانية وكذلك القضايا المصيرية التي تواجه معيشة المواطن وتعاني منها البلاد.

إن لجوء النواب إلى التجني على الصلاحيات التشريعية المتبقية من خلال تمرير ذلك التعديل، ليس هو الأول فقد قام نواب آخرون في فصول تشريعية سابقة بتقليص صلاحياتهم حين قيّدوا أداة الاستجواب وجعلوها عويصة بل شبه مستحيلة وذلك في عام 2014، وحين حددوا في عام 2020 عدد الأسئلة البرلمانية التي تعد أحد الأدوات الرقابية التي يحق للنواب توجيهها بسؤالين في الشهر وبما لا يزيد عن 12 سؤالاً بدور الانعقاد، ويبدو أن خطوة منع النقد أو اللوم أو الاتهام لن تكون الأخيرة في ظل سيطرة الحكومة على أغلبية أعضاء مجلس النواب الذين يتنازلون طواعاً عن صلاحياتهم بدلاً من حرصهم على تكريس وتطوير التقاليد الديمقراطية التي وعد بها ميثاق العمل الوطني لكي يُرتقى بأداء البرلمان إلى مستوى الطموحات الشعبية .

وفي حين يتلمس النواب لمس اليد عجزهم عن الحفاظ على المكتسبات المعيشية والاجتماعية والوطنية والدفاع عنها وعن حقوق المتقاعدين، ومحاربة الفساد وتوفير فرص العمل للعاطلين من أبناء البحرين، بسبب الضعف في الأداء وفي تركيبة المجلس، فإنهم يفرطون بالحد الأدنى من الأدوات المتاحة بأيديهم لأسباب تبدو مبهمة وشخصية ليس لها علاقة بخدمة تطور مسيرة المجلس النيابي وتفعيل دوره الرقابة، ولا بحماية مصالح المواطنين.

إن الجمعيات السياسية الموقعة على هذا البيان والتي تستشعر بصورة بالغة الحاجة الملحة والضرورية للارتقاء بأداء البرلمان وتوسيع صلاحياته التشريعية والرقابية لكي يواكب تطلعات المواطنين ورفع مستوى حياتهم المعيشية وحمايتهم من تغّول السياسات النيوليبرالية التي طالت أرزاقهم ومعيشتهم خاصة عبر تآكل أشكال الدعم الاجتماعي وفي محاربة تجارتهم، والتضييق على فرص العمل المتاحة أمامهم، وفتح أبواب المنافسة غير الشريفة والعادلة بذريعة حرية السوق وجذب المستثمرين، فإن هذه الجمعيات تستهجن اللامسؤولية التي يبديها غالبية النواب في ممارسة مهامهم وتخليهم طواعية عنها، فاسحين المجال أمام تراجع الحياة البرلمانية وتراخيها وتهميش دورها في حماية الوطن والمواطنين.

الجمعيات السياسية الموقعة على البيان:
التجمع القومي الديمقراطي​​
المنبر التقدمي​​​
المنبر الوطني الإسلامي
الصف الإسلامي
​​​تجمع الوحدة الوطنية​​
الوسط العربي الإسلامي
التجمع الوطني الدستوري

23 أبريل 2021

اقرأ المزيد