المنشور

ندوة دور الشباب في التغيير | فراس المري



ورقة عمل عن دور
الطلبة في تطوير العمل الطلابي





 



كان لتأسيس
الإتحاد الوطني لطلبة البحرين ( أوطب ) في 25 فبراير 2014 دور رئيسي في تعزيز
العمل الطلابي البحريني و توسيع تحركاته في عدة بلدان عربية و أجنبية حاملا أهداف
عدة على عاتقه من أهمها المدافعة عن حقوق الطلبة و السعي على حل مشاكلهم, وأن يكون
التعليم مجاني بجميع مراحله والمطالبة بتأسيس جامعة وطنية, و تجلى دوره أيضا في
نشر الوعي النقابي و تعزيز الأساليب الديمقراطية بين الطلبة,يعتبر الدور الأبرز و
الذي يوجد تأثيره لحد الآن هو خلق كوادر طلابية عدة أصبحوا معظمهم قادة في
التيارات السياسية الحالية .


واجه الإتحاد
عوائق من الدولة جعلت نشاطه يتوقف بشكل أو بآخر عبر منع العديد من الطلبة و
الطالبات من السفر لإستكمال دراستهم الجامعية , و عبر إنشاء الأندية الطلابية
بتمويل مادي من الدولة و كان السبب الرئيسي لتأسيسها هو إضعاف دور الإتحاد الوطني
لطلبة البحرين و الذي تحقق بعد فترة إلى أن تجمد عمل الإتحاد نسبيا .


و بعد إصدار دستور
2002 و توسيع صلاحيات العمل السياسي في البحرين , توسعت أيضا صلاحيات العمل
الشبابي و الطلابي بالسماح لتأسيس جمعيات شبابية مختلفة و إنشاء مجلس طلبة جامعة
البحرين عبر عمل الإنتخابات الطلابية, وظهور نشاط لقوائم طلابية تمثل توجهات
مختلفة.  و بعدها أيضا تم إنشاء مجالس
طلابية في بعض الجامعات الخاصة .


بالرغم من
الصلاحيات الموسعة مقارنة بالوضع السابق إلا أنه لا يزال العمل الطلابي يفتقد
للعديد من صلاحياته و ذلك من خلال اللائحة الداخية المنظمة للإنتخابات الطلابية و
لمجلس طلبة جامعة البحرين و التي تشترط فيمن يرشح نفسه أن لا يكون عضوا إداريا
في جمعية أو هيئة خارج الجامعة تمارس نفس النشاط أو تعسى لتحقيق ذات الأهداف

أي بمعنى عزل النشاط الطلابي داخل الجامعة عن أي نشاط طلابي آخر يمارس خارج
الجامعة مما يشكل فراغ كبير في التفاعل مع المشاكل الطلابية و الشبابية في المجتمع
و السعي لحلها, و تندرج أيضا تحت هذه النقطة من اللائحة منع عمل القوائم الطلابية
بشكل رسمي داخل الجامعة كون القوائم تمثل توجهات شبابية و طلابية خارج الجامعة!
بما معنى عدم الأخذ برأي الطلبة الفعالين في مؤسسات المجتمع المدني خارج الجامعة.


بالنظر إلى
المرحلتين المهمتين في تاريخ العمل الطلابي البحريني وكيف كان دور الطلبة أنفسهم
رئيسي في عملية تطويره وتوسيع صلاحياته ومن خلال العوائق التي مرت بهم نجد أنه من
المهم أن يكون هناك ممثل طلابي رئيسي لطلبة البحرين في الداخل و الخارج , في
الجامعات و المدارس يتأسس من الطلبة أنفسهم و ليس من طرف آخر يسعى  بالدرجة الأولى لتعزيز الوحدة الوطنية في صفوف
الشباب و الطلبة ويدافع عن حقوق الطلبة و مصالحهم و يسعى لتطوير عملية التعليم و
دمجها بالعمل النقابي الطلابي لصنع كوادر تخدم المجتمع مستقبلا , و يتم ذلك عبر
إعادة تأسيس الإتحاد الوطني لطلبة البحرين ( أوطب ).



 

اقرأ المزيد

ندوة دور الشباب في التغيير | أحمد عبدالأمير



الشباب العربي و التغيير … بين الاشكاليات و
الحلول









ورقة مقدمة في جمعية المنبر الديمقراطي
التقدمي






13 ابريل2014






          



اعداد: أحمد عبدالأمير يوسف








 




مقدمة:











يشكل الشباب في
العالم العربي اليوم الفئة الاكبر عددا والأهم نوعا والاقدر فاعلية في جميع
المستويات وخاصة في العملية الانتاجية. وبالرغم من ان المجتمعات العربية هي
مجتمعات شابة وحيوية اساسا، الا ان هذه الفئة الواسعة من السكان هي الأكثر عرضة
للتحديات المصيرية الكبرى والأكثر استهدافا من غيرها من قبل الحكومات الاستبدادية
التي تخشى غضبهم وثورتهم.






لقد لعب الشباب
دور المحرك في انتفاضات الربيع العربي ووقودها، و الذين يجمع بينهم قاسم مشترك
واحد و هو دورهم الطليعي ويساندهم في ذلك بقايا الطبقة الوسطى التى كادت ان تضمر.
وقد ساهمت وسائل الاتصال الالكترونية الحديثة كالانترنت والتلفزيون والموبايل
والفيس بوك والتويتر وغيرها على نشر افكارهم وطموحاتهم وتحولت الى وسائل توعية
وتثقيف و تنوير، بل والى اسلحة عصرية استخدمها الشباب لمواجهة الدكتاتورية و بصورة
سلمية.







 




لماذا الشباب؟











تبلغ نسبة الشباب
في العالم العربي اكثر من 60% من عدد السكان. ويبلغ عدد الفئات العمرية بين 15-29
سنة عام 2009 حوالي 113 مليون شخص، حسب احدث تقديرات الأمم المتحدة. وهو ما يساوي
ثلث مجموع سكان العالم العربي وحوالي 47% منهم تقريبا حسب تقديرات اخرى.






ويمتاز سن الشباب
على مراحل العمر الأخرى بمزايا أساسية توفر له أهلية خاصة في مشاريع التغيير ومنها
الطاقة والحيوية المتجددة والمتفجرة والتفاعلية مع المتغيرات والأحداث، وعلو الهمة
والقدرة على العطاء البدني والعقلي، والطموح المتجدد والكبير وعدم الاستسلام
واليأس، وحب المغامرة ومواجهة التحديات وعدم الخوف، ورفض الذلة والاستسلام للظلم
أو التعايش معه، والقدرة على التطوير والتطور، والتخفف من أعباء الدنيا






وعندما نخص
الشباب في الحديث فإننا نعني الأعمار التي تناسب مقام المهمة وحاجاتها، حيث أن
الجهاد والمقاومة والعمل في بناء الجيوش تعد الأعمار 16 – 25 عاماً هي المثالية
بالنسبة له، فيما تعتبر سنوات 18 – 22 عاماً من أهم مراحل العطاء العقلي والمشاركة
الفاعلة للشباب في المرحلة الطلابية في بناء شخصيته والتفاعل السياسي مع المحيط،
بينما يمثل الشباب في سن 22-35 مشروع القيادة والريادة في بناء الأمة، وتوجيه دفة
مسارها، واستعادة كرامتها، وبناء مشروع نهضتها.







 



 




التحديات الكبرى
التي تواجه الشباب العربي:












اولا – ارتفاع
نسبة (الأمية التقليدية و الأمية الحديثة) في أوساط الشباب العربي، و انهيار
منظومة التعليم العالي و البحث العلمي و عدم مواكبة المناهج التعليمية لآخر
المستجدات العلمية و التقنية.














 ثانيا – تراجع الاقتصاد الانتاجي الحقيقي رغم
تضخم العائدات الريعية الناتجة عن ارتفاع أسعار البترول الا ان هذه العائدات توجهت
للمضاربة في قطاعات العقارات و الأسهم و لم توجه للقطاعات الانتاجية مما أدى الى
تفاوت طبقي كبير و تحول المجتمعات العربية الى مجتمعات استهلاكية معتمدة بشكل شبه
كامل للسلع و الخدمات المستوردة.






ثالثا –
الاستبداد السياسي و ما ترتب عليه جمود في هيكلية أغلب أنظمة الحكم العربية مما
أدى الى توغل الفساد و المحسوبية في أجهزة الدولة و غياب الرقابة على مؤسساتها
بسبب تزوير ارادة الشعب في انتخابات صورية معدة النتائج سلفا.






رابعا- ظهور نزعة
التطرف الديني و المذهبي لدى الشباب العربي و خاصة بعد غزو القطر العراقي (2003) و
محاولات شيطنة المقاومة ضد العدو الصهيوني و الاحتلال الأمريكي و طأفنة انتفاضات
الربيع العربي و التدخلات الاقليمية و الأجنبية و أموال (البترودولار) الفاسدة
التي ساهمت بدورها في ظهور نزعات قبلية و طائفية و مناطقية أعادت الأمة العربية
الى زمن ملوك الطوائف  و النحل و أمراء
الحروب. 







 




الحلول المقترحة
لمواجهة التحديات التي تواجه الشباب العربي:












أولا- رفع معدلات
الانفاق على قطاعات العليم الأساسي و العالي و البحث العلمي و وضع خطة قومية
للقضاء على الأمية و تطوير المناهج العربية مما يساهم في تقليل الفجوة بين اقتصاد
اليوم القائم على المعرفة و مخرجات النظام التعليمي.






ثانيا- اعادة
توجيه الاستثمارات العربية من قطاعات المضاربة الى قطاعات انتاجية حقيقية ذات قيمة
مضافة على الاقتصاد العربي و تساهم في حماية المجتمعات العربية من الاتكال على
المنتجات المستوردة و تعزيز الاستثمارات البينية مما يقلل الفجوات الاقتصادية
الهائلة بين الأقطار العربية.






ثالثا- نقل
السلطة الى أبناء الأمة و بناء دولة المواطنة الدستورية و تعزيز مبدأ فصل السلطات
و اشراك الشباب العربي في مراكز اتخاذ القرار و تعديل قوانين الترشح و الانتخاب
مما يساهم ايصال الشباب للمراكز القيادية.






رابعا- تجريم
الطائفية و التمييز على أساس ديني و طائفي و قبلي و مناطقي و توجيه الخطاب الديني
مما يساهم في رفعة الأمة و وحدتها.







 



 



 

اقرأ المزيد

ورشة التيار الوطني الديمقراطي | ورقة أ. محمد المرباطي



 




معالجات لبعض
مظاهر ازمة اليسار






1- الطائفية




:




               

بعد احداث 14 فبراير 2011 شهدت
جمعيات التيار الوطني الديمقراطي شكل من التصدع في العلاقات الداخلية تبلورت
خلالها بعض مظاهر الأزمة التي تجلت في بعض المظاهر السيئة مثل الإصفافات الطائفية
والعودة للجذور ، مما جعل من قوى وشخصيات التيار الوطني الديمقراطي تجد نفسها في
مؤخرة الحدث وتطوراته اللاحقة ، وقد قابل هذه الضعف قوة التيار الإسلامي وجعل قوى اليسار
في المؤخرة وهنا لا نعالج الخلفيات الطائفية او الإنتماءات التقليدية فالطائفية لا
تعني ان تكون سنياً او شيعياً او مسيحياً او يهودياً او من اي دين او عقيدة اخرى
بقدر كونها مشاريع سياسية ، فالمذاهب والأديان والعقائد عندما تستغل لمشاريع
سياسية تحمل بصماتها وابعادها الطائفية الخطيرة والبغيضة ، حينها من الحماقة
التحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ، وللطائفية اوجه متنوعة اخطرها الطائفية
المبطنة تلك التي باطنها الحقد والكره ، وظاهرها الحب والمودة ، فالطائفية الظاهرة
يمكن القضاء عليها ومحاربتها بشكل اسهل من الطائفية الباطنة ، التي تنخر جسد
المجتمع وتقوم على تدميره وتفتيت اوصاله من الداخل ، فمن يضمر الحقد اسوأ ممن
يجاهر به ، هكذا اصيب اليسار بعدوى الطائفية المبطنة ، وفعل فعله في تمزيق
اوصاله  .


       
لقد
اتصف اليسار بالتقدمية،

ووصفت القوى الأخرى
بالرجعية والتخلف وما شئت من المسميات التي
تحط من شأنها ، وتضعها في خانة المسؤولية التاريخية عن التخلف والإرهاب والجهل
والمرض ، وإعاقة التطور والمدنية … مقابل اليسار التقدمي الذي يعمل ابدا ليل
نهار من اجل التقدم والاشتراكية والعدالة الاجتماعية ، والرفاه الاجتماعي ، ومحاربة
العنصرية والطائفية ، ولكن هذه الشعارات البراقة كانت تخفي وراءها واقعا سيئاً
ينبئ عن الأسباب الحقيقية لإنحراف بعض شخصيات

اليسار في بلادنا.


 



 2- الخلل البنوي في
العلاقات  التاريخية  :



        


                لقد قام
اليسار على خلفية  اساسها مرجعية الأفراد









)









القيادات الكاريزمية









(









بعبارة اخرى الشخصيات الملهمة ، التي تقوم على الهيمنة الحزبية ،
من واقع ا

لإعتقاد بالقدرات الخارقة للقيادة او للزعيم ، وهي حالة
سلبية تميز بها الواقع السياسي العربي ، حيث تشترك الأحزاب والجماعات والأنظمة
السياسية والدينية واليسارية العربية بهذه الخاصية ،

وفي هذه الحالة اختلطت الهوية الحزبية بشخص
الزعيم القائد

، الذي ادخل هذه الأحزاب والجماعات في  انماط سلطة الهيمنة الحزبية ، عندما اخذت
بالزعامة الملهمة









)









الكارزمية









(









التي تقترب في طبيعتها
وهيمنتها مع مفهوم القيادة التقليدية ، التي تقوم على الإعتقاد بشرعيتها الدائمة ،
من هنا كانت البداية لإنحراف اليسار الرجعي ، عندما غلب الجانب التقليدي على طبيعة
قياداتها الملهمة









 )

الكارزمية









(









، ونتيجة لهذا اصبحت الجمعية او الحزب
مختزلاً في القيادة ، في  اطار المركزية
الحزبية المشوهة ، تحت شعار المركزية الديمقراطية التي نادى بها لينين في سلسلة
مقالاته في صحيفة









 

الإيسكرا (الشرارة) ، يشرح فيها
الشروط التي يتوجب توفرها في المنظمة الحزبية

، وقد جمعت في كتاب









 )

ما العمل) الذي
يتذكره اليساريون ، ولكن لينين عالج الظروف والأوضاع السياسية للواقع الروسي في
اواخر القرن الثامن عشر ، وفي فترة نفيه


إلى


سيبيريا


في ديسمبر 1895،
وقد تكون تعقيدات الأوضاع الروسية جعلته يبتعد قليلاً عن الماركسية التي تبتعد عن
المركزية كما جاء بها لينين ، فالماركسية تقوم على فلسفة جدلية التاريخ (



المادية التاريخية والمادية الجدلية ) التي تتعارض مع منطق الشمولية
والثوابت اومركزية البناء المؤسسي سواء كان اجتماعياً اوحزبياً ، لذا فالمركزية
الديمقراطية ليست من الأدبيات الماركسية .




 





3- التراجع الفكري لليسار التقدمي :



 

                    
مما سبق
نستدل على بعض جوانب الخلل في فكر اليسار ، الذي تخلى منذ البدء عن البعد الفلسفي
للمنهج الماركسي ، واخذ بالجوانب العملية لشروط الثورة الروسية ، وعندما

  نعود لتجربة الجبهة الشعبية
نجدها استنساخاً اعمى للتجربة اللينينية بمسمياتها ، حتى في تسمية النشرة  الحزبية

 
الإيسكرا (الشرارة)
، وبالتالي
لم تؤسس حركة اليسار قواعد فكرية واعية تنطلق من واقعنا ، مما تسبب في خلق هجين
حزبي يقوم على الطاعة الحزبية الغير مبنية على قناعات وإرادة الفرد ، بقدر ما هو
تنفيذ وامتثال أعمى لإرادة القيادة .  

 


                 إن هذه
المعادلة انقلبت بشكل عجيب في بلادنا 
والبلاد العربية الأخرى ، عندما انبعثت 
الروائح الدفينة في العقل الباطن ، الذي فعل فعله في استحضار الإنحيازات
الرجعية ، والميول الطائفية لشخصيات وقوي لا دينية ، في اسطفافات مموهة بأبعادها
السياسية وبخلفياتها الطائفية ، وقد عملت العجائب بعد ان انشطر اليسار على خلفية
مذهبية طائفية ، وصار مطبوعاً بالرجعية ، لأن اليسار التقدمي من الصعب ان ينزلق
نحو هاوية الطائفية والمذهبية ، او ان يأخذ بقيم التعصب العرقي الى غير ذلك من
عوامل التخلف ، ومواقفه هذه هي التي اضفت عليه صفة التقدمية خلال العقود الماضية



                    
إن هذا المنطق
العدمي قد الغى مصداقية اليسار بعد ان تخلى عن ادبياته ومناهجه الفكرية

، حتى تلك المعايير البسيط التي
قامت عليه تحليلاته السياسية ، فلم يعد لليسار مفهوماً عقائدياً بحجة الواقعية
السياسية لتبرير عقلية التحول من إطار او حزب تقدمي له مآثره التاريخية التي لا
يستطيع احدا إنكارها ، وله الكثير من الشواهد في بلادنا ، فمن يستطيع نكران ان
عددا من المؤسسات العلمية والمؤسسات الإجتماعية والمدنية قامت بجهود الأحزاب
اليسارية التقدمية ، والكثير من الشخصيات 
الفكرية والمثقفة والعلمية من اطباء ومهندسين ومحامين واساتذة جامعات كانت
بفعل القوى اليسارية ، والآن وقد تحول اليسار الى حركة أقل ما يقال عنها كتلة صماء
تراوح في مكانها ، تحت شعارات سياسية عامة ، وهنا لا بد من التأكيد  ان الشعار لا يشكل برنامجاً سياسياً والبرمانج
لا يشكل منهجاً فكرياً ، فمن السهل صياغة الشعارات والبرامج ، ولكنه من الصعب
الإستدلال العلمي الذي يعيد اليسار لمناهجه العلمية  ولحيويته التي تخرجه من خانة المهمشين .


 




4- التراجع المنهجي الفكري لليسار التقدمي : 



 

        لقد نشأ هذا التراجع مع مغادرة اليسار لمناهجه الفكرية ، والأخذ بالعموميات
التي ادخلته في متاهات الهوية وما رافقها من

تداعيات فكرية ومنهجية  ، ابرزها التخلي الكامل عن الفكر اليساري (
الماركسي ) تحت شعار ( تعويم الأيدلوجيا ) وهو

مصطلح
كان يهدف الى تدمير البنى
الهيكلية والإيدلوجية لليسار البحريني والتي نعيش تداعياتها اليوم ، وقد برز هذا
التوجه مع قيام الثورة الإيرانية ، حينها شهد اليسار خاصة اليسار المتطرف تصدعاً
ايدلوجياً وبنيوياً ، حسم حينها في اجتماع موسع بإستفتاء كوادر هذا اليسار الذي
تمثل في الجبهة الشعبية ، وكان اول انقسام بين تيارين ، تيار اخذ ببعض الخصوصيات
الدينية متأثرا بكتابات الدكتور محمد عابد الجابري مثل (



ثلاثية نقد العقل العربي
)

التي تعالج


تكوين العقل العربي
، وبنية العقل العربي، والعقل السياسي العربي

وغيرها ، وقد احدثت حالة فكرية
بين تيارين ، تيار في حركة اليسار العربي التقدمي ، الذي واجه افكار واطروحات
الجابري بإنتقادات شديدة منها كتاب ( نقد نقد العقل العربي ) للمفكر السوري جورج
طرابيشي ، وفي السياق ذاته انتقد المفكر التونسي

فتحي التريكي ما ذهب
اليه الجابري حول وجود عقل عربي وآخر غربي،

كذلك انتشرت بين بعض  قوى اليسار كتب
المفكر الجزائري محمد
اركون ، خاصة كتابه ( العلمنة والدين 

) ، لذلك نجد اليسار في حالته
الراهنة هو نتيجة لهذه التراكمات الطويلة ، ليس بإتجاه التفاعل الفكري بقدر
الإنحطاط الثقافي ، وابرز تجلياته الاصطفافات الطائفية المبطنة الراهنة ، والذي
يضعنا امام سؤال : ماذا يعني ان يكون اليساري نصيرا للطائفية بل ويكون طائفيا في
مجال الفكر والممارسة ، لذا اصبح اليسار الرجعى لا يقاس بإنحيازه نحو مثاليات
الواقع الإجتماعي وافرازاته ، وانما مغادرته النهائية لفلسفته المادية التي تقوم
في موضع التحليل السياسي بأن الواقع الإقتصادي يفسر الحياة السياسية ، ولأن
السياسة هي نتاج للحياة الإقتصادية ، وهي الأساس الموضوعي

للمنهج اليساري في
( ا

لمادية
التاريخية)



















.


 




5- حتى لا يكون اليسارعبئاً من الماضي :




 


             
      جميعنا يرى في هذا الواقع العيوب ، ولكن قد
لا نرى بأننا مصابون بها ، لأننا فصلنا مناهجنا العلمية عن الواقع وعن الممارسة ،

فهناك
الكثير من حالات النسيان للتاريخ واحداثه وشخوصه ، ولربما اصبح عبئاً من الماضي
بعد ان صار اليسار ليس يسارا وغدا يسارا رجعياً 
،  يتحرك وفق اهواء ونزعات قاع
المجتمع ، والموروث التاريخي ، فهذا ليس بذاك اليسار التقدمي الذي طبع بصماته على
وجوه مئات الأطباء والمهندسين والنقابيين والمعلمين ، والكتاب واصحاب الفكر والقلم
في هذا البلد الصغير ، واسس لمقدمات الحداثة المطبوعة بالجمعيات الحقوقية
والإجتماعية والنقابية والنسائية ، فذاك اليسار التقدمي الذي لم يتصف اطلاقاً بعفن
المجتمع ، صار اغنية نستحضرها  في بعض
مناسباته للذكرى ،

بعد
ان تخلى عن مبادئه وتحول لمجرد ظل  لا وزن
له في الحراك السياسي ، لهذا أدارت قواعد وجماهير اليسار ظهرها وغادرت مواقعها ،
واقتربت اكثر واكثر للميل نحو الجذور الطائفية ظناً منها انه الواقع الذي يمثل
مصالحها في معادلة الصراع السياسي ، لذا كان من الطبيعي أن نشهد هذه التحولات ،
خاصة في هذه المرحلة الإستثنائية  ، وهنا
يصح القول العامي لأي مواطن عادي يتساءل عن الأسباب التي تجعله ينحاز لليسار بعد
ان تماهى في خصوصيات القوى والتيارات الأخرى .










       لقد تمكنت بعض الشخصيات اليسارية من قمع
وتشويه وعزل الذين يفكرون بطريقة اخرى ،

وتجلت هذه
الممارسات في جذور تلك الصراعات التي مزقت

مكونات اليسار في بلادنا ، بعد ان
انحرفت
بوصلة افكاره نحو الهاوية ،

ولم يعد من السهل ان نتعرف على انفسنا وسط هذا الضياع والغموض
الذي
انتهى وللأسف الشديد الى الإصطفاف الطائفي المبطن ، من خلال منظومة الأفكار
العامية للمجتمع وإنصهارها في اللآوعي ممزوجة بجملة من الأفكار المثالية المترسبة
في اعماق عقلنا الباطن

.    


     
     السؤال المطروح ما الذي حدث حتى غرق اليسار
في  خلافات اتسمت بأبعادها الطائفية
المخالفة لكل القيم والمقاييس الإنسانية ، هل هي نتيجة لتطورات متلاحقة فرضت
واقعاً جديداً من الإصطفافات لقوى جديدة اكثر قوة وحيوية وإمتدادات شعبية جعلت
اليسار يتماهى في محيطها ، ام ان السبب الحقيقي لتراجع اليسار هو تخليه عن دوره
التنويري  ، او أنه لم يعد بمقدور بعض
عناصر هذا اليسار الابتعاد عن الجذور الطائفية أو الوقوف على الحياد .         


             للإجابة على هذا السؤال
علينا ان نعود للوراء عندما كان
اليسار مشروعاً حضارياً ، حينها كان اليسار اكثر وضوحاً في مناهجه السياسية
والفكرية ، وكان اكثر جاذبية وشعبية في طروحاته ، كان يملك زمام المبادرة لإبراز
القضايا ، حينها لم  يكن العمل السياسي في
محيط اليسار مضيعة للوقت وللذات مثلما هي الآن .




6- لم يقدم اليسار البديل التقدمي :











 

                لقد انحدر اليسار لأحط مراحله ، نتيجة
لعجزه امام بروز القوى الدينية التي اكتسحت ساحات اليسار التقليدية ( العمالية
والطلابية والبرجوازية الصغيرة والمتوسطة ) 
ولكن اليسار لم يدرك هذه الحقائق بعد ان تخلى عن ادواته العلمية في تحليل
حركة التاريخ وتحولاته ، واخذ

يطبق سياسات اجتماعية مضللة
  ، لذا نجده قد فشل في تقديم البديل ألإيجابي
لمواجهة التيارات الطائفية والقوى الرجعية 
، وابرز تجلياتها الإصطفافات الطائفية في محيطه عندما مست مفاصله الداخلية
وشملت امتداداته في اهم جمعيات المجتمع المدني مثل المحامين والأطباء والأدباء
وغيرها ، وعند  الحديث عن الطائفية لا نعني
بها السنة والشيعة كطرق وعقائد دينية مذهبية ، ولكن الخطورة تكمن عندما تتحول هذه المذاهب
والعقائد من حالة تعبد واعتقاد الى مشاريع سياسية يعمل اصحابها على فرضها كواقع
سياسي واجتماعي في الحياة العامة ،

حينها يصبح التعايش الإجتماعي ضرباً
من المستحيل ما لم تعزز الروح الوطنية وتغلب على المصالح الذاتية الضيقة ، من هنا
تتضح لنا مخاطر تخلى اليسار عن افكاره ومناهجه ، وقد اثبت التاريخ بأنه مع تخلى
اليسار عن صيرورته الفكرية بدأت معها الوطنية تتلاشى ، وبدأت مراجع الفكر التنويري
تضمحل ، ونتيجتها كان هذا التدهور السياسي – الإجتماعي – الفكري -  مقابل انتعاش الإصطفاف الطائفي  

.


 
     إن ما تبقى من اليسار التقدمي هم اؤلئك
الذين انحنت ظهورهم  ، وأصبحوا في سن
الشيخوخة وما يرافقها من أمراض الوداع الأخير، لذا فقد صار ضرورياً تسمية الأشياء
بمسمياتها ،

ما دام
هناك متسعاً من الزمن ، فما يحدث في اليسار لا يمكن تصنيفة بحرية الرأي او التعبير
، او نوع من تعدد الآراء فالتعدد السياسي وإن تستر بالهوية الوطنية
الديمقراطية  ، لم يعد بالإمكان انكار
تصنيفاته تبعا للهوية الطائفية وانحيازاتها المبطنة ، ويخطئ من يظن انها دعوة
لإثارتها ،  فما حدث من تصادم في مفاصل
اليسار لم يعد بالإمكان  تجاهله ، فقد
اصبحت حالة مزرية ان ينصر اليسار الرجعي بعضه البعض حسب مكونه المذهبي ، إنه من
العار ان يوصف اليسار بالطائفية او الرجعية ولكنها الحقيقة ، وتجاهلها ادت
لإستفحال ظاهرة انعاش الهوية الطائفية التي طغت على الهوية الوطنية ، وقد اصبح من
السهولة تهييج النزعة الطائفية ، ولكن من الصعوبة معالجتها لأسباب الآثار النفسية
التي راكمتها ، وفي هذا الصدد لا يختلف احدنا ان بعض عناصر اليسار قد نجحت

 في تحويل الصراع الإجتماعي الى تطاحن ذاتي ، في
عملية تدميرية لمكوناته الفكرية والمنهجية التاريخية ، التي افرزت بدورها تلك
المواقف المبطنة في الإنحيازات الطائفية التي تعكس طبيعة الصراع الذي يقوم على

استعارة
الماضي ذا الخلفيات الطائفية تجاه كافة المواقف

، علماً بأنه لا يمكن إطلاقًا أن تكون
تقدمياً وعلمانياً وفي الوقت ذاته تبطن فكرا طائفياً شوفينياً يعادي مسلمات الواقع
.




 




7- اليسار لم
يملك مشروعه السياسي :




                  
إن احد ألأسباب
الهامة لتراجع اليسار انه لم يعد يملك مشروعه السياسي

، والرأي النقدي
الواضح لطبيعة القوى السياسية الأخرى ، وممارساتها

في إطار علاقتها
بمجمل قضايا الصراع ، وكان على اليسار ان يميز بين الأديان كعقائد وبين المشاريع
السياسية سواء كانت بعناوين دينية او علمانية ، فهي تعبر عن مصالح فئات اجتماعية ،
وعلى هذا فمن الخطأ الحديث عن مشروع سياسي واحد، لأننا لو فعلنا ذلك لأغفلنا
المصالح الاجتماعية المتناقضة، والتي تحدد رؤيتنا وفهمنا لطبيعة القوى السياسية
الأخرى من حيث طبيعتها وانحيازها، وعلى هذا الأساس تقوم جميع التحالفات كمواقف
تكتيكية بين فصائل سياسية متناقضة تعبر عن قوى اجتماعية متنوعة

 ،
عند هذه الجزئية نجد اسباب انهيار الثقة بين اليسار وبين
محيطه الشعبي ، في حين نجد  جميع القوى
السياسية من يسارية وقومية واسلامية  تحمل
ذات الشعارات الإصلاحية ، ولكنها لا تحمل ذات الطبيعة السياسية مع اختلاف ابعادها
العقائدية التي استقطبت من خلالها حشودها وتأييدها الشعبي ، فجميع القوى ذات
الإمتدادات الشعبية الواسعة استغلت العقيدة في عملها وتعبئتها ، حيث طغى البعد
العقائدي على شعاراتها السياسية ، ولهذا فاليسار قد اخفق عندما تخلى عن طبيعته
الأيدلوجية ( العقائدية ) واخذ ببعض الشعارات السياسية الفاقعة التي تظهره على
السطح كفقاعات سرعان ما تتبخر ، لتترك المجال للقوى العقائدية التي نجدها تسيطر
على الساحات العربية كنتائج لثورات شعبية عارمة ( الربيع العربي ) مثال مصر وتونس
التي سيطر فيها الجماعات الدينية ( اخوان المسلمين والسلف )، وفشل اليسار في
تقديم  نفسه كقوة تغيير إيجابية مع عدم
إمتلاكه اية اجوبة مقنعة عن طبيعته السياسية والعقائدية ، فهو يذوب في مزيج من
الديمقراطية والشمولية ، فنجده في ليبيا ليبرالياً ، وفي العراق والبحرين طائفياً
، وفي تونس حداثياً ، وفي سوريا شمولياً ، وفي مصر متذيلا من عبدالناصر إلى مبارك
، وهي النتيجة الطبيعية لحالة الصراعات الداخلية حول تفاصيل السياسية والأيدلوجيا
، والتي بدورها اوجدت الحالة الموضوعية للحالة الراهنة التي تشخص اليسار في نطاق
الجماعات المتشرذمة في محيطها الضيق ، ولا يجمع هؤلاء سوى الخلافات ، لأسباب عدم
إمتلاك اليسار لمشروعه ولمنهجه الواقعي الذي يحقق 
وحدته في اطار حركة ديمقراطية تقدمية ، بقدر هاجس السلطة والهم السياسي
الذي طغى على جميع القوى السياسية ، ومنها التيار اليساري الذي غابت ملامحه في
الحراك السياسي العام، في حين كان اليسار بحاجة لتعزيز قواه  الثقافية الاجتماعية للتغيير الثقافي
الإجتماعي  التي تخلى عنها خلال العقدين
الماضيين.

اقرأ المزيد

ورشة التيار الوطني الديمقراطي | ورقة أ. شوقي العلوي



آفاق تحالفات
التيار الوطني الديمقراطي مع القوى السياسية



 


إختار لي الأخوة
الأعزاء أصحاب هذه الدعوة الكريمة التحدث في المحور الأخير من هذه الندوة، وهو
عنوان مهم لتعلقة ليس بالمستقبل كما يوحي العنوان “آفاق”، ولكنه عنوان
يتعلق بالعقد الماضي بأكمله وبالحاضر الوطني وبالمستقبل، أي فيما يتعقلق بكل
تحالفات التيار الوطني الديمقراطي مع القوى السياسية فيما مضى وفي حاضرنا الوطني وفي
المستقبل.


لا أدعي أنني قادر
بجدارة على تناول هذا العنوان الكبير في تواجد هذا الجمع الكريم، فهناك من هم أقدر
مني بكثير، وهناك من يزاول هذا الهم بشكل يومي من قادة تنظيمات التيار الوطني الديمقراطي
والمنتمين له، فهم يعرفون ما لا يعرفه من يراقب ما جرى وما يجري على الساحة
الوطنية عن بعد إلى حدٍ ما، أرجو اعتبار هذه المشاركة مني مساهمة متواضعة في هم نتشارك
فيه جميعا.


باعتقادي المتواضع
أنه لا يمكن الحديث عن آفاق تحالفات التيار الوطني الديمقراطي مع القوى السياسية
إلا بعد فهم الواقع الوطني القائم وخريطة قواه السياسية، وكذلك تحديد قوى التيار
الديمقراطي وفهم العلاقات البينية القائمة بين قوى هذا التيار المنظمة في جمعياته
السياسية والمجتمعية وشخصياته التي هي خارج هذه التجمعات المنظمة.


أعتقد أن هناك
سؤالا جوهريا ومهما يتعلق بهذا التيار، وهو هل العلاقات بين قوى هذا التيار هي
علاقات سوية تساهم في قوة هذا التيار وعطائه؟ أرى أن العلاقات البينية بين قوى هذا
التيار طوال العقد الماضي لم تكن بالمستوى المطلوب، فإذا كانت العلاقة بين قوى هذا
التيار ليست بالمستوى المطلوب والمنتظر، فلا يمكن رسم علاقة صحيحة وصحية مع القوى
السياسية الأخرى. المطلوب إصلاح البيت الداخلي لنا، فلن تعطينا القوى السياسية الأخرى
الاعتبار الذي نستحقه ما لم نكن مميزين ومتميزين. مع احترامي للقوى السياسية
الأخرى فلا هي ولا النظام سيعطونا وزنا إلا من باب رؤيتهم وبرامجهم وليس من باب
رؤيتنا وبرامجنا، لذا نبدو بأننا إن لم نكن ممزوجين بأحدهم فنحن على الهامش منهم.
بالتأكيد سيختلف معى البعض عندما أقول لا القوى السياسية الأخرى تريدني أن أكون
قويا ومتميزا ولا النظام يريد لي ذلك، وهذا حق للقوى السياسية الأخرى وللنظام
كذلك، من باب المنافسة السياسية على الأقل، فأي مساحة يأخذه التيار الديمقراطي
ستكون في جزء منها على حساب القوى السياسية الأخرى أو على حساب مساحة مستحوذ عليها
من قبل السلطة، لذا فإن أي تحالف في جزء كبير منه يخلق نمطا من العلاقات
الانتهازية بين أطراف العمل السياسي، وهذا ظاهر و واضح للعيان.


لذا بالنسبة لي
أملك أن أسأل أكثر من أن أملك إجابات في هذا المحور، أسأل من هو منخرط من قادة
جمعيات التيار الديمقراطي والمنتمين لهذه الجمعيات: هل قمتم بما هو مطلوب منكم في
تعزيز وحدتكم وقوتكم وتميزكم، حيث أنه بدون هذا التعزيز والتميز لايمكنكم الحديث
عن تحالفات، فأنتم تبدون أمام من يريد أن يسىء لهذا التيار و يتصيد في الماء العكر
أنكم تابعون للآخر، وقد تعززت هذه الإساءات بالذات خلال 14 فبراير 2011 وحتى هذه
اللحظة. أقول رأيي بصراحة قد تبدو قاسية، فقوى هذا التيار خلال العقد الماضي
وبالذات وبشكل واضح خلال فترة 14 فبرير 2011 وحتى الآن هي ليست صانعة حدث، وإنما
هي تجري خلف الحدث عبر علاقاتها مع قوى الاسلام السياسي الشيعي، وأنا هنا لا أدعي
لفصم هذه العلاقة، ولكنني أقول إن المطلوب من قوى التيار الديمقراطي أن تعمل على
خلق حالة وطنية، وهو ما فشلت فيه بامتياز وبالذات في الأزمة الراهنة التي انشق
فيها المجتمع عموديا، بل وسرى هذا الانشقاق حتى إلى صفوفنا، فالساحة الوطنية ليست
ساحة طائفة قبالة طائفة، وهو ما نجحت فيه السلطة وفشلنا نحن فيه؟ كان المطلوب من
قوى التيار الديمقراطي أن تكون واعية لهذه اللحظة التي كانت بادية قبل حالة
الانفراج التي تمت في بدايات العمل السياسي العلني وأصبحت أكثر وضوحا مع بدايات 14
فبراير 2014 وما بعده.


فالسؤال الموجه
لقوى هذا التيار، هل أدارت هذه القوى تحالفاتها بالشكل الصحيح خلال العقد الماضي
وبالذات خلال الأزمة الراهنة؟ ولماذا هي عاجزة في مثل هذا الوضع الذي يمر به الوطن
عن تكوين حالة وطنية جامعة، خاصة وأننا عابرون للطوائف كما نقول باستمرار؟


أقول بكل أسف وألم
وصراحة أن قوى التيار الوطني الديمقراطي أصبحت تبدو أنها جزء من حالة الانشقاق
المجتمعي عموديا، ساعد في ذلك الاسلام السياسي وتكويناته ببنية ترتكز على المنتمين
لطائفة دون الأخرى في ظل حراك معارض يرتكز على طائفة تنتمي لمذهب بعينه.


بالتأكيد أنني
ابتعدت عن عنوان المحور الذي طلب مني الحديث فيه، حيث أنه لا يمكن حسب تصوري
الحديث في هذا المحور دون معالجة أوضاعنا الداخلية وأداء أدوارنا بشكل متميز ومميز
نعمل من خلاله على خلق حالة وطنية.


وحتى لا أظلم
عنوان المحور الذي طلب مني الحديث فيه، فإنه في ظل الواقع القائم، فإن القوى
السياسية المقصود الحديث عن آفاق التحالف معها هي قوى الإسلام السياسي الشيعي
بالدرجة الأولى. هنا أرى أن هذه القوى ليست في بوتقة واحدة، هناك تباينات بينها،
لكن السلطة استطاعت بممارساتها أن تضعهم جميعا في بوتقة واحدة، بل واستطاعت وضع
قوى التيار الديمقراطى معهم في نفس البوتقة، وهي بوتقة التطرف والعنف، لذا يجب على
قوى التيار الديمقراطي أن تكون أكثر تميزا وأن تكون حساباتها غير حسابات حلفائها
من قوى الإسلام السياسي الشيعي. بالتأكيد أن هناك قوى في الإسلام السياسي الشيعي
تتبنى خطابا وممارسات أضرت وتضر بالعمل الوطني، ربما لا يستطيع الحلفاء من الإسلام
السياسي الشيعي مواجهتم بوضوح تام ولا يتم رفضهم وعزلهم، ربما تحت مبرر وحدة
الشارع الشيعي المعارض، فخلال فترة الدوار وما بعده في ظل الأزمة القائمة برزت
ممارسات وخطابات لم يتم رفضها وإدانتها بشكل واضح، مما أوجد حالة من الالتباس
استفادت منها السلطة ولا زالت تستفيد.


جميعنا يعرف أن جل
المطالب المطروحة على الساحة هي مطالب مشروعة وتستحق التحالف بشأنها، لكن يجب أن
نكون واضحين ومميزين ومتميزين في أي تحالف قائم أو تحالف مستقبلي، مع التأكيد أن
التحالفات القائمة أو المستقبلية منها في ظل انشقاق عمودي للمجتمع ستكون عديمة
الجدوى إن لم نستطع خلق حالة وطنية تنتشل الوطن من هذا الانقسام. للأسف أقول إن
هذه المطالب ومع مشروعيتها لن تتحقق في ظل هذا الانقسام ما لم يتم خلق حالة وطنية
جامعة.


بصراحة نحن أسرى
للحالة القائمة القاتمة، ربما أرى أنا ذلك وقد أكون مخطئا، ويرى غيري غير ذلك،
وبالذات من هو منغمس في الحدث ولديه علاقات مباشرة مع الفاعلين والمؤثرين.


أرى أنه يجب علينا
أن نكون واعين ومدركين من هو المقصود بالتحالفات معه عندما نشير إلى تحالفات
التيار الديمقراطي مع القوى السياسية، فالواضح أن المقصود بهذه التحالفات هي قوى
الاسلام السياسي الشيعي، لابأس من التحالف معها في ملفات معينة بشروط واضحة، فلسنا
نحن من أوجد قوى سياسية ذات بنية ترتكز على مكون من طائفة، لكن الواقع يجبرني على
التعامل معها، وقد تكون هناك تحالفات مع قوى سياسية أخرى في ملفات معينة وبشروط
واضحة قد تكون قوى الاسلام السياسي الشيعي في تضاد معها، وقد تتحالف قوى سياسية في
مرحلة ما وفي ملفات معينة حتى مع السلطة، هذا هو العمل السياسي، فيجب على التيار
الديمقراطي أن لا يكون مرهونا في تحالفاته مع قوى معينة دون غيرها.


بالتأكيد هذه
الفعالية ترسم مؤشرا قد يكون إيجابيا أو قد يكون سلبيا، إيجابيا إذا استطعنا ايجاد
حالة من الاستمرار للتشاور وإبداء الرأي وقدرتنا على الاستماع لبعضنا البعض
وتفهمنا لبعضنا البعض، أما خلاف ذلك فإن المؤشر سيكون سلبيا.


أنتهز هذه الفرصة
لأدعو أولا من ابتعد بل واستقال من جمعيته بسبب تباينات في الرأي أن يعود لمكانه
الصحيح، فمساحة الاتفاق هي الأكبر والأوسع من هذه التباينات.


شكرا لكم جميعا


 


شوقي العلوي


 


 



 

اقرأ المزيد

آفاق ومحددات الإسلام السياسي في بلدان الانتفاضات الشعبية – د. هاشم نعمة

طرح صعود قوى الإسلام السياسي، في
الانتخابات التي اعقبت نجاح الانتفاضات في اسقاط بعض رؤوس الأنظمة في
البلدان العربية أو صعودها في الانتخابات التي تلت إجراء بعض الإصلاحات
الدستورية والسياسية، كما في حالة المغرب؛ طرح العديد من الأسئلة، وأثار
الكثير من النقاشات وسط المفكرين والباحثين والأكاديميين حول أسباب ونتائج
وآفاق تطور هذه الظاهرة، ولامست هذه النقاشات المرجعية الفكرية للإسلام
السياسي فيما يتعلق بموقفه من الدولة وشكل بنائها.



في الواقع، لم يكن
هذا الصعود مفاجئا، بل كان متوقعا قبل اندلاع الانتفاضات، في ظل موجة
العودة إلى الدين التي شهدتها مجتمعات البلدان العربية والإسلامية، منذ
نهاية السبعينات، وأوائل الثمانيات من القرن الماضي. هذه الظاهرة تلاحظ على
مستوى الخطاب والممارسة الدينيين؛ وكأي ظاهرة اجتماعية تقف من وراء صعودها
مجموعة متشابكة ومتداخلة من العوامل السياسية والاجتماعية-الاقتصادية
والتاريخية والثقافية، وهذه لا بد أن تكون حاضرة في سياق التحليل المعمق
والاستنتاج. ورغم إننا في هذه المقالة ليس بصدد تحليل عوامل هذا الصعود
السابق للانتفاضات؛ لكن يمكن أن نشير إلى بعض عوامله الأساسية المتمثلة
بطول حكم الأنظمة المستبدة التي سدت كل إمكانيات التغيير السلمية، وفشل
المشروع القومي العربي بتلاوينه المختلفة، وبالأخص الذي وصل إلى السلطة،
وتراجع نفوذ اليسار العربي، وغياب تنمية اجتماعية –اقتصادية، ثقافية
حقيقية، وسلوك الدول الغربية المنافي للديمقراطية في دعمها الواضح لهذه
الأنظمة، رغم رفعها شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وانهيار
منظومة البلدان الاشتراكية نتيجة تفاعل أسبابها الداخلية بالأساس، وما خلفه
هذا الانهيار من خيبة أمل واسعة وسط الشعوب، وتراجع نفوذ اليسار عالميا،
إضافة لعوامل أخرى.



تزايدت ظاهرة تدين الوعي الجمعي في المجتمعات
العربية، ولامس ذلك منظومة المعايير والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية، وهو
ما لا يعني بالضرورة ازدياد مخزون القيم الأخلاقية وإنما بالأساس اللجوء
للهيرومنطقيا في تفسير الظواهر السياسية والاجتماعية بحيث يصبح كل ما هو
اجتماعي سياسي، قابعا تحت سلطة التفسير الديني وتحت هيمنة شيوخه ودعاته
وفتاواهم، ناهيك عن الانفصام الملحوظ بين الدين والتدين، والقيم والسلوك.
وتم توظيف المفاهيم والمصطلحات الدينية على المستوى السياسي إلى أبعد
الحدود. وعادت شعارات “دولة الإيمان” تتعامل بمسميات قيمية لمصالح دنيوية
شرط أن يكون “رجال الدولة من رجال الإيمان”(1). ويمكن أن نجد تفسيرا لهذه
العودة في مقولة ماركس بأن الدين هو زفرة المضطهدين وعزاء لمشكلة الحرمان
الاجتماعي الذي تلجأ له الطبقات المسحوقة تعويضا عما يلحق بها من ضيم
اجتماعي في عالم “لا قلب له”.



والملاحظ أن معظم الحركات الإسلامية
الحالية في الشرق الأوسط، هي فروع أو هي سليلة حركة الأخوان المسلمين في
مصر، بدأت كأحزاب مشغولة بقضية واحدة تتمثل بالاهتداء بالشريعة الإسلامية
وتطبيقها. وفي بداية التسعينات، ولأسباب مختلفة في كل حالة، بدأت تركز بشكل
متزايد على الاصلاح الديمقراطي، وألزمت نفسها علانية بأنها ستكون بديلا
للسلطة القائمة، وطالبت بسيادة الشعب واستقلال القضاء. وقالت بأن
الإسلاميين لم يكونوا وسوف لن يكونوا ليبراليين. وبقت هذه الأحزاب تعتمد
على الفئات المحافظة اجتماعيا، وهي بشكل ثابت تتبنى أفكارا يعتبرها معظم
الأمريكيين بأنها ممقوتة ضمنها موقفها من حقوق المرأة وبأنها ينبغي أن تكون
محدودة والفصل بين الجنسين(2).



نجاح الحركات الإسلامية في تبوؤ الصفوف
الأمامية للمعارضة وتقديم أنفسها كبديل حيوي وحيد للأنظمة العاجزة ساهمت
فيه أيضا سياسات تلك الأنظمة. فخلال العديد من الفترات إبان الحرب الباردة
شجعت ودعمت عدة حكومات، بما فيها الجزائر، والأردن، ومصر، وتركيا،
وإسرائيل، الإسلاميين كنقيض في مواجهة الحركات الشيوعية والوطنية. وعلى
الأقل حتى اندلاع حرب الخليج، كانت السعودية ودول خليجية أخرى تمد الإخوان
المسلمين وحركات إسلامية أخرى في دول عديدة بأموال طائلة. إن قدرة الجماعات
الإسلامية في التقدم على المعارضة تحسنت أيضا نتيجة قمع الحكومات للمعارضة
العلمانية التي ليس لها غطاء مثل الذي تتمتع به الحركات الإسلامية، ومن ثم
فإن قوة الأصوليين ترتبط بعلاقة عكسية مع قوة الأحزاب العلمانية
والديمقراطية الوطنية(3).



في حالة انتفاضة البحرين التي بالرغم من جذرها
الاجتماعي والاقتصادي الناجم عن البطالة والفقر والتهميش وتردي الأوضاع
المعيشية وسط الشيعة خصوصا، فإنها ألبست لبوسا طائفيا، نتيجة العديد من
الأسباب منها حرص النظام على تأكيد هذا الجانب للقول بأن هذه الانتفاضة
تهدد وحدة المجتمع البحريني، علما، في البداية، رفع المتظاهرون شعارات
تطالب بإصلاحات دستورية، ولكن عندما تدخلت قوات درع الجزيرة لقمع
الانتفاضة، صعد المتظاهرون من مطالبهم بإسقاط الملكية.



أدت ثلاثة عقود
من التمييز في عهد الاستقلال إضافة إلى التركة الاستعمارية، إلى تكريس
الانقسام الطائفي بين السنة والشيعة، مع شعور ترسخ لدى الشيعة بأنهم مهمشون
وضحية التمييز، بالإضافة لقمع السلطة لليسار طوال السبعينات والثمانينات،
مما أدى إلى تراجعه. لقد أفرزت هذه الوضعية قوى سياسية وقيادات دينية تستند
إلى الطائفة، بل حتى إلى المدرسة الفكرية في الطائفة نفسها. ومن هنا عندما
دشنت المرحلة الجديدة، بعد تولي الملك الحالي للسلطة عام 1999، تشكلت
التنظيمات السياسية الرئيسية استنادا إلى الطائفة أو الخط الفكري في
الطائفة، حيث تشكلت جمعية الوفاق كأقوى تنظيم سياسي مستندة إلى ولاية
الفقيه، فيما تشكلت جمعية العمل الإسلامية، استنادا إلى مرجعية آية الله
الشيرازي (الولاية المشروطة)، وجمعية التجديد استنادا إلى خط سفارة المهدي.
وعلى الجانب السني، تشكلت جمعية المنبر الإسلامي لتمثل الأخوان المسلمين،
وجمعية الأصالة لتمثل السلفيين، وجمعية الوسط لتمثل خط الوسط، اما التيار
الوطني الديمقراطي ممثلا في جمعية العمل وجمعية المنبر التقدمي والتجمع
القومي وجمعية الوسط، فقد استقطبت القلة في أوساط الطبقة الوسطى(4). وقد
انعكست حدة الاستقطاب الطائفي سلبا على مجمل الحركة الجماهيرية، وعلى مجمل
حركة المعارضة، في تبني مشروع وطني ديمقراطي عابر للطوائف، يهدف إلى بناء
دولة مدنية ديمقراطية، وهذه الحالة شبيهة بالعراق بعد سقوط النظام عام
2003! حيث اعاق الاستقطاب الطائفي وتبني نظام المحاصصة الطائفية والإثنية،
إعادة بناء الدولة العراقية على أساس المشروع الوطني الديمقراطي.



ما بعد الانتفاضات



كما
هو معروف، لم يشارك تيار الإسلام السياسي في تفجير هذه الانتفاضات بل
التحق بها متأخرا، بعد أن ظهرت مؤشرات أولية على نجاحها. وقد تبنت
الانتفاضات منطلقات سياسية واجتماعية واقتصادية ولم تكن مرجعيتها دينية.
وعلى الرغم من طابعها الليبرالي الغالب، إلا ان مسارها اتخذ فيما بعد
اتجاها مختلفا، ببروز حضور واضح على المستوى السياسي للتيار الإسلامي بكل
فصائله.



ففي مصر استحوذ الإخوان المسلمون والسلفيون على ثلثي مقاعد مجلس
الشعب والشورى، وتقاسمت باقي القوى الثلث الباقي. وفي تونس حصل حزب حركة
النهضة، ذو المرجعية الإسلامية، على 90 مقعدا في المجلس الوطني التأسيسي أي
بنسبة 41,4%(5). وتعود أهم أسباب هذا التحول إلى أن معظم الجماهير التي
شاركت في الانتفاضات، والتي تنتمي إلى طبقات وفئات اجتماعية عرضية لم تكن
مسيسة، وبمعنى أدق لم تكن منخرطة في تنظيمات حزبية ذات أطر تنظيمية منضبة
وتمتلك برامجا محددة، في حين نجد أن الإخوان المسلمين أكثر التنظيمات
انضباطا، ولهذا استطاعوا تعبئة جماهيرهم في الانتخابات. وهذا يؤكد دور
التنظيم الحزبي، الذي جرى التقليل من اهميته في مجرى الانتفاضات ونشوة
انتصارها، وتحدث البعض عن ضرورة تجاوزه، إذ لا يكفي أن يكون الوضع مهيأ
للتغيير، وهناك جماهير عريضة تسند هذا التغيير بدون أن تكون هناك ادوات
تنظيمية فاعلة.



وقد أثارت تصريحات بعض قيادات التيار الإسلامي في مصر،
قضايا خلافية وفي مقدمتها مسألة الدولة المدنية والدولة الدينية. وبعض
هؤلاء القادة انتقدوا الأولى على أساس أنها تخالف الإسلام بالقول أن
الإسلام دين ودولة. وإذا كان بعض أعضاء الإخوان المسلمين يحاول التوفيق بين
مصالح الدولة المدنية والإسلام، فإن حزب النور السلفي قد أعلن صراحة أنه
لا يقبل مصطلح الدولة المدنية من الأساس؛ لأنها تساوى في رأي قادته الدولة
العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة.



وقد تدخلت مؤسسة الأزهر بثقلها
الديني، في محاولة لفك الألتباس والخلط الحاصل بين السياسة والدين وبين
الدولة والدين؛ فأعلنت في بيان التوافق الصادر عن المجتمعين من علماء دين
ومفكرين ومثقفين “أن الإسلام لم يعرف ما يسمى بالدولة الدينية”. وأكدت هذه
الوثيقة على وجوب التفريق بين الدين والسياسة، وأن المؤسسات الدينية، لا
ينبغي لها أن تتحول إلى أداة في الصراعات والمصالح السياسية. وقد دفع هذا
الموقف بعض التيارات الإسلامية إلى المطالبة بتحدي سلطة الأزهر الدينية
وحتى الوطنية(6)، والسعي للسيطرة على قرارها من خلال تغلغل أتباعها في هذه
المؤسسة التي تتسم بالوسطية في فهمها الإسلام.



في هذا الصدد يذكر المفكر
محمد عابد الجابري أن (ليس في القرآن قط، وهو المرجع المعتمد أولا وأخيرا،
ما يفيد بأن الدعوة المحمدية دعوة تحمل مشروعا سياسيا معينا). لذلك هو
يتحفظ على الروايات التي تفيد بأن الدعوة المحمدية كانت ذات مشروع سياسي
واضح يتمثل في إنشاء دولة عربية رافقها منذ منطلقها وبقيت محتفظة به تعمل
من أجله إلى أن حققته. وهذا لا يمنع من وجهة نظره من قراءة الدعوة المحمدية
قراءة سياسية من نوع ما. ذلك لأن خصوم هذه الدعوة، وهم الملأ من قريش، قد
قرؤوها منذ البداية قراءة سياسة فمارسوا السياسة ضدها. إنهم رأوا فيها دعوة
تستهدف الإطاحة بما كان يشكل أساس كيانهم الاقتصادي، وبالتالي سلطتهم
السياسية. لذلك لم يكن من الممكن أن تبقى الدعوة المحمدية “سلبية” أمام
ممارسة قريش السياسة ضدها، بل لا بد أن تحاربها بنفس سىلاحها، أو على الأقل
كان لا بد لها من أن تجعل السلاح السياسي من جملة أسلحتها (7). إذن اختيار
الدعوة الإسلامية لسلاح السياسة لم يكن مقررا سلفا وإنما فرض عليها،
وبتقديرنا، أن تحفظ الجابري هنا على هذه الروايات هو أقرب إلى نفيها، لأنه
احالنا إلى القرآن الذي لا يمكن مقارنة مرجعيته بروايات دونت في فترات
متأخرة، هذا الحذر عند الجابري مرده عدم الرغبة بالاصطدام المباشر مع
الأوساط الدينية، وكذلك، لأن الموروث الديني يشغل مساحة مهمة في بنية ثقافة
المجتمع، ونجد الحذر أيضا عند مفكرين ومثقفين آخرين في المغرب العربي
عندما تلامس نقاشاتهم المقدس الديني.



ويذكر المفكر نصر حامد أبو زيد أن
“ليس هناك شكل للدولة لا في الأحاديث ولا في القرآن، شكل الدولة الذي أقامه
العرب كان هو شكل الدولة السائدة في ذلك العصر وهي الإمبراطورية” وإلى أي
حد كانت هذه الإمبراطورية محكومة طبقا لما يتصور البعض بالإسلام، يجيب
بالنفي أي لم تكن محكومة بالإسلام. ويشير إلى أنه طوال الوقت كان هناك صراع
بين الفقهاء وبين الخلفاء حيث كثير من الفقهاء الأوائل رفضوا أن يشتغلوا
عند السلاطين(8).



في تونس، نجد راشد الغنوشي قد أوضح أن حركة النهضة
“أكدت فيما يتعلق بعلاقة الدولة بالدين التزامها بمقومات الدولة المدنية
الديمقراطية التي لا سند لشرعيتها، غير ما تستمده من قبول شعبي تفصح عنه
صناديق الاقتراع… كما أكدت قاعدة المواطنة والمساواة بين الجنسين اساسا
لتوزيع الحقوق والواجبات، لتأكيدها لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق
الإنسان”(9). وبهذا يعد موقف حركة النهضة على مستوى الخطاب متقدما مقارنة
ببقية الأحزاب الإسلامية، لكن هذا لم يمنع من اتهام القوى المدنية
واليسارية حركة النهضة بأنها تسعى للهيمنة على كل مفاصل الدولة من خلال
تعيين اتباعها في المواقع الحساسة.



لذلك، لا زالت هناك نقاط خلاف تعيق
المصادقة على المسودة الثانية للدستور التونسي منها ما تعترض عليه قوى من
المعارضة ضمنها اليسارية مثل “تأسيسا على ثوابت الإسلام” وبأن هناك تشابه
“موجود من حيث الفلسفة، وليس من حيث تطابق المصطلحات” مع الدستور
الإيراني.(10)
وبالنسبة لسوريا كان الإخوان المسلمون قد اصدروا “عهدا
وميثاقا” في آذار 2012، من بنوده الأساسية: إقامة دولة مدنية حديثة تقوم
على دستور مدني منبثق عن إرادة أبناء الشعب السوري، قائم على توافقية
وطنية، تضعه جمعية تأسيسية منتخبة انتخابا نزيها يحمي الحقوق الأساسية
للأفراد والجماعات من أي تعسف أو تجاوز، ويضمن التمثيل العادل لكل مكونات
المجتمع(11). لكن ما يثير المخاوف اصرار الإخوان على فرض مرشحهم لرئاسة
الحكومة المؤقتة غسان هيتو بطريقة فرض الأمر الواقع، مثلما عمل الإخوان في
مصر، الذين قالوا في البداية أنهم لا ينون تقديم مرشح لرئاسة الجمهورية.



الخلافة الإسلامية



لا
يزال حكم الخلافة الإسلامية هدفا رئيسيا لمعظم تيارات الإسلام السياسي في
المنطقة العربية، وقد جاء أوضح تعبير عن هذا الهدف بعد انتفاضة 25 يناير في
مصر على لسان محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين، الذي عبر في آخر
رسائله الإسبوعية عام 2011، عن أن إعادة إحياء الخلافة الإسلامية هي الهدف
الأعظم للإخوان المسلمين، التي تؤهل المسلمين لـ “أستاذية العالم”. وأعرب
بديع عن اعتقاده في أن ثورات الربيع العربي قد جعلت هذه الغاية أقرب إلى
التحقيق. وتحدث بطريقة مشابهة حمادي الجبالي رئيس الوزراء السابق والأمين
العام لحركة النهضة في تونس عن الخلافة الإسلامية، حين خاطب، في منتصف
تشرين الثاني| نوفمبر 2011، مجموعة من أنصار حزبه في مدينة سوسة التونسية،
قائلا: “أنتم الآن أمام لحظة تاريخية، أمام لحظة ربانية، في دورة حضارية
جديدة إن شاء الله، في الخلافة الراشدة السادسة إن شاء الله).
ونتيجة
للاعتراضات الحادة من قبل القوى اليسارية والليبرالية في البلدين، حدث
تراجع عن موقف الإخوان وحركة النهضة عن موضوع الخلافة، وحاولا وضعه في إطار
السعي للتقارب بين الدول العربية الإسلامية. وفي الواقع إن الحديث عن
إحياء الخلافة، كالحديث عن إحياء الموتى، وفيه إشغال للشعوب عن قضاياها
الداخلية الملحة(12). وهو محاولة لترحيل أسباب عدم تحقيق انجازات ملموسة
على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، إلى تمزق قوة الأمة الإسلامية، وعدم
توحدها على المستوى السياسي.



ولعل من المفيد هنا أن نطرح السؤال الآتي:
وفق أي منهج أو مذهب إسلامي ستقام الخلافة الإسلامية هذه؟ حسب نصر حامد أبو
زيد لا يوجد نموذج إسلامي واحد بل نماذج إسلامية مختلفة، في اندونيسيا،
وأفريقيا، والهند، والشرق الأوسط، وأمريكا، وأوروبا، ولهذا لا نستطيع أن
نتكلم عن إسلام واحد لا في الواقع الراهن ولا في التاريخ.



ومع هذا لعل
الظاهرة الجديرة بالمتابعة من قبل الباحثين هي الانخراط المتزايد للتيارات
الإسلامية في الأجندة المحلية، فضلا عن تزايد النزعات البراغماتية لديها،
وهي نزعة تغلب مصلحة الحزب أو الدولة على أي اعتبار آخر. ففي الحالة التي
عمل فيها الإسلاميون كأحزاب سياسية معترف بها قانونا أو واقعا، كانوا
يتحركون في الغالب على خلفية ترسيخ مكاسبهم السياسية داخل حدود دولهم أو في
الحد الأدنى الحفاظ عليها أولا وقبل كل شيء، وفي الحالات التي وصلوا فيها
إلى الحكم رجحت عندهم الشؤون المحلية على اعتبارات الأيديولوجيا والعقيدة.
مثلا في المغرب يبدي حزب العدالة والتنمية الإسلامي ميلا متزايدا نحو
الأجندة الوطنية المحلية، مع سعي حثيث نحو الاندراج الهادئ ضمن النظام
الملكي على أمل أن يسمح له بتسلم “إدارة الحكم”(13)، وهو أكثر من ذلك حريص
جدا على تأكيد طابعه المغربي الخالص،(14) وهذا ما يؤكده خطابه السياسي
اليومي بعد أن وصل إلى الحكم. لذلك نتوقع أن يتراجع هدف الخلافة الإسلامية
أكثر، كلما غاصت التيارات الإسلامية أكثر في وحول السلطة والدولة والثروة
المتحركة. وإن بقى سيكون مجرد حلم رومانسي يدغدغ مخيلة بعض قادة
الإسلاميين.



نماذج الحكم المحتملة



نموذج الدولة الدينية: يتمثل هذا
النموذج بالدولة الكهنوتية أو الثيوقراطية، حيث ينقسم المجتمع إلى فئتين
متمايزتين: حاكمة ومحكومة. تستمد الفئة الحاكمة سلطتها من أساس إلهي، مما
يجعل إرادتها تسمو على إرادة المحكومين. إن صعود التيار الديني في
الانتخابات وبالأخص صعود التيار السلفي المتشدد في حالة مصر مثلا، جعل بعض
الباحثين يطرح احتمالية هذا السيناريو، بحيث تفضي هذه الحقائق إلى قيام
دولة دينية تأخذ بنموذج يمكن وصفه بـ “الإيراني- الوهابي”، يأخذ من النموذج
الإيراني الشيعي سمة وجود مرجعية عليا، يمكن أن تمثلها جماعة الإخوان
المسلمين وهيكلها التنظيمي، وعلى قمته المرشد العام، ويأخذ من النموذج
الوهابي السني فكرة “تطبيق الحدود” في الإسلام. وقد ازدادت المخاوف من هذا
السيناريو مع الشكوك المصاحبة لتوجهات الإخوان والسلفيين في المجال العام.



يبدو
هذا السيناريو بعيدا عن الواقع في الأمد المنظور، حيث سيظهر الإخوان مرونة
سياسية كبيرة تفضي إلى تعامل واقعي مع المعطيات السياسية الإقليمية
والدولية، خاصة مع تراجع الأوضاع الاقتصادية، والحرص على كسب الشارع
السياسي من خلال محاولة الاستجابة لمتطلباته اليومية، وإنعاش الاقتصاد أكثر
من الميل إلى الصدام في أمور تبدو وكأنها تسحب من رصيده الشعبي، كفرض
الحجاب، أو التعنت في الالتزامات الشرعية على غير المسلمين والتضييق على
الحريات مثلا. بالإضافة إلى دور القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة،
التي ترى في هذا السيناريو تأثيرا مباشرا في مصالحها ومصالح حليفتها
إسرائيل(15). ثم أن هذا السيناريو يصدم بمعارضة شديدة من قبل القوى المدنية
الديمقراطية التي لا يستهان بقوتها، والتي اصدمت مع التيار الإسلامي في
أكثر من مجال و عبرت بوضوح عن مخاوفها من أخونة الدولة والمجتمع. وقد حشدت
قواها تحت اسم حركة “تمرد” للنزول إلى الشارع في 30 حزيران| يونيو الماضي
2013 للمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة.



النموذج التركي: لهذا النموذج
خصوصيته، فقد أتى بعد مرحلة من العلمنة المتشددة على يد أتاتورك وخلفائه.
وبقدر ما ساهم بدرجة ما، وكرد فعل في تقوية الهوية الإسلامية لدى القطاعات
المهمشة وأبناء الطبقة الوسطى، بقدر ما زرع ثقافة تؤمن بخطورة تطابق الدين
مع الدولة، يتبناها قطاع لا بأس به من المجتمع ومن ثمة لا يمكن لأي من
الدول العربية التي فاز فيها التيار الإسلامي في الانتخابات أن تقترب من
النموذج التركي إلا بحساب. نجد أردوغان على مستوى الخطاب قد تحدث عن دولة
علمانية ومواطنين مسلمين، أو حكم مدني لا يحتقر الهوية الإسلامية، ولا يطبق
الشريعة كما هي.



تبدو تونس تحديدا هي الأقرب لاقتفاء النموذج التركي في
ما لو استمر تقدم الإسلاميين في الانتخابات وهذا مستبعد. فقد عاشت تونس في
ظل خطاب علماني منذ الاستقلال ولديها نسبة كبيرة من السكان ارتبطت
بالثقافة الغربية والحداثة، رغم أن حركة النهضة تعلن بوضوح تبنيها لهذا
النموذج.



أما الأخون المسلمون في مصر، فقد رفضوا تصورات أردوغان عن
نموذج الحكم الإسلامي المطلوب، وأعلنوا بوضوح تمسكهم بتطبيق الشريعة سواء
لأن تلك هي قناعات الجناح المحافظ داخل الجماعة وحزبها الحرية والعدالة،-
رغم أنه يرد في برنامج الحزب ذكر الدولة المدنية كهدف- أو لخوفهم من التحدي
الذي يفرضه السلفيون الذين حصلوا على 27% من مقاعد البرلمان والأكثر تمسكا
بالتطبيق الحرفي لأحكام الشريعة(16).



يبدو أن النموذج التركي الذي لم
يترسخ بعد بحكم قصر فترة تواجده في السلطة، يواجه الآن تحديا كبيرا يتمثل
في الاحتجاجات الشعبية الواسعة وغير المسبوقة التي اندلعت في 27 أيار 2013
والتي ضمت مكونات اجتماعية وسياسية مختلفة، من بينها يساريين وماركسيين،
ورفعت شعارا كثيرا ما تردد هو (معا ضد الفاشية)، وهي تنم عن استياء القوى
العلمانية من سياسة الحكومة التي تسير في تجاه تعديل الدستور نحو نظام
رئاسي، وضد التسلط والتضييق على الحريات، وبأن اردوغان بات يمثل مصالح
الفئات البرجوازية الإسلامية الصاعدة. ولم يكن في الحقيقية مشروع البناء
على متنزه تقسيم في أسطنبول إلا مجرد محفز أطلق المشاعر المكبوتة، وإن نجحت
هذه الاحتجاجات في تحقيق مطالبها أو جزء مهم منها فإن ذلك سيساهم بدرجة
مهمة في خفوت لمعان هذا النموذج الذي سوق له البعض ليكون بديلا لبعض أنظمة
ما بعد الانتفاضات، على الأقل من الناحية النظرية، وسيشكل خيبة أمل كبيرة
لمعظم التيارات الإسلامية في المنطقة العربية التي تفاخرت به، وسيؤثر على
مستقبلها السياسي.



مهما تكن النتائج، إلا أن الشيء المتفق عليه أن صورة
هذا النموذج قد اهتزت، نتيجة القسوة والعنجهية والغرور التي تعامل بها
أردوغان مع المحتجين حيث وصفهم بأنهم “خونة ومتآمرون معهم في الخارج” وأن
“هذه المؤامرة احبطت وهذا السيناريو أصبح في سلة المهملات قبل البدء
بتطبيقه”، هذا الخطاب في الواقع، لا يختلف عن خطاب قادة الأنظمة المستبدة
في الشرق الأوسط عندما يواجهون احتجاجات شعبية.



النموذج الباكستاني:
يبدو هذا النموذج هو الأكثر قربا مما يمكن أن يسقط فيه الإخوان المسلمون في
مصر، وتشير السوابق إلى أن هذا التحالف يكون ممكنا دائما مع العسكر، ولكن
من المحتمل ايضا أن يتم تقويضه بسبب انعدام الثقة بين الطرفين. فقد كانت
تجربة حركة الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر، بالتحالف مع الإخوان لفترة
قصيرة بين 1952- 1954 من أجل مواجهة القوى السياسية المدنية، دليلا على
انتفاء العقبات التي تحول دون تحالفهما. ولولا محاولة الإخوان المبكرة
الهيمنة على الحكم وتهميش العسكريين لدام هذا التحالف فترة أطول. وقد تعرضت
المؤسسة العسكرية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تسلم إدارة البلاد
بعد 11 شباط| فبراير 2011، لهجوم قاس وعنيف من القوى الليبرالية. فيما نجد
أن تيار الإخوان يبدو أكثر مهادنة معها، ومستعد أكثر من غيره لإبرام صفقة
تضمن مصالح المؤسسة العسكرية(17).



النموذج الوهابي (السعودي): هذا
النموذج خاص جدا ولا يشكل اغراءً حقيقيا لأي من الانتفاضات في البلدان
العربية، وهناك من يرى أن ليبيا يمكن أن يلائمها هذا النموذج، ونحن نستبعد
ذلك لأسباب منها تباين البنية المذهبية؛ حيث يسود المذهب المالكي في ليبيا
وبقية دول المغرب العربي، علما أن الوهابية التي تستند للمذهب الحنبلي، لم
تنجح منذ نشأتها في الجزيرة العربية في التمدد خارجها، لأسباب منها التشدد
الذي تتسم به قراءتها للشريعة الإسلامية. كذلك هناك سبب آخر مهم يتمثل
بحصول القوى والأحزاب المدنية في أول انتخابات جرت في ليبيا على حوالى نصف
مقاعد البرلمان.



نموذج الدولة المدنية الديمقراطية: في كل الأحوال، تبقى
كل الاحتمالات قائمة في العالم العربي، نحو تطور ديمقراطي يستند بالأساس
إلى دولة المواطنة المتساوية، وعدالة اجتماعية طال زمن انتظارهما، يساهمان
في إرساء اسس هذا النموذج، علما من المتوقع على نطاق واسع أن تفشل التيارات
والأحزاب الدينية في تقديم حلول حقيقية لمشاكل الشعوب على المستوى
الاقتصادي و الاجتماعي والسياسي، وهذا ما بدأت مؤشراته واضحة في خيبة أمل
قطاعات واسعة من الجماهير من أداء هذه الأحزاب.



آفاق الإسلام السياسي



للاقتراب
أكثر من معرفة آفاق الإسلام السياسي لا بد من تحليل رؤيته للشريعة
والتراث. حين يظهر السلفيون، الإصرار على رؤية الحاضر من خلال الماضي، دون
العكس، أي نقل افكار الماضي ذات الأبعاد الاجتماعية الماضوية التي تجاوزها
التطور التاريخي، ليحلوها محل الأبعاد الجديدة المتصلة بمنجزات تطور
الحاضر، إنما هم ينطلقون، حقيقة، من الموقع الذي تحتله في هرمية البنية
الاجتماعية الحاضرة، طبقة معينة يعبرون هم عن أيديولوجيتها، إما لأنهم في
موقعها الطبقي نفسه أو لسبب آخر يتعلق بتكوينهم الفكري ونوعية الوعي
السياسي والطبقي عندهم. المقصود بذلك أن المضمون الحقيقي لرؤيتهم الفلسفية
إلى التراث، أي دعوتهم إلى اسقاط الماضي على الحاضر، هو مضمون ترتبط جذوره
بتربة الحاضر، وهو صيغة من صيغ الصراع الأيديولوجي، ويمثل استنجادا
بالأفكار المحنطة في متحف “الماضي” لتثبيت موقع طبقي متزعزع في بنية
اجتماعية تتصدع تحت مطرقة الحاضر(18). وتأكيدا لذلك كشفت التقارير الأخيرة
أن بعض قادة الإخوان المسلمين في مصر هم من شريحة المستثمرين الكبار في عهد
مبارك ولا زالوا كذلك.



يذكرنا ذلك، بقناعة (ماكس فيبر) الراسخة مفادها
عجز الدين- مهما كانت درجة عقلنته وتماسكه الداخلي- عن مقاومة ضغوطات
الواقع الحديث ومغرياته، بل إنه يرى أن الدين كلما نزع أكثر نحو العقلنه،
ازدادت علاقته بالعالم الخارجي توترا، ومن ثم تتسع الهوة بينه وبين عالم
مادي مغموس بروح الصراع والمنافسة لا يقيم وزنا للمشاعر الدينية
والأخلاقية. وبالتوازي مع ذلك، فكلما اتسعت مظاهر الترشيد والعقلنة في
البنى الاقتصادية والاجتماعية، انفكت هذه الأخيرة عن الموجهات الدينية.
ويشدد فيبر على أنه يتعذر التعايش بين المسلمات الدينية والنظام الرأسمالي
الحديث القائم على روح الصراع والاستئثار(19).



لذلك، ما زالت الحركات
الإسلامية في نظر قطاع واسع من النخب العلمانية متهمة في صدق نيتها تجاه
الديمقراطية، وهو ما دفعها إلى توضيح موقفها تجاه هذه القضية من خلال
مجموعة من الأعمال والتنظيرات، يصب أغلبها في الاحتفاء بالبعد الأدائي
والتقني للديمقراطية، ويقصي بعدها الفلسفي. ومن بين الاسماء الفكرية، التي
ساهمت نوعيا في هذا الحراك: حسن الترابي، وأحمد الريسوني، وراشد الغنوشي،
وغازي صلاح الدين، وعبد السلام ياسين، وأقصى ما تطلبه هذه الفئة من
الإسلاميين من الديمقراطية، مع وجود قناعة بالشورى- التي بقت تاريخيا في
إطار المبادئ العامة ولم تتعداه إلى النظم والإجراءات- جملة من الأدوات
والإجراءات، حيث يتقلص مفهومها إلى صيغ واشكال تنفيذية.



إن التحفظ
والتردد اللذين أبدتهما الحركات الإسلامية تجاه الديمقراطية بمعناها العام
يرجعان في الأساس إلى شروطها الفلسفية، وخاصة ما يتعلق بمبادئ: الحرية،
ووضعية القوانين، والمساواة. وقد أثارت هذه المبادئ، ولا تزال كثيرا من
التحديات للحركات الإسلامية، خاصة بعد التطورات القيمية والسياسية
والثقافية التي شهدها العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين،
بحكم الاحتكاك بالغرب، والانفتاح الثقافي والتعطش للحداثة(20)، والذي تعجز
الحركات الإسلامية عن تلبيته أو مجاراته بحكم انشدادها لجمود النصوص.



إن
ما نشهده حاليا ليس بالفعل “حقبة إسلامية” شكلا ومضمونا. فمن حيث الشكل،
فإن ما نشهده فعليا هو ما يمكن تسميته “حالة صعود إسلامية”. ويطرح في هذا
السياق عدد من الأسئلة؛ هل يمكن لهذا الصعود أن يستقر في بنية السياسة
العربية، سواء على مستوى الدول أو الإقليم، ليصبح ذا حضور ممتد يتيح الحديث
عن “حقبة إسلامية” فعلية على الأقل من ناحية الامتداد الزمني لوجود
الأحزاب الدينية في الحكم؟ ما هي العوامل التي قد تعزز من هذا الحضور أو
تحول دونه، سواء داخل بنية الأحزاب المعبرة عنه، أو في البيئة المحيطة بها؟
وهل يمكن أن يطور هذا الصعود آليات للتوافق مع بيئته الداخلية والخارجية؟
أم ستكون العلاقة بينه وبين هاتين البيئتين أو احدهما على الأقل
صراعية؟(21).



تتطلب الإجابة عن هذه الأسئلة بعمق، المزيد من الجهد
البحثي، ولكن يمكن القول أن التفاعلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية
الجارية، وما أفرزته من نتائج في البلدان التي حقق فيها الإسلاميون
الأغلبية في الانتخابات، وتوازن القوى السياسية والاجتماعية، تشير إلى حدوث
تراجع في نفوذ الإسلاميين؛ وهذا ما أظهرته الحالة المصرية بتراجع كبير
للإخوان في انتخابات طلاب الجامعات والصحفيين والصيادلة. وبتراجع شعبية حزب
أردوغان إلى 35% مقارنة بنحو 50% خلال انتخابات 2011 التشريعية، بحسب
استطلاع نشرته مؤخرا صحيفة “توداي زمان” القريبة من الحكومة(22). وبتراجع
شعبية حزب العدالة والتنمية المغربي. لذلك ستضطر القوى الإسلامية أمام ضغط
الشارع والقوى المدنية الديمقراطية لأجراء بعض التعديلات على شعاراتها
وبرامجها، بعد أن تخفق في تحقيق شيء ملموس على الصعيد الاقتصادي
والاجتماعي، وأنه من المستبعد جدا أن تقبل الجماهير بعد الآن الاذعان لأي
شكل من اشكال الاستبداد السياسي أو الديني، وبعد بضع سنوات من الآن من
المرجح أن تبدأ الكفة تميل تدريجيا لصالح القوى المدنية الديمقراطية، مع
إمكانية وجود تبان بهذا القدر أو ذاك بين البلدان في تطور هذه المسيرة غير
السهلة. أما على مستوى التعامل مع البيئة الخارجية، فقد سلكت القوى
الإسلامية منحى براغماتيا واضحا في مد جسور تعاونها مع الدول الغربية التي
كانت تسميها لوقت قريب بقوى الكفر، وهذه الحالة تنطبق بوضوح على مصر وتونس.



من
جانب آخر، وعلى المدى الأبعد نسبيا، يفرض واقع الحياة المتغير صعوبات
كبيرة لا يمكن تجاوزها في مصالحة السياسة مع الدين. فالسياسة ميدانها
النسبي والمتغير، وتستخدم وسائل المساومة والحلول الوسط، أما الدين أي دين
فميدانه المطلق والثابت. لذلك دفعت البشرية خسائر فادحة خلال قرون عندما
تعاملت مع حل المشاكل السياسية والاقتصادية الاجتماعية من منظور النص
الديني، وخير مثال على ذلك، الحروب الدينية الدموية التي دارت رحاها في
أوروبا، وبالأخص بين الكاثوليك والبروتستانت، بدءا من القرن السادس عشر،
إلى أن وصلت الأطراف المتصارعة إلى قناعة بضرورة تحييد الدين عن السياسة،
وكان هذا الصراع المرير أحد العوامل المهمة التي ساهمت في فصل الدين عن
الدولة رسميا.



الهوامش
1- راجع خالد الحروب نقلا عن مصطفى مرسي، “هل
الإسلام السياسي قادر على التعامل مع مشكلات الحكم المعاصر؟”، شؤون عربية،
العدد 150، 2012، ص 27-28.
2- للمزيد راجع Shadi Hamid, “The Rise of Islamists” Foreign Affairs”, Vol. 90, No. 3, May| June 2011, pp. 40-47.
3- راجع صموئيل هنتنغتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة مالك شهيوة ومحمود خلف، بنغازي، 1999، ص 223-224.
4-
راجع عبد النبي العكري “الحركة الجماهيرية في البحرين: الآفاق والمحددات”،
في مجموعة مؤلفين، الديمقراطية والتحركات الراهنة للشارع العربي، بيروت،
2007، ص 141- 143.
5- مصطفى مرسي، مصدر سابق، ص 25.
6- المصدر نفسه، ص 29-30.
7- للمزيد راجع محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي “محدداته وتجلياته”، ط 5، الدار البيضاء، 2000، ص 23.
8- راجع نصر حامد أبو زيد، “مشكلات الفكر الإسلامي المعاصر”، محاضرة، الثقافة الجديدة، 338 لسنة 2010، ص101- 123.
9- مصطفى مرسي، مصدر سابق، ص 29.
10- الشرق الأوسط، 30|3| 2013.
11- الشرق الأوسط، 28|3| 2013.
12- مصطفى مرسي، مصدر سابق، ص 32-33.
13-
فاز الحزب المذكور بالأغلبية في الانتخابات الأخيرة التي جرت بعد أن تم
إجراء استفتاء شعبي على الدستور الجديد في 1 تموز|يوليو 2011 والذي أقر
بغالبية كبيرة، ونص على اختيار رئيس الحكومة من الحزب الفائز في الانتخابات
ويتمتع بصلاحيات أوسع من السابق بعد أن رحلت بعض من صلاحيات الملك له رغم
أن الأخير ظل يتمتع بصلاحيات هامة، وتشكلت حكومة ائتلافية برئاسة حزب
العدالة والتنمية وأحزاب أخرى غير إسلامية منها حزب التقدم والاشتراكية
الذي شارك في الحكومة بأربعة وزراء.
14- رفيق عبد السلام، في العلمانية والدين والديمقراطية، الدوحة، 2008، ص 128.
15- راجع تحولات استراتيجية، ملحق السياسة الدولية، 187، يناير 2012، ص 8-9.
16- تحولات استراتيجية، ملحق السياسة الدولية، 188، أبريل 2012، ص 17- 38.
17- المصدر نفسه، ص 39-40.
18- راجع حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية- الإسلامية، المجلد الأول، ط 2، الجزائر، 2002، ص 28-37.
19- رفيق عبد السلام، مصدر سابق، ص 68-69.
20- امحمد جبرون، الإسلاميون في طور تحول: من الديمقراطية الأدائية إلى الديمقراطية الفلسفية، الدوحة، 2013، ص 3-6.
21- تحولات استراتيجية، 187، يناير 2012 ، ص 4.
22- الشرق الأوسط، 21-6-2013.

* نشر في مجلة الثقافة الجديدة العدد 360 أيلول 2013

اقرأ المزيد

رؤية التيار التقدمي الكويتي للإصلاح الديمقراطي




مقدمة:




بعد أن استطاعت السلطة فرض
نظامها الانتخابي عبر مرسوم قانون الصوت الواحد الذي يمكّنها من السيطرة
شبه الكاملة على العملية الانتخابية ومخرجاتها ويجعلها قادرة على التحكّم
في مفاصل العمل البرلماني على نحو أصبحت فيه الانتخابات مجرد “لعبة كراسي”
غير ذات معنى؛ ويغدو فيه مجلس الأمة واجهة شكلية خاضعة لإرادة الممسكين
بزمام السلطة الفعلية في البلاد، فإنّه من الوهم استمرار التعويل على
المشاركة في الانتخابات النيابية والمؤسسة البرلمانية القاصرة في إمكانية
تحقيق أي إصلاح جدي أو إحداث أي تغيير إيجابي نوعي لصالح الشعب الكويتي. 


هذا ناهيك عن ما كشفته التجربة
التاريخية بالملموس طوال نصف قرن من انسداد أفق الإصلاح والتغيير في ظل
سطوة النهج غير الديمقراطي للسلطة والانفراد بالقرار، ناهيك عن قصور دستور
1962 بوصفه دستوراً للحد الأدنى وما تعانيه المنظومتان السياسية والدستورية
من نواقص وعيوب بنيوية رئيسية. 


ولئن سجّل التاريخ للشعب
الكويتي نضاله المتواصل طوال نصف قرن في الدفاع عن الهامش المحدود المتاح
له من الحقوق والحريات إزاء محاولات السلطة لتقليصها والانقضاض عليها،
ودوره في إحباط الانقلابات المباشرة للسلطة على الدستور ومنعها من تنقيح
مواده نحو الأسوأ في الفترة بين 1976 إلى 1992، بالإضافة إلى التحرك الشعبي
لإصلاح النظام الانتخابي في العام 2006، وفضح بعض ممارسات الفساد السياسي
وإطاحة بعض شخوصه عبر إسقاط رئيس الوزراء السابق ناصر المحمد والحلّ الأول
لمجلس 2009 الذي توّرط عدد من أعضائه في فضائح الفساد، وهي بالتأكيد نضالات
مشهودة للشعب الكويتي من أجل الديمقراطية، ولا يمكن بحال من الأحوال
الاستهانة بها أو التقليل من أهميتها السياسية والتاريخية، وهي تنطوي على
خبرات وتجارب لابد من دراستها والاستفادة منها والبناء عليها… إلا أنّه في
المقابل، فإنّ الشعب الكويتي طوال نصف قرن من هذا النضال المتواصل حماية
لحقوقه وذوداً عن حرياته كان في موقع الدفاع، ولم يتمكن من تحقيق مكاسب
ديمقراطية رئيسية بالانتقال نحو النظام البرلماني الكامل، حيث لا نزال
نراوح في مكاننا في المربع الأول من دون تقدم منذ العام 1962، بل لقد تراجع
الهامش الديمقراطي النسبي المحدود عما كان عليه وذلك بفعل ضغط السلطة. 


ومن جانب آخر فإنّ الحراك
الشعبي الأخير الذي تعود بداياته إلى العام 2006 أخذ في التنامي والاتساع
على نحو ملحوظ منذ أواخر العام 2009 إلى بداية العام الحالي 2013، أصبح
اليوم يواجه تحديات لا يمكن تجاهلها، إن لم نقل إنّه يواجه أزمة علينا
الاعتراف بها والعمل على تجاوزها. 


ومن هنا فإنّ هناك حاجة إلى
تداول صريح ونقاش حيّ وبحث معمّق بروح نقدية شجاعة وبعزيمة نضالية لواقع
الحراك الشعبي في المعركة من أجل الديمقراطية وصولاً إلى بلورة خارطة طريق
للنضال من أجل تحقيق الإصلاح الديمقراطي المنشود. 


وهذا ما يتطلع التيار التقدمي
الكويتي إلى البدء فيه عبر هذه الورقة التي تمثّل محاولة لإجراء مراجعة
تحليلية نقدية لمسار الحراك الشعبي؛ ولتشخيص الأزمة السياسية في البلاد،
بحيث يتم استخلاص الاستنتاجات ورسم ملامح طريق الكويت نحو الإصلاح
الديمقراطي. 



القسم الأول


المراجعة التحليلية النقدية للحراك الشعبي




أساس الأزمة:




إنّ الأزمة السياسية التي
تشهدها الكويت ليست وليدة اللحظة، وإنما هي أزمة قائمة تكمن حيناً وتتفاقم
حيناً آخر منذ السنوات الأولى للاستقلال، ويعود السبب الرئيسي لهذه الأزمة
إلى الطبيعة الرجعية للسلطة ونزعتها غير الديمقراطية والطابع الطفيلي
لمصالح قوى الحلف الطبقي المسيطر، والتناقض الواضح بين عقلية المشيخة
ومتطلبات بناء الدولة الكويتية الحديثة التي يفترض أن تكون دولة ديمقراطية
ودولة مؤسسات. 


إنّ التاريخ الكويتي منذ 1962
خير شاهد على ذلك، وبالتأكيد فإنّ معالجة الأزمة وحلّها لن يتحققا بتغيير
عدد الدوائر الانتخابية، أو عبر زيادة عدد أصوات الناخبين أو تقليصها، أو
من خلال تبديل أشخاص بعض المسؤولين أو الوزراء، وإنما يمكن فقط أن تتحقق
مثل هذه المعالجة والحلّ عبر تغيير نهج هذه السلطة وتغيير العقلية التي
تدار بها البلاد بها، وذلك عبر إحداث تبدّل في ميزان القوى لصالح القوى
الشعبية يدفع السلطة إلى الرضوخ للقبول بمثل هذا التغيير. 


وفي مقابل ذلك فقد تنامي الوعي
الشعبي، وأدركت قطاعات واسعة من المواطنين، وفي مقدمته الشباب، أنّ هناك
ضرورة ملحة لتحقيق الإصلاح السياسي كمدخل لأي أصلاح في مجال آخر من مجالات
الحياة، وانطلق في العام 2006 حراك شعبي واسع يطالب بإصلاح النظام
الانتخابي بعدما أصبح واضحاً مدى سوء نظام الدوائر الانتخابية الخمس
والعشرين الذي فرضته السلطة منفردة في العام 1980، وهذا ما تمثّل في حركة
“نبيها خمس”، ولكن المؤسف أنّ التحرك من أجل إصلاح النظام الانتخابي على
النحو الذي جرى فيه لم يكن جزءاً من حركة أوسع للإصلاح الديمقراطي الشامل،
وفي الوقت نفسه لم يكن نظام الدوائر الخمس بالأصوات الأربعة الذي جرى تبنيه
هو البديل الأفضل… وفي العام 2009 انطلق حراك جديد تحت شعار “إرحل… نستحق
الأفضل” بعدما برزت على السطح فضيحة “شيكات النواب” التي تورط فيها رئيس
الوزراء السابق ناصر المحمد واتضح معها للعيان مدى عجزه وسوء إدارته لشؤون
الدولة، وكانت نقطة الضعف الرئيسية في ذلك الحراك انحصارها في شخص رئيس
مجلس الوزراء السابق، وكأنّ استبداله بآخر أفضل منه هو الحلّ… وفي المقابل
فقد سعت السلطة جاهدة لتعطيل مساءلة رئيس مجلس الوزراء أمام مجلس الأمة،
وانتهكت مبدأ الحصانة البرلمانية الموضوعية لأعضاء مجلس الأمة عندما عمدت
إلى رفع الحصانة عن النائب السابق الدكتور فيصل المسلم وذلك للتحقيق معه في
تهمة إفشائه أسراراً مصرفية لعرضه داخل إحدى جلسات المجلس صورة شيك قدمه
رئيس الوزراء السابق إلى أحد النواب السابقين، وعملت السلطة على التضييق
على حرية الاجتماعات وقمعت بالقوة التجمع أمام ديوان النائب السابق الدكتور
جمعان الحربش، ما أشعل فتيل الغضب الشعبي وأدى إلى اتساع الحراك في نهاية
العام 2010 و بداية العام 2011 وتبلّور لاحقاً شعار “رئيس جديد بنهج جديد
وحكومة جديدة” الذي يمثّل تقدماً قياساً بشعار “إرحل… نستحق الأفضل” إلا
أنّه مع ذلك لم يتم وضع تصوّر واضح للمقصود بالنهج الجديد… وشيئاً فشيئاً
فاحت الروائح العفنة للعديد من فضائح الفساد السياسي من إيداعات مليونية
وتحويلات خارجية ما استفز أقساماً واسعة من المواطنين واستثار غضبهم وقاد
إلى اتساع الحراك الشعبي على نحو غير مسبوق في تجمع 28 نوفمبر 2011 بحيث
اضطرت السلطة إلى تغيير رئيس مجلس الوزراء وحلّ مجلس 2009 وإجراء انتخابات
جديدة في فبراير 2012 قادت إلى نجاح غالبية نيابية ليست على هوى السلطة…
وعلى الرغم من الأخطاء والسلبيات ونقاط الضعف والقصور الذي تميّز به أداء
نواب الغالبية في ذلك المجلس، وعدم إنجازهم أي خطوات تشريعية للإصلاح
الديمقراطي وانشغالهم في تشريعات مثيرة للخلاف ومتعارضة مع الطابع المدني
للدولة من شاكلة تنقيح المادة 79 من الدستور في شأن توافق القوانين مع
الشريعة الإسلامية وفرض الزي المحتشم وغير ذلك، إلا أنّ السلطة أدركت عجزها
عن التعامل مع تلك الغالبية المعارضة، في الوقت الذي كان واضحاً فيه أنّ
الحراك الشعبي قد فرض على السلطة واقعاً جديداً مختلفاً عما كان عليه الحال
قبل ذلك من أساليب التعامل السلطوي، إذ لم تعد السلطة قادرة على الانقلاب
المباشر على الدستور كما فعلت في عامي 1976 و 1986, بل لم يعد مجدياً لها
استخدام أساليب من شاكلة ضخ المال السياسي في الانتخابات، أو إفساد النواب،
وملاحقة المعارضين، وبذلك فقد لجأت السلطة إلى أسلوب مختلف يمكّنها من
استعادة زمام المبادرة وفرض سطوتها وتكريس انفرادها بالقرار، وذلك عبر
تغيير آلية الانتخاب، وهذا ما أتيح لها بعد إبطال مرسوم حل مجلس 2009 لخطأ
إجرائي وإبطال انتخابات فبراير 2012، حيث حاولت أول الأمر أن تطعن أمام
المحكمة الدستورية في قانون الدوائر الانتخابية، وعندما لم تستجب المحكمة
لها، بادرت السلطة إلى فرض آليتها الانتخابية عبر حلّ مجلس 2009 مرة أخرى
وإصدار مرسوم بقانون لتخفيض عدد الأصوات التي يدلي بها الناخب من أربعة
أصوات إلى صوت واحد فقط، بحيث يسهل عليها التحكّم في مخرجات العملية
الانتخابية وإضعاف إمكانية تشكّل غالبية نيابية غير موالية لها، في الوقت
الذي كشّرت فيه السلطة عن وجهها القبيح ولجأت إلى أساليب بوليسية غير
مسبوقة في قمع الحراك الشعبي وملاحقة الناشطين واعتقالهم وتوجيه اتهامات
معلّبة ضدهم… وهذا ما أدى إلى استفزاز قطاعات واسعة من المواطنين الذين
شاركوا بعشرات الآلاف في التجمعات الحاشدة والمظاهرات الشعبية المناهضة
لذلك العبث السلطوي في النظام الانتخابي، خصوصاً في مسيرات “كرامة وطن”
الأربع الأولى السابقة لإجراء انتخابات ديسمبر 2012، بالإضافة إلى حملة
المقاطعة السياسية والشعبية لتلك الانتخابات. 



محاولة لتقييم الحراك الشعبي وقوى المعارضة:




يمكننا أن نوجز أهم المكاسب والانجازات التي حققها الحراك منذ 2006 في النقاط التالية: 


– نجاح الحراك بتحقيق بعض
مطالبه كإقرار الدوائر الخمس في عام 2006، والانجاز الأكبر المتمثل في
إزاحة رئيس وزراء من أبناء الأسرة الحاكمة عبر الشارع ليكون أول رئيس وزراء
سابق. 


– فرض واقع جديد على السلطة يتمثّل في إمكانية خروج الشعب إلى الشارع واحتجاجه ومطالبته بحقوقه. 


– تطور خطاب القوى السياسية
المعارضة، فبعد أن كان الحراك موجهاً نحو مطلب واحد ذي طابع “ترقيعي” مثل
تقليص عدد الدوائر، أو تغيير “شخص” رئيس الوزراء فقد تطورت المطالب
المطروحة لتدعو إلى “نهج جديد بحكومة جديدة” ثم المطالبة بإشهار الأحزاب
السياسية و”الحكومة المنتخبة” والنظام البرلماني. 


– اكتساب الجماهير خبرات
نضالية وميدانية كبيرة عبر المشاركة في المسيرات والاعتصامات، ومن دون
تجاهل للنواقص وأوجه القصور وأنّ كثيراً من الخبرات تمّ اكتسابها عن طريق
التجربة والخطأ، فقد شهدت المسيرات أشكالاً غير مسبوقة من التنظيم وأساليب
المناورة في اختيار مواقع المسيرات والمواقع البديلة، أو من خلال وجود
الطواقم الطبية وغيرها. 


– الاستعداد الكبير للتضحية وروح التضامن اللذان أبداهما الشعب الكويتي. 


– الافتضاح التدريجي للنهج غير الديمقراطي للسلطة وزوال الكثير من الأوهام حول طبيعتها. 



ولكن رغم هذه المكاسب والانجازات والايجابيات فقد كان هناك نواقص وسلبيات وإخفاقات لعلّ أهمها:




– عدم وجود أجندة واضحة لمطالب الإصلاح الديمقراطي الشامل بعد حركة “نبيها خمس” في العام 2006. 


– عفوية التحرك واستمراره في
إطار ردود الأفعال سواءً في 2009 للمطالبة بإسقاط ناصر المحمد، أو في
مواجهة فضيحة الشيكات ومن بعدها قمع ديوانية الحربش، وذلك من دون أن يكون
هناك توافق على مطالب واضحة للإصلاح الديمقراطي، حيث انحصرت المطالب برحيل
ناصر المحمد وحلّ مجلس 2009، وهذا ما استغلته السلطة لترتيب أوضاعها خصوصاً
مع هدوء الشارع وتشتت القوى السياسية والانشغال بالانتخابات، وبذلك ضاعت
فرصة تاريخية، فيما أتيح المجال أمام أصحاب المصالح الشخصية والأجندات
الانتخابية للدخول على الحراك. 


– التناقضات التي انطوى عليها
تكوين كتلة الأغلبية في مجلس 2012 التي كانت تضم لفيفاً من نواب أفراد أو
ينتمون إلى كتل وذلك من خلفيات مختلفة ويحمل بعضهم أجندات متعارضة, لذلك
فشلت كتلة أغلبية مجلس 2012 في إقرار قوانين الإصلاح السياسي، التي وعدت
بإقرارها، وألهت بعض عناصرها الشارع في صراعات حول بعض الاقتراحات
والأطروحات الفئوية والطائفية التي طرحتها ومشروعها لأسلمة الدولة. 


– وبعد إبطال مجلس فبراير
2012 بات واضحاً أن هناك أطرافاً في الكتلة الأغلبية لديها أولويات مختلفة
عن أولوية الإصلاح الديمقراطي، بل متناقضة معها. 


– الاصطفاف الطائفي والفئوي
الذي ألقى بظلاله السلبية على مقاطعة انتخابات ديسمبر 2012، ناهيك عن
التصرفات الاستفزازية لبعض عناصر المعارضة. 


– ضعف قوى التيار الوطني
الديمقراطي ونأي بعضها بنفسها عن الحراك الجماهيري, وقيام بعض أطرافها
بتنظيم اعتصام معزول عن حركة الجماهير لتسجيل موقف. 


– رفض المجاميع الشبابية التعاون مع القوى السياسية المنظمة والاستفادة من خبراتها السياسية. 



أما أبرز الملاحظات حول صيغ التحالفات السياسية التي تشكّلت والمجاميع الشبابية التي نشطت فيمكن أن نحددها في النقاط التالية:





  • ·
    الجبهة الوطنية لحماية الدستور وتحقيق الإصلاحات السياسية:




تأسست الجبهة في 9 سبتمبر 2012,
حيث شارك في تأسيسها شخصيات عامه وسياسية ينتمون إلى تيارات سياسية وكتل
نيابية ومجاميع شبابية ومكونات اجتماعية مختلفة, ولكنهم قاموا بذلك بصفاتهم
الشخصية وليسوا كممثلين بصورة رسمية عن تياراتهم ومكوناتهم التي ينتمون
لها, وذلك تحت ضغط ظرف سياسي محدد كان يتطلب الإسراع في تشكيل الجبهة
للتصدي لمخطط السلطة في الانفراد بتغيير النظام الانتخابي قبل أن يصدر
مرسوم قانون الصوت الواحد, بل قبل أن يصدر حكم المحكمة الدستورية برفض
الطعن الحكومي في إعادة تحديد الدوائر الانتخابية, وقد أسهمت الجبهة بعد
تأسيسها بدورها في التصدي لمخطط السلطة بالتعاون مع القوى السياسية و
الشعبية والمجاميع الشبابية المعارضة لهذا المخطط ضمن ظروف سياسية سريعة
التبدل وأحداث متلاحقة ومنعطفات متتالية, حيث أصدرت البيانات السياسية و
المواد التعبوية, وشاركت في التجمعات الشعبية الحاشدة, وأعدّت مذكرة
قانونية بالغة الأهمية خاطبت فيها رئيسي مجلس القضاء الأعلى ومجلس الوزراء,
كما أسست الجبهة “اللجنة الشعبية لمقاطعة الانتخابات” التي قامت بدورها في
تعبئة الناخبين لعدم التصويت, ونجحت في تقليص عدد المشاركين في الانتخابات
إلى 27% (حسب إحصائيات اللجنة الشعبية لمقاطعة الانتخابات), ولكن كان
واضحاً أنّ الواقع السياسي الذي تشكل في البلاد بعد إجراء انتخابات مجلس
الصوت الواحد في الأول من ديسمبر قد تبدّل عما كان عليه قبلها. 


وقد واجهت “الجبهة الوطنية
لحماية الدستور و تحقيق الإصلاحات السياسية” تحديات الواقع الجديد بعد
انتهاء الجولة الأولى من معركة التصدي لمرسوم الصوت الواحد, وهذا ما كان
يتطلب إعادة تحديد أهداف الجبهة, مع أنه كانت هناك ضمن الأهداف المدرجة في
إعلان مبادئ الجبهة أهداف أخرى أبعد من التصدي لمخطط العبث السلطوي بالنظام
الانتخابي, ولكن الأولوية والاهتمام إلى ما قبل الانتخابات كانا منصرفين
بالأساس نحو التصدي لذلك المخطط, بالإضافة إلى بروز سلبيات ناجمة عن كونها
جبهة مشكّلة من شخصيات وناشطين وليس من تيارات وكتل ومجاميع … ومع أنه جرت
مبادرة لمحاولة إعادة تحديد أهداف الجبهة و إعادة الهيكلة إلا أنّ تلك
المحاولات لم تستكمل، بل أنها لم تنل استجابة مناسبة من بعض الأطراف
الفاعلة بالجبهة, ما أدى إلى توقف عمل الجبهة, و إن لم يتم الإعلان عن ذلك. 


إنّ التقييم الموضوعي لتجربة
“الجبهة الوطنية” يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية والذاتية
والتعقيدات والملابسات التي أحاطت بتشكيلها وعملها وفي الوقت نفسه يجب أن
يتناول هذا التقييم الموضوعي ما استطاعت أن تحققه من إنجاز مهما كان
محدوداً, وأن يتناول النواقص والسلبيات، والأهم من ذلك أن يتم استخلاص
الاستنتاجات والخبرات.

  • ائتلاف المعارضة:


بعد الجولة الأولى لمعركة
التصدي لمخطط السلطة في الانفراد بتغيير النظام الانتخابي ومقاطعة انتخابات
مجلس الصوت الواحد توجّه العديد من أطراف قوى المعارضة في فبراير 2013
لبناء ائتلاف جديد يجمعها, وبالطبع فقد كانت هناك حاجة موضوعية ملحة لتنظيم
صفوف قوى المعارضة وتوحيد جهودها وتنسيق مواقفها في مواجهة النهج السلطوي؛
وكذلك من أجل تحقيق التغيير الديمقراطي… فالمعركة طويلة والخصم عنيد
ويمتلك إمكانات لا يستهان بها, وبالطبع فإنّ أي كتلة من النواب السابقين
وحدها أو حركة سياسية منفردة أو مجموعة شبابية واحده لا تستطيع الادعاء
بقدرتها على قيادة النضال الديمقراطي بمعزل عن مشاركة الأطراف السياسية
والشعبية والشبابية الأخرى, وهذا ما يفرض ضرورة قيام ائتلاف يجمع سائر قوى
المعارضة حول أهداف واضحه متفق عليها وضمن إطار فاعل, ولكن كان من المهم
تحديد الأهداف المرحلية وبلورة صيغة مناسبة للعمل المشترك, وكانت الصيغة
المناسبة والواقعية تتمثل في اتفاق التيارات السياسية والكتل النيابة
والمجاميع الشبابية على تأسيس ائتلاف للمعارضة على أساس التكافؤ, وأن يتم
اتخاذ القرارات السياسية بالتوافق بين الأطراف المشكلة للائتلاف, إذ لا
يمكن اتخاذ القرارات بين أطراف سياسية مختلفة ضمن ائتلاف واسع وفق قاعدة
الأغلبية كما هو الحال في التنظيم السياسي الواحد أو المتجانس. 


إلا أنّه أثناء تأسيس “ائتلاف
المعارضة” بدا واضحاً أنّ هناك أموراً تستحق الاتفاق عليها، وأنّ هناك
نقاطاً مثيرة للخلاف لابد من تحديد المواقف تجاهها، ولهذا فقد طرح التيار
التقدمي الكويتي على الأطراف المتفقة على تأسيس ائتلاف المعارضة ضرورة بحث
أربعة مسائل رئيسية:


  1. تعريف دقيق لما يعنيه مصطلح التيارات السياسية المشاركة في الائتلاف,
    إذ أن مثل هذا التعريف مستحق حتى لا تشارك تحت هذا المسمى أطراف لا ينطبق
    عليها تعريف محدد, بحيث تنطبق تسمية تيار سياسي على التيار الذي يمتلك
    برنامجاً سياسياً محدداً وله مواقف سياسية معلنة وله كيان تنظيمي معروف.
  2. تحديد واضح لمَنْ هي المجاميع الشبابية المشاركة في الائتلاف, وذلك لتعدد هذه المجاميع وتوقف نشاط بعضها وتشكّل مجاميع جديدة.
  3. حسم أمر الازدواجية في مشاركة أطراف معينة في الائتلاف و ما يسمى
    اللجنة التنسيقية للحراك في آن واحد معاً, لما يترتب على هذه الازدواجية من
    تعقيدات وحساسيات.
  4. مستقبل الائتلاف بعد صدور حكم المحكمة الدستورية… ففي حال صدور حكم
    بإبطال مرسوم قانون الصوت الواحد, فهذا يعني أن هناك استحقاقاً انتخابياً
    قريباً, فما هو دور الائتلاف فيه؟ … و في حال صدور حكم المحكمة بحل مجلس
    الصوت الواحد لخطأ إجرائي, مثلما يتردد وإجراء انتخابات جديدة وفق مرسوم
    الصوت الواحد من دون إبطاله, فما هو موقف أطراف الائتلاف حول المشاركة فيها
    أو مقاطعتها؟… وكذلك ما هو الموقف تجاه مَنْ سيشارك في مثل هذه
    الانتخابات؟


ورأى التيار التقدمي الكويتي أن
القفز على هذه المسائل وعدم إيضاح الموقف حولها مسبقاً من شأنه أن يؤدي
إلى اختلال في بناء الائتلاف وإلى بروز تناقضات في مواقف أطرافه… ولهذا فقد
طالبنا بأن تجري مناقشة مستفيضة وبحث مناسب لهذه المسائل الأربع, وذلك قبل
تشكيل المكتب السياسي للائتلاف, إلا أنّ اعتراض بعض الأطرف على ما طرحناه
من نقاط وتفهّم أطراف أخرى لما طرحناه وطلبها منا تأجيل المناقشة لحين
تشكيل المكتب السياسي دفع التيار التقدمي الكويتي إلى الاكتفاء بأن يكون
ممثلاً في الجمعية العمومية للائتلاف حرصاً على وجود حد أدنى من التنسيق
والعمل المشترك بين أطراف المعارضة على اختلاف مكوناتها وتوجهاتها، والمؤسف
أنّه لم تنعقد هذه الجمعية العمومية ولم تتم دعوتنا إلى حضور أي من
اجتماعاتها. 


ولهذا فمن الطبيعي أن يفشل
الائتلاف ويضعف ويتراجع دوره، خصوصاً في ظل عدم وضوح تعامل الأطراف الأخرى
المؤسسة للائتلاف مع بعض المسائل الملتبسة وما تعانيه من قصور سياسي وعجز
ذاتي وما برز في صفوفها من تناقضات. فيما أثبتت الأيام وبالملموس صحة وجهة
نظر التيار التقدمي الكويتي في هذا الشأن.

  • “كرامة وطن” والمجاميع الشبابية الأخرى:


لقد أبرز الحراك الدور الايجابي
للمجاميع الشبابية كقوى ضاغطة لها تأثير قوي في توجيه الحراك وقوى
المعارضة من خلال فرض مطالب الإصلاح الديمقراطي على بعض المترددين من القوى
السياسية أو الشخصيات البرلمانية، وقد تجلت قوة هذه المجاميع في تجربة
“مسيرات كرامة وطن” التي دعا لها ونظمها مجموعة من الشباب، ورغم النجاح
الباهر الذي لاقته مسيرات كرامة وطن، خصوصاً المسيرة الأولى في أكتوبر 2012
التي كانت أكبر مسيرة احتجاجية شهدتها الكويت في تاريخها على الرغم من قمع
السلطة، إلا أن التجربة لم تستطع أن تحتفظ بالقوة ذاتها والزخم السابق
نفسه، ووقعت مجموعة “كرامة وطن” في أخطاء وسوء تقدير للموقف وكيفية
التعامل، وذلك لعدة أسباب أهمها: عدم التنسيق بينها وبين بقية المجاميع
الشبابية أو القوى السياسية المعارضة، كما أن سرية حساب “كرامة وطن” على
تويتر وعدم معرفة مَنْ يقف وراءه قد أدى بطريقة أو بأخرى إلى الطعن في
مصداقية الحساب، رغم أن مثل تلك التدابير الاحترازية قد تكون مفيدة للحفاظ
على المجموعة الناشطة وعدم اعتقالها. 


وقد بدا واضحا أنّ المسؤولية
كانت أكبر من أن يتحملها حساب “كرامة وطن” والقائمون عليه لوحدهم، ولكن
المؤسف أنّ ذلك قد تمّ عبر تدخلات غير مسؤولة من بعض الشخصيات لم يستطع
القائمون على الحساب التعامل معها، وعلى سبيل المثال فإنّه على الرغم من
تأكيد مجموعة “كرامة وطن” على أنّ المسيرات حق مطلق لا تحتاج إلى الترخيص
من وزارة الداخلية قام البعض بتقديم طلبات للداخلية لترخيص المسيرة ما تسبب
في عزوف البعض عن المشاركة في المسيرات التي دعا لها حساب “كرامة وطن”. 


كما برز عدم التنسيق وسوء تقدير
الموقف عندما دعت مجموعة “كرامة وطن” للمبيت في “ساحة الإرادة” ثم في ساحة
البنوك ما أدى إلى اعتراض بعض قوى المعارضة ودعت إلى اجتماع آخر في “ساحة
الإرادة” بعد المبيت تحت قيادة تجمع “نهج” لم تتم الاستجابة له. 


لقد كانت تجربة “كرامة وطن”
تجربة مهمة في تلك الفترة، إذ أنّها على الرغم من بعض سلبياتها ونقاط ضعفها
فقد أبرزت دور الشباب وأثبتت بالملموس استعداد الشعب الكويتي للخروج إلى
الشارع من أجل انتزاع حقوقه من دون خوف في مواجهة إرهاب السلطة وقمع القوات
الخاصة. 


إنّ تجربة الشباب بشكل عام هي
تجربة ايجابية، ولكن علينا أن نؤكد على أنّ مجموعات الضغط والمجموعات
الاحتجاجية التي شكّلها الشباب شابها التهور أحياناً، ولا يمكن الاعتماد
عليها وحدها في تحقيق مطالب الإصلاح الديمقراطي، فالإصلاح الديمقراطي يحتاج
بدءاً إلى التحليل السليم للواقع السياسي المتحرك؛ ويتطلب القدرة على
التعامل مع هذا الواقع بكل تناقضاته وتعقيداته وتحدياته، والأهم من ذلك
بلورة مشروع واضح للإصلاح الديمقراطي، والتنسيق بين جميع مكونات المعارضة
سواء الشباب أو القوى السياسية أو الشخصيات المستقلة، وهذه متطلبات تفوق
قدرات المجاميع الشبابية وتتجاوز إمكاناتها، ولكن هذا الإصلاح الديمقراطي
لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن دور الشباب ومساهماتهم ومبادراتهم وروحهم
المقدامة وتضحياتهم المشهود لها. 



القسم الثاني





طريق الكويت نحو الإصلاح الديمقراطي




إنّ النضال من أجل تحقيق إصلاح
ديمقراطي يتطلّب بالأساس تشخيص العيوب والنواقص البنيوية التي تعانيها
المنظومتان السياسية والدستورية، كما يتطلب تحديد العوامل التي أدّت إلى
تعطيل عملية الانتقال نحو الديمقراطية، ليمكننا بعد ذلك أن نبلور أجندة
للنضال من أجل تحقيق الإصلاح الديمقراطي المنشود. 



أولاً: تشخيص العيوب
والنواقص البنيوية الرئيسية التي تعانيها المنظومتان السياسية والدستورية،
وهي تتلخص في العيوب والنواقص التالية:





1- عدم اكتمال الطابع التمثيلي لمجلس الأمة،
الذي يفترض أن يكون مؤسسة نيابية منتخبة بالكامل، إذ أنّ الوزراء غير
المنتخبين هم أعضاء بحكم وظائفهم في مجلس الأمة ويشاركون في مختلف الأعمال
البرلمانية، باستثناء أمرين هما: عدم إمكان ترشيحهم إلى عضوية لجان المجلس،
التي يشاركون في انتخاب أعضائها، وعدم مشاركتهم في التصويت على طلبات طرح
الثقة في الوزراء منفردين وعدم التعاون مع رئيس مجلس الوزراء… وهذا يعني
أنّ مجلس الأمة ليس منتخبا بالكامل، وأنّ طابعه التمثيلي النيابي كان ولا
يزال ناقصا. 


2- الضمانات المبالغ فيها، التي تتمتع بها الحكومة،
إذ لا يشترط دستور الحدّ الأدنى حصولها على الثقة النيابية المسبقة، ولا
يمكن طرح الثقة في الحكومة ككل، وإنما يمكن فقط أن يتم طرح الثقة في كل
وزير على حدة وذلك بعد استجوابه، أما رئيس مجلس الوزراء فلا يمكن أن تُطرح
فيه الثقة، بل يمكن فقط تقديم طلب بعدم إمكان التعاون معه، وذلك بعد
استجوابه، وهو طلب محفوف بالمخاطر لأنّه يفتح الباب أمام إمكانية حلّ مجلس
الأمة نفسه. 


3- انعدام وجود آلية مقررة دستوريا لتداول مناصب السلطة التنفيذية، مثلما هي الحال في أي نظام ديمقراطي، ما أدى إلى تثبيت ما يشبه الاحتكار الدائم أو طويل الأمد للعديد من هذه المناصب. 


4- غياب الحياة الحزبية المنظمة،
التي هي أحد أهم مكونات النظام الديمقراطي، ما أدى إلى تكريس الطابع
الفردي للعملية الانتخابية، التي يخوضها المرشحون فرادى، وكذلك الطابع
الفردي للعمل البرلماني. 



5- نجاح السلطة في تعطيل العمل بالدستور وإفراغه من محتواه وتكريس نهج الإنفراد بالسلطة، وذلكإما
بالانقلاب مباشرة على الوضع الدستوري مثلما حدث أول مرة في النصف الثاني
من سبعينيات القرن العشرين ومرة أخرى في النصف الثاني من الثمانينيات حتى
بداية تسعينيات القرن العشرين؛ أو عبر التواطؤ مع الغالبية النيابية
الموالية للسلطة في معظم المجالس النيابية المتعاقبة عندما تمّ تمرير
مجموعة من القوانين المقيدة للحريات الشخصية والعامة والسالبة للحقوق
الديمقراطية المقررة في الدستور، أو باستغلال ضعف المعارضة لتثبيت تدابير
وإجراءات وتقاليد كرّست انفراد السلطة بالقرار. 


6– النظام الانتخابي المعبوث به،
الذي أدى إلى تحكّم السلطة في العملية الانتخابية ومخرجاتها وعرقلة
إمكانية وجود غالية نيابية خارجة عن طوعها، وتكريس الطابع الفردي في خوض
الانتخابات وفي العمل البرلماني. 



ثانياً: تحديد العوامل التي
أدّت إلى تعطيل عملية الانتقال إلى الديمقراطية في الكويت طوال نصف القرن
المنصرم، التي نستطيع أن نلخصها في العوامل الموضوعية التالية:






1– موقف السلطة المعادي
للديمقراطية ومحاولاتها المتواصلة لإعاقة تطورها وتقليص هامش الحريات
وتكريس نهج الانفراد بالقرار، ونجاحها في إفراغ دستور 1962 من العديد من
مضامينه الديمقراطية وفرضها ترسانة من القوانين المقيدة للحريات أو
المناقضة لأسس النظام الديمقراطي، وتحكّمها في النظام الانتخابي، ما أدى
شيئاً فشيئاً إلى انسداد أفق الإصلاح عبر الانتخابات وأساليب العمل
البرلماني. 


2- سطوة الدولة الريعية واستقلال قرارها عن المجتمع. 


3- التأثيرات السلبية لقيم
المجتمع الاستهلاكي، وكذلك التأثيرات السلبية للبُنى الاجتماعية التقليدية
الطائفية والقبلية والعائلية، خصوصاً في ظل محاولات السلطة تمزيق النسيج
الوطني الاجتماعي وتأجيج النزعات الطائفية والقبلية والفئوية والمناطقية. 



أما العوامل الذاتية فتتمثّل في:




1 – عدم إشهار الأحزاب السياسية. 


2- الموقف الدفاعي الذي تشكّل
تاريخياً لحماية دستور 1962 من الانقلاب السلطوي عليه، ما أدى إلى تحييد
المطالبة بإقامة نظام ديمقراطي برلماني كامل. 


3- التعويل المبالغ فيه على الانتخابات والعمل البرلماني على حساب أشكال النضال السياسي الأخرى وبالأساس منها النضال الجماهيري. 


ولئن كان من المهم إدراك العوامل الموضوعية وتأثيراتها، فإنّه يمكن بذل الجهود من أجل تعديل العوامل الذاتية أو العمل على تغييرها. 



ثالثاً: بلورة أجندة النضال من أجل تحقيق الإصلاح الديمقراطي:




حتى يمكننا أن نبلّور أجندة
واضحة من أجل تحقيق الإصلاح الديمقراطي، لابد أولاً من تحديد الهدف المراد
بلوغه بدقة ووضوح، وبعدها لابد من رسم خارطة الطريق من أجل تحقيق هذا
الهدف. 


إنّ تحديد الهدف بدقة أمر
مستحق، ذلك أنّ هناك التباسات تثيرها بعض الدعوات المطروحة للإصلاح
الديمقراطي، فهناك مَنْ يدعو إلى “الإمارة الدستورية”، وهناك آخرون يدعون
إلى “الحكومة الشعبية” أو “رئيس الوزراء الشعبي”، وغيرهم ينادي بما يسميه
“الحكومة البرلمانية”، فيما تنتشر دعوات تطالب بإقامة “الحكومة المنتخبة”،
وهي دعوات لا نرفضها ولكننا نرى ضرورة تدقيقها وإزالة ما يحيط بها من
التباسات وخلط. 


ذلك أنّ “الإمارة الدستورية”
يمكن أن تُفسّر في حدّها الأدنى المتحقق شكلياً الآن بمعنى وجود دستور ينظم
سلطات الأمير، بينما القصد من طرح هذا المطلب يتجاوز ذلك، كما أنّ مطلب
“الحكومة الشعبية” يمكن أن يعني فقط أن يكون رئيس الوزراء والوزراء من
المواطنين وليس من الشيوخ من دون استكمال شروط النظام البرلماني، حيث يتم
توزيرهم كأفراد، ومثلها الدعوة إلى “الحكومة البرلمانية” التي يمكن أن
تُختزل في حكومة تتشكّل في معظمها من أعضاء مجلس الأمة كأفراد… أما مطلب
“الحكومة المنتخبة” فهو لا يمكن أن يتحقق بصورة دقيقة إلا في النظم
الرئاسية، عندما يتم انتخاب الرئيس الذي يعيّن إدارته، بينما الأمر مختلف
تماماً في الأنظمة البرلمانية، التي هي مآل التطور الديمقراطي للأنظمة
الوراثية، إذ لا يتم انتخاب رئيس مجلس الوزراء والوزراء مباشرة، بل يتم
تعيينهم من بين أعضاء كتلة أو حزب الغالبية في البرلمان. 


ومن هنا فإنّ المصطلح الأدق
للهدف الذي نسعى إلى بلوغه من تحقيق الإصلاح الديمقراطي هو إقامة نظام
ديمقراطي برلماني كامل، الذي يقوم على خمسة أركان هي: 



أولاً: وجود أحزاب سياسية. 


ثانياً: تداول ديمقراطي للسلطة. 


ثالثاً: ضرورة نيل الحكومة ثقة البرلمان. 


رابعاً: اختيار رئيس مجلس الوزراء والوزراء من بين أعضاء كتلة أو حزب الغالبية في البرلمان. 


خامساً: أن يكون رئيس الدولة حَكَمَاً بين السلطات لا طرفاً في المنازعات السياسية. 


ويمكن القول إنّ هناك مستويين
مختلفين ولكنهما مترابطان للإصلاح الديمقراطية، المستوى الأول هو مستوى
الإصلاح السياسي الذي يمكن تحقيقه من دون الحاجة إلى تنقيح الدستور،
والمستوى الآخر هو الإصلاح الدستوري الذي يتطلب مثل هذا التنقيح المستحق. 



المستوى الأول هو مستوى الإصلاح السياسي الديمقراطي:




والقصد هنا هو الإصلاح السياسي الذي يمكن تحقيقه من دون الحاجة إلى تنقيح “دستور الحدّ الأدنى”، ويتمثّل في: 


1- انتزاع الحق الديمقراطي في
إشهار الأحزاب السياسية عبر قانون ديمقراطي يعتمد آلية قيام مؤسسي كل حزب
بالإخطار عن تأسيس حزبهم من دون حاجة إلى حصول هؤلاء المؤسسين على الترخيص
الحكومي بذلك، مع ضرورة تأكيد القانون على أن تتشكّل الأحزاب السياسية وفق
أسس وطنية وليس طائفية أو قبلية، وأن تعمل بوسائل سلمية. 


2- إقرار نظام انتخابي ديمقراطي
عادل قائم على التمثيل النسبي للقوائم الانتخابية ضمن دوائر كبيرة، بعد أن
تعذّر وفق حيثيات حكم سابق للمحكمة الدستورية تحقيق مطلب الدائرة
الانتخابية الواحدة ضمن الدستور الحالي، مع تخفيض سن الناخبين إلى 18
عاماً، بمعنى أن يتم إلغاء نظام الانتخاب الأكثري الحالي، وهو نظام غير
عادل، ويقرّ مكانه نظام انتخابي آخر هو نظام التمثيل النسبي، وهو النظام
المعمول به في كثير من بلدان العالم، بحيث تنال القوائم الانتخابية مقاعد
في مجلس الأمة تتناسب على نحو عادل مع نسبة ما حصلت عليه من أصوات
الناخبين. 


3- إلغاء القوانين المقيدة
للحريات وخصوصاً حرية الاجتماع العام وحرية التعبير عن الرأي والحقّ في
تشكيل مؤسسات المجتمع المدني، وكذلك إلغاء القوانين التي تصادر حقّ الأفراد
في التقاضي المباشر أمام المحكمة الدستورية أو تقيّد حقهم في اللجوء إلى
المحكمة الإدارية، إلى جانب التأكيد على حماية الحريات الشخصية للأفراد من
الوصاية والتدخل؛ وعدم المساس بالطابع المدني للدولة. 


4- إطلاق سراح المعتقلين وسنّ
قانون للعفو العام عن قضايا الرأي المعروضة أمام جهات التحقيق والمحاكم
حالياً، وذلك من دون أي شروط أو تعهدات. 


بحيث تمثّل هذه الخطوات والتدابير والآليات الأرضية اللازمة التي يمكن أن يتأسس عليها النظام الديمقراطي البرلماني الكامل. 



المستوى الثاني هو مستوى الإصلاح الدستوري الديمقراطي:




الذي يتطلب بدءاً تصحيح الموقف
الدفاعي عن دستور 1962 الذي تشكّل تاريخياً في مواجهة الانقلابات السلطوية
على الدستور، بحيث يتحوّل إلى موقف الدفاع عن المكتسبات الديمقراطية
المتحققة في دستور الحدّ الأدنى، مع المطالبة بإصلاح دستوري يستكمله ليصبح
دستوراً ديمقراطياً. 
إنّ عنوان الإصلاح الدستوري
المستحق هو الانتقال إلى النظام البرلماني الكامل، وهو ما يتطلّب في حدوده
الدنيا تنقيح عدد من مواد الدستور، وذلك كالتالي: 


– تنقيح المادة 80 من الدستور لقصر عضوية مجلس الأمة على النواب المنتخبين. 


– تنقيح المادة 98 بحيث تتقدم كل وزارة فور تشكيلها ببرنامجها إلى مجلس الأمة لتنال الثقة النيابية على أساسه. 


– تنقيح المادتين 101 و102 بحيث
يمكن طرح الثقة في الوزراء ورئيس مجلس الوزراء من دون الحاجة إلى المرور
بآلية الاستجواب، ومن دون تفريق بين طرح الثقة في الوزراء أو في رئيسهم
واعتباره معتزلاً لمنصبه شأنه شأنهم من تاريخ عدم الثقة به، وعدم اشتراط
تحكيم رئيس الدولة عند طرح الثقة في رئيس مجلس الوزراء لاتخاذ قراره إما
بإعفاء الرئيس أو بحلّ مجلس الأمة، مثلما هي الحال الآن عند تقديم طلب عدم
إمكان التعاون معه. 


– تنقيح المادة 116 من
الدستور، أو تعديل اللائحة الداخلية لمجلس الأمة، بما يؤدي إلى تأكيد صحة
انعقاد جلسات مجلس الأمة من دون اشتراط حضور الحكومة، حتى لا يؤدي غيابها
إلى تعطيل جلسات المجلس مثلما حدث وتكرر. 



رابعاً: وسائل النضال من أجل تحقيق أجندة الإصلاح الديمقراطي:




مادام أفق تحقيق الإصلاح
الديمقراطي عبر الانتخابات والعملية البرلمانية قد انسدت آفاقه، فإنّ
البديل المتاح هو العمل على تحقيق هذا الإصلاح عبر أساليب النضال الجماهيري
ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر الأساليب التالية: 


– الاحتجاج الجماعي على سياسة أو قانون أو قرار أو إجراء عبر عقد تجمعات جماهيرية وإقامة اعتصامات أو مهرجانات خطابية. 


– تنظيم المسيرات والمظاهرات. 


– النضال الاقتصادي من أجل تحسين شروط العمل أو رفع الأجور وشكله الرئيسي هو الإضراب عن العمل. 


– الإضرابات والاعتصامات الطلابية. 


– جمع التوقيعات على عرائض ومذكرات وبيانات. 


– تشكيل لجان شعبية على مستويات المناطق والمحافظات أو أماكن العمل أو الدراسة أو على أساس المهن. 


– تكوين جماعات ضغط حول قضية محددة أو مطلب معين. 


– تشكيل وفود شعبية لتقوم بجولات على الديوانيات للشرح والتوضيح والتعبئة، أو للالتقاء بالمسؤولين في الدولة أو بوسائل الإعلام. 


– تنظيم حملات التحرك، بما في ذلك حملات التحرك الإلكترونية عبر الهاشتاقات في التويتر. 


– إقامة الندوات والحلقات النقاشية. 


– إصدار البيانات الجماهيرية والمطويات والملصقات وتوزيعها. 



ويتركّز دورنا في تطوير النضال الجماهيري إلى المهام التالية: 




1- رفع مستوى الوعي السياسي
للجماهير، وإزالة ما رسخ في أذهانها من أوهام حول طبيعة السلطة وطريق
الانتقال نحو الديمقراطية، وذلك عبر عمل دءوب من الشرح والتوضيح والإقناع. 


2- تعبئة الجماهير حول مطالب الإصلاح الديمقراطي، وتعزيز ثقتها في قدراتها على إحداث التغيير. 


3- تنظيم حركة الجماهير
والانتقال بها من مستوى النضال العفوي إلى النضال السياسي الواعي والمنظم
عبر أساليبه المختلفة بهدف تغيير ميزان القوى السياسية في البلاد ليصبح
مواتياً لتحقيق مطالب الإصلاح الديمقراطي. 


————————————————— 


أقرها المجلس العام للتيار التقدمي الكويتي في اجتماعه


المنعقد يوم السبت 17 أغسطس 2013


اقرأ المزيد

قانون العمل الجديد… أسوأ قانون تشهده البحرين – المحامي علي محسن الورقاء

(1)

قلنا ذات مرة، في مقال سابق في شأن «ما يجب أن تكون عليه هوية القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها»، أنه يتوجب أن تتوافر في هؤلاء ثلاث مميزات على الأقل، وهي: (أولاًً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها؛ (وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وحيث صدر قانون العمل الجديد رقم (36) لسنة 2012 المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 2 أغسطس/ آب 2012 في العدد 3063 والذي تصدرت بداية وزارة العمل بمفردها لإعداد مسودته واقتراح نصوصه منذ عام 2001 ثم انتهى الأمر إلى إصداره بنصوصه الحالية، فأُلغي بموجبه قانون العمل القديم رقم (23) لسنة 1976 قانون رقم (14) لسنة 1993.

وبمراجعة القانون الجديد أوقفتنا العديد من نصوصه التي تحيط بها الكثير من المآخذ، سواءً من حيث الشكل أو الصياغة أو المضمون، التي لم نكن نتوقعها مطلقاً، وخاصةً أن ولادة هذا القانون جاءت بعد حملٍ دام إحدى عشرة سنة يفترض أن يكون حسن الخلقة مكتملاً غير مشوه.

وعلى رغم أن هذا القانون تضمن بعضاً من النصوص لصالح المرأة العاملة، إلاّ أن هذه النصوص لا تعدو سوى نقاط صغيرة بيضاء في وسط دائرة كبيرة سوداء كاتمة، ما يجعلنا نخرج بمحصلة نهائية أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.

ولكي لا نطيل في المقدمة نبدأ في الولوج في نصوص هذا القانون ونختار بعضاً من نصوصه ضمن دائرته السوداء، لنعقب عليها مادةً تلو الأخرى بالتعليق عليها في حلقات متسلسلة ومتتابعة نبدأها في هذه الحلقة، بما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة الرابعة على أن «يستمر العمل بأية مزايا أو شروط أفضل تكون مقررة أو تقرر في عقود العمل الفردية أو الجماعية أو أنظمة العمل بالمنشأة أو غيرها أو بموجب العرف».

هذا النص، رغم ركاكته وسوء صياغته بشكل لا يليق أن يكون نصاً في القانون، بحيث يظهر أن من قام بصياغته غير محيط بأبعاد القاعدة القانونية ولا يحسن صياغتها، فقد جاء – علاوة على ذلك – مغايراً لنص قانوني يقابله في المادة رقم (153) من قانون العمل الملغى لسنة 1976 التي ورد فيها النص التالي: «ولا يجوز المساس بما اكتسبه العامل من حقوق بمقتضى أية اتفاقية أو لوائح النظم الأساسية أو قرارات التحكيم أو ما جرى العرف أو اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال».

وبمقارنة النصين السابقين نلحظ أن قانون العمل الجديد لسنة 2012 وقف موقفاً سلبياً في غير صالح العمال، وهذا الموقف السلبي سندرك لاحقاً كم هو ضار للغاية، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: كان يفترض أن يؤكد النص سابق الذكر بعبارة واضحة لا تحتمل التأويل وبقاعدة آمرة على «عدم المساس بما اكتسبه العمال من حقوق» على النحو الذي جاء في نص المادة رقم (153) من قانون العمل السابق لسنة 1976. وهو ما خلا منه نص المادة الرابعة من قانون العمل الجديد.

ثانياً: من المقرر – طبقاً لما نصت عليه معظم القوانين والاتفاقيات العمالية الدولية – أن الحقوق العمالية تكتسب بمقتضى إحدى المصادر التالية: القانون، أو عقد العمل، أو لوائح الأنظمة الأساسية للمنشأة، أو قرارات التحكيم، أو العرف، أو ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال.

وهذه المصادر الستة نص عليها قانون العمل القديم على نحو ما تقدّم، تضفي على الحقوق العمالية صفة الحق المكتسب، بحيث يستطيع العامل بمقتضى أي واحد من هذه المصادر أن يطالب بالحق بصفته حقاً مكتسباً، ومن بين هذه المصادر كما ذكرنا «ما قد اعتاد صاحب العمل على منحه له بصورة منتظمة».

بيد أننا لو قمنا بمقارنة نص المادة رقم (153) من قانون العمل الملغى لسنة 1976 ونص المادة الرابعة من قانون العمل الجديد سابق الذكر لوجدنا أن هذا الأخير قد حذف مصدراً مهماً من مصادر الحق وهو «ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال».

فلو افترضنا مثلاً أن بنكاً من البنوك قد اعتاد على أن يصرف لموظفيه أو لبعض منهم أجر شهرٍ إضافي بنهاية كل عام ميلادي (وهو ما يطلق عليه أجر الثالث عشر) وكان هذا الاعتياد غير مبني على اتفاق صريح في عقد العمل، فإن هذا الاعتياد بمقتضى قانون العمل القديم يصبح حقاً مكتسباً للموظفين لا يستطيع البنك المساس به، من حيث أنه جاء بمقتضى قاعدة قانونية آمرة. في حين أن قانون العمل الجديد حذف عبارة «ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال» ما يعني أنه حذف مصدراً من مصادر الحق آنفة الذكر، وبالتالي يستطيع البنك في مثل الحالة المشار إليها أن يلغي صرف الراتب الثالث عشر مهما طالت مدة اعتياده على صرفه لموظفيه، ولن يكون ملزماً به كحق مكتسب بحكم القانون الجديد.

لذلك وبناءً على ما تقدّم نكون قد وقفنا على سوأة من مساوئ قانون العمل الجديد، وسنقف بالتتابع على باقي هذه المساوئ في الحلقات المقبلة.

(2)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم

(36) لسنة 2012 أشرنا في الحلقة الأولى إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: (أولاً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها.

(وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره. (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

ووقفنا في الحلقة السابقة على نص الفقرة الثانية من المادة الرابعة من القانون المذكور، والتي من خلالها أثبتنا سوء صياغة هذا النص بما يوحي أن القائمين على إعداد مسودة القانون المذكور يفتقرون إلى إحدى المميزات السالف ذكرها، فضلاً عن كون النص المشار إليه جاء في غير صالح العمال، وكأن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال استناداً للأسباب التي وقفنا عليها.

وفي هذه الحلقة سنقف على جانب من نصوص القانون المذكور لنثبت من خلاله مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته.

وذلك فيما يلي:

أولاً: في المادة العاشرة من المرسوم بقانون رقم (14) لسنة 1993 الذي ألغاه قانون العمل الجديد، جاء النص التالي: «على وزارة العمل ترشيح المقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم وتتفق مع سنهم وكفاءتهم الفنية…». هذا النص يحمل مضموناً سن بموجبه إجراءً قانونياً ملزماً التزمت به وزارة العمل طيلة السنوات الماضية، وهو ترشيح العاطلين المقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم. غير أن قانون العمل الجديد لسنة 2012 خلا من هذا النص تماماً، ما يعني أن المشرِّع رفع هذا الالتزام عن كاهل وزارة العمل.

وبإلغاء هذا الإجراء أصبحت وزارة العمل بمنأى عن أي التزام قانوني يلزمها بترشيح العاطلين المقيدين لديها ومتابعة تشغيلهم على نحو ما كانت عليه في الماضي، ليبقى التزامها محصوراً في قيد العاطلين، أو بالتنسيق مع جهات – لم يحددها القانون – لغرض توظيفهم طبقاً لما جاء في نص المادة التاسعة من قانون العمل الجديد.

و»الترشيح» المشار إليه لا يجوز تبسيط مفهومه ومضمونه ليوصف – بحسب ما يراه بعض المسئولين الجدد بوزارة العمل – بأنه مجرد اقتراح أو تنسيق لتوظيف العاطلين، إذ أنه بهذا التوصيف ننتهي إلى اجتزاء طبيعة الترشيح.

إنما هو في الحقيقة نظام يحمل في طياته توصية، أو ما يشبه بالأمر الإداري، في إطار خطة «بحرنة الوظائف» التي تخلت عنها وزارة العمل تدريجياً حتى أصبحت في «خبر كان».

وقد لمسنا في الماضي أن ترشيح وزارة العمل للمقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم وتتفق مع سنهم وكفاءتهم ومتابعة تشغيلهم وفق خطة بحرنة الوظائف كان له الأثر الملموس في توظيف نسبة لا بأس بها من العاطلين. وبإلغاء نظام الترشيح باتت وزارة العمل غير مسئولة عن أهم واجب وطني يفترض أن تقوم به على نحو ما كانت عليه في الماضي، وإن قامت به إنما تقوم به تفضلاً لا بموجب التزام قانوني.

وقد سبق أن صرح لنا أحد المسئولين بوزارة العمل خلال زيارتنا له لغرض ترشيح أحد الخريجين الجامعيين كان عاطلاً لأكثر من ثلاث سنوات ولا يزال عاطلاً، بقوله: «إن الوزارة غير مؤهلة لأن تُلزم أحداً بتشغيله وفقاً لمؤهلاته». ونحن في الواقع لا نلوم هذا المسئول لما صرح به، لأنه فطن بأن لا وجود لإلزام قانوني على هذه الوزارة بعد إلغاء النص الذي يلزمها بترشيح ذلك المواطن العاطل وإخلاء مسئوليتها من متابعة تشغيله، وبعد تعطيل خطة «بحرنة الوظائف» كما أشرنا.

ثانياًَ: بعد أن رأينا في الفقرة السابقة كيف أخلى المشرِّع (بمقتضى قانون العمل الجديد) مسئولية وزارة العمل من ترشيح العاطلين الوطنين المقيدين لديها ومن الالتزام بمتابعة تشغيلهم على نحو ما سلف بيانه، نجده اتخذ موقفاً أشد قسوة تجاه العامل الوطني استناداً لما يلي:

فبعد مراجعة قانون العمل الجديد نلحظ أنه ألغى المادة رقم (13) من قانون العمل لسنة 1976 التي ألزمت صاحب العمل بوجوب منح الأفضلية للوطني في الاستخدام، والتي جاء فيها «في حالة زيادة عدد العمال عن حاجة العمل يجب الاستغناء عن الأجنبي قبل العربي أو الوطني، وعن العربي قبل الوطني»…

بمعنى أنه كان يجب على صاحب العمل في حالة زيادة عدد عماله عن الحاجة أن يستبقي على العامل الوطني ويمنحه الأفضلية في الاستخدام دون العربي والأجنبي متى كان صالحاً لأداء العمل.

أو بمعنى آخر كان لا يجوز لصاحب العمل في حالة زيادة عماله عن الحاجة أن يفصل العامل الوطني ولديه عامل عربي أو أجنبي يماثله. وبإلغاء المادة

(13) المشار إليها جاز القول بأن قانون العمل الجديد ألغى أفضلية العامل الوطني في الاستخدام على غيره من الأجانب، فجعل العامل الوطني والأجنبي متساويين في حق الاستخدام.

وبناء على ما تقدم في الحلقة الأولى وفيما أشرنا إليه أعلاه يثبت أن المشرِّع بموجب قانون العمل الجديد قد أخذ موقفاً سلبياً فيه أكثر قتراً وبخلاً وحيفاً بحق العامل الوطني.

ثالثاً: جاء في المادة رقم (12) من قانون العمل الجديد «يجب على صاحب العمل أن يسلم العامل إيصالاً بما يودعه لدى صاحب العمل من أوراق أو شهادات أو أدوات. ويلتزم صاحب العمل بأن يرد للعامل عند انتهاء عقد العمل ما يكون قد أودعه لدى صاحب العمل».

هذا النص يوضح لنا بجلاء الاعوجاج المتين في الصياغة، وبما يثبت مجدداً أن الأيادي التي صاغت نصوص قانون العمل الجديد ليست مؤهلة لذلك.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من هذا الاعوجاج في الصياغة والتعبير والشكل، والمزيد من الحيف الذي وقع على العمال من خلال قانون العمل الجديد. ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.


(3)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 كنا قد بدأنا الحلقتين السابقتين بالإشارة إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: (أولاً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها. (وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره. (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وقد وقفنا في الحلقتين الماضيتين على بعض نصوص قانون العمل المذكور وأثبتنا سوء صياغتها بما يوحي أن القائمين على إعداد مسودة القانون يفتقرون لإحدى المميزات السالف ذكرها، كما رأينا كيف أن تلك النصوص هي في غير صالح الأجراء، وكأن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال على ضوء ما كنا قد انتهينا إليه.

وفي هذه الحلقة (الثالثة) سنقف على جانب آخر من نصوص القانون المذكور لنثبت مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:

أولاً: تنص المادة رقم (13) من قانون العمل الجديد على أنه «يجب على صاحب العمل إعطاء العامل – أثناء سريان عقد العمل أو عند انتهائه ودون مقابل – شهادة بما يطلبه من بيانات بشأن تاريخ التحاقه بالعمل ونوع العمل الذي قام به والأجر والمزايا الأخرى التي حصل عليها وخبرته وكفاءته المهنية وتاريخ وسبب انتهاء عقد العمل». هذه المادة تقابلها المادة رقم (119) من قانون العمل القديم ونصها هو «يمنح العامل شهادة خدمة تتضمن بياناً لمهنته ومدة خدمته وآخر أجر تقاضاه، ويرد إليه ما قد أودعه لدى صاحب العمل من أوراق أو شهادات أو أدوات».

وبمقارنة نص المادتين المذكورتين نلحظ سوء صياغة نص المادة رقم (13) من قانون العمل الجديد وعدم انتظام تركيبتها اللغوية على خلاف نص المادة (119) من قانون العمل القديم، إلاّ أن مساوئ نص المادة الأولى في الصياغة والتركيب اللغوي ليس لها من تأثير كبير مقارنةً بالضرر الذي يحمله مضمون هذا النص. فبالعودة إلى هذا النص نجد خلاصة مضمونه أنه يُلزم صاحب العمل بأن يصدر للعامل شهادة خدمة يبين فيها تاريخ التحاقه بالعمل ونوع عمله وأجره وتاريخ انتهاء خدمته وأسباب انتهائها.

ومن المقرر أنه عندما يُلزم القانون صاحب العمل بأن يذكر أسباب انهاء خدمة العامل أو سبب فصله من العمل في شهادة الخدمة المقدّمة إليه، فإن ذلك يعد أمراً خطيراً يحيق بالعامل لم نجده في جميع التشريعات العمالية الدولية، بما فيها قانون العمل البحريني القديم، لكونه يحمل في ثناياه ضرراً محضاً بالغ الشدة يصيب العامل على وجه التأكيد في بعض الحالات، كأن يكون إنهاء خدمة العامل أو فصله بسبب فقد الثقة فيه بعد أن اتهمه صاحب العمل بجرم السرقة مثلاً.

فعندما يذكر صاحب العمل هذا السبب في شهادة الخدمة سيكون ضرر هذه الشهادة على العامل أكثر من نفعها لأنها تصبح بمثابة دليل إدانة ضده، ما يضطره للاستغناء عنها بالتأكيد، وباستغنائه عنها يكون قد فقد أهم مرجع يثبت خبرته وسنوات خدمته.

علماً أن قانون العمل القديم – حاله كحال التشريعات العمالية المقارنة – كان قد حرَّم على صاحب العمل ذكر أسباب انهاء خدمة العامل في شهادة خدمته خشية أن يضار العامل من ذكرها، في حين يأتي لنا قانون العمل الجديد ليفرض على صاحب العمل بقوة القانون وجوب ذكر أسباب فصل العامل وأسباب إنهاء خدمته في شهادة الخدمة على نحو ما جاء في النص. ولذلك نخلص إلى القول ان قانون العمل الجديد في هذا الجانب قد أصاب العمال في مقتل. ولا ندري ما الحكمة من وراء ذلك يا ترى! وأي حكمة هذه التي يوظف لها قانون العمل للإضرار بالعمال بدلاً من أن يكون موظفاً لحمايتهم؟

ثانياً: تنص المادة رقم (22) من قانون العمل الجديد على انه «يحظر على صاحب العمل أن يخرج على الشروط المتفق عليها في عقد العمل الفردي، أو عقد العمل الجماعي، أو أن يُكلِّف العامل بعمل غير متفق عليه إلاّ إذا دعت الضرورة إلى ذلك منعاً لوقوع حادث أو إصلاح ما نشأ عنه، أو في حالة القوة القاهرة، على أن يكون ذلك بصفة مؤقتة. وله أن يُكلِّف العامل بعمل غير المتفق عليه إذا كان لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن عمله الأصلي، ويشترط عدم المساس بحقوق العامل».

«ويجوز لصاحب العمل تدريب العامل وتأهيله للقيام بعمل مختلف عن العمل المتفق عليه تمشياً مع التطور التكنولوجي في المنشأة…».

فلو تأملنا قليلاً في الفقرتين السابقتين سنجد فيهما ما يثير العجب:

(1) فبعد أن نص القانون في الفقرة الأولى بعدم الخروج على الشروط المتفق عليها في عقد العمل، وعدم تكليف العامل بعمل يختلف اختلافاً جوهرياً عن عمله الأصلي، عاد في الفقرة الثانية ليعطي لصاحب العمل حق تدريب العامل وتأهيله لمهنة تختلف عن المهنة المتفق عليها «تمشياً مع التطور التكنولوجي» بحسب ما جاء في النص، وهذا يعد تناقضاً ظاهراً في النص.

وكما هو متفق عليه أن التناقضَ في النصوص يزدريها، كما يزدري التناقضُ الأحكام القضائية. مع ملاحظة أن ظاهر النص يشير إلى تدريب العامل وتأهيله لوظيفة غير الوظيفة التي يشغلها، وهو أمر يثير العجب بحق.

فلو افترضنا مثلاً أن مستخدماً يعمل بمهنة مهندس متفق عليها بمقتضى شروط عقد العمل، وحيث رأينا أن القانون – بناء على الفقرة الأولى أعلاه – يُحرِّم على صاحب العمل الخروج على شروط العقد وتكليف هذا المستخدم بعمل يختلف عن عمله الأصلي، فكيف يحق لصاحب العمل في الوقت ذاته – بناء على الفقرة الثانية – إجبار المستخدم المذكور للتأهل لمهنة أخرى غير المهنة الأصلية! وليت أن القانون اشترط قبول العامل بذلك إنما جعله حقاً مطلقاً لصاحب العمل. وليت أنه أيضاً أسند حكمه هذا وعلّله بمقتضى مصلحة العمل لالتمسنا له عذراً، إنما أسنده وعلّله «للتماشي مع التطور التكنولوجي» فقط كما ورد في النص.

إذاً… هذا الحكم بتناقضه أليس هو من قبيل الهُراء؟

(2) بقراءتنا لنص الفقرة الثانية من المادة (22) السابقة، وبناءً على ما تقدم، نجد أن قانون العمل الجديد قد منح صاحب العمل – بناء على رغبته – حق إلزام العامل بتعلم مهنة غير المهنة المتفق عليها التي يعمل فيها عنده، وإن اختلفت عنها اختلافاً جوهرياً، ودون النظر إلى مصلحة العمل. فكأنه بذلك أعطى لصاحب العمل وحده وبدون مسوّغٍ قانوني، حق تقرير مسار حياة العامل المستقبلية وإجباره على تعلم مادة قد لا تروق له أو لا تتفق مع قدراته.

وطبقاً لمقررات واتفاقيات المنظمات الدولية لحقوق الإنسان؛ ان حرية العمل مكفولةٌ فلا يجوز لأحد إجبار أحدٍ على عملٍ غير راغب فيه، وهذا ما قرّره دستور مملكة البحرين في المادة (13) من أنه «لا يجوز فرض عمل إجباري على أحد إلاّ لضرورة قومية وبمقابل عادل أو تنفيذاً لحكم قضائي». فإذا كان إجبار شخص على عمل غير راغب فيه لا يجوز بموجب الدستور، فكيف يجوز لشخص أن يقرر مسار حياة شخص آخر دون إرادته وبدون مسوِّغ .

إنها بحق لصورةٌ مقلوبة، وهذه الصورة المقلوبة لم نرها إلاّ في قانون العمل الجديد، وهذه الصورة وما سبق لنا ذكرها ما هي إلاّ غيض من فيض.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الحيف الذي وقع على العمال من قبل قانون العمل الجديد واعوجاج نصوصه شكلاً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهد مملكة البحرين.


(4)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 أشرنا في الحلقات الثلاث السابقة إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: معرفة القاعدة القانونية؛ الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ ومعاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وقد وقفنا على بعض نصوص قانون العمل المذكور وأثبتنا من خلالها سوء صياغة تلك النصوص بما يوحي أن القائمين على إعداد مسودته يفتقرون إلى إحدى المميزات السالف ذكرها، كما رأينا كيف أن تلك النصوص هي في غير صالح الأُجَراء، وكأن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال على ضوء ما انتهينا إليه.

وحيث كنا ولانزال ننعت قانون العمل الجديد بأنه «أسوأ قانون تشهده البحرين»، استوجب التنويه إلى أن هذا النعت لم يكن بسبب ما علق بنصوصه من سوء صياغة وركاكة في التعبير، أو لسوء تنظيم وغير ذلك وحسب، أو لأنه تضمن نصوصاً ليست في صالح الأجراء؛ إنما سوأته العظمى تكمن في تراجعه إلى الأسوأ بحيث وجدناه قد سلب من العمال الكثير من الحقوق والمنافع والمميزات المقررة لهم في القوانين التي سبقته، أو زاد عليهم ثقلاً لم يكونوا يحملونه من قبل، في حين كان يفترض أن يأتي هذا القانون بالأفضل للأجراء، من حيث أنه يفترض كلما رقت الحضارة وتقدمت ثقافة المجتمع كلما سمت قوانين العمل بما تكفل للعمال حماية أكثر ورعاية أسمى ومصالح أوفى، لا أن تسلب منهم ما كان مقرراً لهم سلفاً، أو أن تُضيف ثقلاً عليهم لم يكونوا يحملونه من قبل، على نحو ما أثبتناه في الحلقات السابقة وما سنثبته تباعاً في الحلقات التالية. ولهذا جاز لنا أن ننعته بأنه «أسوأ قانون تشهد البحرين».

وفي هذه الحلقة (الرابعة) سنقف على جانب آخر من نصوص القانون لنثبت مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:

أولاً: تنص المادة رقم (40) من قانون العمل القديم لسنة 1976 «تُحرر جميع العقود باللغة العربية، وكذلك المراسلات والتعليمات والنشرات واللوائح التي يصدرها صاحب العمل لعماله».

وكان المشرِّع يهدف من وراء هذا النص حماية العمال العرب، وعلى وجه الخصوص العمال الوطنيين، خشية أن يوجه إليهم أرباب العمل إخطارات أو إنذارات أو تنبيهات بلغة أجنبية يصعب عليهم فهم مضمونها فتكون رغم ذلك حجة عليهم. ومن ثم كان يعتبر أي إخطار أو تنبيه محرر بلغة أجنبية لا يحظى بالحجية كورقة قانونية في مواجهة من أُرسل إليه من العمال ما لم يكن مشفوعاً بترجمة له باللغة العربية، وذلك استناداً للحكم الوارد في النص السابق. بيد أن قانون العمل الجديد حذف هذا النص من نصوصه، مما ترتب عليه أن أصبح صاحب العمل غير ملزم بتحرير مراسلاته وتعليماته ونشراته ولوائحه وإنذاراته التي يصدرها أو يوجهها للعمال باللغة العربية كما كان ملزماً بمقتضى قانون العمل السابق، دون أن نعرف الغاية من ذلك، اللهم إلاّ إذا رأى المشرِّعون الجدد أن البحرين أصبحت خارج المنظومة العربية، أو أنهم رأوا أن المستندات المحرّرة بلغة أجنبية وغير المترجمة مقبولة كدليل إثبات في مواجهة العمال خلافاً لقواعد الإثبات المقررة قانوناً. وفي غير ذلك يصبح حذف النص المشار إليه من قانون العمل الجديد مخالفاً لقواعد الإثبات بما يفضي إلى رفع الحماية عن العمال في هذا الجانب دون مسوغ، وفي ذلك إجحاف بحقهم.

ثانياً: تنص الفقرة الثانية من المادة رقم (11) من قانون العمل الجديد بالآتي: «يصدر الوزير، بعد أخذ رأي الوزارات المعنية وغرفة تجارة وصناعة البحرين والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين قراراً بتحديد اشتراطات ومواصفات المساكن وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدم للعامل في كل وجبة…». «والوزير» المشار إليه في النص هو الوزير المختص بشئون العمل في القطاع الأهلي، أي وزير العمل، بحسب التعريفات الواردة في الفصل الأول من قانون العمل الجديد.

وبالعودة إلى النص أعلاه نجد أن قانون العمل الجديد قد أناط لوزير العمل تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال، وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدم للعمال بعد التشاور مع الجهات المذكورة في النص. بيد أنه من المقرر أن تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال وتحديد أصناف وكميات الطعام هي من المسائل الصحية التي تختص بها وزارة الصحة العامة وحدها، وإن أي قرار بشأنها يجب أن يصدر من وزير الصحة وليس من وزير العمل، لذلك سبق وأن أصدر وزير الصحة القرار الوزاري رقم (8) لسنة 1978 بشأن تحديد الاشتراطات والمواصفات الصحية لمساكن العمال والذي لايزال معمولاً به حتى الآن.

وإذا كان هناك ثمة من يعتقد أن كل ما يتعلق بأمور العمال يقع تحت رقابة وإشراف وزارة العمل فهو خاطئ، ونؤكد له خطأ هذا الاعتقاد بدليل أنه في مجال الصحة لا يجوز للمفتش العمالي التابع لوزارة العمل التفتيش على كل ما يتصل بالأمور الصحية (ومنها مساكن العمال) إلاّ بصحبة مفتش من وزارة الصحة العامة، وذلك طبقاً لنص المادة رقم (22) من القرار الوزاري رقم (28) لسنة 1976 في شأن تنظيم أعمال التفتيش، التي تنص على أن «يتم ضبط المخالفات وتحرير المحاضر في مجالي الصحة والسلامة المهنية عن طريق مفتش العمل… وعلى مفتش العمل مصاحبة مسئول السلامة المهنية ومسئول الصحة المهنية بوزارة الصحة في هذا النوع من التفتيش كل بحسب اختصاصه».

فإذا كان الأمر ذلك، وجب قانوناً تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال، وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدّم للعمال بموجب قرار يصدره وزير الصحة – وإنْ لزم الأمر أن يكون ذلك بالاتفاق مع وزير العمل – لا بقرار يصدره وزير العمل، وعلى ألاّ تُحشر غرفة تجارة وصناعة البحرين ومعها الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين في هذا الشأن باعتبارهما ليسا جهة اختصاص وغير مؤهلين لذلك.

وعليه فإن الفقرة الثانية من المادة رقم (11) من قانون العمل الجديد محل البحث هي إحدى الصور المقلوبة في هذا القانون، ولا نماري من يعتقد أن انقلاب هذه الصورة يعود إلى أن المشرعين الجدد يفتقرون إلى الميزة الثانية التي أشرنا إليها في بداية الكلام (الخبرة في مجال العمل)، ولذلك غاب عليهم معرفة الوزارة أو الوزير المختص في هذا الشأن.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف والحيف الواقعين على العمال من قبل قانون العمل الجديد واعوجاج نصوصه شكلاً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهد مملكة البحرين، على أننا سنخصص الحلقة القادمة في شأن الأحكام الخاصة بالنساء العاملات وما طرأ على حقوقهن من تغيير في هذا القانون في غير صالحهن.


(5)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 بدأنا الحلقات السابقة بالإشارة إلى وجوب أن تتوافر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات: معرفة القاعدة القانونية من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها؛ والخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ ومعاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وقد وقفنا في الحلقات الماضية على بعض نصوص قانون العمل المذكور ورأينا كيف أن تلك النصوص مجحفة بحق الأجَراء، وكأن المشرِّع مال إلى جانب أصحاب الأعمال وأخذ موقفاً سلبياً نحو العمال على ضوء ما انتهينا إليه.

وفي هذه الحلقة (الخامسة) سنقف على جانب آخر من نصوص القانون المذكور، وذلك في جانب من الجزء المتعلق بالنساء العاملات لنثبت من خلاله مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:

أولاً: تنص المادة رقم (30) من قانون العمل الجديد «يصدر الوزير قراراً بتحديد الأعمال والمناسبات التي لا يجوز فيها تشغيل النساء ليلاً». هذه المادة تقابلها المادة رقم (59) من قانون العمل القديم لسنة 1976 التي تنص على أنه «لا يجوز تشغيل النساء ليلاً…. ويستثنى من ذلك دور العلاج والمنشآت الأخرى التي يصدر بشأن العمل بها قرار من وزير العمل».

وبمقارنة النصين نلحظ أن قانون العمل القديم اعتبر حظر تشغيل النساء ليلاً هو الأصل، وأن ما يقرره وزير العمل بجواز تشغيلهن ليلاً في حالات معينة هو الاستثناء، ذلك لأن المشرِّع كان قد نظر إلى النساء العاملات نظرة خاصة فمنع تشغيلهن ليلاً من حيث الأصل نظراً لتكوين المرأة الجسماني والصحي من جانب، ونظراً للتقاليد الموروثة في المجتمعات الإسلامية التي تتجه إلى وضع ضمانات لحماية المرأة خلقياً وتربوياً من جهة أخرى. بينما قانون العمل الجديد قلب الصورة رأساً على عقب فجعل جواز تشغيل النساء ليلاً هو الأصل، وما يقرّره وزير العمل بمنع تشغيلهن في حالات معينة هو الاستثناء. وهذا الانقلاب في الصور له تداعيات خطيرة على النساء العاملات لم يفطن إليه المشرّعون الجدد بالتأكيد. ومن تداعيات هذا الانقلاب:

سيكون من الآن وصاعداً لأصحاب الأعمال الحق في تشغيل النساء العاملات ليلاً في كل الأعمال وفي كل الأماكن دون استثناء إلى أن يصدر وزير العمل قراراً يستثني فيه الأعمال والأماكن التي لا يجوز فيها تشغيلهن ليلاً.

ولذلك نلتمس العذر من السيدات العاملات إنْ قلنا لهن عليكن الانتظار طويلاً إلى حين صدور هذا القرار.

إذا افترضنا جدلاً أن وزير العمل أصدر القرار المنتظر بشكل عاجل، والذي سيحدد فيه الأعمال والأماكن التي لا يجوز فيها تشغيل النساء ليلاً استثناءً من الأصل، غير أنه من المعروف أن الاستثناء هو من حيث الكم أقل من الأصل، بمعنى أن النساء سيجبرن على العمل ليلاً في كل الأعمال وفي كل الأماكن إلاَّ القليل فيما يستثنى منها.

وحيث ان الاستثناء لا يقبل القياس ولا التشبيه إنما هو محصورٌ فيما حُصر فقط، فإنه والحال ذلك يلزم حصر الأعمال والأماكن المستثناة التي لا يجوز تشغيل النساء فيها ليلاً وتحديدها تحديداً دقيقاً ومتكاملاً ووافياً.

وهذا التحديد الدقيق والمتكامل والوافي هو من الصعوبة بمكان إدراكه أو حصره، بل من الصعوبة التنبؤ بثباته واستقراره في ظل ظروفٍ ومناخٍ مهني وصناعي مُعقَّد ومتقلب غير ثابت. وبالتالي فإن القرار الوزاري المنتظر صدوره في شأن تحديد الأعمال أو الأماكن التي لا يجوز تشغيل النساء فيها ليلاً سيكون قاصراً عن احتواء هذه الأعمال وهذه الأماكن إلاّ في منظور زمني قريب، وإنْ احتواها فإنها ستظل بالطبع في حدود دائرةٍ ضيقة، وسيبقى الأصل (تشغيل النساء ليلاً) في الدائرة الأكبر والأوسع، بخلاف لو أن حظر تشغيل النساء ليلاً كان هو الأصل – على نحو ما كان عليه قانون العمل القديم – فإن الاستثناء بتشغيل النساء ليلاً سيبقى بالتأكيد في حدود دائرته الضيقة.

وعليه نخلص إلى أن قانون العمل الجديد حيث قلب الصورة على نحو ما تقدّم، فإن هذا الانقلاب سيرتد على النساء العاملات بضرر اجتماعي وجسدي لا تحمد عقباه.

ثانياً: جاء في المادة رقم (32) من قانون العمل الجديد لسنة 2012 على:

أ – «تحصل العاملة على إجازة وضع مدفوعة الأجر مدتها ستون يوماً، تشمل المدة التي تسبق الوضع والتي تليه…، ويجوز أن تحصل على إجازة بدون أجر بمناسبة الوضع مدتها خمسة عشر يوماً علاوة على الإجازة السابقة».

ب – يحظر تشغيل العاملة خلال الأيام الأربعين التالية للوضع…».

والمتأمل إلى النص السابق بفقرتيه يُقدِّر أن المشرِّعين الجدد غير محيطين بأبعاد القاعدة القانونية وشروطها، وهذه إحدى الميزات التي أشرنا إليها في بداية الحلقة.

فالقاعدة القانونية هي إمّا أن تكون قاعدة قانونية آمرة تتعلق بالنظام العام لا يجوز مخالفتها مطلقاً أياً تكن الأسباب وإنْ برضى العامل وصاحب العمل معاً. وإما أن تكون غير ذلك، أي لا تتعلق بالنظام ويجوز مخالفتها بالتراضي.

ومن المسلم به أنه عندما يضع القانون قاعدة قانونية لا تتعلق بالنظام العام بحيث يجوز مخالفتها بالتراضي فإن هذه القاعدة لن تكون بذات قوة القاعدة القانونية المتعلقة بالنظام العام التي لا يجوز مخالفتها، وبفقدانها هذه القوة سوف لن تحمي الطرف الضعيف كالعامل مثلاً، إذ قد يرضخ العامل أو يُجبر على قبول مخالفتها قسراً.

بعد هذه المقدمة نعود إلى النص السابق، فنلحظ في الفقرة (أ) أن القانون وضع قاعدةً قانونيةً منح بموجبها المرأة العاملة إجازة وضع مدتها ستون يوماً، وفي الفقرة (ب) حَظَرَ القانون تشغيل المرأة العاملة خلال الأربعين يوماً من تاريخ ولادتها.

وهذا يعني أن قاعدة «حظر تشغيل المرأة خلال الأربعين يوماً من تاريخ ولادتها» قاعدة قانونية آمرة لا يجوز مخالفتها وإنْ برضى صاحب العمل والعاملة. أما بعد الأربعين يوماً تنقلب هذه القاعدة إلى قاعدة قانونية لا تتعلق بالنظام العام فيجوز مخالفتها. وهنا تكمن الخطورة على العاملة، إذ قد يضغط عليها صاحب العمل بطلب العودة إلى العمل بعد مضي مدة أربعين يوماً من تاريخ ولادتها، أي قبل عشرين يوماً من انتهاء مدة الإجازة المقررة قانوناً، فترجع مرغمةً، وإن قبلت بذلك من حيث الظاهر لكي ترضي صاحب العمل خشية ألاّ يتخذ ضدها موقفاً سلبياً لاحقاً، طالما لا توجد أمامه قاعدة قانونية آمرة تتعلق بالنظام العام تردعه أو تمنعه من الضغط عليها.

ومن ثم نخلص إلى القول إن الفقرة (ب) من المادة رقم (32) من قانون العمل الجديد سابقة الذكر ليست موفقة، من حيث أنها قد تشكل ضرراً بالغاً على العاملة بخسارتها ثلث إجازة الولادة المقرّرة لها قانوناً للأسباب التي أشرنا إليها، وللأسف أن يكون سبب هذه الخسارة عائداً لحكم القانون.

وهذا يعني أن قانون العمل الجديد بعد أن منح المرأة العاملة إجازة ولادة تزيد عمّا منحها قانون العمل القديم عاد وأخذ منها هذه الزيادة بطريقة قانونية، كالذي يُعطي باليد اليمنى ويسترجع ما أعطاه باليد اليسرى، وهذا هو منتهى الإجحاف.

ولنا لقاء متواصل في حلقات قادمة متتابعة، وسنخصص الحلقة القادمة للوقوف على بقية النصوص الخاصة بالنساء العاملات لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف والحيف الواقعين على العمال والعاملات من قبل قانون العمل الجديد واعوجاج نصوصه شكلاً وصياغةً وتنظيماً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهد مملكة البحرين.


(6)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 كنا قد بدأنا الحلقات السابقة بالإشارة إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات: معرفة القاعدة القانونية بأبعادها وشروطها، والخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون، ومعاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وقد وقفنا في الحلقات الماضية على بعض نصوص قانون العمل المذكور، وخصصنا الحلقة السابقة (الخامسة) في شأن النصوص المتعلقة بالنساء العاملات، ورأينا كيف كانت تلك النصوص في غير صالح النساء العاملات أيضاً، فأثبتنا من جديد أن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال والعاملات على حد سواء.

وفي هذه الحلقة سنقف على جانب آخر من نصوص القانون المتعلقة بالنساء العاملات أيضاً لنثبت من خلاله مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:

أولاً: تنص المادة رقم (34) من قانون العمل الجديد لسنة 2012 على أن «تستحق المرأة العاملة الحصول على إجازة بدون أجر وذلك لرعاية طفلها الذي لم يتجاوز ست سنوات بحد أقصى ستة أشهر في المرة الواحدة، ولثلاث مرات طوال مدة خدمتها».

والمتأمل إلى هذا النص يدرك دون أدنى جهد وعناء أنه يحمل عدة عيوب، منها عيب في الصياغة من حيث ركاكته وعدم انتظام مفرداته، وعيب الغموض وعدم الوضوح، وعيب القصور.

فعيب الصياغة لا يحتاج إلى إيضاح، وأما عن عيب الغموض وعدم الوضوح فمن ظاهره أنه يحمل أكثر من معنى، فعندما يذكر النص «بحد أقصى ستة أشهر في المرة الواحدة» فهل هو يقصد أن للمرأة العاملة أن تأخذ إجازة لمرة واحدة لرعاية «طفلها» بحيث لا تتجاوز هذه الإجازة ستة أشهر، أم أنه يقصد لعدة مرات على ألاّ تتجاوز مجموعها ستة أشهر. وفي هذا وذاك يظهر الغموض وعدم الوضوح في النص.

وأما من حيث قصور النص؛ فمن المتفق عليه أنه عندما يقرر المشرِّع نصاً (أو حكماً) كان يستحسن دائماً أن يؤسسه على سبب أو قصد يبني عليه حكمه، وهو ما يطلق عليه «الحِكمَةُ من الحُكم» بحيث إذا ما انتفت الحكمة ينتفي الحكم، وإلاّ يكون حكماً قاصراً ومعيباً، بيد أننا نلحظ أن النص السابق يفتقر إلى هذا الأساس لخلوه منه.

فحيث يقرر المشرّع طبقاً لما جاء في النص «ان للمرأة العاملة الحق في إجازة لرعاية طفلها» كان يفترض أن يؤسس حكمه على سبب يبرر الرعاية، كأن يشترط أن يكون الطفل بحاجة إلى رعاية بتقرير طبي، لا أن يترك ذلك إلى تقدير العاملة (أم الطفل)، وخصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار طول هذه الإجازة (ستة أشهر) التي إنْ استعملتها العاملة بحسب تقديرها وبدون سبب، أو إذا ما تواجدت أكثر من حالة مماثلة في آن واحد لدى صاحب العمل الواحد فإن ذلك بالتأكيد سيؤثر على سير العمل وسيربك صاحب العمل، ما يؤدي بالنتيجة إلى الإضرار به. علاوةً على ذلك فإن المشرع عندما يمنح المرأة العاملة الإجازة المذكورة لثلاث مرات كحد أقصى بحسب ما جاء في النص، أي لثلاثة أطفال متتالين فقط، فهنا يثور أمامنا سؤال هو: ما هي الحكمة من أن تمنح العاملة حق رعاية ثلاثة أطفال من أبنائها بالتتابع وتُحجب الرعاية عن الأطفال اللاحقين، فلربما يكون الطفل الرابع أو ما سيأتي بعده أولى بالرعاية.

وعليه نخلص إلى القول؛ ان النص السابق نص معيب بعيوب مزدوجة، الأمر الذي يؤكد من جديد أن القائمين على صياغته وتقريره يفتقرون إلى المميزات التي بدأنا بها الكلام في هذه الحلقة.

ثانياً: نصت المادة رقم (35) من القانون الجديد لسنة 2012 على أن «يكون للمرأة العاملة بعد الانتهاء من إجازة الوضع وحتى أن يبلغ طفلها ستة أشهر من العمر فترتا رعاية لرضاعة طفلها على ألاّ تقل مدة كل منهما عن ساعة واحدة، كما يحق لها فترتا رعاية مدة كل منهما نصف ساعة حتى يبلغ طفلها عامه الأول…». وهذه المادة تقابلها المادة رقم (62) من قانون العمل المعدلة بالقانون رقم (14) لسنة 1993 ونصها «في خلال السنتين التاليتين لتاريخ الوضع يحق للعاملة عند عودتها لمزاولة عملها بعد إجازة الوضع أن تأخذ بقصد إرضاع مولودها الجديد فترة للاستراحة أو فترتين لا تزيد مجموعها على الساعة الواحدة في اليوم الواحد…».

وبمقارنة النصين نجد أن قانون العمل الجديد أنقص مدة الرضاعة بأن جعلها سنة واحدة بدلاً من سنتين على نحو ما كانت عليه في قانون العمل المُعدَّل بالمرسوم بقانون رقم (14) لسنة 1993، وهو ما يعد تراجعاً إلى الخلف، دون أن يُفصح المشرّع عن أسباب هذا التراجع. إنما كل ما ندركه هو أن هذا التراجع فيه انتقاص لحق كان مقرراً للمرأة العاملة بحكم القانون القديم، وبحكم الشريعة الإسلامية بقوله سبحانه وتعالي «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة» (البقرة، 233).

ثالثاً: إذا كنا قد رأينا في الحلقة السابقة أن قانون العمل الجديد لم يكن منصفاً مع المرأة العاملة بأن جعل جواز تشغيلها ليلاً هو الأصل بخلاف ما كان عليه قانون العمل القديم، وأنه اعتبر تشغيلها بعد أربعين يوماً من تاريخ ولادتها (أي قبل عشرين يوماً من انتهاء إجازة الوضع المقررة لها قانوناً) أمراً جائزاً ضمن قاعدة غير متعلقة بالنظام العام، إلاَّ أنه من جانب آخر نراه قد أغدق عليها في العطاء، ويتمثل هذا العطاء فيما يلي:

(1) زيادة إجازة الوضع إلى مدة ستين يوماً مدفوعة الأجر، بدلاً من خمسة وأربعين يوماً طبقاً لنص المادة رقم (32).

(2) منحها إجازة خاصة لرعاية طفلها الذي لم يتجاوز ست سنوات بحد أقصى ستة أشهر ولثلاث مرات طوال مدة خدمتها طبقاً لنص المادة رقم (34).

(3) منحها إجازة شهر مدفوعة الأجر إذا توفي زوجها، وإجازة مدتها ثلاثة أشهر وعشرة أيام أخرى متصلة إكمالاً للعدة، طبقاً لنص الفقرة «ج» من المادة رقم (63).

فهذه الإجازات الثلاث هي في مجموعها تفوق السنة الواحدة، ولذلك يجوز لنا أن نسمي هذا العطاء عطاءً مغدقاً.

ولكن لو نظر إلى هذا العطاء المغدق نظرة ثاقبة ومتأملة سنجد أن له تداعيات سلبية على النساء أنفسهن قد نلمس تأثيراتها في المستقبل القريب، وهذه التداعيات – بحسب رؤيتنا – تتمثل على وجه التأكيد في عزوف أصحاب الأعمال عن توظيفهن، أو أنهم سيعملون جل جهدهم للتخلص من العاملات اللاتي لديهم بالقدر الممكن طالما رأوا أن توظيفهن بات مرهقاً عليهم للكلفة المادية الباهظة بسبب تعدد الإجازات الممنوحة لهن، فضلاً عن أنه سيؤثر حتماً على سير العمل وسيؤدي إلى اضطرابه.

ولهذا نخشى أن يكون هذا العطاء المغدق، الذي قلنا عنه في بداية الحلقة الأولى انه بمثابة نقاط بيضاء وحيدة في قانون العمل الجديد، قد يعود بالضرر على النساء العاملات وخسارتهن بدلاً من نفعه. وسنظل بالتالي ننظر إلى هذا القانون على أنه قانون غير متوازن، وأنه القانون الأسوأ مقارنةً بما سبقه.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف أو عدم الإنصاف الواقع على العمال من جانب قانون العمل الجديد، فضلاً عن اعوجاج نصوص هذا القانون شكلاً وتنظيماً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.


(7)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) للعام 2012 وقفنا في الحلقات الماضية على بعض نصوصه، ورأينا كيف أنها مجحفة وغير منصفة بحق العمال قاطبة.

وفي هذه الحلقة؛ سنقف على نصوص أخرى من القانون في الجانب المتعلق بالأجور وحساب حقوق العامل؛ لنثبت من خلالها مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يأتي:

أولاً – جاء في نص المادة رقم (45) من القانون المذكور ما يأتي: «لا يجوز الحجز على الأجر المستحق للعامل أو النزول عن أي جزء منه، أو أن يستقطع منه وفاء لدين إلاّ في حدود 25 في المئة من هذا الأجر، ويجوز رفع هذه النسبة إلى 50 في المئة في حالة دين النفقة».

«وعند تزاحم الدين يقدم دين النفقة، ثم ما يكون مطلوباً لصاحب العمل بسبب ما أتلفه العامل من أدوات أو مهمات، أو ما صُرف إليه بغير وجه حق، أو ما وقع عليه من جزاءات مالية».

من النص السابق نستنتج أن قانون العمل الجديد أجاز حجز أو اقتطاع نسبة 50 في المئة من أجر العامل، بخلاف ما كان عليه قانون العمل القديم الذي منع بمقتضى المادة رقم (75) حجز أكثر من 25 في المئة من أجره، وكذلك قانون الخدمة المدنية الذي لم يجز بمقتضى المادة (77) تجاوز مقدار المحجوز عليه شهريّاً ربع المبالغ المستحقة للموظف. ما يعني ذلك أن قانون العمل الجديد زاد نسبة الحجز أو الاقتطاع بضعف ما نصّ عليه كل من قانون العمل القديم وقانون الخدمة المدنية، وهذه نسبة جد كبيرة وغير منطقية لم يقرّرها أي تشريع شرقي أو غربي، وكأن الذي شرَّع هذا القانون غير وارد في ذهنه مراعاة العمال الذين يمثلون الجانب الأكبر في المجتمع والذين يعتمدون في معيشتهم على ما يحصلون عليه من أجر. بل ربما لم يُدرك هذا المشرِّع أن وظيفة قانون العمل الأساسية هي حماية العمال، سواءً من حيث تحسين معيشتهم أو تحريم ما يؤدي إلى فرض أعباءٍ أو التزاماتٍ تؤثّر على حياتهم المعيشية. هذا في الوقت الذي تتفق فيه المواثيق الدولية المتصلة بالعمل على وجوب أن يكون العمال محلَّ تقدير الدولة والمجتمع.

ويزيدنا قناعةً بأن من شَرَّع هذا القانون لم يعر اهتمامه إلاّ لأرباب العمل عندما نجده يهتم بالديون المستحقة على العامل لصالح صاحب العمل دون غيرها، بدليل أنه في موضوع الحجز والاقتطاع محل البحث نظر فقط إلى «ما هو مطلوب لصاحب العمل بسبب ما أتلفه العامل من أدوات أو مهمات، أو ما صُرف إليه بغير وجه حق، أو ما وقع عليه من جزاءات مالية»، بحسب ما جاء في الفقرة الثانية من المادة سابقة الذكر، ونسي أن هناك ديوناً أخرى قد تترتب على العامل تستوجب الالتفات إليها ووضعها ضمن قائمة ديونه لتدخل ضمن باقي الديون في حدود نسبة الاقتطاع المقررة قانوناً على غرار ما نص قانون العمل للعام 1976 في المادة رقم (75) حيث تنص: «وعند التزاحم يبدأ بخصم دين النفقة في حدود الثمن والباقي للديون الأخرى، وهكذا بالمثل في قانون الخدمة المدنية في المادة رقم (77).

ثانياً – تنص المادة رقم (47) من قانون العمل الجديد للعام 2012 «تحسب حقوق العامل على أساس الأجر الأساسي الأخير للعامل مضافاً إليه العلاوة الاجتماعية إن وجدت».

«فإذا كان العامل ممن يعملون بالقطعة أو الإنتاج أو يتقاضى أجراً ثابتاً مضافاً إليه عمولة أو نسبة مئوية اعتد في حساب الحقوق بمتوسط أجر العامل خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة».

هذه المادة تقابلها المادة رقم (67) من قانون العمل القديم للعام 1976 التي جاء فيها «يُراعى في حساب حقوق العمال الأجر الأساسي الأخير للعامل مضافاً إليه علاوة غلاء المعيشة وعلاوة أعباء العائلة وذلك في المنشآت التي تضع لعمالها جدولاً للأجور يمنحون بمقتضاه علاوةً دوريةً، وفي غير هذه الحالات يتخذ مجموع الأجر الأخير الذي يُصرف للعامل بصفةٍ دوريةٍ ومنتظمةٍ أساساً لحساب الحقوق».

«فإذا كان العمال يتقاضون أجورهم بالقطعة أو بالإنتاج يكون التقدير على أساس متوسط ما تناوله العامل من أيام العمل الفعلية في الثلاثة شهور الأخيرة».

وبمقارنة النصين نلحظ ما يأتي:

أن قانون العمل الجديد اعتد في حساب حقوق العمال على أساس الأجر الأساسي مضافاً إليه العلاوة الاجتماعية فقط، بخلاف ما كان عليه قانون العمل القديم الذي نص بموجب المادة رقم (67) سابقة الذكر على اعتبار مجموع ما يتقاضاه العامل بصفة دورية ومنتظمة أساساً لحساب حقوقه.

فلو افترضنا أن عاملاً يعمل في مؤسسةٍ لا تضع لعمالها جدولاً يمنحون بمقتضاه علاوة دورية، وأن أجره الأساسي 500 دينار مضافاً إليه علاوة اجتماعية مقدارها 50 ديناراً، وعلاوة سكن مقدارها 100 دينار، وعلاوة تأمين صحي ثابتة مقدارها 200 دينار، وأردنا أن نحسب مستحقه عن بدل الإجازة السنوية مثلاً (المقرّرة قانونيّاً بأجر شهر واحد) فإنه بمقتضى قانون العمل الجديد سيحصل على بدل نقدي مقداره 550 ديناراً (الذي يمثل أجره الأساسي مضافاً إليه العلاوة الاجتماعية فقط)، بينما لو طبقنا بشأنه قانون العمل القديم؛ فإنه سيحصل على بدل نقدي مقداره 850 ديناراً (الذي يمثل أجره الأساسي مضافاً إليه جميع العلاوات المشار إليها)، أي بفارقٍ أقل بـ 300 دينار.

وبهذه النتيجة نخرج بمحصلةٍ أن قانون العمل الجديد أسوأ من سابقه بالنسبة إلى العمال.

بالعودة من جديد إلى نص الفقرة الثانية من المادة رقم (47) من قانون العمل الجديد للعام 2012 وإلى نص الفقرة الثانية من المادة رقم (67) من قانون العمل القديم للعام 1976 سابقتي الذكر بشأن احتساب متوسط أجور العمال الذين يعملون بالقطعة أو بالإنتاج أو يتقاضون أجوراً ثابتةً مضافاً إليها عمولة أو نسبة مئوية. وبمقارنة هذين النصين نلحظ أن قانون العمل الجديد احتسب متوسط أجر هؤلاء العمال على أساس ما يتناوله العامل خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، بينما قانون العمل القديم احتسب متوسط أجورهم على أساس ما يتناوله العامل خلال الأيام الفعلية في الثلاثة شهور الأخيرة. وهذا الفارق البسيط بينهما يراه البعض أمراً هيّناً بينما هو فارق كبير يصيب العامل بالضرر. ولإيضاح ذلك نسوق المثال الآتي:

عامل يعمل بالعمولة بنسبة معينة من مجموع مبيعاته، وبلغ مجموع ما يستحقه من عمولة عن الشهور الثلاثة الأخيرة 1200 دينار، وكان قد عمل عملاً فعليّاً خلال هذه الشهور مدة ثمانين يوماً فقط (بعد خصم أيام الجمع والعطل الرسمية المقرّرة قانوناً).

فإنه عندما نحسب متوسط أجره اليومي طبقاً لقانون العمل القديم نقسم ما حصل عليه خلال الثلاثة شهور الأخيرة على عدد أيام العمل الفعلية فقط (وهي 80 يوماً) طبقاً لما جاء في النص السابق، لأن هذا العامل لا يعمل على أساس الوحدة الزمنية إنما يعمل على أساس الوحدة الإنتاجية، فيكون بذلك متوسط أجره اليومي هو (1200 دينار ÷ 80 يوماً = 15 ديناراً) وهذا هو عين العدالة والحق، طالما أن الأيام التي لم يعمل فيها خلال الشهور الثلاثة هي في إطار الإجازات والعطل الرسمية.

في حين لو أننا طبقنا قانون العمل الجديد لاحتساب متوسط أجره اليومي لاستوجب أولاً استخراج متوسط أجره الشهري فيكون (1200 دينار ÷ 3 شهور = 400 دينار) فيصبح بالتالي متوسط أجره اليومي هو 400 ÷ 30 = 13.333 ديناراً.

وبناء عليه يكون متوسط أجره اليومي طبقاً لقانون العمل القديم 15 ديناراً، ومتوسط أجره اليومي طبقاً لقانون العمل الجديد 13.333 ديناراً.

وهذا الفارق الكبير بين الحسابين يعد خسارةً تصيب العامل دون وجه حق بسبب التشريع الخاطئ.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات المقبلة لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف وعدم الإنصاف الواقعين على العمال من جانب قانون العمل الجديد، فضلاً عن اعوجاج نصوص هذا القانون شكلاً وتنظيماً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده البحرين.

 


(8)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 كنا قد وقفنا في الحلقات الماضية على بعض نصوص هذا القانون ورأينا كيف أن تلك النصوص مجحفة وغير منصفة بحق العمال والعاملات على السواء.

وفي هذه الحلقة سنقف على نصوص أخرى في الجانب المتعلق بساعات العمل وفترات الراحة لنُظهر من خلالها عيوب هذا القانون من حيث قصوره وغموضه وسوء صياغة نصوصه وإجحافه، تكملةً لما لمسناه وأظهرناه في الحلقات السابقة، ولنثبت مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:

أولاً: المادة رقم (50) من الباب السابع: تنص على أن «يمنح العاملون بنظام النوبات الليلية ونظام الحجز الوظيفي بدل طبيعة عمل».

هذا النص يشوبه عيبان مزدوجان؛ فهو (أولاً) لم يحدد البدل المشار إليه، في وقت نلحظ فيه – وفقاً لظاهر النص – أن المشرِّع لم يمنح «الوزير» حق تحديده بقرار وزاري يصدر منه، ومن ثم يصبح هذا النص وكأنه خالٍ من مضمونه. ومن المتفق عليه فقهاً أن أي نص قانوني خالي المضمون يعتبر كأن لم يكن.

ولا ندري هل أن المشرَّع يهدف من عدم تحديد هذا البدل بأن يجعل تحديده من قبل صاحب العمل بمفرده وبأية قيمة يقررها، فإن كان ذلك فعلى العمال السلام.

ثم أنه (ثانياً) لم يوضح مفهوم «نظام الحجز الوظيفي» الوارد في النص، في الوقت الذي لم يرد تعريفه في الفصل الأول من القانون الخاص بالتعريفات. وبناءً عليه يصبح هذا النص معيباً بالقصور وعدم الوضوح. وهذان كافيان لإثبات أن المشرِّع غير ملم بأبعاد القاعدة القانونية وغير محيط بشروطها.

ثانياً: المادة رقم (51) من الباب السابع أيضاً: جاء فيها النص التالي: «لا يجوز تشغيل العامل تشغيلاً فعلياً أكثر من ثمانٍ وأربعين ساعة في الأسبوع». بينما جاء في المادة رقم (53) من الباب نفسه «لا يجوز تشغيل العامل تشغيلاً فعلياً أكثر من ثماني ساعات في اليوم الواحد ما لم يتم الاتفاق على خلاف ذلك».

فنحن هنا إذاً أمام نصين مفترقين ومتباعدين على رغم أنهما يتناولان موضوعاً واحداً، وهذا يُعدُ عيباً كبيراً في التنظيم. بيد أن العيب الأكبر يكمن في أن الأول ينظر إلى تشغيل العامل أسبوعياً بحيث لا تتجاوز مدة تشغيله ثمانٍ وأربعين ساعة كحد أقصى، وينظر الآخر إلى تشغيل العامل يومياً بحيث لا تتجاوز مدة تشغيله ثماني ساعات من حيث الأصل إلاّ بموافقة العامل استثناءً. وهذان النصان لهما معنيان متناقضان في الظاهر.

فعندما ينص القانون على أن «لا يجوز تشغيل العامل تشغيلاً فعلياً أكثر من ثماني ساعات في اليوم الواحد»، نفهم منه أن هناك قيداً على صاحب العمل، وهو عدم تجاوزه مدة التشغيل عن ثماني ساعات يومياً.

وعندما ينص في جانب آخر على أن «لا يتجاوز تشغيل العامل مدة ثمانٍ وأربعين ساعة أسبوعياً» نفهم من هذا النص أن ليس على صاحب العمل إلاّ التقيد بالحد المقرر أسبوعياً، بحيث يستطيع أن ينظم ساعات العمل بطريقة غير منتظمة، فيجعلها مثلاً أربعة أيام عمل كل يوم بعشر ساعات، واليوم الخامس بثماني ساعات، ويجعل الراحة الأسبوعية يومين. وهذا هو المعنى الذي ذهب إليه الكثير من المفسرين في تفسيرهم للمادة رقم (78) من قانون العمل القديم لسنة 1976 التي جاء فيها «لا يجوز تشغيل العامل أكثر من ثماني ساعات يومياً أو ثمان وأربعين ساعة في الأسبوع».

وبهذا فإن قانون العمل الجديد قد أوقعنا في نصين متناقضين على الأقل من حيث ظاهرهما، وهذا ما سوف يخلق مشاكل جمة بين العمال وأصحاب الأعمال، إذ إن كلاً من الطرفين سوف يستند إلى النص الذي يرى فيه مصلحته دون الآخر.

ثالثاً: جاء في الفقرة «ج» من المادة رقم (53) من قانون العمل الجديد «يجب تنظيم ساعات العمل وفترات الراحة بحيث لا تتجاوز الفترة من بداية ساعات العمل إلى نهايتها أكثر من إحدى عشرة ساعة في اليوم الواحد، وتحسب فترة الراحة من ساعات التواجد إذا كان العامل أثناءها في مكان العمل».

هذا النص لا ندري كيف مرره ممثلو العمال، وما إذا كانوا قد ارتضوا به أم لا، أم أنهم لم يدركوا معناه وأبعاده! إنه بحق يصدق عليه القول إنه «مسلخ» يُسلخ فيه العمال.

فالنص معناه: أنه لا يجوز لصاحب العمل أن يبقي العامل في مكان العمل أكثر من إحدى عشرة ساعة يومياً، وهذه المدة تشمل ساعات العمل الأصلية، وساعات العمل الإضافية إن وجدت، وفترة الراحة التي يفترض أن لا تقل عن نصف ساعة.

بيد أنه عندما يأتي النص بعبارته الأخيرة «إذا كان العامل أثناءها في مكان العمل» (التي لم تكن موجودة في قانون العمل القديم)، فهذا يعني أن المشرع يشترط لتطبيق النص السابق أن يكون العامل متواجداً في مكان العمل خلال وقت الراحة، فلو أنه أمضى وقت الراحة في منزله مثلاً أو خرج لقضائها في مكان غير مكان العمل فلا محل لتطبيق النص السابق. وبهذا المعنى يستطيع صاحب العمل أن ينظم ساعات العمل الأصلية لديه بمدة ثماني ساعات يومياً ويقسم هذه المدة إلى قسمين ويجعل فترة الراحة بينهما أربع ساعات أو أكثر مثلاً عندما يشعر أن العامل سوف لن يقضي فترة الراحة هذه في مكان العمل، وفي هذه الحالة يصبح صاحب العمل غير متجاوز لحدود القانون، بينما يظل العامل أسير العمل اليومي من الصباح إلى الليل من دون مقابل.

رابعاً: تنص المادة رقم (54) من قانون العمل الجديد على أنه «يجوز لصاحب العمل تشغيل العامل ساعات عمل إضافية إذا اقتضت ظروف العمل ذلك».

من ظاهر النص يثبت أن قانون العمل الجديد تجاهل تحديد الحد الأقصى لساعات العمل الإضافية اليومية، وهذا يدل دلالة قاطعة على أن المشرِّع (أو المشرعين الجدد) قد أعطوا صاحب العمل اليد الطولى والسلطة المطلقة في تنظيم سير العمل من دون قيود أو حدود بخلاف ما كان عليه قانون العمل القديم.

ونأسف عندما يطلع علينا مؤخراً أحد المُنظرين ليقول لنا قولاً لا نفقهه؛ بأن قانون العمل الجديد متوازن وأنه جاء مراعياً لمصالح أطراف الإنتاج، وكأني أخاله يريد أن يوزن قانون العمل على قاعدة تقسيم الأرباح والخسائر بالتساوي بين العمال وأصحاب الأعمال والدولة، متناسياً أن قانون العمل لا يوزن على هذا الأساس. ويا ليت أن قانون العمل الجديد محل البحث قد راعى هذه القاعدة إنما جاء مجحفاً بحق العمال، وننصح هذا المُنظِّر أن يعيد قراءة هذا القانون جيداً (إن لم يكن قد شارك هو في إعداد مسودته) ليجد كم أنه سيئ مبخس في حق العمال، ونتمنى أن يتفرَّس هذا المُنظّر جيداً فيما طرحناه في الحلقات السابقة، وما سنطرحه في الحلقات القادمة (لغاية الحلقة العشرين الأخيرة)، ثم يقول بعد ذلك كلمته فيها بالنقد أو القبول بما جاء فيها.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الاعوجاج في التنظيم والصياغة والتعبير والشكل الظاهر في متن قانون العمل الجديد، ومن المزيد من الإجحاف الذي وقع على العمال من خلال نصوصه. ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.

اقرأ المزيد

قانون العمل الجديد… أسوأ قانون تشهده البحرين – المحامي علي محسن الورقاء

(1)

قلنا ذات مرة، في مقال سابق في شأن «ما يجب أن تكون عليه هوية القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها»، أنه يتوجب أن تتوافر في هؤلاء ثلاث مميزات على الأقل، وهي: (أولاًً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها؛ (وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وحيث صدر قانون العمل الجديد رقم (36) لسنة 2012 المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 2 أغسطس/ آب 2012 في العدد 3063 والذي تصدرت بداية وزارة العمل بمفردها لإعداد مسودته واقتراح نصوصه منذ عام 2001 ثم انتهى الأمر إلى إصداره بنصوصه الحالية، فأُلغي بموجبه قانون العمل القديم رقم (23) لسنة 1976 قانون رقم (14) لسنة 1993.

وبمراجعة القانون الجديد أوقفتنا العديد من نصوصه التي تحيط بها الكثير من المآخذ، سواءً من حيث الشكل أو الصياغة أو المضمون، التي لم نكن نتوقعها مطلقاً، وخاصةً أن ولادة هذا القانون جاءت بعد حملٍ دام إحدى عشرة سنة يفترض أن يكون حسن الخلقة مكتملاً غير مشوه.

وعلى رغم أن هذا القانون تضمن بعضاً من النصوص لصالح المرأة العاملة، إلاّ أن هذه النصوص لا تعدو سوى نقاط صغيرة بيضاء في وسط دائرة كبيرة سوداء كاتمة، ما يجعلنا نخرج بمحصلة نهائية أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.

ولكي لا نطيل في المقدمة نبدأ في الولوج في نصوص هذا القانون ونختار بعضاً من نصوصه ضمن دائرته السوداء، لنعقب عليها مادةً تلو الأخرى بالتعليق عليها في حلقات متسلسلة ومتتابعة نبدأها في هذه الحلقة، بما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة الرابعة على أن «يستمر العمل بأية مزايا أو شروط أفضل تكون مقررة أو تقرر في عقود العمل الفردية أو الجماعية أو أنظمة العمل بالمنشأة أو غيرها أو بموجب العرف».

هذا النص، رغم ركاكته وسوء صياغته بشكل لا يليق أن يكون نصاً في القانون، بحيث يظهر أن من قام بصياغته غير محيط بأبعاد القاعدة القانونية ولا يحسن صياغتها، فقد جاء – علاوة على ذلك – مغايراً لنص قانوني يقابله في المادة رقم (153) من قانون العمل الملغى لسنة 1976 التي ورد فيها النص التالي: «ولا يجوز المساس بما اكتسبه العامل من حقوق بمقتضى أية اتفاقية أو لوائح النظم الأساسية أو قرارات التحكيم أو ما جرى العرف أو اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال».

وبمقارنة النصين السابقين نلحظ أن قانون العمل الجديد لسنة 2012 وقف موقفاً سلبياً في غير صالح العمال، وهذا الموقف السلبي سندرك لاحقاً كم هو ضار للغاية، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: كان يفترض أن يؤكد النص سابق الذكر بعبارة واضحة لا تحتمل التأويل وبقاعدة آمرة على «عدم المساس بما اكتسبه العمال من حقوق» على النحو الذي جاء في نص المادة رقم (153) من قانون العمل السابق لسنة 1976. وهو ما خلا منه نص المادة الرابعة من قانون العمل الجديد.

ثانياً: من المقرر – طبقاً لما نصت عليه معظم القوانين والاتفاقيات العمالية الدولية – أن الحقوق العمالية تكتسب بمقتضى إحدى المصادر التالية: القانون، أو عقد العمل، أو لوائح الأنظمة الأساسية للمنشأة، أو قرارات التحكيم، أو العرف، أو ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال.

وهذه المصادر الستة نص عليها قانون العمل القديم على نحو ما تقدّم، تضفي على الحقوق العمالية صفة الحق المكتسب، بحيث يستطيع العامل بمقتضى أي واحد من هذه المصادر أن يطالب بالحق بصفته حقاً مكتسباً، ومن بين هذه المصادر كما ذكرنا «ما قد اعتاد صاحب العمل على منحه له بصورة منتظمة».

بيد أننا لو قمنا بمقارنة نص المادة رقم (153) من قانون العمل الملغى لسنة 1976 ونص المادة الرابعة من قانون العمل الجديد سابق الذكر لوجدنا أن هذا الأخير قد حذف مصدراً مهماً من مصادر الحق وهو «ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال».

فلو افترضنا مثلاً أن بنكاً من البنوك قد اعتاد على أن يصرف لموظفيه أو لبعض منهم أجر شهرٍ إضافي بنهاية كل عام ميلادي (وهو ما يطلق عليه أجر الثالث عشر) وكان هذا الاعتياد غير مبني على اتفاق صريح في عقد العمل، فإن هذا الاعتياد بمقتضى قانون العمل القديم يصبح حقاً مكتسباً للموظفين لا يستطيع البنك المساس به، من حيث أنه جاء بمقتضى قاعدة قانونية آمرة. في حين أن قانون العمل الجديد حذف عبارة «ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال» ما يعني أنه حذف مصدراً من مصادر الحق آنفة الذكر، وبالتالي يستطيع البنك في مثل الحالة المشار إليها أن يلغي صرف الراتب الثالث عشر مهما طالت مدة اعتياده على صرفه لموظفيه، ولن يكون ملزماً به كحق مكتسب بحكم القانون الجديد.

لذلك وبناءً على ما تقدّم نكون قد وقفنا على سوأة من مساوئ قانون العمل الجديد، وسنقف بالتتابع على باقي هذه المساوئ في الحلقات المقبلة.

(2)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم

(36) لسنة 2012 أشرنا في الحلقة الأولى إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: (أولاً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها.

(وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره. (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

ووقفنا في الحلقة السابقة على نص الفقرة الثانية من المادة الرابعة من القانون المذكور، والتي من خلالها أثبتنا سوء صياغة هذا النص بما يوحي أن القائمين على إعداد مسودة القانون المذكور يفتقرون إلى إحدى المميزات السالف ذكرها، فضلاً عن كون النص المشار إليه جاء في غير صالح العمال، وكأن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال استناداً للأسباب التي وقفنا عليها.

وفي هذه الحلقة سنقف على جانب من نصوص القانون المذكور لنثبت من خلاله مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته.

وذلك فيما يلي:

أولاً: في المادة العاشرة من المرسوم بقانون رقم (14) لسنة 1993 الذي ألغاه قانون العمل الجديد، جاء النص التالي: «على وزارة العمل ترشيح المقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم وتتفق مع سنهم وكفاءتهم الفنية…». هذا النص يحمل مضموناً سن بموجبه إجراءً قانونياً ملزماً التزمت به وزارة العمل طيلة السنوات الماضية، وهو ترشيح العاطلين المقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم. غير أن قانون العمل الجديد لسنة 2012 خلا من هذا النص تماماً، ما يعني أن المشرِّع رفع هذا الالتزام عن كاهل وزارة العمل.

وبإلغاء هذا الإجراء أصبحت وزارة العمل بمنأى عن أي التزام قانوني يلزمها بترشيح العاطلين المقيدين لديها ومتابعة تشغيلهم على نحو ما كانت عليه في الماضي، ليبقى التزامها محصوراً في قيد العاطلين، أو بالتنسيق مع جهات – لم يحددها القانون – لغرض توظيفهم طبقاً لما جاء في نص المادة التاسعة من قانون العمل الجديد.

و»الترشيح» المشار إليه لا يجوز تبسيط مفهومه ومضمونه ليوصف – بحسب ما يراه بعض المسئولين الجدد بوزارة العمل – بأنه مجرد اقتراح أو تنسيق لتوظيف العاطلين، إذ أنه بهذا التوصيف ننتهي إلى اجتزاء طبيعة الترشيح.

إنما هو في الحقيقة نظام يحمل في طياته توصية، أو ما يشبه بالأمر الإداري، في إطار خطة «بحرنة الوظائف» التي تخلت عنها وزارة العمل تدريجياً حتى أصبحت في «خبر كان».

وقد لمسنا في الماضي أن ترشيح وزارة العمل للمقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم وتتفق مع سنهم وكفاءتهم ومتابعة تشغيلهم وفق خطة بحرنة الوظائف كان له الأثر الملموس في توظيف نسبة لا بأس بها من العاطلين. وبإلغاء نظام الترشيح باتت وزارة العمل غير مسئولة عن أهم واجب وطني يفترض أن تقوم به على نحو ما كانت عليه في الماضي، وإن قامت به إنما تقوم به تفضلاً لا بموجب التزام قانوني.

وقد سبق أن صرح لنا أحد المسئولين بوزارة العمل خلال زيارتنا له لغرض ترشيح أحد الخريجين الجامعيين كان عاطلاً لأكثر من ثلاث سنوات ولا يزال عاطلاً، بقوله: «إن الوزارة غير مؤهلة لأن تُلزم أحداً بتشغيله وفقاً لمؤهلاته». ونحن في الواقع لا نلوم هذا المسئول لما صرح به، لأنه فطن بأن لا وجود لإلزام قانوني على هذه الوزارة بعد إلغاء النص الذي يلزمها بترشيح ذلك المواطن العاطل وإخلاء مسئوليتها من متابعة تشغيله، وبعد تعطيل خطة «بحرنة الوظائف» كما أشرنا.

ثانياًَ: بعد أن رأينا في الفقرة السابقة كيف أخلى المشرِّع (بمقتضى قانون العمل الجديد) مسئولية وزارة العمل من ترشيح العاطلين الوطنين المقيدين لديها ومن الالتزام بمتابعة تشغيلهم على نحو ما سلف بيانه، نجده اتخذ موقفاً أشد قسوة تجاه العامل الوطني استناداً لما يلي:

فبعد مراجعة قانون العمل الجديد نلحظ أنه ألغى المادة رقم (13) من قانون العمل لسنة 1976 التي ألزمت صاحب العمل بوجوب منح الأفضلية للوطني في الاستخدام، والتي جاء فيها «في حالة زيادة عدد العمال عن حاجة العمل يجب الاستغناء عن الأجنبي قبل العربي أو الوطني، وعن العربي قبل الوطني»…

بمعنى أنه كان يجب على صاحب العمل في حالة زيادة عدد عماله عن الحاجة أن يستبقي على العامل الوطني ويمنحه الأفضلية في الاستخدام دون العربي والأجنبي متى كان صالحاً لأداء العمل.

أو بمعنى آخر كان لا يجوز لصاحب العمل في حالة زيادة عماله عن الحاجة أن يفصل العامل الوطني ولديه عامل عربي أو أجنبي يماثله. وبإلغاء المادة

(13) المشار إليها جاز القول بأن قانون العمل الجديد ألغى أفضلية العامل الوطني في الاستخدام على غيره من الأجانب، فجعل العامل الوطني والأجنبي متساويين في حق الاستخدام.

وبناء على ما تقدم في الحلقة الأولى وفيما أشرنا إليه أعلاه يثبت أن المشرِّع بموجب قانون العمل الجديد قد أخذ موقفاً سلبياً فيه أكثر قتراً وبخلاً وحيفاً بحق العامل الوطني.

ثالثاً: جاء في المادة رقم (12) من قانون العمل الجديد «يجب على صاحب العمل أن يسلم العامل إيصالاً بما يودعه لدى صاحب العمل من أوراق أو شهادات أو أدوات. ويلتزم صاحب العمل بأن يرد للعامل عند انتهاء عقد العمل ما يكون قد أودعه لدى صاحب العمل».

هذا النص يوضح لنا بجلاء الاعوجاج المتين في الصياغة، وبما يثبت مجدداً أن الأيادي التي صاغت نصوص قانون العمل الجديد ليست مؤهلة لذلك.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من هذا الاعوجاج في الصياغة والتعبير والشكل، والمزيد من الحيف الذي وقع على العمال من خلال قانون العمل الجديد. ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.


(3)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 كنا قد بدأنا الحلقتين السابقتين بالإشارة إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: (أولاً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها. (وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره. (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وقد وقفنا في الحلقتين الماضيتين على بعض نصوص قانون العمل المذكور وأثبتنا سوء صياغتها بما يوحي أن القائمين على إعداد مسودة القانون يفتقرون لإحدى المميزات السالف ذكرها، كما رأينا كيف أن تلك النصوص هي في غير صالح الأجراء، وكأن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال على ضوء ما كنا قد انتهينا إليه.

وفي هذه الحلقة (الثالثة) سنقف على جانب آخر من نصوص القانون المذكور لنثبت مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:

أولاً: تنص المادة رقم (13) من قانون العمل الجديد على أنه «يجب على صاحب العمل إعطاء العامل – أثناء سريان عقد العمل أو عند انتهائه ودون مقابل – شهادة بما يطلبه من بيانات بشأن تاريخ التحاقه بالعمل ونوع العمل الذي قام به والأجر والمزايا الأخرى التي حصل عليها وخبرته وكفاءته المهنية وتاريخ وسبب انتهاء عقد العمل». هذه المادة تقابلها المادة رقم (119) من قانون العمل القديم ونصها هو «يمنح العامل شهادة خدمة تتضمن بياناً لمهنته ومدة خدمته وآخر أجر تقاضاه، ويرد إليه ما قد أودعه لدى صاحب العمل من أوراق أو شهادات أو أدوات».

وبمقارنة نص المادتين المذكورتين نلحظ سوء صياغة نص المادة رقم (13) من قانون العمل الجديد وعدم انتظام تركيبتها اللغوية على خلاف نص المادة (119) من قانون العمل القديم، إلاّ أن مساوئ نص المادة الأولى في الصياغة والتركيب اللغوي ليس لها من تأثير كبير مقارنةً بالضرر الذي يحمله مضمون هذا النص. فبالعودة إلى هذا النص نجد خلاصة مضمونه أنه يُلزم صاحب العمل بأن يصدر للعامل شهادة خدمة يبين فيها تاريخ التحاقه بالعمل ونوع عمله وأجره وتاريخ انتهاء خدمته وأسباب انتهائها.

ومن المقرر أنه عندما يُلزم القانون صاحب العمل بأن يذكر أسباب انهاء خدمة العامل أو سبب فصله من العمل في شهادة الخدمة المقدّمة إليه، فإن ذلك يعد أمراً خطيراً يحيق بالعامل لم نجده في جميع التشريعات العمالية الدولية، بما فيها قانون العمل البحريني القديم، لكونه يحمل في ثناياه ضرراً محضاً بالغ الشدة يصيب العامل على وجه التأكيد في بعض الحالات، كأن يكون إنهاء خدمة العامل أو فصله بسبب فقد الثقة فيه بعد أن اتهمه صاحب العمل بجرم السرقة مثلاً.

فعندما يذكر صاحب العمل هذا السبب في شهادة الخدمة سيكون ضرر هذه الشهادة على العامل أكثر من نفعها لأنها تصبح بمثابة دليل إدانة ضده، ما يضطره للاستغناء عنها بالتأكيد، وباستغنائه عنها يكون قد فقد أهم مرجع يثبت خبرته وسنوات خدمته.

علماً أن قانون العمل القديم – حاله كحال التشريعات العمالية المقارنة – كان قد حرَّم على صاحب العمل ذكر أسباب انهاء خدمة العامل في شهادة خدمته خشية أن يضار العامل من ذكرها، في حين يأتي لنا قانون العمل الجديد ليفرض على صاحب العمل بقوة القانون وجوب ذكر أسباب فصل العامل وأسباب إنهاء خدمته في شهادة الخدمة على نحو ما جاء في النص. ولذلك نخلص إلى القول ان قانون العمل الجديد في هذا الجانب قد أصاب العمال في مقتل. ولا ندري ما الحكمة من وراء ذلك يا ترى! وأي حكمة هذه التي يوظف لها قانون العمل للإضرار بالعمال بدلاً من أن يكون موظفاً لحمايتهم؟

ثانياً: تنص المادة رقم (22) من قانون العمل الجديد على انه «يحظر على صاحب العمل أن يخرج على الشروط المتفق عليها في عقد العمل الفردي، أو عقد العمل الجماعي، أو أن يُكلِّف العامل بعمل غير متفق عليه إلاّ إذا دعت الضرورة إلى ذلك منعاً لوقوع حادث أو إصلاح ما نشأ عنه، أو في حالة القوة القاهرة، على أن يكون ذلك بصفة مؤقتة. وله أن يُكلِّف العامل بعمل غير المتفق عليه إذا كان لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن عمله الأصلي، ويشترط عدم المساس بحقوق العامل».

«ويجوز لصاحب العمل تدريب العامل وتأهيله للقيام بعمل مختلف عن العمل المتفق عليه تمشياً مع التطور التكنولوجي في المنشأة…».

فلو تأملنا قليلاً في الفقرتين السابقتين سنجد فيهما ما يثير العجب:

(1) فبعد أن نص القانون في الفقرة الأولى بعدم الخروج على الشروط المتفق عليها في عقد العمل، وعدم تكليف العامل بعمل يختلف اختلافاً جوهرياً عن عمله الأصلي، عاد في الفقرة الثانية ليعطي لصاحب العمل حق تدريب العامل وتأهيله لمهنة تختلف عن المهنة المتفق عليها «تمشياً مع التطور التكنولوجي» بحسب ما جاء في النص، وهذا يعد تناقضاً ظاهراً في النص.

وكما هو متفق عليه أن التناقضَ في النصوص يزدريها، كما يزدري التناقضُ الأحكام القضائية. مع ملاحظة أن ظاهر النص يشير إلى تدريب العامل وتأهيله لوظيفة غير الوظيفة التي يشغلها، وهو أمر يثير العجب بحق.

فلو افترضنا مثلاً أن مستخدماً يعمل بمهنة مهندس متفق عليها بمقتضى شروط عقد العمل، وحيث رأينا أن القانون – بناء على الفقرة الأولى أعلاه – يُحرِّم على صاحب العمل الخروج على شروط العقد وتكليف هذا المستخدم بعمل يختلف عن عمله الأصلي، فكيف يحق لصاحب العمل في الوقت ذاته – بناء على الفقرة الثانية – إجبار المستخدم المذكور للتأهل لمهنة أخرى غير المهنة الأصلية! وليت أن القانون اشترط قبول العامل بذلك إنما جعله حقاً مطلقاً لصاحب العمل. وليت أنه أيضاً أسند حكمه هذا وعلّله بمقتضى مصلحة العمل لالتمسنا له عذراً، إنما أسنده وعلّله «للتماشي مع التطور التكنولوجي» فقط كما ورد في النص.

إذاً… هذا الحكم بتناقضه أليس هو من قبيل الهُراء؟

(2) بقراءتنا لنص الفقرة الثانية من المادة (22) السابقة، وبناءً على ما تقدم، نجد أن قانون العمل الجديد قد منح صاحب العمل – بناء على رغبته – حق إلزام العامل بتعلم مهنة غير المهنة المتفق عليها التي يعمل فيها عنده، وإن اختلفت عنها اختلافاً جوهرياً، ودون النظر إلى مصلحة العمل. فكأنه بذلك أعطى لصاحب العمل وحده وبدون مسوّغٍ قانوني، حق تقرير مسار حياة العامل المستقبلية وإجباره على تعلم مادة قد لا تروق له أو لا تتفق مع قدراته.

وطبقاً لمقررات واتفاقيات المنظمات الدولية لحقوق الإنسان؛ ان حرية العمل مكفولةٌ فلا يجوز لأحد إجبار أحدٍ على عملٍ غير راغب فيه، وهذا ما قرّره دستور مملكة البحرين في المادة (13) من أنه «لا يجوز فرض عمل إجباري على أحد إلاّ لضرورة قومية وبمقابل عادل أو تنفيذاً لحكم قضائي». فإذا كان إجبار شخص على عمل غير راغب فيه لا يجوز بموجب الدستور، فكيف يجوز لشخص أن يقرر مسار حياة شخص آخر دون إرادته وبدون مسوِّغ .

إنها بحق لصورةٌ مقلوبة، وهذه الصورة المقلوبة لم نرها إلاّ في قانون العمل الجديد، وهذه الصورة وما سبق لنا ذكرها ما هي إلاّ غيض من فيض.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الحيف الذي وقع على العمال من قبل قانون العمل الجديد واعوجاج نصوصه شكلاً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهد مملكة البحرين.


(4)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 أشرنا في الحلقات الثلاث السابقة إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: معرفة القاعدة القانونية؛ الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ ومعاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وقد وقفنا على بعض نصوص قانون العمل المذكور وأثبتنا من خلالها سوء صياغة تلك النصوص بما يوحي أن القائمين على إعداد مسودته يفتقرون إلى إحدى المميزات السالف ذكرها، كما رأينا كيف أن تلك النصوص هي في غير صالح الأُجَراء، وكأن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال على ضوء ما انتهينا إليه.

وحيث كنا ولانزال ننعت قانون العمل الجديد بأنه «أسوأ قانون تشهده البحرين»، استوجب التنويه إلى أن هذا النعت لم يكن بسبب ما علق بنصوصه من سوء صياغة وركاكة في التعبير، أو لسوء تنظيم وغير ذلك وحسب، أو لأنه تضمن نصوصاً ليست في صالح الأجراء؛ إنما سوأته العظمى تكمن في تراجعه إلى الأسوأ بحيث وجدناه قد سلب من العمال الكثير من الحقوق والمنافع والمميزات المقررة لهم في القوانين التي سبقته، أو زاد عليهم ثقلاً لم يكونوا يحملونه من قبل، في حين كان يفترض أن يأتي هذا القانون بالأفضل للأجراء، من حيث أنه يفترض كلما رقت الحضارة وتقدمت ثقافة المجتمع كلما سمت قوانين العمل بما تكفل للعمال حماية أكثر ورعاية أسمى ومصالح أوفى، لا أن تسلب منهم ما كان مقرراً لهم سلفاً، أو أن تُضيف ثقلاً عليهم لم يكونوا يحملونه من قبل، على نحو ما أثبتناه في الحلقات السابقة وما سنثبته تباعاً في الحلقات التالية. ولهذا جاز لنا أن ننعته بأنه «أسوأ قانون تشهد البحرين».

وفي هذه الحلقة (الرابعة) سنقف على جانب آخر من نصوص القانون لنثبت مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:

أولاً: تنص المادة رقم (40) من قانون العمل القديم لسنة 1976 «تُحرر جميع العقود باللغة العربية، وكذلك المراسلات والتعليمات والنشرات واللوائح التي يصدرها صاحب العمل لعماله».

وكان المشرِّع يهدف من وراء هذا النص حماية العمال العرب، وعلى وجه الخصوص العمال الوطنيين، خشية أن يوجه إليهم أرباب العمل إخطارات أو إنذارات أو تنبيهات بلغة أجنبية يصعب عليهم فهم مضمونها فتكون رغم ذلك حجة عليهم. ومن ثم كان يعتبر أي إخطار أو تنبيه محرر بلغة أجنبية لا يحظى بالحجية كورقة قانونية في مواجهة من أُرسل إليه من العمال ما لم يكن مشفوعاً بترجمة له باللغة العربية، وذلك استناداً للحكم الوارد في النص السابق. بيد أن قانون العمل الجديد حذف هذا النص من نصوصه، مما ترتب عليه أن أصبح صاحب العمل غير ملزم بتحرير مراسلاته وتعليماته ونشراته ولوائحه وإنذاراته التي يصدرها أو يوجهها للعمال باللغة العربية كما كان ملزماً بمقتضى قانون العمل السابق، دون أن نعرف الغاية من ذلك، اللهم إلاّ إذا رأى المشرِّعون الجدد أن البحرين أصبحت خارج المنظومة العربية، أو أنهم رأوا أن المستندات المحرّرة بلغة أجنبية وغير المترجمة مقبولة كدليل إثبات في مواجهة العمال خلافاً لقواعد الإثبات المقررة قانوناً. وفي غير ذلك يصبح حذف النص المشار إليه من قانون العمل الجديد مخالفاً لقواعد الإثبات بما يفضي إلى رفع الحماية عن العمال في هذا الجانب دون مسوغ، وفي ذلك إجحاف بحقهم.

ثانياً: تنص الفقرة الثانية من المادة رقم (11) من قانون العمل الجديد بالآتي: «يصدر الوزير، بعد أخذ رأي الوزارات المعنية وغرفة تجارة وصناعة البحرين والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين قراراً بتحديد اشتراطات ومواصفات المساكن وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدم للعامل في كل وجبة…». «والوزير» المشار إليه في النص هو الوزير المختص بشئون العمل في القطاع الأهلي، أي وزير العمل، بحسب التعريفات الواردة في الفصل الأول من قانون العمل الجديد.

وبالعودة إلى النص أعلاه نجد أن قانون العمل الجديد قد أناط لوزير العمل تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال، وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدم للعمال بعد التشاور مع الجهات المذكورة في النص. بيد أنه من المقرر أن تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال وتحديد أصناف وكميات الطعام هي من المسائل الصحية التي تختص بها وزارة الصحة العامة وحدها، وإن أي قرار بشأنها يجب أن يصدر من وزير الصحة وليس من وزير العمل، لذلك سبق وأن أصدر وزير الصحة القرار الوزاري رقم (8) لسنة 1978 بشأن تحديد الاشتراطات والمواصفات الصحية لمساكن العمال والذي لايزال معمولاً به حتى الآن.

وإذا كان هناك ثمة من يعتقد أن كل ما يتعلق بأمور العمال يقع تحت رقابة وإشراف وزارة العمل فهو خاطئ، ونؤكد له خطأ هذا الاعتقاد بدليل أنه في مجال الصحة لا يجوز للمفتش العمالي التابع لوزارة العمل التفتيش على كل ما يتصل بالأمور الصحية (ومنها مساكن العمال) إلاّ بصحبة مفتش من وزارة الصحة العامة، وذلك طبقاً لنص المادة رقم (22) من القرار الوزاري رقم (28) لسنة 1976 في شأن تنظيم أعمال التفتيش، التي تنص على أن «يتم ضبط المخالفات وتحرير المحاضر في مجالي الصحة والسلامة المهنية عن طريق مفتش العمل… وعلى مفتش العمل مصاحبة مسئول السلامة المهنية ومسئول الصحة المهنية بوزارة الصحة في هذا النوع من التفتيش كل بحسب اختصاصه».

فإذا كان الأمر ذلك، وجب قانوناً تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال، وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدّم للعمال بموجب قرار يصدره وزير الصحة – وإنْ لزم الأمر أن يكون ذلك بالاتفاق مع وزير العمل – لا بقرار يصدره وزير العمل، وعلى ألاّ تُحشر غرفة تجارة وصناعة البحرين ومعها الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين في هذا الشأن باعتبارهما ليسا جهة اختصاص وغير مؤهلين لذلك.

وعليه فإن الفقرة الثانية من المادة رقم (11) من قانون العمل الجديد محل البحث هي إحدى الصور المقلوبة في هذا القانون، ولا نماري من يعتقد أن انقلاب هذه الصورة يعود إلى أن المشرعين الجدد يفتقرون إلى الميزة الثانية التي أشرنا إليها في بداية الكلام (الخبرة في مجال العمل)، ولذلك غاب عليهم معرفة الوزارة أو الوزير المختص في هذا الشأن.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف والحيف الواقعين على العمال من قبل قانون العمل الجديد واعوجاج نصوصه شكلاً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهد مملكة البحرين، على أننا سنخصص الحلقة القادمة في شأن الأحكام الخاصة بالنساء العاملات وما طرأ على حقوقهن من تغيير في هذا القانون في غير صالحهن.


(5)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 بدأنا الحلقات السابقة بالإشارة إلى وجوب أن تتوافر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات: معرفة القاعدة القانونية من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها؛ والخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ ومعاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وقد وقفنا في الحلقات الماضية على بعض نصوص قانون العمل المذكور ورأينا كيف أن تلك النصوص مجحفة بحق الأجَراء، وكأن المشرِّع مال إلى جانب أصحاب الأعمال وأخذ موقفاً سلبياً نحو العمال على ضوء ما انتهينا إليه.

وفي هذه الحلقة (الخامسة) سنقف على جانب آخر من نصوص القانون المذكور، وذلك في جانب من الجزء المتعلق بالنساء العاملات لنثبت من خلاله مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:

أولاً: تنص المادة رقم (30) من قانون العمل الجديد «يصدر الوزير قراراً بتحديد الأعمال والمناسبات التي لا يجوز فيها تشغيل النساء ليلاً». هذه المادة تقابلها المادة رقم (59) من قانون العمل القديم لسنة 1976 التي تنص على أنه «لا يجوز تشغيل النساء ليلاً…. ويستثنى من ذلك دور العلاج والمنشآت الأخرى التي يصدر بشأن العمل بها قرار من وزير العمل».

وبمقارنة النصين نلحظ أن قانون العمل القديم اعتبر حظر تشغيل النساء ليلاً هو الأصل، وأن ما يقرره وزير العمل بجواز تشغيلهن ليلاً في حالات معينة هو الاستثناء، ذلك لأن المشرِّع كان قد نظر إلى النساء العاملات نظرة خاصة فمنع تشغيلهن ليلاً من حيث الأصل نظراً لتكوين المرأة الجسماني والصحي من جانب، ونظراً للتقاليد الموروثة في المجتمعات الإسلامية التي تتجه إلى وضع ضمانات لحماية المرأة خلقياً وتربوياً من جهة أخرى. بينما قانون العمل الجديد قلب الصورة رأساً على عقب فجعل جواز تشغيل النساء ليلاً هو الأصل، وما يقرّره وزير العمل بمنع تشغيلهن في حالات معينة هو الاستثناء. وهذا الانقلاب في الصور له تداعيات خطيرة على النساء العاملات لم يفطن إليه المشرّعون الجدد بالتأكيد. ومن تداعيات هذا الانقلاب:

سيكون من الآن وصاعداً لأصحاب الأعمال الحق في تشغيل النساء العاملات ليلاً في كل الأعمال وفي كل الأماكن دون استثناء إلى أن يصدر وزير العمل قراراً يستثني فيه الأعمال والأماكن التي لا يجوز فيها تشغيلهن ليلاً.

ولذلك نلتمس العذر من السيدات العاملات إنْ قلنا لهن عليكن الانتظار طويلاً إلى حين صدور هذا القرار.

إذا افترضنا جدلاً أن وزير العمل أصدر القرار المنتظر بشكل عاجل، والذي سيحدد فيه الأعمال والأماكن التي لا يجوز فيها تشغيل النساء ليلاً استثناءً من الأصل، غير أنه من المعروف أن الاستثناء هو من حيث الكم أقل من الأصل، بمعنى أن النساء سيجبرن على العمل ليلاً في كل الأعمال وفي كل الأماكن إلاَّ القليل فيما يستثنى منها.

وحيث ان الاستثناء لا يقبل القياس ولا التشبيه إنما هو محصورٌ فيما حُصر فقط، فإنه والحال ذلك يلزم حصر الأعمال والأماكن المستثناة التي لا يجوز تشغيل النساء فيها ليلاً وتحديدها تحديداً دقيقاً ومتكاملاً ووافياً.

وهذا التحديد الدقيق والمتكامل والوافي هو من الصعوبة بمكان إدراكه أو حصره، بل من الصعوبة التنبؤ بثباته واستقراره في ظل ظروفٍ ومناخٍ مهني وصناعي مُعقَّد ومتقلب غير ثابت. وبالتالي فإن القرار الوزاري المنتظر صدوره في شأن تحديد الأعمال أو الأماكن التي لا يجوز تشغيل النساء فيها ليلاً سيكون قاصراً عن احتواء هذه الأعمال وهذه الأماكن إلاّ في منظور زمني قريب، وإنْ احتواها فإنها ستظل بالطبع في حدود دائرةٍ ضيقة، وسيبقى الأصل (تشغيل النساء ليلاً) في الدائرة الأكبر والأوسع، بخلاف لو أن حظر تشغيل النساء ليلاً كان هو الأصل – على نحو ما كان عليه قانون العمل القديم – فإن الاستثناء بتشغيل النساء ليلاً سيبقى بالتأكيد في حدود دائرته الضيقة.

وعليه نخلص إلى أن قانون العمل الجديد حيث قلب الصورة على نحو ما تقدّم، فإن هذا الانقلاب سيرتد على النساء العاملات بضرر اجتماعي وجسدي لا تحمد عقباه.

ثانياً: جاء في المادة رقم (32) من قانون العمل الجديد لسنة 2012 على:

أ – «تحصل العاملة على إجازة وضع مدفوعة الأجر مدتها ستون يوماً، تشمل المدة التي تسبق الوضع والتي تليه…، ويجوز أن تحصل على إجازة بدون أجر بمناسبة الوضع مدتها خمسة عشر يوماً علاوة على الإجازة السابقة».

ب – يحظر تشغيل العاملة خلال الأيام الأربعين التالية للوضع…».

والمتأمل إلى النص السابق بفقرتيه يُقدِّر أن المشرِّعين الجدد غير محيطين بأبعاد القاعدة القانونية وشروطها، وهذه إحدى الميزات التي أشرنا إليها في بداية الحلقة.

فالقاعدة القانونية هي إمّا أن تكون قاعدة قانونية آمرة تتعلق بالنظام العام لا يجوز مخالفتها مطلقاً أياً تكن الأسباب وإنْ برضى العامل وصاحب العمل معاً. وإما أن تكون غير ذلك، أي لا تتعلق بالنظام ويجوز مخالفتها بالتراضي.

ومن المسلم به أنه عندما يضع القانون قاعدة قانونية لا تتعلق بالنظام العام بحيث يجوز مخالفتها بالتراضي فإن هذه القاعدة لن تكون بذات قوة القاعدة القانونية المتعلقة بالنظام العام التي لا يجوز مخالفتها، وبفقدانها هذه القوة سوف لن تحمي الطرف الضعيف كالعامل مثلاً، إذ قد يرضخ العامل أو يُجبر على قبول مخالفتها قسراً.

بعد هذه المقدمة نعود إلى النص السابق، فنلحظ في الفقرة (أ) أن القانون وضع قاعدةً قانونيةً منح بموجبها المرأة العاملة إجازة وضع مدتها ستون يوماً، وفي الفقرة (ب) حَظَرَ القانون تشغيل المرأة العاملة خلال الأربعين يوماً من تاريخ ولادتها.

وهذا يعني أن قاعدة «حظر تشغيل المرأة خلال الأربعين يوماً من تاريخ ولادتها» قاعدة قانونية آمرة لا يجوز مخالفتها وإنْ برضى صاحب العمل والعاملة. أما بعد الأربعين يوماً تنقلب هذه القاعدة إلى قاعدة قانونية لا تتعلق بالنظام العام فيجوز مخالفتها. وهنا تكمن الخطورة على العاملة، إذ قد يضغط عليها صاحب العمل بطلب العودة إلى العمل بعد مضي مدة أربعين يوماً من تاريخ ولادتها، أي قبل عشرين يوماً من انتهاء مدة الإجازة المقررة قانوناً، فترجع مرغمةً، وإن قبلت بذلك من حيث الظاهر لكي ترضي صاحب العمل خشية ألاّ يتخذ ضدها موقفاً سلبياً لاحقاً، طالما لا توجد أمامه قاعدة قانونية آمرة تتعلق بالنظام العام تردعه أو تمنعه من الضغط عليها.

ومن ثم نخلص إلى القول إن الفقرة (ب) من المادة رقم (32) من قانون العمل الجديد سابقة الذكر ليست موفقة، من حيث أنها قد تشكل ضرراً بالغاً على العاملة بخسارتها ثلث إجازة الولادة المقرّرة لها قانوناً للأسباب التي أشرنا إليها، وللأسف أن يكون سبب هذه الخسارة عائداً لحكم القانون.

وهذا يعني أن قانون العمل الجديد بعد أن منح المرأة العاملة إجازة ولادة تزيد عمّا منحها قانون العمل القديم عاد وأخذ منها هذه الزيادة بطريقة قانونية، كالذي يُعطي باليد اليمنى ويسترجع ما أعطاه باليد اليسرى، وهذا هو منتهى الإجحاف.

ولنا لقاء متواصل في حلقات قادمة متتابعة، وسنخصص الحلقة القادمة للوقوف على بقية النصوص الخاصة بالنساء العاملات لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف والحيف الواقعين على العمال والعاملات من قبل قانون العمل الجديد واعوجاج نصوصه شكلاً وصياغةً وتنظيماً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهد مملكة البحرين.

 


(6)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 كنا قد بدأنا الحلقات السابقة بالإشارة إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات: معرفة القاعدة القانونية بأبعادها وشروطها، والخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون، ومعاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وقد وقفنا في الحلقات الماضية على بعض نصوص قانون العمل المذكور، وخصصنا الحلقة السابقة (الخامسة) في شأن النصوص المتعلقة بالنساء العاملات، ورأينا كيف كانت تلك النصوص في غير صالح النساء العاملات أيضاً، فأثبتنا من جديد أن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال والعاملات على حد سواء.

وفي هذه الحلقة سنقف على جانب آخر من نصوص القانون المتعلقة بالنساء العاملات أيضاً لنثبت من خلاله مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:

أولاً: تنص المادة رقم (34) من قانون العمل الجديد لسنة 2012 على أن «تستحق المرأة العاملة الحصول على إجازة بدون أجر وذلك لرعاية طفلها الذي لم يتجاوز ست سنوات بحد أقصى ستة أشهر في المرة الواحدة، ولثلاث مرات طوال مدة خدمتها».

والمتأمل إلى هذا النص يدرك دون أدنى جهد وعناء أنه يحمل عدة عيوب، منها عيب في الصياغة من حيث ركاكته وعدم انتظام مفرداته، وعيب الغموض وعدم الوضوح، وعيب القصور.

فعيب الصياغة لا يحتاج إلى إيضاح، وأما عن عيب الغموض وعدم الوضوح فمن ظاهره أنه يحمل أكثر من معنى، فعندما يذكر النص «بحد أقصى ستة أشهر في المرة الواحدة» فهل هو يقصد أن للمرأة العاملة أن تأخذ إجازة لمرة واحدة لرعاية «طفلها» بحيث لا تتجاوز هذه الإجازة ستة أشهر، أم أنه يقصد لعدة مرات على ألاّ تتجاوز مجموعها ستة أشهر. وفي هذا وذاك يظهر الغموض وعدم الوضوح في النص.

وأما من حيث قصور النص؛ فمن المتفق عليه أنه عندما يقرر المشرِّع نصاً (أو حكماً) كان يستحسن دائماً أن يؤسسه على سبب أو قصد يبني عليه حكمه، وهو ما يطلق عليه «الحِكمَةُ من الحُكم» بحيث إذا ما انتفت الحكمة ينتفي الحكم، وإلاّ يكون حكماً قاصراً ومعيباً، بيد أننا نلحظ أن النص السابق يفتقر إلى هذا الأساس لخلوه منه.

فحيث يقرر المشرّع طبقاً لما جاء في النص «ان للمرأة العاملة الحق في إجازة لرعاية طفلها» كان يفترض أن يؤسس حكمه على سبب يبرر الرعاية، كأن يشترط أن يكون الطفل بحاجة إلى رعاية بتقرير طبي، لا أن يترك ذلك إلى تقدير العاملة (أم الطفل)، وخصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار طول هذه الإجازة (ستة أشهر) التي إنْ استعملتها العاملة بحسب تقديرها وبدون سبب، أو إذا ما تواجدت أكثر من حالة مماثلة في آن واحد لدى صاحب العمل الواحد فإن ذلك بالتأكيد سيؤثر على سير العمل وسيربك صاحب العمل، ما يؤدي بالنتيجة إلى الإضرار به. علاوةً على ذلك فإن المشرع عندما يمنح المرأة العاملة الإجازة المذكورة لثلاث مرات كحد أقصى بحسب ما جاء في النص، أي لثلاثة أطفال متتالين فقط، فهنا يثور أمامنا سؤال هو: ما هي الحكمة من أن تمنح العاملة حق رعاية ثلاثة أطفال من أبنائها بالتتابع وتُحجب الرعاية عن الأطفال اللاحقين، فلربما يكون الطفل الرابع أو ما سيأتي بعده أولى بالرعاية.

وعليه نخلص إلى القول؛ ان النص السابق نص معيب بعيوب مزدوجة، الأمر الذي يؤكد من جديد أن القائمين على صياغته وتقريره يفتقرون إلى المميزات التي بدأنا بها الكلام في هذه الحلقة.

ثانياً: نصت المادة رقم (35) من القانون الجديد لسنة 2012 على أن «يكون للمرأة العاملة بعد الانتهاء من إجازة الوضع وحتى أن يبلغ طفلها ستة أشهر من العمر فترتا رعاية لرضاعة طفلها على ألاّ تقل مدة كل منهما عن ساعة واحدة، كما يحق لها فترتا رعاية مدة كل منهما نصف ساعة حتى يبلغ طفلها عامه الأول…». وهذه المادة تقابلها المادة رقم (62) من قانون العمل المعدلة بالقانون رقم (14) لسنة 1993 ونصها «في خلال السنتين التاليتين لتاريخ الوضع يحق للعاملة عند عودتها لمزاولة عملها بعد إجازة الوضع أن تأخذ بقصد إرضاع مولودها الجديد فترة للاستراحة أو فترتين لا تزيد مجموعها على الساعة الواحدة في اليوم الواحد…».

وبمقارنة النصين نجد أن قانون العمل الجديد أنقص مدة الرضاعة بأن جعلها سنة واحدة بدلاً من سنتين على نحو ما كانت عليه في قانون العمل المُعدَّل بالمرسوم بقانون رقم (14) لسنة 1993، وهو ما يعد تراجعاً إلى الخلف، دون أن يُفصح المشرّع عن أسباب هذا التراجع. إنما كل ما ندركه هو أن هذا التراجع فيه انتقاص لحق كان مقرراً للمرأة العاملة بحكم القانون القديم، وبحكم الشريعة الإسلامية بقوله سبحانه وتعالي «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة» (البقرة، 233).

ثالثاً: إذا كنا قد رأينا في الحلقة السابقة أن قانون العمل الجديد لم يكن منصفاً مع المرأة العاملة بأن جعل جواز تشغيلها ليلاً هو الأصل بخلاف ما كان عليه قانون العمل القديم، وأنه اعتبر تشغيلها بعد أربعين يوماً من تاريخ ولادتها (أي قبل عشرين يوماً من انتهاء إجازة الوضع المقررة لها قانوناً) أمراً جائزاً ضمن قاعدة غير متعلقة بالنظام العام، إلاَّ أنه من جانب آخر نراه قد أغدق عليها في العطاء، ويتمثل هذا العطاء فيما يلي:

(1) زيادة إجازة الوضع إلى مدة ستين يوماً مدفوعة الأجر، بدلاً من خمسة وأربعين يوماً طبقاً لنص المادة رقم (32).

(2) منحها إجازة خاصة لرعاية طفلها الذي لم يتجاوز ست سنوات بحد أقصى ستة أشهر ولثلاث مرات طوال مدة خدمتها طبقاً لنص المادة رقم (34).

(3) منحها إجازة شهر مدفوعة الأجر إذا توفي زوجها، وإجازة مدتها ثلاثة أشهر وعشرة أيام أخرى متصلة إكمالاً للعدة، طبقاً لنص الفقرة «ج» من المادة رقم (63).

فهذه الإجازات الثلاث هي في مجموعها تفوق السنة الواحدة، ولذلك يجوز لنا أن نسمي هذا العطاء عطاءً مغدقاً.

ولكن لو نظر إلى هذا العطاء المغدق نظرة ثاقبة ومتأملة سنجد أن له تداعيات سلبية على النساء أنفسهن قد نلمس تأثيراتها في المستقبل القريب، وهذه التداعيات – بحسب رؤيتنا – تتمثل على وجه التأكيد في عزوف أصحاب الأعمال عن توظيفهن، أو أنهم سيعملون جل جهدهم للتخلص من العاملات اللاتي لديهم بالقدر الممكن طالما رأوا أن توظيفهن بات مرهقاً عليهم للكلفة المادية الباهظة بسبب تعدد الإجازات الممنوحة لهن، فضلاً عن أنه سيؤثر حتماً على سير العمل وسيؤدي إلى اضطرابه.

ولهذا نخشى أن يكون هذا العطاء المغدق، الذي قلنا عنه في بداية الحلقة الأولى انه بمثابة نقاط بيضاء وحيدة في قانون العمل الجديد، قد يعود بالضرر على النساء العاملات وخسارتهن بدلاً من نفعه. وسنظل بالتالي ننظر إلى هذا القانون على أنه قانون غير متوازن، وأنه القانون الأسوأ مقارنةً بما سبقه.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف أو عدم الإنصاف الواقع على العمال من جانب قانون العمل الجديد، فضلاً عن اعوجاج نصوص هذا القانون شكلاً وتنظيماً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.

 


(7)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) للعام 2012 وقفنا في الحلقات الماضية على بعض نصوصه، ورأينا كيف أنها مجحفة وغير منصفة بحق العمال قاطبة.

وفي هذه الحلقة؛ سنقف على نصوص أخرى من القانون في الجانب المتعلق بالأجور وحساب حقوق العامل؛ لنثبت من خلالها مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يأتي:

أولاً – جاء في نص المادة رقم (45) من القانون المذكور ما يأتي: «لا يجوز الحجز على الأجر المستحق للعامل أو النزول عن أي جزء منه، أو أن يستقطع منه وفاء لدين إلاّ في حدود 25 في المئة من هذا الأجر، ويجوز رفع هذه النسبة إلى 50 في المئة في حالة دين النفقة».

«وعند تزاحم الدين يقدم دين النفقة، ثم ما يكون مطلوباً لصاحب العمل بسبب ما أتلفه العامل من أدوات أو مهمات، أو ما صُرف إليه بغير وجه حق، أو ما وقع عليه من جزاءات مالية».

من النص السابق نستنتج أن قانون العمل الجديد أجاز حجز أو اقتطاع نسبة 50 في المئة من أجر العامل، بخلاف ما كان عليه قانون العمل القديم الذي منع بمقتضى المادة رقم (75) حجز أكثر من 25 في المئة من أجره، وكذلك قانون الخدمة المدنية الذي لم يجز بمقتضى المادة (77) تجاوز مقدار المحجوز عليه شهريّاً ربع المبالغ المستحقة للموظف. ما يعني ذلك أن قانون العمل الجديد زاد نسبة الحجز أو الاقتطاع بضعف ما نصّ عليه كل من قانون العمل القديم وقانون الخدمة المدنية، وهذه نسبة جد كبيرة وغير منطقية لم يقرّرها أي تشريع شرقي أو غربي، وكأن الذي شرَّع هذا القانون غير وارد في ذهنه مراعاة العمال الذين يمثلون الجانب الأكبر في المجتمع والذين يعتمدون في معيشتهم على ما يحصلون عليه من أجر. بل ربما لم يُدرك هذا المشرِّع أن وظيفة قانون العمل الأساسية هي حماية العمال، سواءً من حيث تحسين معيشتهم أو تحريم ما يؤدي إلى فرض أعباءٍ أو التزاماتٍ تؤثّر على حياتهم المعيشية. هذا في الوقت الذي تتفق فيه المواثيق الدولية المتصلة بالعمل على وجوب أن يكون العمال محلَّ تقدير الدولة والمجتمع.

ويزيدنا قناعةً بأن من شَرَّع هذا القانون لم يعر اهتمامه إلاّ لأرباب العمل عندما نجده يهتم بالديون المستحقة على العامل لصالح صاحب العمل دون غيرها، بدليل أنه في موضوع الحجز والاقتطاع محل البحث نظر فقط إلى «ما هو مطلوب لصاحب العمل بسبب ما أتلفه العامل من أدوات أو مهمات، أو ما صُرف إليه بغير وجه حق، أو ما وقع عليه من جزاءات مالية»، بحسب ما جاء في الفقرة الثانية من المادة سابقة الذكر، ونسي أن هناك ديوناً أخرى قد تترتب على العامل تستوجب الالتفات إليها ووضعها ضمن قائمة ديونه لتدخل ضمن باقي الديون في حدود نسبة الاقتطاع المقررة قانوناً على غرار ما نص قانون العمل للعام 1976 في المادة رقم (75) حيث تنص: «وعند التزاحم يبدأ بخصم دين النفقة في حدود الثمن والباقي للديون الأخرى، وهكذا بالمثل في قانون الخدمة المدنية في المادة رقم (77).

ثانياً – تنص المادة رقم (47) من قانون العمل الجديد للعام 2012 «تحسب حقوق العامل على أساس الأجر الأساسي الأخير للعامل مضافاً إليه العلاوة الاجتماعية إن وجدت».

«فإذا كان العامل ممن يعملون بالقطعة أو الإنتاج أو يتقاضى أجراً ثابتاً مضافاً إليه عمولة أو نسبة مئوية اعتد في حساب الحقوق بمتوسط أجر العامل خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة».

هذه المادة تقابلها المادة رقم (67) من قانون العمل القديم للعام 1976 التي جاء فيها «يُراعى في حساب حقوق العمال الأجر الأساسي الأخير للعامل مضافاً إليه علاوة غلاء المعيشة وعلاوة أعباء العائلة وذلك في المنشآت التي تضع لعمالها جدولاً للأجور يمنحون بمقتضاه علاوةً دوريةً، وفي غير هذه الحالات يتخذ مجموع الأجر الأخير الذي يُصرف للعامل بصفةٍ دوريةٍ ومنتظمةٍ أساساً لحساب الحقوق».

«فإذا كان العمال يتقاضون أجورهم بالقطعة أو بالإنتاج يكون التقدير على أساس متوسط ما تناوله العامل من أيام العمل الفعلية في الثلاثة شهور الأخيرة».

وبمقارنة النصين نلحظ ما يأتي:

أن قانون العمل الجديد اعتد في حساب حقوق العمال على أساس الأجر الأساسي مضافاً إليه العلاوة الاجتماعية فقط، بخلاف ما كان عليه قانون العمل القديم الذي نص بموجب المادة رقم (67) سابقة الذكر على اعتبار مجموع ما يتقاضاه العامل بصفة دورية ومنتظمة أساساً لحساب حقوقه.

فلو افترضنا أن عاملاً يعمل في مؤسسةٍ لا تضع لعمالها جدولاً يمنحون بمقتضاه علاوة دورية، وأن أجره الأساسي 500 دينار مضافاً إليه علاوة اجتماعية مقدارها 50 ديناراً، وعلاوة سكن مقدارها 100 دينار، وعلاوة تأمين صحي ثابتة مقدارها 200 دينار، وأردنا أن نحسب مستحقه عن بدل الإجازة السنوية مثلاً (المقرّرة قانونيّاً بأجر شهر واحد) فإنه بمقتضى قانون العمل الجديد سيحصل على بدل نقدي مقداره 550 ديناراً (الذي يمثل أجره الأساسي مضافاً إليه العلاوة الاجتماعية فقط)، بينما لو طبقنا بشأنه قانون العمل القديم؛ فإنه سيحصل على بدل نقدي مقداره 850 ديناراً (الذي يمثل أجره الأساسي مضافاً إليه جميع العلاوات المشار إليها)، أي بفارقٍ أقل بـ 300 دينار.

وبهذه النتيجة نخرج بمحصلةٍ أن قانون العمل الجديد أسوأ من سابقه بالنسبة إلى العمال.

بالعودة من جديد إلى نص الفقرة الثانية من المادة رقم (47) من قانون العمل الجديد للعام 2012 وإلى نص الفقرة الثانية من المادة رقم (67) من قانون العمل القديم للعام 1976 سابقتي الذكر بشأن احتساب متوسط أجور العمال الذين يعملون بالقطعة أو بالإنتاج أو يتقاضون أجوراً ثابتةً مضافاً إليها عمولة أو نسبة مئوية. وبمقارنة هذين النصين نلحظ أن قانون العمل الجديد احتسب متوسط أجر هؤلاء العمال على أساس ما يتناوله العامل خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، بينما قانون العمل القديم احتسب متوسط أجورهم على أساس ما يتناوله العامل خلال الأيام الفعلية في الثلاثة شهور الأخيرة. وهذا الفارق البسيط بينهما يراه البعض أمراً هيّناً بينما هو فارق كبير يصيب العامل بالضرر. ولإيضاح ذلك نسوق المثال الآتي:

عامل يعمل بالعمولة بنسبة معينة من مجموع مبيعاته، وبلغ مجموع ما يستحقه من عمولة عن الشهور الثلاثة الأخيرة 1200 دينار، وكان قد عمل عملاً فعليّاً خلال هذه الشهور مدة ثمانين يوماً فقط (بعد خصم أيام الجمع والعطل الرسمية المقرّرة قانوناً).

فإنه عندما نحسب متوسط أجره اليومي طبقاً لقانون العمل القديم نقسم ما حصل عليه خلال الثلاثة شهور الأخيرة على عدد أيام العمل الفعلية فقط (وهي 80 يوماً) طبقاً لما جاء في النص السابق، لأن هذا العامل لا يعمل على أساس الوحدة الزمنية إنما يعمل على أساس الوحدة الإنتاجية، فيكون بذلك متوسط أجره اليومي هو (1200 دينار ÷ 80 يوماً = 15 ديناراً) وهذا هو عين العدالة والحق، طالما أن الأيام التي لم يعمل فيها خلال الشهور الثلاثة هي في إطار الإجازات والعطل الرسمية.

في حين لو أننا طبقنا قانون العمل الجديد لاحتساب متوسط أجره اليومي لاستوجب أولاً استخراج متوسط أجره الشهري فيكون (1200 دينار ÷ 3 شهور = 400 دينار) فيصبح بالتالي متوسط أجره اليومي هو 400 ÷ 30 = 13.333 ديناراً.

وبناء عليه يكون متوسط أجره اليومي طبقاً لقانون العمل القديم 15 ديناراً، ومتوسط أجره اليومي طبقاً لقانون العمل الجديد 13.333 ديناراً.

وهذا الفارق الكبير بين الحسابين يعد خسارةً تصيب العامل دون وجه حق بسبب التشريع الخاطئ.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات المقبلة لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف وعدم الإنصاف الواقعين على العمال من جانب قانون العمل الجديد، فضلاً عن اعوجاج نصوص هذا القانون شكلاً وتنظيماً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده البحرين.

اقرأ المزيد

قانون العمل الجديد… أسوأ قانون تشهده البحرين – علي محسن الورقاء

(1)

قلنا ذات مرة، في مقال سابق في شأن «ما يجب أن تكون عليه هوية القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها»، أنه يتوجب أن تتوافر في هؤلاء ثلاث مميزات على الأقل، وهي: (أولاًً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها؛ (وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وحيث صدر قانون العمل الجديد رقم (36) لسنة 2012 المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 2 أغسطس/ آب 2012 في العدد 3063 والذي تصدرت بداية وزارة العمل بمفردها لإعداد مسودته واقتراح نصوصه منذ عام 2001 ثم انتهى الأمر إلى إصداره بنصوصه الحالية، فأُلغي بموجبه قانون العمل القديم رقم (23) لسنة 1976 قانون رقم (14) لسنة 1993.

وبمراجعة القانون الجديد أوقفتنا العديد من نصوصه التي تحيط بها الكثير من المآخذ، سواءً من حيث الشكل أو الصياغة أو المضمون، التي لم نكن نتوقعها مطلقاً، وخاصةً أن ولادة هذا القانون جاءت بعد حملٍ دام إحدى عشرة سنة يفترض أن يكون حسن الخلقة مكتملاً غير مشوه.

وعلى رغم أن هذا القانون تضمن بعضاً من النصوص لصالح المرأة العاملة، إلاّ أن هذه النصوص لا تعدو سوى نقاط صغيرة بيضاء في وسط دائرة كبيرة سوداء كاتمة، ما يجعلنا نخرج بمحصلة نهائية أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.

ولكي لا نطيل في المقدمة نبدأ في الولوج في نصوص هذا القانون ونختار بعضاً من نصوصه ضمن دائرته السوداء، لنعقب عليها مادةً تلو الأخرى بالتعليق عليها في حلقات متسلسلة ومتتابعة نبدأها في هذه الحلقة، بما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة الرابعة على أن «يستمر العمل بأية مزايا أو شروط أفضل تكون مقررة أو تقرر في عقود العمل الفردية أو الجماعية أو أنظمة العمل بالمنشأة أو غيرها أو بموجب العرف».

هذا النص، رغم ركاكته وسوء صياغته بشكل لا يليق أن يكون نصاً في القانون، بحيث يظهر أن من قام بصياغته غير محيط بأبعاد القاعدة القانونية ولا يحسن صياغتها، فقد جاء – علاوة على ذلك – مغايراً لنص قانوني يقابله في المادة رقم (153) من قانون العمل الملغى لسنة 1976 التي ورد فيها النص التالي: «ولا يجوز المساس بما اكتسبه العامل من حقوق بمقتضى أية اتفاقية أو لوائح النظم الأساسية أو قرارات التحكيم أو ما جرى العرف أو اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال».

وبمقارنة النصين السابقين نلحظ أن قانون العمل الجديد لسنة 2012 وقف موقفاً سلبياً في غير صالح العمال، وهذا الموقف السلبي سندرك لاحقاً كم هو ضار للغاية، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: كان يفترض أن يؤكد النص سابق الذكر بعبارة واضحة لا تحتمل التأويل وبقاعدة آمرة على «عدم المساس بما اكتسبه العمال من حقوق» على النحو الذي جاء في نص المادة رقم (153) من قانون العمل السابق لسنة 1976. وهو ما خلا منه نص المادة الرابعة من قانون العمل الجديد.

ثانياً: من المقرر – طبقاً لما نصت عليه معظم القوانين والاتفاقيات العمالية الدولية – أن الحقوق العمالية تكتسب بمقتضى إحدى المصادر التالية: القانون، أو عقد العمل، أو لوائح الأنظمة الأساسية للمنشأة، أو قرارات التحكيم، أو العرف، أو ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال.

وهذه المصادر الستة نص عليها قانون العمل القديم على نحو ما تقدّم، تضفي على الحقوق العمالية صفة الحق المكتسب، بحيث يستطيع العامل بمقتضى أي واحد من هذه المصادر أن يطالب بالحق بصفته حقاً مكتسباً، ومن بين هذه المصادر كما ذكرنا «ما قد اعتاد صاحب العمل على منحه له بصورة منتظمة».

بيد أننا لو قمنا بمقارنة نص المادة رقم (153) من قانون العمل الملغى لسنة 1976 ونص المادة الرابعة من قانون العمل الجديد سابق الذكر لوجدنا أن هذا الأخير قد حذف مصدراً مهماً من مصادر الحق وهو «ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال».

فلو افترضنا مثلاً أن بنكاً من البنوك قد اعتاد على أن يصرف لموظفيه أو لبعض منهم أجر شهرٍ إضافي بنهاية كل عام ميلادي (وهو ما يطلق عليه أجر الثالث عشر) وكان هذا الاعتياد غير مبني على اتفاق صريح في عقد العمل، فإن هذا الاعتياد بمقتضى قانون العمل القديم يصبح حقاً مكتسباً للموظفين لا يستطيع البنك المساس به، من حيث أنه جاء بمقتضى قاعدة قانونية آمرة. في حين أن قانون العمل الجديد حذف عبارة «ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال» ما يعني أنه حذف مصدراً من مصادر الحق آنفة الذكر، وبالتالي يستطيع البنك في مثل الحالة المشار إليها أن يلغي صرف الراتب الثالث عشر مهما طالت مدة اعتياده على صرفه لموظفيه، ولن يكون ملزماً به كحق مكتسب بحكم القانون الجديد.

لذلك وبناءً على ما تقدّم نكون قد وقفنا على سوأة من مساوئ قانون العمل الجديد، وسنقف بالتتابع على باقي هذه المساوئ في الحلقات المقبلة.

(2)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم

(36) لسنة 2012 أشرنا في الحلقة الأولى إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: (أولاً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها.

(وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره. (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

ووقفنا في الحلقة السابقة على نص الفقرة الثانية من المادة الرابعة من القانون المذكور، والتي من خلالها أثبتنا سوء صياغة هذا النص بما يوحي أن القائمين على إعداد مسودة القانون المذكور يفتقرون إلى إحدى المميزات السالف ذكرها، فضلاً عن كون النص المشار إليه جاء في غير صالح العمال، وكأن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال استناداً للأسباب التي وقفنا عليها.

وفي هذه الحلقة سنقف على جانب من نصوص القانون المذكور لنثبت من خلاله مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته.

وذلك فيما يلي:

أولاً: في المادة العاشرة من المرسوم بقانون رقم (14) لسنة 1993 الذي ألغاه قانون العمل الجديد، جاء النص التالي: «على وزارة العمل ترشيح المقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم وتتفق مع سنهم وكفاءتهم الفنية…». هذا النص يحمل مضموناً سن بموجبه إجراءً قانونياً ملزماً التزمت به وزارة العمل طيلة السنوات الماضية، وهو ترشيح العاطلين المقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم. غير أن قانون العمل الجديد لسنة 2012 خلا من هذا النص تماماً، ما يعني أن المشرِّع رفع هذا الالتزام عن كاهل وزارة العمل.

وبإلغاء هذا الإجراء أصبحت وزارة العمل بمنأى عن أي التزام قانوني يلزمها بترشيح العاطلين المقيدين لديها ومتابعة تشغيلهم على نحو ما كانت عليه في الماضي، ليبقى التزامها محصوراً في قيد العاطلين، أو بالتنسيق مع جهات – لم يحددها القانون – لغرض توظيفهم طبقاً لما جاء في نص المادة التاسعة من قانون العمل الجديد.

و»الترشيح» المشار إليه لا يجوز تبسيط مفهومه ومضمونه ليوصف – بحسب ما يراه بعض المسئولين الجدد بوزارة العمل – بأنه مجرد اقتراح أو تنسيق لتوظيف العاطلين، إذ أنه بهذا التوصيف ننتهي إلى اجتزاء طبيعة الترشيح.

إنما هو في الحقيقة نظام يحمل في طياته توصية، أو ما يشبه بالأمر الإداري، في إطار خطة «بحرنة الوظائف» التي تخلت عنها وزارة العمل تدريجياً حتى أصبحت في «خبر كان».

وقد لمسنا في الماضي أن ترشيح وزارة العمل للمقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم وتتفق مع سنهم وكفاءتهم ومتابعة تشغيلهم وفق خطة بحرنة الوظائف كان له الأثر الملموس في توظيف نسبة لا بأس بها من العاطلين. وبإلغاء نظام الترشيح باتت وزارة العمل غير مسئولة عن أهم واجب وطني يفترض أن تقوم به على نحو ما كانت عليه في الماضي، وإن قامت به إنما تقوم به تفضلاً لا بموجب التزام قانوني.

وقد سبق أن صرح لنا أحد المسئولين بوزارة العمل خلال زيارتنا له لغرض ترشيح أحد الخريجين الجامعيين كان عاطلاً لأكثر من ثلاث سنوات ولا يزال عاطلاً، بقوله: «إن الوزارة غير مؤهلة لأن تُلزم أحداً بتشغيله وفقاً لمؤهلاته». ونحن في الواقع لا نلوم هذا المسئول لما صرح به، لأنه فطن بأن لا وجود لإلزام قانوني على هذه الوزارة بعد إلغاء النص الذي يلزمها بترشيح ذلك المواطن العاطل وإخلاء مسئوليتها من متابعة تشغيله، وبعد تعطيل خطة «بحرنة الوظائف» كما أشرنا.

ثانياًَ: بعد أن رأينا في الفقرة السابقة كيف أخلى المشرِّع (بمقتضى قانون العمل الجديد) مسئولية وزارة العمل من ترشيح العاطلين الوطنين المقيدين لديها ومن الالتزام بمتابعة تشغيلهم على نحو ما سلف بيانه، نجده اتخذ موقفاً أشد قسوة تجاه العامل الوطني استناداً لما يلي:

فبعد مراجعة قانون العمل الجديد نلحظ أنه ألغى المادة رقم (13) من قانون العمل لسنة 1976 التي ألزمت صاحب العمل بوجوب منح الأفضلية للوطني في الاستخدام، والتي جاء فيها «في حالة زيادة عدد العمال عن حاجة العمل يجب الاستغناء عن الأجنبي قبل العربي أو الوطني، وعن العربي قبل الوطني»…

بمعنى أنه كان يجب على صاحب العمل في حالة زيادة عدد عماله عن الحاجة أن يستبقي على العامل الوطني ويمنحه الأفضلية في الاستخدام دون العربي والأجنبي متى كان صالحاً لأداء العمل.

أو بمعنى آخر كان لا يجوز لصاحب العمل في حالة زيادة عماله عن الحاجة أن يفصل العامل الوطني ولديه عامل عربي أو أجنبي يماثله. وبإلغاء المادة

(13) المشار إليها جاز القول بأن قانون العمل الجديد ألغى أفضلية العامل الوطني في الاستخدام على غيره من الأجانب، فجعل العامل الوطني والأجنبي متساويين في حق الاستخدام.

وبناء على ما تقدم في الحلقة الأولى وفيما أشرنا إليه أعلاه يثبت أن المشرِّع بموجب قانون العمل الجديد قد أخذ موقفاً سلبياً فيه أكثر قتراً وبخلاً وحيفاً بحق العامل الوطني.

ثالثاً: جاء في المادة رقم (12) من قانون العمل الجديد «يجب على صاحب العمل أن يسلم العامل إيصالاً بما يودعه لدى صاحب العمل من أوراق أو شهادات أو أدوات. ويلتزم صاحب العمل بأن يرد للعامل عند انتهاء عقد العمل ما يكون قد أودعه لدى صاحب العمل».

هذا النص يوضح لنا بجلاء الاعوجاج المتين في الصياغة، وبما يثبت مجدداً أن الأيادي التي صاغت نصوص قانون العمل الجديد ليست مؤهلة لذلك.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من هذا الاعوجاج في الصياغة والتعبير والشكل، والمزيد من الحيف الذي وقع على العمال من خلال قانون العمل الجديد. ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.


 

(3)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 كنا قد بدأنا الحلقتين السابقتين بالإشارة إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: (أولاً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها. (وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره. (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وقد وقفنا في الحلقتين الماضيتين على بعض نصوص قانون العمل المذكور وأثبتنا سوء صياغتها بما يوحي أن القائمين على إعداد مسودة القانون يفتقرون لإحدى المميزات السالف ذكرها، كما رأينا كيف أن تلك النصوص هي في غير صالح الأجراء، وكأن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال على ضوء ما كنا قد انتهينا إليه.

وفي هذه الحلقة (الثالثة) سنقف على جانب آخر من نصوص القانون المذكور لنثبت مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:

أولاً: تنص المادة رقم (13) من قانون العمل الجديد على أنه «يجب على صاحب العمل إعطاء العامل – أثناء سريان عقد العمل أو عند انتهائه ودون مقابل – شهادة بما يطلبه من بيانات بشأن تاريخ التحاقه بالعمل ونوع العمل الذي قام به والأجر والمزايا الأخرى التي حصل عليها وخبرته وكفاءته المهنية وتاريخ وسبب انتهاء عقد العمل». هذه المادة تقابلها المادة رقم (119) من قانون العمل القديم ونصها هو «يمنح العامل شهادة خدمة تتضمن بياناً لمهنته ومدة خدمته وآخر أجر تقاضاه، ويرد إليه ما قد أودعه لدى صاحب العمل من أوراق أو شهادات أو أدوات».

وبمقارنة نص المادتين المذكورتين نلحظ سوء صياغة نص المادة رقم (13) من قانون العمل الجديد وعدم انتظام تركيبتها اللغوية على خلاف نص المادة (119) من قانون العمل القديم، إلاّ أن مساوئ نص المادة الأولى في الصياغة والتركيب اللغوي ليس لها من تأثير كبير مقارنةً بالضرر الذي يحمله مضمون هذا النص. فبالعودة إلى هذا النص نجد خلاصة مضمونه أنه يُلزم صاحب العمل بأن يصدر للعامل شهادة خدمة يبين فيها تاريخ التحاقه بالعمل ونوع عمله وأجره وتاريخ انتهاء خدمته وأسباب انتهائها.

ومن المقرر أنه عندما يُلزم القانون صاحب العمل بأن يذكر أسباب انهاء خدمة العامل أو سبب فصله من العمل في شهادة الخدمة المقدّمة إليه، فإن ذلك يعد أمراً خطيراً يحيق بالعامل لم نجده في جميع التشريعات العمالية الدولية، بما فيها قانون العمل البحريني القديم، لكونه يحمل في ثناياه ضرراً محضاً بالغ الشدة يصيب العامل على وجه التأكيد في بعض الحالات، كأن يكون إنهاء خدمة العامل أو فصله بسبب فقد الثقة فيه بعد أن اتهمه صاحب العمل بجرم السرقة مثلاً.

فعندما يذكر صاحب العمل هذا السبب في شهادة الخدمة سيكون ضرر هذه الشهادة على العامل أكثر من نفعها لأنها تصبح بمثابة دليل إدانة ضده، ما يضطره للاستغناء عنها بالتأكيد، وباستغنائه عنها يكون قد فقد أهم مرجع يثبت خبرته وسنوات خدمته.

علماً أن قانون العمل القديم – حاله كحال التشريعات العمالية المقارنة – كان قد حرَّم على صاحب العمل ذكر أسباب انهاء خدمة العامل في شهادة خدمته خشية أن يضار العامل من ذكرها، في حين يأتي لنا قانون العمل الجديد ليفرض على صاحب العمل بقوة القانون وجوب ذكر أسباب فصل العامل وأسباب إنهاء خدمته في شهادة الخدمة على نحو ما جاء في النص. ولذلك نخلص إلى القول ان قانون العمل الجديد في هذا الجانب قد أصاب العمال في مقتل. ولا ندري ما الحكمة من وراء ذلك يا ترى! وأي حكمة هذه التي يوظف لها قانون العمل للإضرار بالعمال بدلاً من أن يكون موظفاً لحمايتهم؟

ثانياً: تنص المادة رقم (22) من قانون العمل الجديد على انه «يحظر على صاحب العمل أن يخرج على الشروط المتفق عليها في عقد العمل الفردي، أو عقد العمل الجماعي، أو أن يُكلِّف العامل بعمل غير متفق عليه إلاّ إذا دعت الضرورة إلى ذلك منعاً لوقوع حادث أو إصلاح ما نشأ عنه، أو في حالة القوة القاهرة، على أن يكون ذلك بصفة مؤقتة. وله أن يُكلِّف العامل بعمل غير المتفق عليه إذا كان لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن عمله الأصلي، ويشترط عدم المساس بحقوق العامل».

«ويجوز لصاحب العمل تدريب العامل وتأهيله للقيام بعمل مختلف عن العمل المتفق عليه تمشياً مع التطور التكنولوجي في المنشأة…».

فلو تأملنا قليلاً في الفقرتين السابقتين سنجد فيهما ما يثير العجب:

(1) فبعد أن نص القانون في الفقرة الأولى بعدم الخروج على الشروط المتفق عليها في عقد العمل، وعدم تكليف العامل بعمل يختلف اختلافاً جوهرياً عن عمله الأصلي، عاد في الفقرة الثانية ليعطي لصاحب العمل حق تدريب العامل وتأهيله لمهنة تختلف عن المهنة المتفق عليها «تمشياً مع التطور التكنولوجي» بحسب ما جاء في النص، وهذا يعد تناقضاً ظاهراً في النص.

وكما هو متفق عليه أن التناقضَ في النصوص يزدريها، كما يزدري التناقضُ الأحكام القضائية. مع ملاحظة أن ظاهر النص يشير إلى تدريب العامل وتأهيله لوظيفة غير الوظيفة التي يشغلها، وهو أمر يثير العجب بحق.

فلو افترضنا مثلاً أن مستخدماً يعمل بمهنة مهندس متفق عليها بمقتضى شروط عقد العمل، وحيث رأينا أن القانون – بناء على الفقرة الأولى أعلاه – يُحرِّم على صاحب العمل الخروج على شروط العقد وتكليف هذا المستخدم بعمل يختلف عن عمله الأصلي، فكيف يحق لصاحب العمل في الوقت ذاته – بناء على الفقرة الثانية – إجبار المستخدم المذكور للتأهل لمهنة أخرى غير المهنة الأصلية! وليت أن القانون اشترط قبول العامل بذلك إنما جعله حقاً مطلقاً لصاحب العمل. وليت أنه أيضاً أسند حكمه هذا وعلّله بمقتضى مصلحة العمل لالتمسنا له عذراً، إنما أسنده وعلّله «للتماشي مع التطور التكنولوجي» فقط كما ورد في النص.

إذاً… هذا الحكم بتناقضه أليس هو من قبيل الهُراء؟

(2) بقراءتنا لنص الفقرة الثانية من المادة (22) السابقة، وبناءً على ما تقدم، نجد أن قانون العمل الجديد قد منح صاحب العمل – بناء على رغبته – حق إلزام العامل بتعلم مهنة غير المهنة المتفق عليها التي يعمل فيها عنده، وإن اختلفت عنها اختلافاً جوهرياً، ودون النظر إلى مصلحة العمل. فكأنه بذلك أعطى لصاحب العمل وحده وبدون مسوّغٍ قانوني، حق تقرير مسار حياة العامل المستقبلية وإجباره على تعلم مادة قد لا تروق له أو لا تتفق مع قدراته.

وطبقاً لمقررات واتفاقيات المنظمات الدولية لحقوق الإنسان؛ ان حرية العمل مكفولةٌ فلا يجوز لأحد إجبار أحدٍ على عملٍ غير راغب فيه، وهذا ما قرّره دستور مملكة البحرين في المادة (13) من أنه «لا يجوز فرض عمل إجباري على أحد إلاّ لضرورة قومية وبمقابل عادل أو تنفيذاً لحكم قضائي». فإذا كان إجبار شخص على عمل غير راغب فيه لا يجوز بموجب الدستور، فكيف يجوز لشخص أن يقرر مسار حياة شخص آخر دون إرادته وبدون مسوِّغ .

إنها بحق لصورةٌ مقلوبة، وهذه الصورة المقلوبة لم نرها إلاّ في قانون العمل الجديد، وهذه الصورة وما سبق لنا ذكرها ما هي إلاّ غيض من فيض.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الحيف الذي وقع على العمال من قبل قانون العمل الجديد واعوجاج نصوصه شكلاً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهد مملكة البحرين.


 

(4)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 أشرنا في الحلقات الثلاث السابقة إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: معرفة القاعدة القانونية؛ الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ ومعاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وقد وقفنا على بعض نصوص قانون العمل المذكور وأثبتنا من خلالها سوء صياغة تلك النصوص بما يوحي أن القائمين على إعداد مسودته يفتقرون إلى إحدى المميزات السالف ذكرها، كما رأينا كيف أن تلك النصوص هي في غير صالح الأُجَراء، وكأن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال على ضوء ما انتهينا إليه.

وحيث كنا ولانزال ننعت قانون العمل الجديد بأنه «أسوأ قانون تشهده البحرين»، استوجب التنويه إلى أن هذا النعت لم يكن بسبب ما علق بنصوصه من سوء صياغة وركاكة في التعبير، أو لسوء تنظيم وغير ذلك وحسب، أو لأنه تضمن نصوصاً ليست في صالح الأجراء؛ إنما سوأته العظمى تكمن في تراجعه إلى الأسوأ بحيث وجدناه قد سلب من العمال الكثير من الحقوق والمنافع والمميزات المقررة لهم في القوانين التي سبقته، أو زاد عليهم ثقلاً لم يكونوا يحملونه من قبل، في حين كان يفترض أن يأتي هذا القانون بالأفضل للأجراء، من حيث أنه يفترض كلما رقت الحضارة وتقدمت ثقافة المجتمع كلما سمت قوانين العمل بما تكفل للعمال حماية أكثر ورعاية أسمى ومصالح أوفى، لا أن تسلب منهم ما كان مقرراً لهم سلفاً، أو أن تُضيف ثقلاً عليهم لم يكونوا يحملونه من قبل، على نحو ما أثبتناه في الحلقات السابقة وما سنثبته تباعاً في الحلقات التالية. ولهذا جاز لنا أن ننعته بأنه «أسوأ قانون تشهد البحرين».

وفي هذه الحلقة (الرابعة) سنقف على جانب آخر من نصوص القانون لنثبت مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:

أولاً: تنص المادة رقم (40) من قانون العمل القديم لسنة 1976 «تُحرر جميع العقود باللغة العربية، وكذلك المراسلات والتعليمات والنشرات واللوائح التي يصدرها صاحب العمل لعماله».

وكان المشرِّع يهدف من وراء هذا النص حماية العمال العرب، وعلى وجه الخصوص العمال الوطنيين، خشية أن يوجه إليهم أرباب العمل إخطارات أو إنذارات أو تنبيهات بلغة أجنبية يصعب عليهم فهم مضمونها فتكون رغم ذلك حجة عليهم. ومن ثم كان يعتبر أي إخطار أو تنبيه محرر بلغة أجنبية لا يحظى بالحجية كورقة قانونية في مواجهة من أُرسل إليه من العمال ما لم يكن مشفوعاً بترجمة له باللغة العربية، وذلك استناداً للحكم الوارد في النص السابق. بيد أن قانون العمل الجديد حذف هذا النص من نصوصه، مما ترتب عليه أن أصبح صاحب العمل غير ملزم بتحرير مراسلاته وتعليماته ونشراته ولوائحه وإنذاراته التي يصدرها أو يوجهها للعمال باللغة العربية كما كان ملزماً بمقتضى قانون العمل السابق، دون أن نعرف الغاية من ذلك، اللهم إلاّ إذا رأى المشرِّعون الجدد أن البحرين أصبحت خارج المنظومة العربية، أو أنهم رأوا أن المستندات المحرّرة بلغة أجنبية وغير المترجمة مقبولة كدليل إثبات في مواجهة العمال خلافاً لقواعد الإثبات المقررة قانوناً. وفي غير ذلك يصبح حذف النص المشار إليه من قانون العمل الجديد مخالفاً لقواعد الإثبات بما يفضي إلى رفع الحماية عن العمال في هذا الجانب دون مسوغ، وفي ذلك إجحاف بحقهم.

ثانياً: تنص الفقرة الثانية من المادة رقم (11) من قانون العمل الجديد بالآتي: «يصدر الوزير، بعد أخذ رأي الوزارات المعنية وغرفة تجارة وصناعة البحرين والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين قراراً بتحديد اشتراطات ومواصفات المساكن وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدم للعامل في كل وجبة…». «والوزير» المشار إليه في النص هو الوزير المختص بشئون العمل في القطاع الأهلي، أي وزير العمل، بحسب التعريفات الواردة في الفصل الأول من قانون العمل الجديد.

وبالعودة إلى النص أعلاه نجد أن قانون العمل الجديد قد أناط لوزير العمل تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال، وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدم للعمال بعد التشاور مع الجهات المذكورة في النص. بيد أنه من المقرر أن تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال وتحديد أصناف وكميات الطعام هي من المسائل الصحية التي تختص بها وزارة الصحة العامة وحدها، وإن أي قرار بشأنها يجب أن يصدر من وزير الصحة وليس من وزير العمل، لذلك سبق وأن أصدر وزير الصحة القرار الوزاري رقم (8) لسنة 1978 بشأن تحديد الاشتراطات والمواصفات الصحية لمساكن العمال والذي لايزال معمولاً به حتى الآن.

وإذا كان هناك ثمة من يعتقد أن كل ما يتعلق بأمور العمال يقع تحت رقابة وإشراف وزارة العمل فهو خاطئ، ونؤكد له خطأ هذا الاعتقاد بدليل أنه في مجال الصحة لا يجوز للمفتش العمالي التابع لوزارة العمل التفتيش على كل ما يتصل بالأمور الصحية (ومنها مساكن العمال) إلاّ بصحبة مفتش من وزارة الصحة العامة، وذلك طبقاً لنص المادة رقم (22) من القرار الوزاري رقم (28) لسنة 1976 في شأن تنظيم أعمال التفتيش، التي تنص على أن «يتم ضبط المخالفات وتحرير المحاضر في مجالي الصحة والسلامة المهنية عن طريق مفتش العمل… وعلى مفتش العمل مصاحبة مسئول السلامة المهنية ومسئول الصحة المهنية بوزارة الصحة في هذا النوع من التفتيش كل بحسب اختصاصه».

فإذا كان الأمر ذلك، وجب قانوناً تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال، وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدّم للعمال بموجب قرار يصدره وزير الصحة – وإنْ لزم الأمر أن يكون ذلك بالاتفاق مع وزير العمل – لا بقرار يصدره وزير العمل، وعلى ألاّ تُحشر غرفة تجارة وصناعة البحرين ومعها الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين في هذا الشأن باعتبارهما ليسا جهة اختصاص وغير مؤهلين لذلك.

وعليه فإن الفقرة الثانية من المادة رقم (11) من قانون العمل الجديد محل البحث هي إحدى الصور المقلوبة في هذا القانون، ولا نماري من يعتقد أن انقلاب هذه الصورة يعود إلى أن المشرعين الجدد يفتقرون إلى الميزة الثانية التي أشرنا إليها في بداية الكلام (الخبرة في مجال العمل)، ولذلك غاب عليهم معرفة الوزارة أو الوزير المختص في هذا الشأن.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف والحيف الواقعين على العمال من قبل قانون العمل الجديد واعوجاج نصوصه شكلاً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهد مملكة البحرين، على أننا سنخصص الحلقة القادمة في شأن الأحكام الخاصة بالنساء العاملات وما طرأ على حقوقهن من تغيير في هذا القانون في غير صالحهن.


 

(5)

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 بدأنا الحلقات السابقة بالإشارة إلى وجوب أن تتوافر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات: معرفة القاعدة القانونية من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها؛ والخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ ومعاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وقد وقفنا في الحلقات الماضية على بعض نصوص قانون العمل المذكور ورأينا كيف أن تلك النصوص مجحفة بحق الأجَراء، وكأن المشرِّع مال إلى جانب أصحاب الأعمال وأخذ موقفاً سلبياً نحو العمال على ضوء ما انتهينا إليه.

وفي هذه الحلقة (الخامسة) سنقف على جانب آخر من نصوص القانون المذكور، وذلك في جانب من الجزء المتعلق بالنساء العاملات لنثبت من خلاله مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:

أولاً: تنص المادة رقم (30) من قانون العمل الجديد «يصدر الوزير قراراً بتحديد الأعمال والمناسبات التي لا يجوز فيها تشغيل النساء ليلاً». هذه المادة تقابلها المادة رقم (59) من قانون العمل القديم لسنة 1976 التي تنص على أنه «لا يجوز تشغيل النساء ليلاً…. ويستثنى من ذلك دور العلاج والمنشآت الأخرى التي يصدر بشأن العمل بها قرار من وزير العمل».

وبمقارنة النصين نلحظ أن قانون العمل القديم اعتبر حظر تشغيل النساء ليلاً هو الأصل، وأن ما يقرره وزير العمل بجواز تشغيلهن ليلاً في حالات معينة هو الاستثناء، ذلك لأن المشرِّع كان قد نظر إلى النساء العاملات نظرة خاصة فمنع تشغيلهن ليلاً من حيث الأصل نظراً لتكوين المرأة الجسماني والصحي من جانب، ونظراً للتقاليد الموروثة في المجتمعات الإسلامية التي تتجه إلى وضع ضمانات لحماية المرأة خلقياً وتربوياً من جهة أخرى. بينما قانون العمل الجديد قلب الصورة رأساً على عقب فجعل جواز تشغيل النساء ليلاً هو الأصل، وما يقرّره وزير العمل بمنع تشغيلهن في حالات معينة هو الاستثناء. وهذا الانقلاب في الصور له تداعيات خطيرة على النساء العاملات لم يفطن إليه المشرّعون الجدد بالتأكيد. ومن تداعيات هذا الانقلاب:

سيكون من الآن وصاعداً لأصحاب الأعمال الحق في تشغيل النساء العاملات ليلاً في كل الأعمال وفي كل الأماكن دون استثناء إلى أن يصدر وزير العمل قراراً يستثني فيه الأعمال والأماكن التي لا يجوز فيها تشغيلهن ليلاً.

ولذلك نلتمس العذر من السيدات العاملات إنْ قلنا لهن عليكن الانتظار طويلاً إلى حين صدور هذا القرار.

إذا افترضنا جدلاً أن وزير العمل أصدر القرار المنتظر بشكل عاجل، والذي سيحدد فيه الأعمال والأماكن التي لا يجوز فيها تشغيل النساء ليلاً استثناءً من الأصل، غير أنه من المعروف أن الاستثناء هو من حيث الكم أقل من الأصل، بمعنى أن النساء سيجبرن على العمل ليلاً في كل الأعمال وفي كل الأماكن إلاَّ القليل فيما يستثنى منها.

وحيث ان الاستثناء لا يقبل القياس ولا التشبيه إنما هو محصورٌ فيما حُصر فقط، فإنه والحال ذلك يلزم حصر الأعمال والأماكن المستثناة التي لا يجوز تشغيل النساء فيها ليلاً وتحديدها تحديداً دقيقاً ومتكاملاً ووافياً.

وهذا التحديد الدقيق والمتكامل والوافي هو من الصعوبة بمكان إدراكه أو حصره، بل من الصعوبة التنبؤ بثباته واستقراره في ظل ظروفٍ ومناخٍ مهني وصناعي مُعقَّد ومتقلب غير ثابت. وبالتالي فإن القرار الوزاري المنتظر صدوره في شأن تحديد الأعمال أو الأماكن التي لا يجوز تشغيل النساء فيها ليلاً سيكون قاصراً عن احتواء هذه الأعمال وهذه الأماكن إلاّ في منظور زمني قريب، وإنْ احتواها فإنها ستظل بالطبع في حدود دائرةٍ ضيقة، وسيبقى الأصل (تشغيل النساء ليلاً) في الدائرة الأكبر والأوسع، بخلاف لو أن حظر تشغيل النساء ليلاً كان هو الأصل – على نحو ما كان عليه قانون العمل القديم – فإن الاستثناء بتشغيل النساء ليلاً سيبقى بالتأكيد في حدود دائرته الضيقة.

وعليه نخلص إلى أن قانون العمل الجديد حيث قلب الصورة على نحو ما تقدّم، فإن هذا الانقلاب سيرتد على النساء العاملات بضرر اجتماعي وجسدي لا تحمد عقباه.

ثانياً: جاء في المادة رقم (32) من قانون العمل الجديد لسنة 2012 على:

أ – «تحصل العاملة على إجازة وضع مدفوعة الأجر مدتها ستون يوماً، تشمل المدة التي تسبق الوضع والتي تليه…، ويجوز أن تحصل على إجازة بدون أجر بمناسبة الوضع مدتها خمسة عشر يوماً علاوة على الإجازة السابقة».

ب – يحظر تشغيل العاملة خلال الأيام الأربعين التالية للوضع…».

والمتأمل إلى النص السابق بفقرتيه يُقدِّر أن المشرِّعين الجدد غير محيطين بأبعاد القاعدة القانونية وشروطها، وهذه إحدى الميزات التي أشرنا إليها في بداية الحلقة.

فالقاعدة القانونية هي إمّا أن تكون قاعدة قانونية آمرة تتعلق بالنظام العام لا يجوز مخالفتها مطلقاً أياً تكن الأسباب وإنْ برضى العامل وصاحب العمل معاً. وإما أن تكون غير ذلك، أي لا تتعلق بالنظام ويجوز مخالفتها بالتراضي.

ومن المسلم به أنه عندما يضع القانون قاعدة قانونية لا تتعلق بالنظام العام بحيث يجوز مخالفتها بالتراضي فإن هذه القاعدة لن تكون بذات قوة القاعدة القانونية المتعلقة بالنظام العام التي لا يجوز مخالفتها، وبفقدانها هذه القوة سوف لن تحمي الطرف الضعيف كالعامل مثلاً، إذ قد يرضخ العامل أو يُجبر على قبول مخالفتها قسراً.

بعد هذه المقدمة نعود إلى النص السابق، فنلحظ في الفقرة (أ) أن القانون وضع قاعدةً قانونيةً منح بموجبها المرأة العاملة إجازة وضع مدتها ستون يوماً، وفي الفقرة (ب) حَظَرَ القانون تشغيل المرأة العاملة خلال الأربعين يوماً من تاريخ ولادتها.

وهذا يعني أن قاعدة «حظر تشغيل المرأة خلال الأربعين يوماً من تاريخ ولادتها» قاعدة قانونية آمرة لا يجوز مخالفتها وإنْ برضى صاحب العمل والعاملة. أما بعد الأربعين يوماً تنقلب هذه القاعدة إلى قاعدة قانونية لا تتعلق بالنظام العام فيجوز مخالفتها. وهنا تكمن الخطورة على العاملة، إذ قد يضغط عليها صاحب العمل بطلب العودة إلى العمل بعد مضي مدة أربعين يوماً من تاريخ ولادتها، أي قبل عشرين يوماً من انتهاء مدة الإجازة المقررة قانوناً، فترجع مرغمةً، وإن قبلت بذلك من حيث الظاهر لكي ترضي صاحب العمل خشية ألاّ يتخذ ضدها موقفاً سلبياً لاحقاً، طالما لا توجد أمامه قاعدة قانونية آمرة تتعلق بالنظام العام تردعه أو تمنعه من الضغط عليها.

ومن ثم نخلص إلى القول إن الفقرة (ب) من المادة رقم (32) من قانون العمل الجديد سابقة الذكر ليست موفقة، من حيث أنها قد تشكل ضرراً بالغاً على العاملة بخسارتها ثلث إجازة الولادة المقرّرة لها قانوناً للأسباب التي أشرنا إليها، وللأسف أن يكون سبب هذه الخسارة عائداً لحكم القانون.

وهذا يعني أن قانون العمل الجديد بعد أن منح المرأة العاملة إجازة ولادة تزيد عمّا منحها قانون العمل القديم عاد وأخذ منها هذه الزيادة بطريقة قانونية، كالذي يُعطي باليد اليمنى ويسترجع ما أعطاه باليد اليسرى، وهذا هو منتهى الإجحاف.

ولنا لقاء متواصل في حلقات قادمة متتابعة، وسنخصص الحلقة القادمة للوقوف على بقية النصوص الخاصة بالنساء العاملات لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف والحيف الواقعين على العمال والعاملات من قبل قانون العمل الجديد واعوجاج نصوصه شكلاً وصياغةً وتنظيماً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهد مملكة البحرين.


 


 

اقرأ المزيد

قانون العمل الجديد… أسوأ قانون تشهده البحرين (4) – المحامي علي محسن الورقاء

المقال بجزئيه الأول والثاني


http://www.altaqadomi.com/ar-BH/ViewArticle/20/4597/Selected_articles.aspx


الجزء الثالث


http://www.altaqadomi.com/ar-BH/ViewArticle/20/4617/Selected_articles.aspx


 

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 أشرنا في الحلقات الثلاث السابقة إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: معرفة القاعدة القانونية؛ الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ ومعاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

وقد وقفنا على بعض نصوص قانون العمل المذكور وأثبتنا من خلالها سوء صياغة تلك النصوص بما يوحي أن القائمين على إعداد مسودته يفتقرون إلى إحدى المميزات السالف ذكرها، كما رأينا كيف أن تلك النصوص هي في غير صالح الأُجَراء، وكأن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال على ضوء ما انتهينا إليه.

وحيث كنا ولانزال ننعت قانون العمل الجديد بأنه «أسوأ قانون تشهده البحرين»، استوجب التنويه إلى أن هذا النعت لم يكن بسبب ما علق بنصوصه من سوء صياغة وركاكة في التعبير، أو لسوء تنظيم وغير ذلك وحسب، أو لأنه تضمن نصوصاً ليست في صالح الأجراء؛ إنما سوأته العظمى تكمن في تراجعه إلى الأسوأ بحيث وجدناه قد سلب من العمال الكثير من الحقوق والمنافع والمميزات المقررة لهم في القوانين التي سبقته، أو زاد عليهم ثقلاً لم يكونوا يحملونه من قبل، في حين كان يفترض أن يأتي هذا القانون بالأفضل للأجراء، من حيث أنه يفترض كلما رقت الحضارة وتقدمت ثقافة المجتمع كلما سمت قوانين العمل بما تكفل للعمال حماية أكثر ورعاية أسمى ومصالح أوفى، لا أن تسلب منهم ما كان مقرراً لهم سلفاً، أو أن تُضيف ثقلاً عليهم لم يكونوا يحملونه من قبل، على نحو ما أثبتناه في الحلقات السابقة وما سنثبته تباعاً في الحلقات التالية. ولهذا جاز لنا أن ننعته بأنه «أسوأ قانون تشهد البحرين».

وفي هذه الحلقة (الرابعة) سنقف على جانب آخر من نصوص القانون لنثبت مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:

أولاً: تنص المادة رقم (40) من قانون العمل القديم لسنة 1976 «تُحرر جميع العقود باللغة العربية، وكذلك المراسلات والتعليمات والنشرات واللوائح التي يصدرها صاحب العمل لعماله».

وكان المشرِّع يهدف من وراء هذا النص حماية العمال العرب، وعلى وجه الخصوص العمال الوطنيين، خشية أن يوجه إليهم أرباب العمل إخطارات أو إنذارات أو تنبيهات بلغة أجنبية يصعب عليهم فهم مضمونها فتكون رغم ذلك حجة عليهم. ومن ثم كان يعتبر أي إخطار أو تنبيه محرر بلغة أجنبية لا يحظى بالحجية كورقة قانونية في مواجهة من أُرسل إليه من العمال ما لم يكن مشفوعاً بترجمة له باللغة العربية، وذلك استناداً للحكم الوارد في النص السابق. بيد أن قانون العمل الجديد حذف هذا النص من نصوصه، مما ترتب عليه أن أصبح صاحب العمل غير ملزم بتحرير مراسلاته وتعليماته ونشراته ولوائحه وإنذاراته التي يصدرها أو يوجهها للعمال باللغة العربية كما كان ملزماً بمقتضى قانون العمل السابق، دون أن نعرف الغاية من ذلك، اللهم إلاّ إذا رأى المشرِّعون الجدد أن البحرين أصبحت خارج المنظومة العربية، أو أنهم رأوا أن المستندات المحرّرة بلغة أجنبية وغير المترجمة مقبولة كدليل إثبات في مواجهة العمال خلافاً لقواعد الإثبات المقررة قانوناً. وفي غير ذلك يصبح حذف النص المشار إليه من قانون العمل الجديد مخالفاً لقواعد الإثبات بما يفضي إلى رفع الحماية عن العمال في هذا الجانب دون مسوغ، وفي ذلك إجحاف بحقهم.

ثانياً: تنص الفقرة الثانية من المادة رقم (11) من قانون العمل الجديد بالآتي: «يصدر الوزير، بعد أخذ رأي الوزارات المعنية وغرفة تجارة وصناعة البحرين والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين قراراً بتحديد اشتراطات ومواصفات المساكن وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدم للعامل في كل وجبة…». «والوزير» المشار إليه في النص هو الوزير المختص بشئون العمل في القطاع الأهلي، أي وزير العمل، بحسب التعريفات الواردة في الفصل الأول من قانون العمل الجديد.

وبالعودة إلى النص أعلاه نجد أن قانون العمل الجديد قد أناط لوزير العمل تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال، وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدم للعمال بعد التشاور مع الجهات المذكورة في النص. بيد أنه من المقرر أن تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال وتحديد أصناف وكميات الطعام هي من المسائل الصحية التي تختص بها وزارة الصحة العامة وحدها، وإن أي قرار بشأنها يجب أن يصدر من وزير الصحة وليس من وزير العمل، لذلك سبق وأن أصدر وزير الصحة القرار الوزاري رقم (8) لسنة 1978 بشأن تحديد الاشتراطات والمواصفات الصحية لمساكن العمال والذي لايزال معمولاً به حتى الآن.

وإذا كان هناك ثمة من يعتقد أن كل ما يتعلق بأمور العمال يقع تحت رقابة وإشراف وزارة العمل فهو خاطئ، ونؤكد له خطأ هذا الاعتقاد بدليل أنه في مجال الصحة لا يجوز للمفتش العمالي التابع لوزارة العمل التفتيش على كل ما يتصل بالأمور الصحية (ومنها مساكن العمال) إلاّ بصحبة مفتش من وزارة الصحة العامة، وذلك طبقاً لنص المادة رقم (22) من القرار الوزاري رقم (28) لسنة 1976 في شأن تنظيم أعمال التفتيش، التي تنص على أن «يتم ضبط المخالفات وتحرير المحاضر في مجالي الصحة والسلامة المهنية عن طريق مفتش العمل… وعلى مفتش العمل مصاحبة مسئول السلامة المهنية ومسئول الصحة المهنية بوزارة الصحة في هذا النوع من التفتيش كل بحسب اختصاصه».

فإذا كان الأمر ذلك، وجب قانوناً تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال، وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدّم للعمال بموجب قرار يصدره وزير الصحة – وإنْ لزم الأمر أن يكون ذلك بالاتفاق مع وزير العمل – لا بقرار يصدره وزير العمل، وعلى ألاّ تُحشر غرفة تجارة وصناعة البحرين ومعها الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين في هذا الشأن باعتبارهما ليسا جهة اختصاص وغير مؤهلين لذلك.

وعليه فإن الفقرة الثانية من المادة رقم (11) من قانون العمل الجديد محل البحث هي إحدى الصور المقلوبة في هذا القانون، ولا نماري من يعتقد أن انقلاب هذه الصورة يعود إلى أن المشرعين الجدد يفتقرون إلى الميزة الثانية التي أشرنا إليها في بداية الكلام (الخبرة في مجال العمل)، ولذلك غاب عليهم معرفة الوزارة أو الوزير المختص في هذا الشأن.

ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف والحيف الواقعين على العمال من قبل قانون العمل الجديد واعوجاج نصوصه شكلاً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهد مملكة البحرين، على أننا سنخصص الحلقة القادمة في شأن الأحكام الخاصة بالنساء العاملات وما طرأ على حقوقهن من تغيير في هذا القانون في غير صالحهن.

علي محسن الورقاء
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد