المنشور

قراءة نقدية في كتاب (الجائحة) لسلافوي جيجك – 1

إبان اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانت طلقة المدفعية مدّوية جداً لدرجة أنها كانت تكفي لإحداث الردة عند كبار الماركسيين.

الذعر كان كافياً ليجعل كباراً مثل كاوتسكي يرددون: “لا نريد سوى السلام! أولوياتنا التعايش السلمي ما بين الأمم (الإمبريالية)، ولتأتي الاشتراكية بعد ذلك!“. حينها لينين قال (اقتبسه هنا): “لا يعطينا كاوتسكي سوى وعود لأن يكون ماركسياً في حقب آتية، أما اليوم – في هذه اللحظة الحالية – فإنه يمتنع عن يكون ماركسياً. غداً: ماركسية مؤجلة، ماركسية مجمدة، ماركسية تحت الرهن. اليوم: نظرية انتهازية بورجوازية صغيرة؛ نظرية تهدف لتلطيف التناقضات.” (انتهى الاقتباس)

على الرغم من أن الكثير يفصلنا عن الحرب العالمية الأولى، إلا أن الذعر يبقى ذعراً. إن كتاب جيجك الذي أعرضه هنا، والمكوّن من 200 صفحة تقريباً، يمثل – برأيي – أحد أشكال هذا الذعر. لكن أرجوكم لا تظنوا بأنني بصدد علاج ذعره، كما لو كنت اخصائياً نفسياً، بل بتشخيصه كما هو عليه: ماركسية مؤجلة، ومجمدة، وتحت الرهن. إن ”الجائحة!“ (مع علامة التعجب) كانت كافية لتنفض ما تبقى من يسارية الكثير من المفكرين اليساريين، ومنهم سلافوي جيجك. إن أطروحة هذا الفيلسوف الأساسية هي: على الدولة أن تعظم من سيطرتها آلية السوق، ايّ تخضع السوق للمتطلبات الاجتماعية الأساسية. هذه العملية، حسبه، هي هي الشيوعية؛ بالتالي، وهنا نصل إلى لب أطروحته، تظهر اليوم ملامح الشيوعية في الدولة الرأسمالية، والفكرة هي تعزيز هذه المظاهر.

ومع أن هذه الأطروحة تبدو بسيطة، إلا إنها معقدة بتعقد أشكالها الآيديولوجية؛ لذا سيكون عليّ أن اعالجها – وإن بحدود – بشكل مضاعف في تحديد، أو إن شئت بشكل ديالكتيكي، عبر التقدّم بفرضيات نسقية (والتي تحتوي بدورها على أطروحات وحقائق) تبدأ من المحدد الاقتصادي إلى السياسي، وفي ارتباط هذا بذاك.

الفرضية الأولى: من بعد الجائحة، يتوجه النظام الرأسمالي العالمي نحو تقوية العوامل المناهضة للميل نحو هبوط معدل الربح؛ عبر قيادة طفرة في معدل التراكم.

إن التوجه العالمي لمعدل الربح قبل الأزمة التي أحدثتها الجائحة كان يتسم بنوع من ارتفاع تدريجي وبطيء، يشهد ازدهاراً مؤقتاً هنا وهناك، ولكنه بشكل عام محافظ على وتيرته. سأقول بشكل مقتضب جداً بإن التفسير الاقتصادوي الميكانيكي لهبوط معدل الربح يفترض بأن هناك حركة خطية لهبوط وارتفاع معدل الربح وبأنه من الممكن موازاة هذه الحركة الخطية بشكل مباشر بالحركة الدائرية الصناعية؛ لكنها، أعني الفكرة هذه، مغلوطة إذ إنها تنسى أهم محددات هذا القانون: وهو كونه قانوناً ميلياً. الميلية هنا، كما فسرها ماركس في المجلد الثالث، تعني بأن العوامل المناهضة والمساعدة لهبوط معدل الربح ليست خارجة عن بعضها الآخر، بل إنها دائماً متعايشة لأن جميعها آتٍ من مثل المصدر: علاقة القيمة الزائدة بسعر- التكلفة. ولما كانت الميلية تأتي بهذا المعنى وحده، فإنه لن يكون صعباً علينا ملاحظة بأن هذا الميل يعمل كالتالي: كلما كانت العوامل المناهضة أقوى كلما ارتفع معدل الربح، وكلما كانت العوامل المساعدة أقوى كلما انخفض معدل الربح.

إن ما شهده العالم في 2008 يفصح عن الحالة الأخيرة، ولكن العالم ما بعد 2008 لم يشهد حضوراً قوياً للعوامل المناهضة؛ فلن أكون على خطأ إن قلت بإن العالم لم يشهد ازدهاراً قوياً في العقد الماضي، وتلى ذلك طبعاً الجائحة التي وضعت النظام الرأسمالي مرة أخرى في أزمة عالمية. بشكل مفارق هذه الأزمة قد تعطي النظام الرأسمالي العالمي دفعة لتقوية العوامل المناهضة، وفرضيتي هي بأن بعض المفكرين اليساريين، ومنهم جيجك، رغم أنهم يجدون بأن بعض دعواتهم دعوات يسارية (أو اسوأ: اشتراكية) محضة، إلا إنهم يسلكون المسلك الجديد للرأسمالية العالمية.

دعوني اضرب مثالاً بسيطاً على ذلك، أرى بأن أزمة الجائحة قد تعطي دافعاً للنظام الرأسمالي في خفض -القيمة، والذي يترافق دائماً مع عملية فك-القيمة، وأحد مفاتيح ذلك هو التوجه نحو الطاقة المتجددة. سيعتقد بعضكم، بلا شك، بأن الرأسماليين اعتادوا على الوعود الكاذبة، ولا يمكن إطلاقاً أن يتجه الإنتاج الرأسمالي إلى الطاقة المتجددة؛ ظنكم صحيح بالمعنى الأخلاقي، لكنني أقيس هذه الحقيقة وفقاً لضرورة خفض- القيمة التي يأتمر بها رأس المال.

أدعوكم أن تمعنوا في عمليات أكبر الشركات الاحتكارية النفطية في العالم. أنظروا إلى الذعر الذي اجتاح هذه الشركات. مثلاً مؤخراً في مؤتمر صحفي قال المدير التنفيذي لشركة إي إن آي (Eni) الإيطالية بأنه من بعد أزمة الجائحة لا رجعة إلى العالم السابق، وبالتالي – مؤكداً على ما قاله بين كيفية إنتقال نحو الحفاظ على الطاقة في بعض لحظات الإنتاج، وبالأخص اللحظات التوزيعية والتسويقية.

إن الإتجاه نحو إنتاج الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، موجود عند أكبر الشركات النفطية العالمية مثل: داتش شل، واكسون موبيل، وشيفرون. هذا لا يعني بأن مثل هذه الشركات ستتخلى عن الهايدروكاربونات، ولكنها الآن تتجه نحو فك القيمة من سعر التكلفة. لا تستغربوا إن وجدتم بأن الرأسماليين أنفسهم الآن سيدعوننا إلى الحفاظ على البيئة، إذ أن استقطاع القيمة من رأس المال الثابت هو نداء العصر (النمذجة عبر تقنيات ثلاثية الأبعاد، تقليص معدل الهدر”تسريبات الميثان“، فصل العناصر وإعادة تدوير المياه). وبالفعل، فإن التكاليف التي تفرضها الكوارث البيئية سنوياً على الحكومات هائلة جداً (تدمير الأبنية التحتية مثلاً: الحرائق، الأعاصير، إلخ).

من الناحية الأخرى: صعود ما يسمى بالاقتصاد التشاركي، وتعاظم دور الدرونات، والتعليم عن بعد، والاجتماعات الكبرى للشركات الكبرى والحكومات عن بعد (برامج مثل زوم)، وتعاظم دور الروبوتات في قطاع الصحة والتوصيل، والتكرير البايولوجي، واندماج الانترنت بالعملية -الإنتاجية، إلخ..، كل أحلام الثورة الصناعية الرابعة الموعودة!

إن هذه العوامل وغيرها لا تلعب دوراً هاماً في خفض لقيمة وحسب، ايّ في الخفض من قيمة سعر التكلفة، بل في تقليص وقت دوران رأس المال، والكثير من هذه العوامل مرتبط بكلا من وقت-الإنتاج ووقت-التدوير في مثل الوقت؛ خذوا قطاع المواصلات مثلاً: إن وجود نظام القيادة الذاتية الدقيقة (أو الدرونات) سيقلص من نسبة الخطأ، وبالتالي يقلص معدل الحوادث العرضية بالنسبة للإنتاج والتكاليف المتطلبة لتغطية هذه الحوادث، وهذا بدوره يقلص من وقت-تدوير السلع ووقت-إنتاجها: إنتقالها من مخزن إلى آخر، من نقطة إنتاجية إلى اخرى، إلخ. مثال آخر: التكرير البايولوجي قد يساعد على تقليص معدل إعادة إنتاج ما هدر في عملية الإنتاج، وفي نفس الوقت قد يقلص من معدل تكلفة صيانة المباني والمحروقات بالنسبة إلى رأس المال.

إن الطريقة التي يتناول فيها الرأسماليون المشاكل البيئية تختلف من حيث الجوهر عن الطريقة التي تتبعها الطبقة العاملة؛ الأولى تهدف إلى خفض القيمة، الأخرى تهدف إلى بقاء الجنس البشري. إن الرأسمالية ستتجه إلى الطاقة المتجددة في الحدود التي تلعبها الأخيرة في خفض القيمة ليس إلا، ولكن الرأسمالية العالمية (ايّ الرأسمالية الإمبريالية والكولونيالية معاً) غير قادرة على حل المشاكل البيئية بحكم التفاوت في التطور ما بين الأبنية الامبريالية والكولونيالية: تقسيم العمل العالمي، التفاوت في التقدم التكنولوجي، إلخ.

حقيقة أنه من الممكن لمعدل التراكم أن يجري بوتيرة أسرع تعني في ذات الوقت (ومن هنا نستطيع أن نفرق بنيوياً ما بين معدل التراكم الامبريالي والكولونيالي) بأنه كي يناهض رأس المال الإمبريالي ميله نحو هبوط معدل الربح سيشجع بشكل متعاظم على استحصال أكبر للريع الامبريالي، وعلى العكس من سمير أمين أفرق ما بين الريع الإمبريالي والريع الاحتكاري الإمبريالي، مما يشجع بدوره البلدان الكولونيالية على تعظيم الإنتاج الكولونيالي من جهة وتوفير الملاذ المناسب لرأس المال الإمبريالي من جهة أخرى؛ وفقاً للتقسيم العالمي للعمل.

أنا لا أقول بأن دعوات بعض المفكرين اليساريين اليوم إلى الحفاظ على البيئة (والمشاكل البيئية تشكل الرعب الأساسي بالنسبة لجيجك) هي باطلة أو لا يمكن دعمها؛ بلا شك، إن لم نرد أن نوصم بالإنغلاق الكهنوتي، لا بد أن نقدّم دعمنا لأي حراك تقدمي في العالم، ولكن أحياناً لا بد أن يكون هذا الدعم مشروطاً.

لكن، في مثل الوقت، أنظروا ما صنعه جيجك من صيغة ماركس: ”من الكل حسب عمله إلى الكل حسب حاجته“؛ هذا اليوغسلافي (سابقاً) لم ينس التيتوية بشكل كلي. كما إنه واضح لماذا تشكل هذه الصيغة فريسة سهلة لهذا التلاعب، إذ أن ماركس، في (نقد برنامج غوتا)، استحضر هذه الصيغة لا ليتحدث عن اسلوب الإنتاج الشيوعي، آيّ الاقتران ما بين العلاقات الإنتاجية والقوى الإنتاجية، بل أسلوب التوزيع في هذا النمط. إن ماركس في رده على اللاساليين كان يتحدث ضمن سياق معين، وهو مفهوم تماماً، ولكن طلاق عملية الإنتاج بعملية التوزيع التي يقوم بها جيجك لها معنى يتعدى الرمزية التي يستعملها.

إن هذا الطلاق طلاق واعي، مارسه تيتو قديماً: ”سيطرة الدولة الاشتراكية على السوق الرأسمالية = اشتراكية السوق“. هكذا، تنظيم الإنتاج من أجل الحفاظ على البيئة، أو بإختصار تنظيم الإنتاج من أجل تقليل مساوئ السوق على الحياة اليومية لا يمكن أن تكون دعوة تقدمية على الإطلاق. وكما سلف لي القول: إن هذه الدعوة تتماشى تماماً بالحركة الراهنة للنظام الرأسمالي نفسه.

من الواضح بأن التحكم بالسوق أصبح مرادفاً للاشتراكية عند الكثير من الاشتراكيين الناشئين، ولا يمكن أن نلقي اللوم على التلميذ الذي يخطىء، ولكن أن يحضر هذا الخطأ الساذج عند عموم المثقفين هو شيء لا يغتفر له. إنه لأمر جيد، على الأقل، بأن جيجك واع بأن ما يطرحه يختلف كلياً عن اشتراكية ماركس العلمية، وأنه يقوم بذلك تحت اسم الواقعية: مثل الواقعية التي أوقعت هيغل في المثالية! لكن التحكم بالسوق ليست دعوة اشتراكية، مثلما التأميم لا يمكن أن يكون دعوة اشتراكية (راجعوا لينين وماركس في هذا الشأن)، على العكس تماماً: ما لم نكن جاهلين كلياً بتاريخ الرأسمالية، ما لم نكن واقعين كلياً في وهم الأيديولوجيا البورجوازية، سنجد بأن ليست ثمة مرحلة تاريخية من تمرحل نمط الإنتاج الرأسمالي لم تكن فيها للدولة الرأسمالية دوراً فعالاً.

من هنا نلتقي بالجانب السياسي والأيديولوجي. وسنواصل عرض الفرضيتين التاليتين في العدد القادم.

اقرأ المزيد

ألا يا مدير الراح*

عادة يكتب الأدباء والشعراء عن أشخاص أثروا على حياتهم مثل الوالدين، أخوة أو معلمين، أو كيف أن الحب الأول غيّر الكثير من مسارهم لاحقاً. منذ سنوات وأنا افكر بالكتابة عن تأثير المطرب والملحن البحريني الكبير والفنان الراقي والإنسان، أستاذ الفن والإبداع خالد الشيخ. لقد ملأ خالد الشيخ سنوات مهمة من حياتي، السنوات التي تعتبر أكثر مرحلة من مراحل حياة الفتاة قلقاً وتوتراً وغضباً، وهي تحاول أن تجد لنفسها فهماً، وأن تكون لعواطفها وأفكارها محلاً من اعراب الحياة وهي تتأرجح من الطفولة نحو اكتمال الأنوثة.
خالد الشيخ أعطى زخماً ودرعاً ونضجاً مبكراً لمشاعر صبية كوردية منفتحة على اللغة العربية وآدابها، في مدينة ليست بكبيرة: مدينة كركوك في العراق. خجولة أمام كلمات الغزل التي كانت تسمعها في شكلها أو مشيتها وهي في طريقها اليومي للمدرسة، ممن يحاولوا استمالتها وإشغالها عن دراستها بعلاقات مطرية مرافقة عادة لفترة المراهقة كما هو معروف. تلك الصبية كانت كولالة نوري. وهي أنا الآن بعد خمس مجموعات شعرية.
أصبح خالد الشيخ في تلك الفترة من حياتي حبيبي الوحيد دون منافس. أدعوا له في صلواتي تخيلوا !!، أدعو له بالتوفيق والعمر الطويل!. لا أنكر أن وسامته كانت تجذبني، لكن كان هناك الكثير من المطربين المعروفين بالوسامة أيضاً. هناك أيضاً رزانته وثقته بفنه وإحساسه، بما يؤلف ونظرته الحالمة والكلمات العميقة التي كان يختارها، إضافة إلى اختلافه في أسلوب تلحينه عن أقرانه الخليجيين وعزفه الرائع للعود بدون تشنج أو تكلف كأنه يمسح بشعر حبيبته.
كنت استهزأ بمحاولات الشباب معي، وأقول مع نفسي “انت وين وخالد الشيخ وين” .. أحفظ أغانيه، أنتظر أشرطته بشغف. أضع الجريدة أو المجلة التي تحوي صورته تحت مخدتي، وأتقصد ألا أقطع الصورة كي لا يكتشف أحد سري الكبير والجميل خاصة أخي الشقي الذي كان يغار من كل مطرب إذا أعجبت به إحدى أخواته، وكنت قد أخذت درساً من مشاكساته مع أختي الأكبر مني بسنوات، حين كان يكسر لها أشرطة عبد الحليم الذي كانت تعشق أغانيه وصوته… لكني لم أنتبه أنه سوف يكتشف كون المجلات والصحف القريبة من مخدتي كلها فيها لقاء أو صورة أو موضوع عن خالد الشيخ، فعندما كانوا يسألون عن من فعل كذا او كيت فكان يرد: أُم “خالد الشيخ” ويقصدني.
لم أمر طوال فترة مراهقتي بأي علاقة عاطفية بسبب خالد الشيخ. كنت أحسب أن التفكير بأي رجل آخر خيانة له.. رافقني بصوته ومشاعره إلى أن اكملت مدرستي وأوصلني لبر النضج، أي فترة الجامعة، بحيث دخلتها أانا عاطفيا مقبلة على الحياة دون عقد من انتكاسات عاطفية سابقة.
لم يكن عشقي لخالد الشيخ مَرضياً .. كان حباً متزناً، أي أنني أعرف أنه من الصعب أن التقي به أو أن يبادلني المشاعر، أو أن اتزوجه كما تحلم الصبايا حين يعجبن بفنانٍ ما. عادة كنت مكتفية بالأمان العاطفي من طرف واحد الذي يوفره لي حبي له ولاغانيه. مقارنتي له بكل الصبية حولي كان كافياً أن لا انزلق في متاهة واقعية في غنى عنها فتاة جادة مهتمة بالمطالعة وتحقيق أهداف دراسية.
في إحدى مناسبات العراق الفنية أُعلن أنه سوف يزور العراق، ويقدّم أغانيه على مسارح بغداد، حتى حين مجيئه كنت قد أبعدت فكرة الذهاب لبغداد لأسمعه أو أراه. كان من المستحيل أن أسافر وحدي إلى العاصمة وأنا صغيرة وماذا أقول لأهلي؟
كان زيارته تلك أيام الحرب الإيرانية العراقية منتصف الثمانينات. كانت يدي على قلبي من خوفي أن يغني لصدام. فيسقط من نظري وحينها أكون فعلا في مشكلة، وكأنه خانني كما كان يفعل الكثير من مطربي وفناني الدول العربية طمعاً في أموال أو دعم إعلامي أو شهرة أكثر أو إنبهارا بالماكنة الاعلامية عنه، ضاربين بعرض الحائط ما يعانيه الشعب العراقي من مظالمه، وهي أسماء معروفة وراسخة في الغناء العربي. إضافة لعلاقة الأكراد النفسية السيئة بصدام وجرائمه الماسة بالحقوق الإنسانية. لم يغن خالد الشيخ طبعاً عن صدام حسين. وبقى نقياً غنياً بفنه الراقي. تنفست الصعداء. وكنت أتحدث عن هذا الأمر بتلهف لزميلاتي وأسرتي وكأنني كنت على وشك فقده فعاد.
بقيت على متابعتي لخالد الشيخ، لم يفاجئني حين غنى لمحمود درويش أو ادونيس ونزار. حتى اليوم أبحث عن أخباره. ولما ابتعد قليلاً حزنت وسعدت بعودته لاحقاً. خالد الشيخ يجب ألا يغيب .
وحين أتذكر مشاعري تلك تجاهه ابتسم، وأشكره لانه يجعلني ابتسم حتى الآن في عالم وزمن اصبحت فيه ذكرياتنا تحيلنا إلى العبوس. لم يجرح وردة تفتحي على القادم عندما كنت صغيرة، بل زيّنها بألحانه الجميلة والقصائد التي كان يغنيها. من أغانيه وموسيقاه التي أحفظ عن ظهر قلب، والتي لا اعرف كم من المرات التي سمعتها ورددتها:
عندما كنت صغيراً وجميلاً**
كانت الوردة داري
والينابيع بحاري
صارت الوردة جرحاً
والينابيع غصب
صارت الوردة جرحاً
والينابيع ظمأ.
هل تغيرت كثيراً.
ما تغيرت كثيراً .
عندما نرجع كالريح إلى منزلنا
حدقي في جبهتي
تجدي الوردة نخيلاً والينابيع
تجديني مثلما كنت صغيراً وجميلاً.
وأنا اقول لخالد الشيخ نعم أنني أراك حتى الآن جميلاً بمرورك في حياتي، وكبيراً بفنك الخالد.
______________
* (الا يا مدير الراح) من إحدى أغاني خالد الشيخ، واختارها عنوان لألبومه الثاني. كلمات الشاعر الصوفي أبو مدين التلمساني الأندلسي الولادة.
**من القصائد الجميلة للشاعر محمود درويش لحنها وغناها خالد الشيخ في البومه الخامس عشر (اسمي وميلادي) عام 2005.

اقرأ المزيد

سلمى المري فارسة للحكاية وحارسة للحياة بفرشاة من شعر

سلمى المري فنانة تشكيلية من الإمارات، تخرجت من كلية الفنون الجميلة بجامعة حلون قسم الرسم والتصوير، عضو جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، أقامت سبعة معارض شخصية مهمة في غاليرات دبي والشارقة والقاهرة، وشاركت في ثلاثين معرض جماعي لرسامين عرب وأجانب، ومثلت الإمارات في عشرة ملتقيات ثقافية فنية في العالم، حاصلة على جوائز مهمة في الخليج والوطن العربي ومن الأمم المتحدة واليونسكو. لها نشاطات كثيرة في رعاية المواهب الشابة والطفولة.
تضيء سلمى المري لوحاتها بعبقرية اللون الشرقي، المحلي والعربي، تطوف مناخها وخليط رياحها وأجوائها والذي يعطي للبيئة ألوان الصحراء وخصوصيتها، ذلك الفعل اللوني يخترق روح الإنسان، ويضيئها ماشياً في دروب الذاكرة مثل انسياب ماء دافق، نقي، فيسقي جفاف المشاعر بماء البدايات ومطر الجنات، بزخات من نواميس حنون تاجها الحب والعرفان، فتتكشف في الروح مسرّات مباغتة، حتى وان كانت في أوج حزنها ذلك الغسيل الروحي الذي ينفضها كما تنفض الرياح الشجر فتعيده جديدا، نضراً.
مسرات تذهب بها بعيداً إلى طفولة آمنة وأحضان الأمهات الوثيرة تحت ظل من شجر، يتحول في لوحاتها إلى صور من جنات مجهولة وفراديس حالمة، تتأرجح الأرواح حول شجرة المعرفة، تلك الشجرة التي تختبيء في وجدانها لتظهر بهيأة أم أو طفلة عائدة بأسرار الخلود، كأنها تشي لنا بسر الموت وحقيقته التي تتكشف عبر فلسفتها بأنه بدء لحياة جديدة، فلاتخافوا هذا المأزق الذي يتصارع مع رهافة حسها وكيف عانت من الفقد، حولته إلى آمال كونية مبشرة ببدء جديد وأكوان موازية.
سنلتقي بها بمن أحببنا وفقدنا، هذه العرافة العتيقة الطاعنة بالنبل، نبتت أوتاد استشعارها مع سماوات بعيدة، وهبطت علينا من كوكب الإبداع الذي يرمي إلى الأرض بمخلوقاته النادرة والقليلة، برفق فيضيؤوا ماحولنا بلوحة أو قصيدة أو حكاية.
ذلك هو الميراث البشري الذي نقل الينا عبر العصور صبر الانسان وعناده وتحدياته أمام محنة الوجود وغموضه، فمنحنا دهشة الحياة ولذة المعرفة، زاده الخيال وعين خفي،ة ورثتها سلمى من ربة الإبداع التي هبطت بها وغيرها إلى الأرض وأودعتها برفق في رحم حنون وأرض طيبة، ورافقت مسيرتها إشارات بدء من بيكاسو وفان جوخ وعلاء بشير إلى شاكر حسن آل سعيد وجواد سليم، فتتلمذت في مدارسهم وأعطوها جوازات المرور.
العيون التي تضج بالحكايات والانتظارات تارة، والدعة والرضا تارة، ثم الهيمنة وزمام الحكمة. العيون التي خرجت من جب لوحاتها بالف حكاية بدءاً من زنوبيا وصولجانها وعشقها وثيابها الملكية حتى قناع النساء وتيجان رؤوسهن التي تحكي لأزمنة تندثر فتخرجها لنا وهي تنفض عنها غبار النسيان وانفلات الذاكرة لتحفظها من الغياب والفناء، فتوحي لنا بذاك الوتد الذي جعلته شاخصا كأبراج دبي حولها مظللاً بشمس من ابداع متفرد وعين صافية لم يلوث بصرها تشوهات العصر وقسوته.
الأبواب العتيقة، وجوه النساء الآمنة والمكتظة بحزن شفيف ورضا انساني عميق يشذب الروح المتلقية من نتوءات غضبها، فتنصت صاغرة بعد أن تسرّب إليها ذلك الهدوء الحكيم، عبر طاقة كونية غامضة تبثها بلوحاتها، وقد لاتعلم هي كيف ومتى ومن أين أتت تلك الطاقة التي عبرت ممرات روحها وفرشاتها وانتقلت إلينا.
ذلك هو سر الإبداع وشفرة الموهبة وهالة الجمال التي تتجول في الروح الخلاقة والمبتكرة للنور، ومثلما يقول الإغريق هم سارقو النار، نار الخلق والإبداع، تلك السرقة المشروعة التي تمنحها الآلهة لهم بكل امتنان. أولئك سكنة ذلك الكوكب البعيد الهابطين الينا بأروماتهم الندية، حملة شعلة الأمل، وماجعل الأرض والحياة محطات طمأنينة وسلام.. تلك الشعلة التي تجوب الكون الشاسع لتلتقط منه الأسرار وتلك الروح المحلقة بألف جناح فتضيء بألف قنديل أخضر تعرفه الأرواح التائقة للعتق والحرية من ربقة الهموم وأصفاد الحزن نتحسس وجودها فنبتهج برقصة الإبداع.
ما ذهبت إلى مدرسة نقدية لأكتب عن سلمى المري وابداعها المميز، بل كتبت روحي ما ألهمتني به هذه الربة الجميلة من ربات الإبداع وهي تخلق مخلوقاتها التي تتبارك بها الأمكنة والجدران، لتنقل لنا مايدور خلف ذلك الجدار من حكايا تنادي بصوتها الخفيض إلى ماض مهمل، متروك، تطعمه حبات دررها فيغتسل بنورها من براثن الترك وفجيعة الإهمال تعيده لأمتها، ذاكرة متجددة، زاهية بهية تحمل صولجان العودة وكبرياء الحضور موازية بشهوقه الأبراج العالية التي ارتاب منها هذا الماضي من أن ينسحق دون أن يلتفت اليه أحد.
سلمى تعاملت مع هذا الماضي بحرفية عالية وحب وموهبة فذة وعين راعية لحكايات الأرض وأساطير قومها، ومثلما توحي الشمس والينابيع مفردات وجودها للقصائد أوحت لي فرشاتها بمفردات اللون وعبقرية تنقلاته وانزياحاته، ذلك الإيحاء الذي يحرض الطفلة البرية في داخلي فأطارده مثل ريام البر وهي تستشعر رائحة الماء والعشب فتركن إلى واحاتها ماسكة لحظة الطمأنينة وغافية على سحر هذا الوهج الصوفي الاصهب لتغمرني بفيض المحبة والتصالح مع الكون، فأعبر جحيم الذاكرة المكتظة بالحروب والفقد وهي تمنحني كفاً من ضوء يجرني إلى جناتها البريئة كأنها استدعاء للحياة وتجاوز مأزق الحزن، وأزمة الضياع، والإغتراب والوحشة وبلغتها البكر ومشاعرها الممزوجة مع اللوند كأنها أتية من فلوات غربتها معبأة بالحنين ورغبة العطاء الإنساني للانسان بكل مكان، وهي تخلق عالمها الجمالي بمعركة ناعمة ضد القبح، تفتح العيون برؤى جديدة وعميقة عبر خزين ثقافي وروح صوفية كونية.
تتجرد من أحمال التملك والأنانية فتبدو مثل فراشة عملاقة، تأتي بلقاحات المحبة والسلام إلى مدن الهدأة وقرى الجمال تقنعنا أن للحزن نبل ومهابة، وهو زائل في رحيله الأبدي، ومثلما يمنح هذا الخليج مسرات اللؤلؤ والخير، فإنه يمنحنا رسامة تجعل حياتنا أجمل وترتقي بنفوسنا إلى أرقى المتع البريئة.
هي كاهنة أمل وفرشاة شاعرية وفارسة للحكاية وحارسة للحياة، هي ذي سلمى المري الخارجة من نقاء لؤلؤة كبيرة، والمانحة لنا دهشة الالوان في عماء هذا العصر القاسي عائدة بالماضي وموروثاته بعرس بهيج، نافضة غبار أرواحنا.

اقرأ المزيد

كورونا والفاقد في التعلم وكيف نعوضه ؟

هل عوٌض “التعلم عن بعد” تلك المساحة الواسعة والرحبة المغيبة في منظومة التعليم الاعتيادي والتقليدي القائم على وجود المدرسة والصفوف والمعلمين والزملاء واللعب والاختلاط والاندماج والالتزام والانضباط؟

ذلك سؤال طرحته على الاستشارية التربوية ورئيس مجلس إدارة مؤسسة إي دي دي(EDD) للاستشارات التربوية الدكتورة صفية صادق البحارنة، وقبل أن نستطرد لنبدأ أولاً بتعريف المقصود بمصطلح “فاقد التعلم”، الذي يعني”ضياع أو فقدان المعرفة والمهارات التي اكتسبها الطالب أو تراجع تحصيله الاكاديمي بسبب انقطاعه او توقفه عن الدراسة لفترات ممتدة”.

وتستشهد البحارنة بعدد من الدراسات التي صدرت مؤخراً تتحدث فيها عن المفقود في التعلم منذ ظهور كوفيد 19 ولغاية اليوم، وأن التعلّم عن بعد والاستعاضة بالشاشة عوضا عن مجمل العملية التعليمية أوجد فاقداً كبيراً في التحصيل العلمي والمعرفي لدى الطلاب وهو أحد أسباب انخفاض النمو الاقتصادي العام، وتتساءل د صفية : “إذا كان السجال الدائر في الكونجرس الأمريكي حول حجم الضرر والتعويضات المالية المستحقة للمتضررين من كافة الشرائح في دولة عظمى كأمريكا، فكيف يكون الحال في الدول الصغيرة والفقيرة والمحدودة الإمكانيات؟”.

ولكن ألا يمكن تعويض هذا الفاقد في التعلم سألتها: فأجابت: “حتى لو تمّ فتح المدارس ورجعت العملية التعليمية إلى سابق عهدها، فسوف يبقى أثر هذا الفاقد مستمراً لعدة سنوات، والأمر يعتمد على إمكانيات كل دولة وجديتها في وضع السياسات لتعويض هذا الفاقد.

وتفصل البحارنة بالقول: إن الدراسات التي أجريت على ما يزيد عن خمسة ملايين طفل من المرحلتين الابتدائية والاعدادية أسفرت عن حدوث فاقد كبير في التعلّم وصل إلى 50% في بعض المواد “الرياضيات مثلا” فاقد في المهارات الإدراكية بشكل عام، وخصوصاً المرحلة الابتدائية وما قبلها، أي إلى سن ال12، حيث يبلغ منحنى التعلم أقصاه في هذه المرحلة، إذ أنه طوال فترة الحضانة والروضة يحقق الطفل نمواً مستمراً وتراكماً علمياً ومعرفياً متواصلاً ومتسلسلاً، والمؤكد أن الحرمان من المدرسة لم يعوضه بشكل كامل “التعلم عن بعد”، فقد يكون حصل ل على 50% او 30% فقط من مجمل العملية التعليمية، هذا في أفضل الأحوال، وضمن العائلات الميسورة والمقتدرة والحريصة على تعليم أبنائها والمهتمة بشؤونهم، أما لدى العائلات الفقيرة والمعوزة وكثيرة العدد وكذلك أطفال ذوي الصعوبات في التعلم والذين يحتاجون تعليما مركزا ومكثفا ومغايرا ،فالضرر عليهم كان أكبر، فكم عائلة فقيرة تعذّر عليها الحصول على “لاب توب”، أو إيجاد الوقت الكافي للجلوس مع الأبناء؟

إذن فالفاقد الذي أشرنا اليه كان الأكبر على الفقراء والاكثر احتياجا وحرمانا ،هؤلاء اكثر من قاسى من الانقطاع المدرسي، إذ خسر علمياً، واجتماعياً وعاطفياً وخسر العلاقة باللعب والأصدقاء والمعلمات، وخلق لدى الطفل إجمالاً ومن جميع الشرائح فراغاً ومشكلة اجتماعية مع نفسه ومع أسرته، فالاطفال في هذه المرحلة ينمون من خلال الاختلاط والإندماج وتكوين العلاقات والصداقات وممارسة العملية التعليمية الشاملة.

الأخطر من ذلك أن الانقطاع المدرسي والتعلم عن بعد وبشكل فردي قد أثرّ على مفهوم ومبدأ المساواة التي عمل العالم ومنظماته منذ عقود على إنجازه وتحقيقه كي يحظى الجميع فقراء وأغنياء،ذكوراً وإناثاً، بالقدر العادل من التعليم المتساوي، فقد انكسرت هذه الحلقة المهمة في مسار التعلم بسبب جائحة كوفيد، ووجدنا انفسنا في صفوف تضم نصف أو ربع الطلاب، ويوم دراسة ويوم غياب ،وايضا الفئة الفقيرة صاحبة الضرر الأكبر.

والسؤال هو كيف نعدَل هذا الوضع المختل، وخصوصاً إذا استمرّ كوفيد معنا لمدة طويلة وكيف تستعيد العلمية التعليمية عافيتها تربوياً واقتصادياً؟

حسب الدكتورة صفية فالمعالجة تبدأ، أولاً، بتحسين وتطوير التعلم عن بعد وبطريقة جادة وخارج المألوف ،فلا يقتصر الأمر على شاشة وزووم، إنما عبر إيجاد آليات جديدة لتقليل فاقد التعلم والنمو في المهارات التعليمية بشكل مستمر، وثانياً، بابتكار اساليب بناءة لاعادة فتح المدارس لجميع الأطفال عبر جعلها مدارس آمنة وخالية من كوفيد ومطمئنة للعائلات، وثالثا، بالعمل على تحويل المجتمع بأكمله إلى مؤسسات تعليمية، أي أن يجد التلميذ نفسه يتعلم ويتلقى المعرفة في كل مؤسسة يدخل إليها وليس المدرسة فحسب، وتختتم د. صفية بالقول إن تلك التوصيات إذا اشتغلنا عليها جميعاً، وبشكل جاد، فسوف تستعيد العملية التربوية عافيتها تربوياً وتعليمياً واقتصادياً شيئاً فشيئاً.

اقرأ المزيد

التعريف بالحركة الأدبية الجديدة في البحرين

*عرض وتلخيص سعيد العويناتي

هذا العرض كتبه الشهيد الشاعر سعيد العويناتي لمجلة “الأقلام العراقية”، التي نشرته في العدد الثالث من سنتها السابعة، الصادر في بغداد عام 1973، وفيه يستعرض العويناتي محتويات كتاب تعريفي بالحركة الأدبية الجديدة في البحرين، يومذاك، وضعه الناقد المعروف الأستاذ أحمد المناعي، وأصدرته أسرة الأدباء والكتاب، ورأينا، في “التقدمي”، إعادة نشره كمادة توثيقية لمرحلة من تاريخ حركتنا الأدبية، رغم تجاوزها لها وولوجها عوالم أرحب، وأيضاً كنموذج من كتابات الشهيد سعيد، الذي رحل عنا باكراً، وهو لم يزل في مقتبل شبابه.

المحرر

الحركة الأدبية في البحرين لا تختلف في سماتها وتياراتها عن أية حركة أدبية في الوطن العربي من حيث الخصائص العامة، أما الملاحظة التي يجب أن تذكر في معرض الحديث عن هذه الحركة، فهي أن الأدب في البحرين (والخليج عامة) ليس وليد الطفرة أو البروز المفاجيء فالأدب ذو جذور عميقة تمتد إلى بدايات الشعر العربي، حيث الرواد من أمثال عمرو بن قميئة وطرفة بن العبد والمتلمس والمسيب بن علس. هذا إن لم نذهب بعيداً لنقول إن جذور الحركة الأدبية تمتد إلى بدايات التاريخ البشري – حيث حضارة سومر ودلمون وآدابهما الأسطورية.

وحين نحاول الدخول في تعريف الحركة الأدبية الجديدة فلا بد من المرور الخاطف على التيارات الأدبية المعاصرة السابقة لهذه الحركة الجديدة. فعلينا تجاه ذكر الحركة الأدبية المعاصرة أن نعمم الحديث عن الحركة الأدبية في جميع أجزاء منطقة الخليج، فنبدأ بتيار التقليد الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر واستمرّ إلى أوائل القرن العشرين. ومن أبرز شعراء هذا التيار في الخليج الشيخ إبراهيم الخليفة، والشيخ محمد بن عيسى الخليفة، وعبدالله الفرج، وآل المبارك، وآل عبدالقادر وغيرهم.

وهناك تيار تقليدي أكثر تجديداً، هو التيار الذي استخدم المناسبات القومية والدينية للمناداة بالإصلاح. وعلى رأس هذا التيار يقف عبدالله الزايد صاحب أول مطبعة وأول جريدة في البحرين (سنة 1939م) وعبدالرحمن المعاودة وعبدالعزيز الرشيد وخالد الفرج.

وعاصر هذا التيار الشعري الرومانسي الذي ظهر مبكراً في الخليج من أبرز الشعراء هذا التيار إبراهيم العريض وفهد العسكر، ومحمود شوقي الأيوبي وأحمد محمد الخليفة وغازي القصيبي.

أما التيار الواقعي الذي يتمثل في الحركة الأدبية الجديدة فقد كانت بدايته الفعلية في أوائل الستينات أو قبلها بقليل، فلقد كان لظهور هذا التيار الجديد ظروف اجتماعية وسياسية مرّ بها المجتمع البحراني في أواخر الخمسينات نتيجة الانتفاضات التحررية الشعبية التي قام بها الشعب سواء أكانت على شكل انبثاق لمنظمات وطنية طالبت بإصلاح الأوضاع أو على شكل اضرابات عمالية وطلابية. لذا كان رد الفعل عنيفاً لدى الاستعمار البريطاني، فبجانب تشريد الأحرار وسجنهم والقضاء على كل التكتلات الوطنية العلنية منها والسرية قام بتعطيل الصحف والمجلات التي كانت قد بدأت مسيرتها بجريدة “البحرين” سنة 1939م.

وكان من جراء الجو الخانق آنذاك أن ساد صمت أدبي رهيب ضمرت فيه المواهب وذبلت فيه البراعم واندثرت فيه الأقلام التي ظلت ترعى الحركة الأدبية فترة من الزمن.

وبانهيار جدار العزلة والتقوقع والاتجاه نحو الانفتاح على العالم وأحداثه وتياراته الإنسانية ومن ثم تضامن الشعب البحراني مع كل المكافحين من أجل الحرية والكرامة الإنسانية بكل ما تيسر له من وسائل التعبير، نتيجة لذلك اطلع الشباب على تيارات التجديد في الأدب وخاصة مدرسة الشعر الحر والثقافات الأجنبية الحديثة التي تأثروا بها كثيراً، أخذت تظهر إلى الوجود ومضات أدبية متنوعة ساعد على نموّها وتحسين عطائها عودة الصحافة المحلية إلى الحركة والنشاط، حيث واكبت هذه المرة نهضة أدبية شابة تميزت بالإدراك التقدمي الواعي.

وبالرغم مما وجه إلى هذه الحركة الأدبية الجديدة من انتقادات قاسية، وما أثارته هذه الانتقادات من ردود وجدل عنيف اتسم بالحدة والانفعال على صفحات المجلات، إلا إن الحركة الشابة استطاعت أن تثبت جدارتها لا عن طريق مقوماتها فحسب، بل باستمرارها في العطاء والتنوع والتجديد، ولقد تجاوز الأدباء الشباب بأدبهم إدراك الجيل السابق وفهمه وبرفضهم الإنطلاق من النقطة التي جمد عندها.

* الشعر:
في هذا المجال كشف الشاعر الشاب عن منابع جديدة لفنه، فبدت قصيدته معاصرة تسير في صعود مستمر ضمن آفاق رؤية واقعية ملتزمة، فالشاعر البحراني الجديد أخذ يواجه الواقع مواجهة صريحة وخارقة ولم يعد صوته خافتاً نحت أنماط معينة من الغنائية والمباشرة الساذجة.

* أهم الشعراء:

1- علي عبدالله خليفة:
ركّز علي خليفة في أشعاره في بادئ الأمر على إبراز صراع الإنسان الفقير في الخليج مع البحر والظلم عبر قناع تاريخي وهو “تراث البحر”، فجاءت صوره تجسيماً مؤثراً لأجواء البؤس والعذاب وتصويراً حياً للتمزق الذي يعانيه الإنسان في ظل هذه الأجواء حيث أبرزت بوضوح موقفه تجاه هذا الجهد الإنساني الضائع من جراء سطوة المتاجرين بقوت العاملين في استخراج اللؤلؤ من البحر تحت أقسى الظروف وأمر العيش.

وانطلقت أشعار علي فيما بعد معبرة في امتداد طبيعي إلى صعيد إنساني منفتح على قضايا التحرر في كل مكان، فكانت المعاناة فيها تحمل تعاطفاً إنسانياً يدّل على النضوج الفكري والفني عند الشاعر.

وبرزت في القصيدة رؤية سياسية واضحة، مستقاة من نماذج المقاومة والتضحية في تاريخ الحركات الشعبية في البحرين، وأبعاد رمزية من التراث الحضاري القديم كأسطورة دلمون “أسطورة الخلود” السومرية:

انطفأت في عتمة الجب عيون النهار
و”دلمون” التي كانت بها بكارة الحياة
جارية مفرودة الساقين للشرطة والأغراب والمتاجرين.
يلتهب الجرح الذي تخثر البحر على أشداقه،
يلتهب الجرح ومن قلبها
يستل “أنكي” بغتة الانتفاض
يظل منه في حشاها اختمار
ومولد اللحظة ومض في جبين الرماد.

إن “أنين الصواري” – الديوان الأول للشاعر – لم يكن تعبيراً عن صراع الإنسان مع واقعه فحسب بل عبر كذلك عن تجربة الشاعر في بحثه عن الحب كقيمة إنسانية.

فالمجتمع البائس يخلف أناساً ممزقين في جوانب من حياتهم. والفنان أقرب الناس إلى هذا التمزق. هكذا كان حال الشاعر في بحثه عن الحب في مجتمع يعادي مثل هذه القيم ويدفع بالإنسان الباحث عنها إلى الانتحار أو الجنون:

وغربتي بلا نسب
ضربتُ في البلاد وطولها وعرضها
محملاً بثقلها
بسورة الحنين واختلاجة القلق
بكل ما انكفأ بداخلي
وكل ما احترق
عدوت بالضياع في مجاهل الضباب والألم
حملت رايتي وأحرفي
عبرت عالماً مزيف القيم..

إن موقع علي خليفة لم يخلقه عطاؤه الشعري الفصيح والعامي فحسب إنما أيضاً ممارساته ونشاطاته العملية من أجل دفع الحركة الأدبية الجديدة نحو التطور والنماء والاستمرار. وهو يعكف حالياً على إعداد دراسة عن الموال في الخليج العربي وتعتبر هذه الدراسة الأولى من نوعها في هذا المجال حيث تناول الموال كظاهرة فنية واجتماعية عبرت عن آلام وأفراح الإنسان الفقير في هذه المنطقة.

2- قاسم حداد:

يأتي قاسم حداد كعلامة مضيئة أخرى، ليوسع هذا المسار الشعري الجديد وليؤكد كذلك بأن الأدب ما هو إلا توصيل واكتشاف مستمر. يتجه قاسم في مجموعته الأولى ” البشارة” 1970 إلى التعبير عن قضية الإنسان، متخذاً في ذلك أسلوباً نضالياً مطبوعاً بالصراحة والوضوح، معولاً على الرمز كمنبع لارواء قصائده بأبعاد فنية تعبر عن رؤية سياسية متفائلة إلى حد بعيد.

هكذا كانت الرؤيا في البشارة رومانسية شفافة تتماشى وطفولته المرحلة الشعرية وبراءتها (النسر الكبير الذي يعلن موت الغروب، الأطفال الذين يحطمون أسوار التاريخ الفاسدة، الطوفان الذي يغسل الأرض ويكتسح حديد السجن ليخلص القمر الحزين ويزرع في العالم السلام…) ومع هذه الرؤيا يطل الحب متردداً قلقاً موزعاً بين العاطفة والقضية.

فجأة تصبح “البشارة” مرحلة تفصل بينها وبين المجموعة التالية “خروج رأس الحسين من المدن الخائنة” مسافة طويلة، فالقصيدة في المجموعة الأخيرة عافت تلك الروح الرومانسية، فأصبحت تنظر إلى الواقع بوعي وتطل على المستقبل برؤية ناضجة، إن الخروج من دائرة البشارة مواجهة حقيقية للمستقبل كان على الشاعر أن يعبرها مختاراً إلا أن يتمنى ويحلم.

في الواقع (الخروج) هزة انفجارية عنيفة رافضة لكل المواقف السلبية (الانتظار، التباكي، مضاجعة الثورة في الحلم.. إلخ) إنها بالتأكيد صفعة لمرحلة انهزامية نعيشها.

قفا: لا
أيها الأحباب لا جدوى
سيقتلنا الوقوف
سوف تميتنا الدمعة
قفا نضحك

ومن أبرز الرموز التي لا تكاد تخلو منها قصيدة من قصائد مجموعتي الشاعر هو رمز الطفولة أو الأطفال. في المجموعة الأولى يمثل الأطفال “بشارة الغد الآتي” أما المجموعة الثانية فتحولوا إلى ضد للواقع المزيف وملجأ للتطهير من أدرانه:

تجاسرت
ألغيت كل مواعيد قتلي
ولذت بصدر الطفولة

يمثل قاسم حداد طموح الشاعر الجديد الذي يسعى لخلق قصيدة تحتوي تعقيد العالم وتعبر عن قضاياه في آن واحد، عن طريق انفتاحها – أي القصيدة – فنياً ونفسياً، لا تحدها قوالب جاهزة ولا يتحكم فيها الزمان والمكان.

3- علوي الهاشمي:

صوت ثالث متفرد في حركة الشعر الشابة ذو منبت رومانسي، وما تزال الغنائية تلوّن قصائده حتى في حالات الفضح والتعرية لواقعه المستكين، تشعرك قصائده أنك أمام شاعر يمتلك السيطرة على اللغة والموسيقى ونقل تجربته بصدق عبر ألفاظ رقيقة موحية وعبارة بسيطة التركيب.

ومن أنضج قصائد مجموعته الأولى “من أين يجيء الحزن” 1972 قصيدة الطوفان التي حاول الشاعر فيها أن يحقق موروثاً شعرياً عن طريق العلاقة بين الماضي والحاضر فحاول أن يوصل بين الجد المتمرد والابن الثائر.

إن مجموعته الأولى تعرف القاريء على مرحلة دقيقة يمر بها الشاعر، هي مرحلة الانتقال من الرومانسية المنفعلة إلى فضاء التعبير الواقعي، فالمجموعة تشكل مزيجاً عجيباً من الغنائية والرفض، من الرقة والعنف ومن الغربة والحضور، وقصيدة “الطوفان” هي قمة التعبير عن المرحلة التي يجتازها الشاعر.. أو هي في الواقع جسر العبور..

4- دخلت ميدان الحركة الشعرية بعد هؤلاء الثلاثة مجموعة من الشباب تميزت أصواتهم بالتنوع والطموح نحو التجديد وأبرزهم يعقوب المجرفي وعبدالحميد القائد وعلي الشرقاوي ويمتاز هؤلاء الثلاثة (المجرقي والقائد والشرقاوي) بكثرة عطائهم واستمرار تدفقه، ويلتقون في وجهة واحدة هي بحثهم الدائب عن لغة جديدة وصور مستحدثة ومفردات غير مستهلكة، يفرغون فيها معاناتهم النفسية والفكرية.

وهم في أساليبهم يهدفون إلى إثارة المتلقي ومحاولة هزّه من الداخل بطرائق مختلفة تجعله في حالة قلق واستفهامات ملحة لما وراء القصيدة وصورها الشعرية وأصواتها الداخلية ومفرداتها الغريبة، كاللجوء إلى تكثيف الصورة مثلاً وتعميق بعدها الشعوري.

5- إلى جانب هؤلاء حاول يوسف حسن التعبير عن هموم القرية مع المحافظة على بساطة الصورة الشعرية وسهولة تركيب العبارة. أما حمدة خميس ففي أواخر الستينات نشرت عدداً من القصائد تعبر عن تجارب ذات نزعة وجودية.

* الشعر العامي:

مثلما تحولت حياة البحر الاجتماعية القاسية التي عاشها بحار الخليج إلى مادة شعرية غنية بالمعاناة على يد الشاعر علي خليفة، تحولت قضية الإنسان الجديد وكفاحه. أيضاً على يد الشاعر نفسه إلى مادة شعرية محكية باللهجة المحلية على شكل موال.

إن مجموعة “عطش النخيل” التي ضمت هذه المواويل، وصدرت عام 1970 محاولة موفقة في الإيصال من قبل الشاعر، والتلقي من قبل الجمهور. ويُعد موال “عذاري” من أروع المواويل في المجموعة، وفي المجموعة تأكيد على (الصبر والوفاء) اللذين اتسم بهما الجيل السابق.

وكان لنجاح وسيلة التعبير باللهجة المحلية أن ظهرت مجموعة من الشعراء، امتازوا بتفردهم في الأسلوب وتنوع موضوعاتهم. ومن الأصوات المعروفة في هذا المجال إبراهيم بوهندي ومنيرة فارس. وهناك صوت شعري آخر مشهور عند الجماهير هو الشاعر عبدالرحمن رفيع – له مجموعة شعرية بعنوان “قصائد شعبية” طبعها 1972.

* القصة القصيرة

في البداية لم تهتد القصة البحرانية إلى البناء الفني الجديد من حيث الشكل والمضمون، فقد لفحتها ترسبات القصة التقليدية المعروفة.

1- ففي المخاضات الأولى للقصة القصيرة ظهر مقال صغير في “جريدة الأضواء” للقاص خلف أحمد خلف، يدعو فيه إلى ضرورة إيجاد “قصة متجاوبة مع الواقع” ويُعد هذا المقال لفتة قيمة في تاريخ القصة البحرانية الجديدة.

لقد تخطى خلف أحمد خلف بدايات المرحلة الأولى من حياة القصة البحرانية، إذ تخلص فيها من رواسب الشكل التقليدي للقصة – فبطله بدت ملامحه أكثر وضوحاً وصار يمارس أحداثاً يومية ملتصقة بالقضايا الأساسية للإنسان.

2- محمد الماجد: أحد القصاصين الشباب، دخل ميدان القصة بأسلوب مغاير لزميله خلف، إذ تطرق في قصصه منذ البداية إلى قضية الضياع والعبث عند الجيل الجديد من الشباب، ركّز في قصصه على إبراز النفسية القلقة الضائعة وسط زيف الحياة وآليتها.

فمن خلال مجموعته “مقاطع من سمفونية حزينة” نتعرف على ملامح القصة وشخصياتها. القصة تتحرك في إطار رومانسي تراجيدي صوفي، يجعلها بعيدة كل البعد عن المفهوم الفني للقصة. أقرب إلى المذكرات والخواطر وخاصة أن وحدة الأسلوب وتكرار الفكرة والشخصية هي سمة المجموعة القصصية.

3- محمد عبدالملك:
هو البداية الفعلية للقصة الواقعية، صدرت له أخيراُ مجموعة قصصية بعنوان “موت صاحب العزبة” 1973، ينزع القاص في مضمونه إلى التعبير عن البيئة المحلية وبالذات كفاح الطبقة الفقيرة في المدينة والقرية.

إن عبدالملك يملك الموهبة ووفرة الانتاج، وبهما يستطيع أن يحقق له مكانة رفيعة وفي القصة الجديدة في البحرين.

4- أمين صالح:
إن القصة عند أمين صالح غوص في أعماق الواقع المعاش والأشياء وكشف عن العلاقات الخفية التي تتحكم في مصير الإنسان وحركته.

وهناك مجموعة أخرى من القصاصين الشباب، برز منهم محمد مصطفى خميس وخليفة العريفي وعيسى هلال وأحمد جمعة وعبدالله علي خليفة وأحمد حجيري.

* النقد الأدبي:
أهم النقاد في البحرين:

1- محمد جابر الأنصاري:
ومن أهم أعماله النقدية التي تناولت أدب الشباب ما كتبه عن الشاعر علي عبدالله خليفة في جريدة “الأضواء” البحرانية في أواسط الستينات.

2- حسين الصباغ:
لقد تناول بعض الأعمال الأدبية للشباب بالنقد في الشعر والقصة.

3- أحمد المناعي:
الذي بدأ متأخراً في هذا المجال فاتخذ له مساراً نقدياً مختلفاً وراح يطرح بعض الآراء النقدية الجريئة إن كان في الشعر أو القصة أو المسرح، ولكن المناعي وجه اهتماماً خاصاً للمسرح.

هناك أيضاً بعض الشباب الذين أبدوا بعض الاهتمامات النقدية مثل بهية الجشي.

كما أن بعض الأدباء الشباب من غير النقاد يتناولون أحياناً بعض أعمال غيرهم بالنقد والتحليل كقاسم حداد ويعقوب المحرقي وأحمد جمعة.

* أسرة الأدباء والكتاب

تأسست هذه الأسرة عام 1969 فطرحت لها برنامجاً فكرياً وعملياً واستطاعت خلال فترة وجيزة أن تخلق جسوراً كثيرة بين الأدب الجديد والجمهور بالندوات والأمسيات الشعرية واللقاءات الثقافية العامة التي تقيمها بانتظام على امتداد السنة، وهي عضو الاتحاد العام للأدباء العرب وعضو الاتحاد العام للكتاب الآسيوي – الأفريقي، وتضم ثلاثين عضواً وعضوة من الأدباء.

ولكثير من هذه الندوات ردود فعل في الواقع المحلي، فعلى إثر المناقشات التي أثيرت حول تخلف الحركة المسرحية وركودها في البحرين بدت الحاجة ملحة إلى تكوين فرق مسرحية جديدة وبالفعل ظهر إلى النور (مسرح الاتحاد الشعبي) و (مسرح أوال) وتعد مثل هاتين الفرقتين بداية الارهاصات الواعدة للمسرح البحراني.

ولقد حاولت الأسرة منذ عام 1970م – وما تزال – إصدار مجلة أدبية متخصصة في البلاد بسبب غياب مثل هذه المجلة، لكن إجازة الاصدار لم تتوفر حتى الآن(؟!).

* علاقة الجمهور البحراني بالأدب الجديد:
لقد كسب الأدب الجديد جماهيرية جديدة تحسست بالفعل الفارق الجذري بين الأدب الجديد وبين الأدب التقليدي الذي كان يتحرك في مناخات بعيدة ومفصولة عن الواقع الاجتماعي للمنطقة.

* مشكلة النشر:
1- إن من أهم المشكلات التي يواجهها الأدباء الشباب وأسرة الأدباء والكتاب في البحرين أزمة النشر التي تهدد الكثير من انتاج الأدباء بالانتظار الطويل أو عدم النشر أحياناً، خاصة وأن (الأسرة) لا تملك مورداً مادياً يساعد على نشر نتاج كل أعضائها.

ومن المشاكل أيضاً:

2- غياب المجلة الأدبية المتخصصة في حين نرى أن الصحف المحلية تكاد أن لا تساعد على نشر نتاج الشباب.

* هذه صورة ليست دقيقة لكنها عامة عن الأدب الجديد في البحرين وباختصار حاولت أن ألخصها عن كتيب أصدرته أسرة الأدباء والكتاب في البحرين وأعد بإشراف الأستاذ أحمد المناعي، بقي أن نقول أن دراسة أدبية شاملة ودقيقة للحركة الأدبية المعاصرة لم توجد حتى الآن، الأمر الذي يجعلنا نهتم بهذه المسألة في أول خطوة مماثلة كهذه.

اقرأ المزيد

رحَلَ إبن الشيخ، إسحاق أديبُ درب النضال

سلامٌ على روح الصديق الصادق الأمين رائد الفكر التنويري وسيد شيوخ النضال السلمي الاستاذ الأديب، أديبُ درب النضال، إسحاق الشيخ الذي قَدَّسَ القلم الذي به سطر من أحرف النضال كلمات الخير والعدل والحق لجموع الناس وخاصة الكادحين الذين بقوة سواعدهم تولدت ونمت وترعرعت الحضارات منذ ولادة الجنس البشرى إلى ما شاءت له الاقدار من الوجود على مسافات الزمان، لقد كَرَّسَ فكره وقلمه من أجل الكادحين ومن أجل إعلاء راية الوطن وطهارته ومكانته.
منذ أن وعي، وهو بعد في صبا الفهم والإدراك، إلى أن بلغ الوعي عنده نضج الخبرة واكتسب أنفاس الحكمة، وقبل النفس الأخير، وهو يحمل همَّ الكادحين والمظلومين… كان وعيه الحكيم يحمله عبء الآلام وهو يرى حال الكادحين، وتثير فيه حيرة غاضبة وهو يرى عبث الظالمين…
مع رفقة الناس كان رفيقه القلم، ومع القلمُ يتحادثان، تتوارد الافكار في ذهنه وينسج القلم خيوط فكره، هكذا كان يقضي مع القلم جل الساعات من ساعاتِ يومهِ دُونَ مَلَلٍ ولا كلل، وكان يجدد طاقاته مع سطور القلم… ترافق مع القلم رِفْقَةَ ما يربو على السبعين ربيعًا، ما مَلَّ القَلَمَ وما خَذَلَهُ القَلَمُ، أعطى للقلم رائحةً عندما كتب سِفْرَ كتابٍ أسماهُ «إني أشم رائحة مريم»، يرسم فيه ذكريات الطفولة إلى مراحل النضج الفكري، و كانت أمه مريم ذاك الخيط الحريري الناعم الذي ربط الأحداث من وعي الطفولة الى نضج الوعي، وكان يشم رائحة الحب في أنفاس أمه مريم، وكان بموازاة أنفاس أمه مريم يشم الخير والعطاء في أنفاس الكادحين من الناس، الكادحين الذين كَرَّسَ جهد فكره وطاقته و قلمه نضالاً من أجل حقوقهم و كرامتهم.
قرأ لشيخ الصوفية جلال الدين الرومي قراءة المعجب والناقد والمحتار… فكتب من وحي ديوان المثنوي معنوي وديوان شمس الدين التبريزي رواية فلسفية عنوانها «في حضرة جلال الدين الرومي» ولم يكن مثل سابقيه التقليديين الذين عبروا في كتبهم وأسفارهم عن الإعجاب المطلق بكل ما جاء به جلال الدين الرومي، بل تخطى خطوط الإعجاب المطلق الى المحاور المعجب حيث الإعجاب، والناقد حيث النقد، والمحتار حيث الحيرة، فالرواية حقاً تكملة جدلية فكرية لتجليات صوفية روحانية صاغتها نقاوةُ الكَلِمِ وبلاغةُ الشعرِ وسلاسة السردِ، ونقدٌ لجلال الدين الذي لم يجرؤ أن ينتقده كاتب سوى قلة نادرة، تلك القلة التي تمكنت من سبر غور نفسية صاحب المثنوي وصديق شمس الدين التبريزي، فكان النقد للرومي أقرب إلى التوبيخ لأن صاحب المقام الصوفي ما ذكر رفيقة حياته ولو بكلمة، وكان بهذا التقد يتكلم بلغة المناضل من أجل رفيقة الحياة، أي من أجل المرأة.
كان يسطر بالقلم حروفًا من إرهاصات النضال ليوصل فكراً ينادي بحب الانسان للإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة… ما كان يداهن ولا يماري ولا يراوغ وهو ماسك بالقلم في رسم الفكر وطرح الرأي ونقد الأخطاء والتصدي للخطيئة والحقد والاٍرهاب، كان قلمه سلاحًا يرمي به للفتك بغيلان الاٍرهاب وقطع جذور فكر الحقد ونهج الاقصاء وحماقة التكفير وهوس الترهيب، كان يرى في الاٍرهاب شيطاناً تخطى معادلات النسبية الى أقفال المطلق بغض النظر عن طبيعته ومصدره، بغض النظر عن صمته وصراخه، فقد كان يرى في صمت الاٍرهاب تخطيطًا للارهاب وفي لعلعة صراخه سمومًا يبثها في نفوس الناس، أما عمل الاٍرهاب فالقتل سحلاً والهدم دمارًا، وإذا ما صعد الإرهاب على عروش السلطة فقل على الناس والعالم أجمعين السلام… كان مؤمنًا إيمانًا مطلقًا بمحاربة الاٍرهاب، وسلاحه في هذه الحرب الشعواء نور الفكر ورسم القلم…
اتخذ من القلم رفيقًا ومن الفكر التنويري غذاءً وهو يشق دروب النضال السلمي الى ذاك المصير الذي يرمي أن يتحقق فيه العدل والسلام والرضى والأمان لأبناء جلدته.
كان يمقت الطائفية ويرى فيها نفسًا من أنفاس العنصرية وشكلاً من أشكال الاٍرهاب، الإرهاب بِسُمِّهِ الفكري وسيفه القاتل و سطوته الخانقة، كان يتصدى للطائفية وجميع أشكال الاٍرهاب بِنَفْسِ النَفَسِ النضالي. وقف وقفة المناضل والمدافع الواعي ذو البصيرة النافذة مع المشروع الاصلاحي لجلالة الملك، وكان يرى فيه بادرة أمل للارتقاء بالوطن البحريني إلى مستوى الدول الديمقراطية الراقية.
ومجلسه العامر كان ملتقى الصداقة ومنتدى الفكر والتفاكر والتعاطي في شؤون الأدب والفن وتناول مواضيع السياسة وحقوق الانسان، يجمعنا مساء كل جمعة في بيته، بيتُ الكرمِ والضيافة، يبتسم لنا ابتسامة الأخ الكبير و المعلم المتواضع عندما يسمع منا رأيًا أو فكرًا مغايرًا لما يراه، فنتناور حينها حول بَعضنا بأشكال وأنواع من منطق الكَلِمِ وأدوات الحوار إلى أن نصل إلى محطة نشترك فيها بالرأي أو يحتفظ فيها كل بموقفه وكلنا يحترم الآخر حيث حَطَّ فيه رحالُ الحوارِ برأيه، كان راقيًا في الحوارِ منفتحًا على الإختلاف في الرأي، فمن لنا بعده في مجلس نصارحُ فيه الرأي والفكر دون تحفظ وفي جو من الحوار الودي والراقي المثمر والحر، الحر في جوهره ولُبِّهِ وحتى قشوره…
مثلما المسيح الذي حمل صليبه بقوة الإيمان مرورًا عبر دروب الآلام إلى روضة السكينة الأبدية والسلام المطلق، حمل الفقيد رسالته بقوة الفكر وخطّ القلم الى آخر أنفاس حياته، أنفاسٌ تنطق بالمحبة والسلام… وَدَّعَ أحِبَّتَهُ مٍنَ الأهلِ والأصحاب والكادحين وافتقده القلم الرفيق المطيع الصامت، وترك الذين أحبهم ويحبونه في فراغ كبير عميق، وشأنه شأن جمبع المناضلين والعظماء سيبقى حيًا في الضمائر الحية وخالدًا ناصعًا في ذاكرة التاريخ…

اقرأ المزيد

هواجس تتجدد

في البحث المضني عن الحلول الواقعية، الفعلية للأزمات العميقة التي تواجهها بلداننا العربية، وفي محاولات رسم ملامح مستقبل يستجيب لحاجات التطور يبدو، كما كتب د.سناء أبو شقرا في مجلة الطريق اللبنانية قبل ثلاثة عقود، أن على المثقفين العرب أن يبدأوا دائماً من البداية.
انها ضرورة قاسية ولكنها ضرورة يفرضها التجدد الدافق في واقع مثقل بالاحتمالات والمفاجأت، تفرضها متغيرات العصر والعلم، ويعيدنا إليها باستمرار وعينا لهذا الواقع المحدد، مستواه وشروطه وأدواته، وعينا الخاضع لمؤثرات لا تحصى بدءاً من بنيتنا الفكرية المركبة والمعقدة من فهمنا لتراثنا وكيفية تناولنا والهامنا إياه بوسائلنا وأنظمتنا الفكرية والمعرفية، بأحلامنا ومصالحنا وأمزجتنا وصولاً إلى هذه الهزات العميقة التي تنتاب الفكر المعاصر دون توقف وعلى كل بقعة من الأرض.
ومسألة البحث بحدّ ذاتها ليست اكتشافاً جديداً فالهدف النهائي، بالنسبة لنا كما لغيرنا من شعوب الأرض، يتلخص في تحقيق إنسانية الإنسان ومن دون عوائق، ولن يتم ذلك، لنا ولغيرنا من دون أن تتحقق في المجتمع الذي نعيش فيه، تلك الشروط التي تجعل المجتمع امتداداً متناغماً للفرد، وتجعل من الفرد عنصراً لا غنى عنه للنوع البشري، للحياة كلها.
أين نحن من ذلك ، على أي درجة من سلم الأهداف النهائية تضعنا حقائق التاريخ المُرة في هذه البرهة البطيئة العبور؟. ما السبيل للتغلب على ما يجعل مجتمعاتنا بالجملة رهائن لقوى خارجية وداخلية لا تكترث اصلاً إلا لمصالحها هي، وصراعاتها مع الآخرين؟ ما العمل لبعث معاني الكفاحية الإيجابية في الإنسان المسحوق، المغَرب الآن عن نفسه وعن مصير مجتمعه وعن الحضارة البشرية، وليكون هذا الانسان نفسه مبدعاً للمدنية وكاتباً للتاريخ؟
لا حل فعلياً لهذه المشاكل في ميدان الفلسفة والتنظير الصرف. الحل هو في تحويل الوعي النظري لها إلى مشروع سياسي – اقتصادي – اجتماعي – ثقافي شامل ومترابط، مشروع قادر على شق جدار الرصاص لتنفذ إلى الناس أشعة حلم قابل للتحقق.
وأول شرط لهذا الحل هو المعرفة العلمية ، الموضوعية، التي تسمح بتغيير فعلي لواقع يفترض أنها حوّلتها أصلاً باستيعابها النظري له، ولا يمكن للمعرفة أن تكون علمية وموضوعية إلا إذا كانت محصلة لجملة من المعارف المتعددة الاختصاصات، والمتعددة المحاولات والتجارب كذلك، محصلة لأرث من البحث الشريف المتجرد، وتتويجاً نوعياً لتراكم الخبرات ووجهات النظر والآراء.
وهذا يستدعي قبل كل شيء التخلص نهائياً من “عصمة التراث” وإدعاء احتكار الحقيقة، كل مافي مجتمعاتنا العربية تحديداً يجب أن يكون موضوعاً لهذه المعرفة ومادة لبحثها، لكشف قوانين تطورها، الأساسي فيها والثانوي وتحديد ميادين فعل هذه القوانين بدقة، وموقع دور قوى المجتمع في رسم وجهة قوانين التطور وتعين أهدافها. خلاصة رأيه….هل نستطيع بعد اليوم كيساريين أن نكتفي بما نعرفه من مفاهيم نظرية لفهم واقعنا وتغييره؟ هل نكتفي بما أنجزنا كقوى أو كأفراد من تحديد لمستوى تطور بلداننا ولدور القوى الاجتماعية المختلفة؟ هل قدّمنا ما يرضي العقل الباحث المدقق من فهم العوامل الفاعلة في حركة تطورنا التاريخي في الماضي البعيد والقريب وتلمسنا على ضوئه، بدقة العلم، بدايات واقعية لمشروع مستقبلي؟
عموماً هل نستطيع أن نقول إننا نعرف واقعنا وأنفسنا، لا في مفهوم فلسفي مجرد بل بما يكفي لجعل هذه المعرفة أداة ومنهجاً لفعل التغيير؟
من هذا المنطلق يبدو لنا أن تبلور مشروع نهوض عربي جديد يمر حكماً عبر قناة الحوار وتبادل الرأي والتجربة بين كل من يملك هاجس دفع دولنا قدماً في طريق التقدم.
وهذا لايمنع حكماً سعي كل طرف إلى “الكمال” في تطابق تصوره عن الواقع والواقع نفسه ولكن من دون إملاء النتائج والأدوات على الآخرين. وحدها ديمقراطية الحوار تمنح الحوار جوهره الهادف، ولا يحق لأي منا أن يقدم تجربته نموذجاً، فكل “النماذج” لم تكتمل إلى غاية محققة معصومة، على الأقل بالنسبة لدعاة التحرر الوطني والاجتماعي، دعاة المساواة والعدالة.
ما كنا لننشغل إلى هذا الحد بضرورة الحوار لو كان الحوار برأينا قائماً كما يجب أن يقوم، وعلى محاولات اصيلة وجادة تبادر إليها هذه الجهة أو تلك. إن الأزمة القائمة والإشكاليات النظرية والعملية التي تواجه طريقنا في البحث عن الحلول تلزمنا، موضوعياً، بجهد مشترك، لمواجهة هذه الأزمة وهذه الاشكاليات بصورة دقيقة ومحددة من أجل تقديم جواب دقيق ومحدد.
التحدي ، اذأ، تحدي المعرفة والتغيير، لا يترك هامشاً للتردد بين الإنخراط في الحوار وبين سلبية الإتكاء على قناعات أزلية صالحة لكل زمان ومكان.

اقرأ المزيد

“التقدمي” في عامها التاسع عشر، إضافة نوعية في الصحافة الحزبية

في هذا الشهر، يناير 2021 ، تدخل نشرتنا الشهرية “التقدمي”، عامها التاسع عشر، التي صدرت في البداية باسم “أخبار المنبر” في يناير 2003، حيث صدر منها تحت هذا الاسم خمسون عدداً، حتى أبريل 2007، حين إرتأينا في المنبر تغيير الاسم لإبراز التقدمي في كل ما يتعلق بأنشطتنا، وهكذا صدرت باسمها الجديد: “التقدمي” أول مرة، في مايو من السنة نفسها حاملاً رقم العدد 51، تأكيداً على استمراية مسيرتها نفسها دون انقطاع.

عندما تقرر إصدار نشرة شهرية للمنبر التقدمي في اجتماع لجنة التثقيف والإعلام في شهر ديسمبر 2002، كان أعضاء اللجنة الإعلامية من أجيال مختلفة لحزبنا وشبيبتنا، وفي هذا الاجتماع اقترح علينا الرفيق المناضل والقائد الراحل أحمد الذوادي الذي كان عضواً في اللجنة بأن تصدر النشرة في أربع صفحات A4، وأن نعمل على تطويرها خطوة خطوة.

وبالفعل أخذنا برأيه وأصدرنا العدد الأول من نشرة “أخبار المنبر” في شهر يناير 2003 ، ليكون المنبر التقدمي أول الجمعيات السياسية في البحرين التي تصدر نشرة خاصة تعنى بقضايا الوطن والشعب وبأخبار التقدمي المتنوعة، حتى تطورت النشرة عاماً وراء عام، وزاد عدد صفحاتها ليصل في بعض أعدادها الآن إلى أربعين صفحة، تتنوع فيها الأخبار وقضايا المجتمع والشؤون البرلمانية والعمالية، فضلاً عن المقالات السياسية والفكرية والثقافية والنصوص الأدبية.

جاء في افتتاحية العدد الأول: “تشكّل هذه النشرة نافذة إعلامية للمنبر الديمقراطي التقدمي نطلُّ من خلالها بشكل دوري على أعضاء وأصدقاء وجماهير المنبر، لنقدم أهم أنشطته وفعالياته، لتحقيق التواصل والتفاعل المنشود معهم، آملين أن يكون المنبر حاضراً بدوره وبآرائه وأطروحاته وتصوراته في الحياة السياسية والعامة في المملكة، وبما يمكن من التعرف على كل ذلك من قبل الأعضاء والأصدقاء ومدّ المنبر بالاقتراحات والأفكار التي من شأنها أن تؤدي إلى توطيد دوره ورفعة مكانته باستمرار، وهو يقوم بواجباته الوطنية في تعزيز دعائم المشروع الإصلاحي وبلوغ عملية التحول نحو الديمقراطية والدفاع عن مصالح الشعب وتطلعاته”.

في سبتمبر 2010 سحبت دائرة النشر والمطبوعات ترخيص صددور نشرة “التقدمي”، فاحتجبت حوالي خمس سنوات، وبعد معركة طويلة خاضها الفريق القانوني في المنبر التقدمي في المحكمة، لإلغاء قرار سحب ترخيص النشرة، نجح الفريق في كسب القضية، وعادت “التقدمي” للصدور من جديد في يونيو 2015، مؤكدة على استمرارها في أداء رسالتها كمرآة للمنبر التقدمي ومنبراً لقضايا الوطن، ولنشر الثقافة والوعي الوطني والفكر التقدمي، بفضل كتابها من المثقفين المخضرمين وباستقطابها لأقلام المواهب الثقافية الشابة في البحرين.

مهمتنا ليست سهلة ولكن طالما وجدت الإرادة والتصميم لدى هيئة التحرير برئاسة د. حسن مدن باهتماماته الصحفية والثقافية، سوف تستمر “التقدمي” في العطاء والإبداع وتتطور نحو الأفضل من أجل وطن حر وشعب سعيد.

اقرأ المزيد

فساد ومفسدون

قبل عدة أشهر، أصدرت محكمة جنائية في دولة الكويت أحكاماً بالسجن على عشرين متهماً وصلت بعض أحكامها لمدة ثلاثين سنة في قضية عرفها الرأي العام الكويتي بقضية “ضيافة الداخلية”.
القضية باختصار أن ديوان المحاسبة المالية في الكويت وجد في مراجعاته الدورية على مؤسسات الدولة مخالفات جسيمة في وزارة الداخلية، وبإحالة القضية للنيابة العامة تكشفت أكثر خبايا وتفاصيل تلك المخالفات، وكما يوجد الشيطان في التفاصيل كما يقول المثل، فإن تفاصل القضية تلك كشفت عن شياطين استهدفت المال العام في الكويت.
وقالت المحكمة الكويتية في حيثيات حكمها بأن “ديوان المحاسبة قد أورد بعضاً من المثالب على المال العام، وأشادت بالمهنية العالية التي تحلى بها فريق ديوان المحاسبة والمجهودات الكبيرة التي بذلها، والذي يبرز الدور الكبير والهام له في إعمال الرقابة الحقيقية الفاعلة على الأموال العامة”.
ولافت في حيثيات المحكمة ما أوردته في إحدى فقراتها المتعلقة بتعدد الجهات المسؤولة عن الرقابة المالية، وحيث قالت المحكمة: “إن العبرة ليس بكثرة الجهات الرقابية وتعددها، بل في فعاليتها على أرض الواقع، وجديتها بتحقيق الغرض الحقيقي من إنشائها”.
بحرينياً، وبمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد، بيّنت الإدارة العامة لمكافحة الفساد والأمن الاقتصادي والإلكتروني بأنها: “باشرت خلال العام الجاري فقط نحو (64) قضية فساد، أحالت منها (35) قضية للنيابة العامة”. وقد سبق ذلك بعدة أيام تصريح أثار اهتمام المراقبين يعود لسمو ولي العهد رئيس الوزراء، الذي تعهد في أول جلسة وزارية يترأسها بأن يكون: “مُحارباً للفساد، مُحافظاً على المال العام بكل نزاهةٍ وأمانةٍ ومسؤولية”. مثل تلك التصريحات حينما تأتي من صدر السلطة التنفيذية فإنها بلا شك باعث على التفاؤل والحرص على حماية المال العام.
هناك علاقة طردية بين الفساد والمفسدين، فأينما وجد الأول وجد الثاني، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينفصل أحدهما عن الآخر، تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية منذ صدورها قبل قرابة العشرين عاماً وهي تحدد أوجه الخلل ومكمن القصور، ويقف خلف تلك الأفعال بلا شك متسببون استباحوا حرمة المال العام، وحتى تكسب تقارير ديوان الرقابة المالية ثقة الرأي العام ويعي أهمية ما يقوم به الديوان من جهد كبير يجب أن تكلل تلك الجهود بمحاكمة من أساء التصرف بالمال العام.

اقرأ المزيد

إنجلز ضد ماركس؟

مائتا عام من فريدريك إنجلز*

بقلم : Paul Blackledge
ترجمة: غريب عوض
في الذكرى المؤية الثانية لميلادهِ، كانت سُمعة فريدريك إنجلز كمُفكر أصيل، على الأقل بين الأكاديميين الناطقين بالإنجليزية، في الحضيض. لا شك أن السبب الرئيسي لهذا الوضع المؤسف سياسي. على الرغم من الأزمة الإقتصادية العالمية الأخيرة والزيادات المُرتبِطة بها في عدم المُساواة والتي تميل إلى تأكيد النقد العام لكارل ماركس وإنجلز للرأسمالية، فإن الماركسية هي عقيدة مُتفائلة لم تُحقق نجاحاً جيداً في سياق يُهيمن عليهِ تراجع الطبقة العامِلة وإحباطها.
ولكن إذا كان هذا السياق للماركسية غير مُشجع بشكل عام، فإن نقد فكر إنجلز لهُ مصدرٌ ثانٍ مُنفصل تماماً. على مدار القرن العشرين، إدعى عددٌ مُتزايد من المُعلقين أن إنجلز شوّه بشكل أساسي فكر ماركس، وأن “الماركسية” وخاصة الستالينية نشأت من هذا الكاريكاتير أُحادي الجانب لأفكار ماركس.
في حين أن الإدعاء بأن إنجلز شوّه أفكار ماركس لهُ جذور تعود إلى القرن التاسع عشر، فإن عام 1956 كان لحظة محورية أصبح بعدها موضوعاً مُهيمناً بشكل مُتزايد في الأدبيات الثانوية. عندما ظهر يسار جديد رداً على الخطاب السري لنيكيتا خروشوف Nikita Khrushchev، والغزو الروسي لهنغاريا، والغزو الإنجليزي الفرنسي الإسرائيلي لمصر، حاول تجديد الإشتراكية من خلال إعادة تقييم نقدي للماركسية. أصبحت مُساهمة إنجلز في الماركسية نقطة محورية في النقاش الذي أعقب ذلك. على الرغم من أن أقلية صغيرة من بين هذا الوسط حاولت إنقاذ سُمعة إنجلز ولينين إلى جانب سُمعة ماركس من أي ارتباط مع ثورة جوزيف ستالين Joseph Stalin المُضادة، خلصت مجموعة أكبر بكثير إلى أن تجربة الستالينية تتطلب التقليد الماركسي بِكامِلهِ طوال الطريق إلى ماركس. وبين هذين القُطبين، عارضت مجموعة ثالثة كِتابات ماركس “الإنسانية” الشبابية لتفسير إنجلز “العلمي” للماركسية.
وبالإعتماد على تفسير أُحادي الجانب لتعليقات جورج لوكاش Georg Lukács النقدية المُبكِرة على مفاهيم إنجلز لديالكتيك الطبيعة، انجذب هذا الوسط إلى الرأي القائل بأن إنجلز كان أكبر أخطاء ماركس. ولهذا، بحلول عام 1961، استطاع جورج ليتشثايم George Lichtheim أن يعتبر أنهُ في حين سعى ماركس لتجاوز التعارض بين المِثالية (الأخلاق المُستقِلة) والمادية (السببية غير المُتجانِسة) من خلال مفهومه للتطبيق العملي، فقد اختزل إنجلز الماركسية إلى شكل إيجابي من المادية. وبعد بضع سنوات، أيد دونالد كلارك هودجز Donald Clark Hodges بشكل أساسي وجهة النظر السائدة بين الأكاديميين بأن “ماركس الشاب قد أصبح بطلاً لِمِنحة ماركس الدراسية والراحل إنجلز شريرها”. وبالمثل، في عام 1968، كتب ألاسدير ماكنتاير Alasdair MacIntyre عن الماركسية الإنجليزية ورَفَضها لمفهومها الواضح للثورة كحدث شبه مُحايد. وكان إنجلز، وفقاً لهذا النقد، أعتقد أنهُ “يجب أن ننتظر مجيء الثورة كما ننتظر مجيء الكسوف.
يُجادل نورمان ليفين Norman Levine، في ما يُرَجَح أنهُ أكثر نقد وُجِه لفكر إنجلز، أنهُ صحيح أن الرأسمالية أدت إلى ظهور الستالينية، إلا أنهُ من الأفضل فهم ماركسية القرن العشرين على أنها شكل من أشكال “الإنجلزانية” (نسبة إلى إنجلز)، وهو إهانة لإفكار ماركس الأصلية حيثُ تم اختزال تفسير المثالية والمادية إلى رسم كاريكاتوري وضعي وميكانيكي وقاتل للشيء الحقيقي. “كان هُناك”، وفقاً لنورمان ليفين، تطور ثابت واضح من إنجلز إلى لينين إلى ستالين،” وحمل ستالين هذا التقليد الخاص بإنجلز وجانب لينين المُتأثر بإنجلز إلى أقصى حدودة”.
إن الجوهر العقلاني للإدعاء القائل بأن إنجلز أنجب الماركسية ينبع من حقيقة أن إنجلز صاغ أكثر تعميم مؤثر لأفكاره وأفكار ماركس: من المُفارقات أن عنوان ثورة هير يوجين دوهرينغ في العلوم. لعِبَ هذا الكتاب المعروف عالمياً بإسم Anti-Dühring، “ضد دوهرنغ” دوراً رئيسياً في الفوز بقيادة الحزب الديمقراطي الإجتماعي الألماني للماركسية خلال فترة قوانين الزعيم أتو فون بسمارك Otto von Bismarck المُعادية للإشتراكية. ويُعتبر كتاب Anti-Dühring “ضد دوهرنغ” أيضاً أكثر أعمال إنجلز إثارة للجدل. يرجع هذا إلى حد كبير، كما أشار هال درابر Hal Draper، إلى أنهُ “العرض المنهجي الوحيد إلى حد ما للماركسية” الذي كتبهُ ماركس أو إنجلز. وبالتالي، يجب على أي شخص يرغب في إعادة تفسير فكر ماركس أن يفْصل أولاً هذا الكتاب عن ختم موافقته. ومن ثم فهو يدور حول كِتاب “ضد دوهرنغ”، المُقتطف الأصغر منه، الإشتراكية: يوتوبيا وعلمية، وغيرها من الأعمال ذات الصِلة، وأبرزها كِتاب لودفيج فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية وكِتابه غير مُكتمل وغير المنشور في حياتهِ “ديالكتيك الطبيعة”، الذي يُناقش عِلاقة ماركس بنية تحول الماركسية “الإنجلزانية”.
في مُساهمتهِ في هذا العمل الكِتابي، يُجادل جون هولواي John Holloway في حين أنهُ سيكون من الخطأ المُبالغة في التأكيد على الاختلافات بين ماركس وإنجلز، فإن هذا يضرُ بالأول ولا سيما ماركس في مُقدمة 1859 لكتابهِ “مُساهمة في نقد الإقتصاد السياسي” بما هو لصالح إنجلز. ووفقاً لجون هولواي، فإن “العلوم، في التقليد الإنجلزاني الذي أصبح يُعرف بإسم “الماركسية”، على أنهُ استبعاد للذاتية”. إذا كان جون هولواي صادقاً بما يكفي لإدراكهِ أن أفكار ماركس لا يمكن إنتقاؤها بسهولة من أفكار إنجلز، فإن بول توماس Paul Thomas يُريدُ تجنيب ماركس إنتقاد إنجلز: “إن عقائد إنجلز ما بعد الماركسية لا تُدين إلا بالقليل أو بلا شيء للرجل الذي أسماه مُعلِمهِ”.
وفقاً لبول توماس، “فإن الفجوة المفاهيمية التي تفصل كِتابات ماركس عن الحجج الوارِدة في كتاب “ضد دوهرنغ” هي أنهُ حتى لو كان ماركس على دِراية بهذهِ الحجج، فقد اختلف مع وجهة نظر إنجلز القائلة “إن البشر…هم في التحليل الأخير ماديون الذين تحكم حركتهم نفس القوانين العامة التي تُنظم حركة كلُ مادة.” وقدم تيريل كارفر Terrell Carver ما قد يكون أكثر النِسخ شمولية من إطروحة الإختلاف. فهو يقول، في حين أن ماركس رأى “العلوم كنشاط مُهم في التكنولوجيا والصناعة”، أدرك إنجلز “أهميتها للإشتراكيين من حيثُ أنها نظام للمعرِفة، إدراج القوانين النسبية للعلوم الفيزيائية وأخذها كنموذج لدراسة أكاديمية سرية للتاريخ و “الفكر” والسياسة الحالية إلى حد ما بشكل غير معقول”.
وكارفر Carver مثل توماس Thomas لا يعترف بهذهِ المُقاربة ويعتقد أنها تفصلُ إنجلز عن ماركس. ويُوضح كارفر تساهل ماركس تجاه هذهِ الأفكار الغريبة بِعِبارات مُهينة للغاية: “ربما شعر أنهُ من السهل، في ضوء صداقتُهُما الطويلة، ودورهُما كقياديين إشتراكيين، وفائدة الموارد المالية لإنجلز، إلتزم الصمت وعدم التدخُل في عمل إنجلز، حتى لو كان يتعارض مع عمله”. ولسوء الحظ، أو هكذا يقترح كارفر، فإن صمت ماركس بشأن كتاب “ضد دوهرنغ” والأعمال ذات الصِلة سمح لِفكر إنجلز بتولي عَباءة الأرثوذكسية أولاً داخل الأُممية الثانية قبل أن يُصبِح لاحقاً “أساس الفلسفة والتاريخ الرسميين في الإتحاد السوفيتي.
“كان هذا تحولاً كارثياً للأحداث، لإن إنجلز كان إما “غير مُدرِك (أو أنهُ نسى؟)” أنهُ في حين أن الأيديولوجية الألمانية قد تجاوزت التعارض بين المادية والمِثالية، وإما أن “ماديتهِ…كانت قريبة في كثير من النواحي من كونها انعكاس بسيط للمثالية الفلسفية وانعكاس صادق للعلوم الطبيعية كما يصورها الوضعيون.” وبإختصار، كارفر Carver، و هولواي Holloway، و ليفين Levine، و ليختهايم Lichtheim، و توماس Thomas هُم من المؤيدين البارزين لما يُسميه جون غرين John Green “الأرثوذكسية الجديدة” التي تُدين إنجلز لأنهُ اختصر مفهوم ماركس عن المُمارسة الثورية إلى نسخة من المادية الميكانيكية والقدرية السياسية التي ضدها تمرد هو وماركس في أربعينيات القرن التاسع عشر.
ظاهرياً، على الأقل، فإن الإدعاء بأن كتاب إنجلز “ضد دوهرنغ” مادي ميكانيكي ونص قدري سياسي هي شكوى غريبة. كان القصد من تعامل إنجلز مع الكتاب “ضد دوهرنغ” صراحةً أن يكون دفاعاً عن المُمارسة السياسية الثورية ضد الإصلاح الأخلاقي للأخير وليس ماركسياً تدخُلياً أقل مما وصفهُ لينين بأنهُ “دليل لكل عامل واعٍ طبقياً. وبشكل أكثر جوهرية، تضمّن رد إنجلز على انتقادات كتاب “ضد دوهرنغ” لنشر ماركس للتصنيفات الهيغيلية بإعتبارها “تشبيهاً غير منطقي مُستعاراً من الفضاء الديني” تلخيصاً واضحاً لثورة ماركس في الفلسفة. في حين ادعى دوهرنغ Dühring أن استخدام ماركس لمُصطلح sublation لشرح كيف يُمكن “التغلُب على شيء ما والحفاظ عليه في نفس الوقت” كان مِثالاً على “التلاعب اللفظي الهيغلي”، أصرّ إنجلز على أن هذا المُصطلح ساعد ماركس في تجميع الحقائق الجزئية للأشكال القديمة من المادية والمِثالية إلى كل تجاوز حدود وجهات النظر السابِقة هذهِ. في الواقع، إن الإدعاء بأن كتاب “ضد دوهرنغ” يُمثل قطيعة أساسية مع فلسفة ماركس يستند إلى رسم كاريكاتوري غير مُقنع لحُجج إنجلز. علاوة على ذلك، فإن المُحاولة ذات الصِلة للتقليل من أهمية الوحدة الأساسية لفكر ماركس وإنجلز لا يمكن أن تصمد أمام التدقيق النقدي.
في أكثر المُحاولات تفصيلاً لفرض الإنقسام بين ماركس وإنجلز، يزعم كارفر Carver إنهُما لم يتحدثا بصوت واحد في “إتفاق كامل” ولم يتبنيا تقسيماً بسيطاً للعمل بحيثُ يمكن رفض الاختلافات الواضحة بين صوتيهُما كنتائج طبيعية لإرتباطهما بموضوعات مُختلِفة. ويصرُ كارفر على أن أسطورة “الشراكة الكاملة” اخترعها إنجلز بعد وفاة ماركس لتبرير مكانته داخل الحركة الإشتراكية الدولية، وإنهُ، على عكس هذهِ الاسطورة، فإن الدليل على التعاون بين الصديقين أقل أهمية بكثير مما هو شائع مُفترض. ويُجادل بأن ماركس وإنجلز صاغا ثلاثة أعمال “رئيسية” مُشتركة فقط خلال فترة حياتهما، ومن هذهِ العائلة المقدسة تضمنت فصولاً موقعة بشكل مُنفصل بينما كتب ماركس البيان الشيوعي وحده بعد الأخذ بعين الاعتبار مسودات إنجلز السابقة. وأخيراً، ظلّ كتاب “الأيديولوجيا الألمانية” غير مُكتمل ولم يُنشر في فترة حياتهما وهو في الحقيقة وثيقة مُبهمة تحجب أكثر مما تكشف عن علاقتهما المُبكِرة التي وصفها كارفر بأنها نموذج “مُلفق”، كما ويدعي كارفر أنهُ فقط بعد وفاة ماركس سعى إنجلز إلى “إعادة إحياء ماركس” ونجح في ذلك إلى حدٌ كبير.
تمت الإشارة إلى مشكلة في تفسير كارفر لعلاقة ماركس- إنجلز في نقد هولواي Holloway لفكر إنجلز المُشار إليهِ سابقاً. وكما يقترح هولواي، شارك ماركس، ولاسيما ماركس في مقدمة عام 1859، في العديد من الإفتراضات التي ترتبط عادةً بتشويه إنجلز المُفترض لفكره. نُقطة مُماثِلة، وإن كانت من منظور مُعاكس، تم طرحُها قبل أربعين عاماً من قِبل سيباستيانو تيمبانارو Sebastiano Timpanaro. لقد جادل بأن “كلُ من يبدأ بتمثيل إنجلز في دور مُبتذل ومُشوه لفكر ماركس ينتهي حتماً بالعثور على العديد من تصريحات ماركس “إنجلزانية” إيضاً.
وبالمثل، فإن أفضل دراستين موجودتين لعمل إنجلز، لستيفن ريجبي Stephen Rigby “إنجلز وتكوين الماركسية” (1992) و ديل هونلي Dill Hunley “حياة وفكر فريدريك إنجلز” (1991) كلاهُما تُساهِمان بقوة في هدم أسطورة الاختلاف، لكنهما تفعلان ذلك بالقول بأن ماركس شارك بالعديد من العيوب، إن لم يكُن كُلها، المُرتبطة بعمل إنجلز. ويصرُ ستيفن ريجبي على أن “مُحاولات الاعتراض على وجهات نظر ماركس وإنجلز هي أساساً ستراتيجية لتلافي مواجهة مع المشاكل الموجودة ضمن أعمال ماركس نفسها. وفي الوقت نفسهِ، خلص ديل هونلي إلى أنهُ “في مُعظم النواحي، يتفق الرجلان بشكل أساسي مع بعضهما البعض” وأن كتاباتهما تشترك في تناقُضات مُماثِلة بين الموضوعات الأكثر قوة والأقل قوة. في الواقع، أستنتج Hunley و Rigby بدرجة أقل أن إنجلز لا ينبغي أن يكون الرجل الساقط في تاريخ الماركسية لأن العيوب المُرتبطة بأفكارهِ هي أيضاً سِمة من سِمات فكر ماركس.
بعيداً عن مشكلة أطروحة الإختلاف في أوجه الشبه النظرية بين أعمال ماركس وإنجلز، يصعب التوفيق بين وصف كارفر للمدى الفعلي للتعاون بين ماركس وإنجلز مع ما نعرفه عن علاقتهما. في المِثال الأول، يعتمد دفاع كارفر عن اطروحة الاختلاف على شيء من حجة شخص من القش. خارج الأيديولوجيا شبه الدينية للكتلة السوفيتية القديمة، حيثُ وُصِفت علاقة ماركس وإنجلز بشكل سخيف على أنها “وحدة كاملة” حيثُ اجتماع العقل والروح … يعملان معاً في وئام لمدة أربعين عاماً، أطروحة الإتفاق غير مُثيرة للإهتمام لأنها من الواضح أنها غير صحيحة، وبالتأكيد لم يُقدم إنجلز أي إدعاء من هذا القبيل. إي محاولة معقولة لإعادة التأكيد على الرابِطة الوثيقة الفريدة بين ماركس وإنجلز مُنذُ أربعينيات القرن التاسع عشر حتى وفاة ماركس عام 1883 لا تعني بأي حال أنهُ لم تكن هناك خلافات أو تداعيات أو اختلافات في النبرة، والتأكيد، وحتى الجوهر عبر كِتابتهما خلال هذهِ الفترة. لن يكون الأمر غريباً تماماً إذا لم تكن هُناك اختلافات كهذهِ فحسب، بل من المُمكن تحديد هذهِ الاختلافات الداخلية في أعمال كل من ماركس وإنجلز نفسيهُما (وأعمال أي مُفكر مُثير للإهتمام!).
ثانياً، يُخطىء كارفر في استبعادهِ لأهمية التقسيم الفكري للعمل الذي ميّز بلاشك علاقة ماركس وإنجلز. إنها لحقيقة أن إنجلز، كما أشار درابر Draper في دراستهِ الرائعة لسياسة ماركس وإنجلز، كان يميل إلى التعامل مع شروح العرض المشهورة، والمشاكل الحزبية، وبعض الموضوعات التي كان مُهتماً بِها أو خبيراً فيها بشكل خاص. وفي حين أنهُ من الصحيح أن هذا التقسيم للعمل بين مؤسسي التقليد الماركسي لم يكن مُطلقاً بأي حال من الأحوال، بمجرد فهمهِ بشكل صحيح، فإن هذهِ الحقيقة تعمل في الواقع على تعزيز الإدعاء بوجود درجة عالية من التعاون بين الرَجُلين. تدلُ المُراسلات المُكثفة بينهما، لاسيما في الفترة التي عمل فيها إنجلز في مدينة مانشستر بينما كان ماركس يعيش في لندن (قبل هذا الإنفصال وبعده، حصلا على فرصة أكبر بكثير للتحدث مع بعضهما البعض)، على وجود حوار فكري عميق على نطاق واسع من الموضوعات التي تعلم كِلاهما من خلالها ومن خلالها صقل كلاهُما حُججه.
ثالثاً، لقد عبر تقسيم العمل بين هذين الصديقين عن حقيقة أن إنجلز كان الأقوى فكرياً لهذين الرجُلين في عدة مجالات. في سبعينيات القرن الماضي، تحدى بري أندرسون Perry Anderson بحق الإتجاه “المألوف” بالفعل لتقليل مُساهمة إنجلز النسبية في خلق المادية التاريخية من خلال توضيح النقطة “الفاضِحة” ولكنها مع ذلك صحيحة، وهي أن “أحكام إنجلز التاريخية تتفوق دائماً تقريباً على تلك التي لدى ماركس. كان يمتلك معرِفة أعمق بالتاريخ الأوروبي، وكان لديهِ فهمٌ أدق لهياكله المُتعاقِبة البارِزة.” كان أندرسون على عِلمٌ تماماً “بسيادة مُساهمة ماركس الشاملة في النظرية العامة للمادية التاريخية”، لكنهُ كان حرِصاً بشكل مُبَرَر على إبعاد نفسه عن الإنتقادات الفظة المُرتبِطة بالأقوال المُناهِضة لإنجلز.
رابعاً، إن تقييم كارفر لدرجة التعاون الرسمي بين ماركس وإنجلز هو ببساطة مُخادع. وإلى جانب الأعمال الثلاثة “الرئيسية” التي ذكرها في مُناقشتهِ حول عدم التعاون المُفترض، شارك ماركس وإنجلز طوال حياتهما في تأليف العديد من التدخلات السياسية المهمة والمُطلِعة نظرياً. كما أنهما تراسلا حول قضايا كثيرة، ويمكن لقراء مُراسلاتهُما أن يُلاحظوا تأثير إنجلز في النصوص اللاحِقة التي كتبها ماركس.
من المُعتاد أن واحدة من أشهر الأقوال المأثورة لماركس حول التاريخ يُعيد نفسه، “المرة الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة”، تم استعارتها من إنجلز، في حين أن الكثير من الجوهر، على سبيل المِثال، من كتاب ماركس الشهير بإستحقاق نقد برنامج غوثا اعتمد البرنامج على حجج مُماثِلة قدمها سابقاً إنجلز. وبالفعل، بمجرد أن تأخذ كتابتهما السياسية المُشتركة على محمل الجد جنباً إلى جنب مع مُراسلاتهما الضخمة، سُرعان ما يتضح مدى عدم إمكانية تصديق إقتراح كارفور بأن مشروعهما المُشترك كان من إختراع إنجلز.

*هذا المقال هو إقتِباس من مُقدِمة كِتاب Paul Blackledge الأخير، فريدريك إنجلز والنظرية الإجتماعية والسياسية الحديثة.

اقرأ المزيد