المنشور

الملا: «العلمانية» ستجنبنا الطائفية… والحركات الدينية شوهت بحقدٍ صور اليساريين والشيوعيين

مدينة عيسى – حسن المدحوب 

شدد المحامي حميد علي الملا على أن الانطلاق نحو العلمانية سيجنبنا ويلات الحروب الطائفية وشرور الإرهاب المتفشي كالسرطان في مجتمعاتنا ويساعدها على التحرر من العبودية ومن الاستبداد.

وأضاف في ندوة قدمها في مقر جمعية المنبر التقدمي في مدينة عيسى، مساء الأحد (2 أبريل/ نيسان 2017)، تحت عنوان لماذا العلمانية وكيف نفهمها؟، أن الحركات الدينية ومراجعها قامت بنفث سموم الحقد والكراهية ضد من يخالفهم الرأي وخصوصاً العلمانيين واليساريين والشيوعيين وتشويه صورتهم أمام الرأي العام المحلي.

وفي بداية ورقته، قال الملا: قبل الولوج في تعريف العلمانية لابد من طرح بعض الأسئلة والإجابة عليها حتى نزيل أي لَبْس في هذا الموضوع وحتى نبسط البحث ومن ثم نفكك المفاهيم قدر المستطاع، ولنبرهن على أن العلمانية هي أسلوب حكم وحياة لمن يود من الشعوب أن يعيش فى ود وسلام ووئام، فلماذا العلمانية وتحديداً في هذا الوقت بالذات؟ ولماذا يقف رجال الدين جميعاً وعلى مختلف اتجاهاتهم المرجعية ضدها؟ ولماذا يكيلون لها مختلف النعوت ويجعلونها مرادفاً للإلحاد والانحلال الخلقي والفسق؟ ولماذا يعتبرون العلمانية ضد الدين بل كفراً يجب محاربته؟ هل لأن العلمانية تهدد الأديان وعلى الأخص الدين الإسلامي كما يزعمون؟ أم لأن العلمانية نتاج غربي؟ هل العلمانية يمكن لها أن تطبق في الغرب وليس بالمستطاع تطبيقها في الشرق؟ هل العلمانية ستفسد المجتمع أم ستصلحه؟.

وأكمل قبل كل شيء العلمانية هي مصطلح غربي وجذورها تعود إلى الفلسفة اليونانية القديمة لفلاسفة يونانيين أمثال أبيقور، غير أنها خرجت بمفهومها الحديث خلال عصر التنوير الأوربي على يد عدد من المفكرين أمثال توماس جيفرسون وفولتير وغيرهما وهي نتاج تطور المجتمعات منذ القرن الخامس عشر وأول من استخدم هذا المصطلح المفكر الإنجليزي جورج هوليوك عام 1851 وكان يقصد به الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية واستقلال الملك عن الكنيسة.

وواصل كما أن الفيلسوف الإنجليزي الأخر جون لوك واضع أسس العلمانية في القرن السابع عِشر كان قد عنى بالعلمانية الفصل بين الحكومة والدين والفصل بين السلطات وكان يرى أن وظيفة الدولة هي رعاية مصالح المواطنين الدنيوية، أما الدين فيسعى إلى خلاص النفوس فى الآخرة، وأراد بذلك أن ينقذ الدين من تلاعب السلطة به واستخدامه لأغراضها، ورأى أن انحياز الدولة لدين معين يشجع على النفاق والتدين الشكلي، فضلاً عن أنه يهدد وحدة الدولة والتعايش السلمي بين المواطنين، كذلك تشارلز تايلور فصل الدولة عن مؤسسة الدين أي أن الدولة لا يتصور أن ترتبط بأي معتقد ديني معين بشكل رسمي، أي أن الدولة يجب أن تكون على الحياد في علاقاتها بكل المكونات المختلفة دينية أو غيرها.

وأضاف وعلى هذا الأساس ومع تطور المجتمعات والصراع الطبقي وظهور مفاهيم جديدة وحقوق عديدة تطور هذا المفهوم ليصبح منظومة متكاملة وشاملة تدخل في صلب العلمانية ألا وهي المواطنة، الحرية، حقوق الإنسان، العقلانية، المساواة، حكم القانون، التنوير، الديمقراطية، دولة المؤسسات، أي حزمة كاملة من المصطلحات تشكل الأرجل التي تقف عليها الدولة الحديثة المعاصرة.

وأوضح وخلاصة ما تقدم يمكن لنا أن نعرف الدولة العلمانية بأنها هي تلك الدولة التي تقوم بالفصل بين مختلف السلطات وتخضع كل المؤسسات السياسية والمالية والعلمية والدينية للقانون المدني، على أن تضمن على وجه الخصوص المساواة الكلية بين كل الأديان السماوية وغيرها بما فيها اللادينية والإلحادية، ولا ثمة شك فى أن الدولة العلمانية قد حققت إنجازات عظيمة على الصعيد الحضاري من حيث إنهاء الصراعات والاضطهاد الطائفي والحروب الدينية والقضاء على العنصرية واحترام حقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة.

وقال الملا: يمكننا أن نقول بأن العلمانية ليست أيديولوجيا أو عقيدة بل هي طريقة للحكم ترفض وضع الدين أو غيره كمرجع رسمي للحياة السياسية والقانونية وإنما اهتمامها ينصب على الأمور الحياتية للبشر بدلاً من الأمور الأخروية، أي المادية الملموسة بدلاً من الغيبية.

وتابع ومن المفيد أن نوضح بأن بعض الدول قد نصت دساتيرها صراحة على هويتها العلمانية مثل الولايات المتحدة وفرنسا وكوريا الجنوبية والهند وكندا والبعض الآخر لم يذكر العلمانية ولكنها لم تحدد دينا للدولة كمعظم الدول الأوربية وأستراليا ونيوزلندا.

وأفاد ويخلص حبيب سروري إلى أن الدولة العلمانية تتكئ على مبدأين جوهريين هما، أولاً: تفصل الدولة العلمانية بين مجالين مختلفين في حياة الناس: العام والخاص فالمجال العام يضم المدرسة، والفضاء المدني عموماً، مكرس لما يخدم جميع الناس، بغض النظر عن أصولهم وألوانهم ومعتقداتهم الدينية أو ميولهم الإلحادية، لا مرجعية فيه لأي دين أو فلسفة الحادية، أما المجال الخاص يستوعب كل المعتقدات والرؤى الشخصية، دينية كانت أم لا دينية أو إلحادية.

وواصل والمبدأ الثاني تضمن الدولة العلمانية المساواة الكلية بين كل المتدينين بمختلف مذاهبهم، واللامتدينين والملحدين أيضاً، تدافع عن حريتهم المطلقة في إيمانهم أو عدم إيمانهم (حرية الضمير) وتحترمها بحق، وبذلك فإن الدين فى الدولة العلمانية يتحول إلى حالة روحية خالصة لا يستطيع السياسي تسييسها واللعب بهذه المشاعر الدينية لغايات دنيوية.

وأشار إلى أنه لاشك في أن الدولة العلمانية أخذت بيد شعوبها إلى التقدم وانتشلتها من الظلمات إلى النور وهذا ينطبق على الدول بغض النظر عن توجهاتها الرأسمالية أو الاشتراكية، ولكن علينا أيضاً أن نطرح السؤال التالي: هل من السهولة بمكان تطبيق العلمانية في بلداننا دون عراقيل؟ جواباً على هذا السؤال أسارع وأقول كلا، فالتعقيدات كثيرة والتحديات كبيرة والصعوبات عديدة، فمن جهة الظلاميون الذين يمارسون أشنع وأبشع التأويلات والتضليلات والنعوت في الهجوم على العلمانية والعلمانيين، ومن جهة أخرى الحكام العرب الذين يتاجرون بالدِّين ويستخدمون فقهاء السلاطين للسيطرة على عقول وقلوب المواطنين لممارسة تسلطهم، كما أن هنالك أيضاً البعض من المثقفين يرى بأن العلمانية مفهوم غربي استعماري والبعض الآخر ونتيجة للخوف من سطوة التيارات الدينية يتجنب الدفاع عنها ويتخفون بين ثنايا اللاهوتية ويستخدمون مفاهيم ملتبسة ويستعيضون عنها بمفاهيم كالدولة المدنية التي هي ولاشك خطوة متقدمة عن الدولة الدينية من حيث أنها أي الدولة المدنية تحقق جملة من المطالَب كالديمقراطية والمواطنة المتساوية وحقوق الإنسان والحريات وغيرها من الأمور التي تحتاجها الشعوب من أجل التطور والتنمية ولكن ضمن إطار الشريعة.

وواصل وفِي هذا الإطار فأن الدولة المدنية لم تخرج عن عباءة الدولة الدينية إلا من حيث النزعة نحو الديمقراطية استجابة لمتطلبات العصر، وهذا لن ينهي الصراعات والحروب الدينية والاضطهاد الطائفي، وهنالك عينة أخرى من المثقفين ترى فى الدول العلمانية سلوكها اللا إنساني المنافق، كما يحدث حالياً في الحرب على الإرهاب وكما حدث سابقاً في التحالف مع أعتى الدول الرجعية والحركات الإرهابية في أفغانستان بحجة الدفاع عن الإسلام ضد الشيوعية الكافرة.

وأكمل ومع ذلك نقول كما قال فرج فوده الذي تم اغتياله بسبب آرائه الجريئة في كتابه (حوار حول العلمانية) إنكار العلمانية جهل بالحضارة الحديثة، وإطلاق صفة الكفر على العلمانية جهل بالعلمانية، والدعوة للدولة الدينية جهل بحقوق الإنسان، والمناداة بعودة الخلافة جهل بالتاريخ، إذ يجب النظر إلى العلمانية كمجرى تاريخي موضوعي يتطور دائماً بتشابك الأفكار المختلفة وتفاعلها، أي أنه يجب النظر إلى تاريخ العلمانية كمنظومة من المدارس والتيارات المتفاعلة، مع كونها جميعاً في نزوع دائم إلى الارتقاء والتطور حسب احتياجات المجتمعات ومتطلباتها المعيشية.

وذكر أن تحليل تاريخ العلمانية يكشف أنها كانت حركة صاعدة بحيث كانت في كل مرحلة لاحقة تتغلب على نواقص مرحلتها السابقة، ولا ثمة شك في أن التيارات الدينية بمختلف التلاوين قد بالغوا في استخدام الدين ذريعة لتشويه فكرة العلمانية، وتبشيع صورتها كما استخدم أيضاً لكبح جماح التطلعات العقلانية التي تدعو لها العلمانية والتطور الحر المستقل للعقل البشري المبدع، وأن موجة العداء هذه لم تكن لتبلغ هذا الحد لولا الخوف من أن العلمانية ستصيغ حياة بعيدة عن اللاهوت والغيبيات، ليمتد هذا العداء حتى للعلوم الطبيعة والفلسفة والرياضيات كمرتكزات أساسية للعلمانية.

وختم المحامي الملا ومن حصيلة ما تقدم نرى أن العلمانية هي التي بإمكانها انتشال مجتمعاتنا من التخلف وهي محطة من محطات التقدم لإبعاد المقدسات من التلاعب بها من رجس البشر ليصبح العلم هو المقياس للتقدم، وأن الانطلاق نحو العلمانية سيجنبنا ويلات الحروب الطائفية وشرور الإرهاب المتفشي كالسرطان في مجتمعاتنا ويساعدها على التحرر.

 

صحيفة الوسط

العدد 5323 – الثلثاء 04 أبريل 2017م الموافق 07 رجب 1438هـ

اقرأ المزيد

الاستقالة.. الموقف والإدانة..!!

ـ1ـ

أخيرًا، وجدنا شخصية عربية تستقيل من منصب دولي رفيع لأنها رفضت أن تكون إمعةً، او جزءًا من ثقافة قطيع السمع والطاعة، والهوان والمهانة، واللامبادئ واللاضمير، ويشهد لها أنها امتلكت الجرأة والوضوح حين قالت في حيثيات استقالتها «استقلت لأنني أرى من واجبي إلا أكتم شهادة حق عن أمور غير مقبولة ولا يمكن أن تصبح مقبولة بفعل الحسابات السياسية او سلطان القوة، وأصر على كل استنتاجات التقرير»، رافضة بذلك ضغوط إسرائيل وحلفائها على أمين عام الأمم المتحدة للتنصل من تقرير نشر في 15 مارس، وهو أول تقرير استقصائي علمي مبني على تعريف القانون الدولي لجريمة الأبرتايد، وهو موثق بالأدلة لسياسات إسرائيل وممارساتها تجاه الشعب الفلسطيني ويثبت أن إسرائيل دولة عنصرية وتمارس سياسات فصل عنصري وفقًا للقانون الدولي، الذي يعتبر أن نظام «الأبرتايد» من أخطر الجرائم ضد الإنسانية، وهو التقرير الذي هاجمه سفير إسرائيل في الأمم المتحدة مطالبًا الأمين العام للمنظمة الدولية للتنكر تمامًا من هذا التقرير الذي بحسب قوله يسعى الى تشويه سمعة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وسارع المتحدث باسم الأمم المتحدة الى الإعلان بأن التقرير لا يعكس آراء الأمين العام وتم وضعه من دون مشورة مسبقة مع الأمانة العامة في الأمم المتحدة، وهو الموقف الذي أيدته بطبيعة الحال السفيرة الأمريكية..!!

«ريما خلف» التي كانت تشغل منصب رئيس اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة «الأسكوا»، طلب منها أن تسحب التقرير المختلف عن كل تقارير الأسكوا كونه تقريرًا موضوعيًا دقيقًا احتوى على ما هو جديد وله معنى، رفضت خلف الطلب وكل الضغوط التي مورست عليها، ورفضت الانسياق لما يخالف قناعاتها ويرضي ضميرها، ويضرب في الصميم القيم السامية التي تأسست على قاعدتها المنظمة التي تنتمي اليها، استقالت وعرَّت واقع الحال الراهن المعبر عن عجز هيئات الأمم المتحدة، ودور إسرائيل ومن يدعمها ويقف خلفها من دول من ذوات السطوة والنفوذ، وهيمنة وتجبر على حد تعبيرها تتحكم بمفاصل قرارات الأمم المتحدة وتوظيفها حسب الأهواء والمصالح، وباتت أي آمال لدور منتظر من هذه المنظمة الدولية يقارب الأوهام، استقالة «ريما خلف» جاءت في زمن باتت فيه ثقافة الاستقالة عندنا معدومة من قاموس السياسيين بوجه عام، ولدى ومن يتولون المناصب العامة في هيئات ومنظمات دولية بوجه خاص كان لاستقالتها أصداء واسعة ليس فقط لأنها استقالة من منظمة دولية مرموقة، او كونها امتلكت الجرأة ورفضت التمسك بالمنصب من باب احترام النفس، ومن باب احترام الحقائق، ولكنها الى جانب ذلك فضحت ازدواجية هيئة الأمم المتحدة ونبَّهت الى كيفية توظيف الأهواء والمصالح لتكميم صوت الحق أمام غطرسات إسرائيل وجرائمها إزاء الشعب الفلسطيني، وأكدت في الوقت نفسه أن الاستقالة شكل من أشكال ثقافة تحمل المسؤولية.

أخيرًا، علينا أن نلاحظ أولاً انه ما من دولة عربية أدانت سحب الأمين العام للأمم المتحدة التقرير، ولا حتى القمة العربية فعلت ذلك، كما علينا ثانيًا أن نلاحظ بحذر ووعي أن هناك من يريد لنا المراوحة في التعاطي مع القضية الفلسطينية وعدم تجاوز حدود الوعظية في أحسن الأحوال، والتي تدور في فلك «ينبغي» و«يجب» و«أكد» وكل ما يشكل حس غارق في البؤس، وعلينا أخيرًا أن نلاحظ أن الشخصية الثانية في «الاسكوا» هي ابنة البحرين «د. خولة مطر» التي عرفناها لا تقل عن «ريما خلف» في الكفاءة والضمير الحي والانحياز للعدل والقيم الإنسانية وحقوق الإنسان، وشرفتنا في أكثر من موقف، يا ترى هل يمكن أن يوكل لها المنصب، ولكن طالما كانت الحسابات والاعتبارات إياها التي تحكم مسار عمل المنظمة الدولية.. فإن المسألة فيها وجهة نظر، لننتظر ونرى..؟!

ـ2ـ

من المؤسف جدًا أن يواصل الذين أصبحت خيباتهم أكبر من أن تحتمل، في التمادي الى تكديس الخيبات ووضع المزيد من المطبات والعراقيل أمام أي مسعىً وطني يستهدف تجاوز واقع الحال السياسي الراهن، او لنقل تجاوز بؤسنا، هذا البؤس الذي يجعلنا نبقى في رحلة التيه المضنية في صحراء قاحلة، والباعث على أسى أكبر أن هناك من لا يجد بأن المثابرة مطلوبة بشكل ملح الى حوار ونقاش، او خطوة او خطوات تفضي الى ما يرفع معنويات الناس في هذا البلد ويدفع في اتجاه أفق يدعو ولو لشيء من التفاؤل، لا بد من ذلك، ولا مفر من إنتاج مخرج في أقرب فرصة، وإذا ما خطر لمعرقلين هنا او هناك او هنالك ممن يتصرفون كما لو كانوا أوصياء على شؤون الوطن والمواطنين ان يواصلوا على ما دأبوا عليه لكي نبقي في حال المراوحة والإرباك والتوجس من محاولات تصيبنا بتصدعات تجرنا نحو المزيد من الانشطار والمزيد من الفتن، وكأن ما حدث لا يكفينا، والطامة الكبرى أن يبقى الوضع على ما هو عليه..!!

ـ3ـ

لحسن الحظ أنه لايزال بمقدور المواطن أن يرفع صوته محتجًا على إرهاقه برسوم باتت تنزل عليه كنزول الصواعق، يكفي التمعن هذه الأيام في حجم ردود الأفعال عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وحجم التعليقات المعبرة عن حالة التذمر السائدة على رسوم المخالفات المرورية التي فرضت أخيرًا، وقبلها على رسوم فرضت، ورسوم توسعت، ورسوم ارتفعت، ومنها ما يكاد أن يكون أقرب الى الارتجال، الأمر الذي فاقم من معاناة المواطنين، خاصة من «ذوي الدخل المهدود» المشغولين بالركض أثر لقمة العيش، والبحث عن سبل تخفف عنهم أعباء الديون والأقساط..!

يا ترى أين الوعود التي كانت في فترة قريبة قد تدفقت على المواطنين، وأين أصبحت التدابير التي أعلنت وكلها كانت تعزف على وتر أن مكتسبات المواطن لن تمس، وأن الميزانية العامة حافظت على هذه المكتسبات، وأن أي موضوع يتعلق بالدعم وفرض رسوم سيكون أساسه الاتفاق بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ألم يصرح وزير المالية بذلك..؟ وهل تذكرون كيف رد أكثر من نائب نافيًا عدم صحة التشاور والاتفاق على فرض رسوم على المواطنين..!! ويستطيع المرء أن يعود الى هذه التصريحات والوعود في أي وقت يشاء بمجرد الاستعانة بمحرك البحث عبر جوجل. المشكلة أن المواطن لا يرى رؤية مالية واقتصادية معلنة وواضحة الأهداف والآليات والمنطلقات، بمعنى أن المواطن والتاجر والمستثمر لا يعرف الى أين نحن نسير، وعلى أي أرضية او رؤى نسير، وكيف يمكن ضبط الموارد ووقف أوجه الهدر الظاهر منه والمستتر، والى أي مدى هي الجدية في التصدي للفساد المالي والاداري، ومتى ستظل مخرجات تقارير ديوان الرقابة معاقة..؟! لا يرى المواطن سوى الكلام، ونزار قباني قال: كم دفعنا ضريبة الكلام..؟!

اقرأ المزيد

دراما الهجرات

عالم اليوم هو في جانب رئيسي منه نتاج الهجرات، فهاته الهجرات تسهم بقسط حاسم في تشكيل صورته، وفي تداخل وتضاد ثقافاته في الآن نفسه، فبمقدار ما تغتني الثقافات جراء دخول مؤثرات جديدة عليها يحملها إليها المهاجرون الآتون من ثقافات أخرى، فإنها أيضاً تدخل في صور من التوتر والتضاد، حين تشعر ثقافة بلد ما أن الآتين إليها من المهاجرين يدخلون ما لا تطيقه أو ترغب فيه من عادات وأنماط سلوك.
ومع أن الهجرات ليست وليدة اليوم، فالتاريخ الطويل للبشرية شاهد عليها، إما كنتيجة لغزوات واحتلالات وفتوحات، أو في صورة هجرات جماعية هروباً من كوارث طبيعية ومجاعات وأخرى غير طبيعية كالحروب والفتن والاضطهاد الديني أو السياسي أو العرقي وما إليها، لكن ما نشهده اليوم من اتساع نطاق الهجرات هو أمر غير مسبوق بالتأكيد.
الحروب كانت موجودة دائماً عبر التاريخ، وكذلك الغزوات، والكوارث الطبيعية أيضاً كانت موجودة دائماً، ولكن في الماضي لم تكن أسلحة الحروب بالفتك الذي هي عليه اليوم، ولم يكن يتوفر من وسائل النقل ما هو متوفر اليوم، ناهيك عن سرعتها، ولم يكن العالم على هذه الدرجة من القرب بين أطرافه والتداخل في ثقافاته، ما وسع نطاقات الهجرة.
لا يهاجر الناس مكرهين فقط، حيث لا حرب أو اقتتال أو مجاعة وما إلى ذلك ما يجعلهم يفرون بجلدهم بحثاً عن فرصة للبقاء على قيد الحياة، وإنما يهاجرون أيضاً بحثاً عن تحسين ظروف معيشتهم، بالحصول على تعليم أو تكوين مهني أفضل، أو جرياً على فرص عمل أكثر جاذبية مما هو متاح في بلدانهم الأم، فيجدون في البيئات الجديدة التي يهاجرون إليها من التحقق والاستقرار النفسي والمهني ما لا يتحقق لهم حيث ولدوا.
هذا النوع من الهجرة، الآتية في الغالب عن رغبات فردية لمن يقومون بها، لم تعد هي الغالبة في عالم اليوم الذي بات يضيق من الهجرات الجماعية المنطوية على جوانب درامية، باتت الشاشات تنقل الكثير منها على الهواء مباشرة، من جثث بالعشرات والمئات تطفو على سطح البحر أو ترميها أمواجه على الشواطئ، أو من خيام في العراء حيث الصقيع والأمطار، تقام على حدود البلدان، لتضم الآلاف المؤلفة من الهاربين من جحيم بلدانهم، بانتظار أن يبت في أمرهم، الذي ما أكثر ما يكون إعادتهم قسراً من حيث أتوا.
هجرات اليوم تطرح تحديات أخلاقية وإنسانية على الضمير البشري، يجعلها هي الطاغية قبل البحث في العواقب أو التبعات الثقافية أو السياسية الناجمة عن دخول جماعات جديدة إلى نسيج مجتمعات مستقرة.

اقرأ المزيد

راية فلسطين

خلال الأسبوع الماضي شاركت في مؤتمرين، أحدهما دولي، والثاني عربي، حول القضية الفلسطينية، ولم تكن مصادفة أن المؤتمرين ارتبطا من حيث التوقيت بمناسبتين لهما ما لهما من الدلالات، كون كل واحدة منهما عنت أمراً حاسماً في مسار قضية الشعب الفلسطيني.
المناسبة الأولى هي ذكرى الوعد المشؤوم لبلفور، الذي تصادف ذكراه المئوية هذا العام، لتذكرنا بالحقيقة المرة، وهي أن المشروع الصهيوني، إنما جرى تمكينه وترسيخه بالدعم الغربي، الأوروبي بداية، ولاحقاً الأمريكي. فمن رعوا تأسيس دولة الكيان هم أنفسهم من يرعون اليوم استمرارها ومدها بكل أسباب الدعم والقوة.
أما المناسبة الثانية فهي الذكرى السنوية ليوم الأرض الفلسطيني في الثلاثين من مارس/ آذار، التي أطلق شرارتها عرب الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1948، رداً على تطاول الصهاينة على أراضيهم، وكان للقائد الوطني الكبير الشاعر المرحوم توفيق زياد، رئيس بلدية الناصرة، دور قيادي في ذلك يومها.
سرعان ما أضحى يوم الأرض يوماً فلسطينياً وعربياً بامتياز، يحييه الفلسطينيون أينما كانوا، في أراضي 1948، أو في الضفة الغربية وغزة، أو في مواقع الشتات المختلفة، ومعهم يحييه أشقاؤهم العرب بفعاليات شهدنا مثلها هذا العام في عدة بلدان عربية، بينها وطني البحرين.
وإذا كانت مناسبة وعد بلفور تذكر بالتآمر الاستعماري على فلسطين وقضية شعبها، فإن يوم الأرض يذكر بالأمر النقيض، ألا وهو إصرار الفلسطينيين على التشبث بأرضهم وبحقوقهم رغم وحشية الهجمة التي يواجهونها، والتي تبلغ اليوم واحدة من أخطر ذراها، مع إفصاح الصهاينة عن مشروعهم بتهويد دولتهم، ما يهدد من تبقى من عرب فلسطين هناك بالتهجير، ما يذكرنا بسلسلات التهجير المتتالية التي تعرض لها العرب في الأندلس، حتى لم يبق منهم فيها أحد.
ما لفتني في المؤتمر الدولي الذي شارك فيه ممثلو قوى وأحزاب وتيارات سياسية من أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، هو أن القضية الفلسطينية ما زالت عنواناً مهماً للتضامن الأممي، ما يحملنا على الشعور بالغضب حين تلمس لدى غير العرب المقتنعين بقضايانا العادلة حماساً لهذه القضايا أكثر مما هو لدى الكثيرين منا.
ثمة رأي عام تقدمي في العالم ما زال يحمل راية القضية الفلسطينية، بقناعة وحماس، ويذود عن هذه القضية، بإمكانيات متواضعة، لو قيست بما يتوفر للوبيات الصهيونية في مختلف دول العالم من دعم وتمويل.
المؤكد أن عدالة القضية الفلسطينية هي حافز أخلاقي ومعنوي كبير لهؤلاء المتضامنين معها، ومع مجمل قضايانا العربية، لكن هذا وحده لا يكفي، فالمطلوب منا الكثير من أجل دعم هذه الجهود النبيلة وتوفير ما هي في أمسّ الحاجة إليه من مساعدة.

اقرأ المزيد

درس بليغ في التسامح

عندما كان الفتى في المرحلة الثالثة من المدرسة حلَّ معلم جديد في المدرسة آتٍ من خارجها، وكان هذا الأمر مبعث تعليقات كثيرة بين سكان جماعة محلية مغلقة مكتفية بذاتها.وكان التلاميذ يتشوقون لرؤية المعلم الجديد الذي ذاع نبأ قدومه في صفوفهم، ويتساءلون: كيف سيبدو الضيف الجديد؟ هل سيكون شديداً أم متساهلاً، حاد المزاج أم هادئاً؟ وعندما تحقق الأمر وظهر المعلم في حصته الأولى، انزاح الكثير من الغموض والفضول حوله.

كان المعلم هندوسياً من طائفة الإبراهيميين، وما إن دخل الفصل حتى أجال بصره وتطلع بنظرات خاطفة نحو التلاميذ كانت كافية لإظهار الامتعاض على وجهه لرؤية الملابس المختلفة التي يرتديها التلاميذ المتحدرون من عائلات بديانات مختلفة، ففي البلدة النائية يتجاور الجامع مع الكنيسة مع المعبد الهندوسي، ولم يجد أهاليها في ذلك سبباً لأن يفترقوا أو يختلفوا أو يتعاركوا؛ لأن لكل جماعة منهم ديانتها المختلفة عن الآخرين.

لم يكن بوسع المعلم ذي الذهن المشحون بآثار التعصب أن يدقق في العيون الملتمعة وضحكات الأمل المرسومة على وجوه التلاميذ الأحرار من تلك المنغصات التي في ذهنه.

أول ما وقعت أنظار المعلم كانت على تلميذين هما الأكثر شغفاً بالمعرفة بين أقرانهما، لذلك كانا يحرصان على أن يكونا في المقعد الأمامي.

فهم المعلم من مظهر التلميذ الأول أنه من عائلة مسلمة، كما أوحت عمامة الثاني أنه من عائلة هندوسية، ولم يرق له أن يتجاور الاثنان على مقعد واحد، وبعد أن سأل الأول عن اسمه أمره في لحظة نزق بأن يجمع كراريسه وأقلامه وينتقل إلى مقعد خلفي.

شعر الطفل بالمهانة والحرج والحزن، فيما امتلأت عينا زميله بالدموع للتفريق القسري بينه وبين رفيقه الأقرب والأعز.

لم تنتهِ الحكاية هنا.

نقل التلميذان ما جرى لوالديهما اللذين صادف أن أحدهما هو إمام جامع البلدة، والثاني هو راعي المعبد الهندوسي فيها، ولما سمع الرجلان بالحكاية تحول مزاجاهما الهادئان المسالمان إلى حال من الغضب، وقررا ألا تمر الحادثة.

استدعيا المعلم المعني، وبحضور قس الكنيسة أفهماه وبكلمات قاطعة لا تقبل التأويل أنهما لن يسمحا لكارثة التمييز الديني التي تمزق النسيج الوطني بأن تنمو في هذه البلدة، ولن يسمحا بأن يكون الدين عنصراً لتقسيم البلدة بدل أن يكون عنصر بناء وتكاتف.

أحد التلميذين سيغدو بعد أن كبر أهم علماء الهند في الفيزياء، وبعد حين سيغدو رئيساً للبلاد، هو زين العابدين عبدالكلام، والحكاية وردت في كتابه «رحلتي» الذي تحدثنا عنه، هنا، قبل أيام من ترجمة لطفية الدليمي.

اقرأ المزيد