المنشور

غزال صغير في أزقة المحرّق

صبيحة يوم عيد مولده في الرّابع من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، ردّ على بعض أصدقائه الذين اتصلوا به مهنئين، متمنين له طول العمر والصحة والعافية. كان صوته متعبا، لكنّه ردّ، وقد كتب أحدهم أنهما تحدثا عن مشاريع سفر، كما ورد في في صفحة طارق البحّار “هل سنسافر معا إلى مهرجان القاهرة والعين، أم سنؤجل بسبب كورونا؟”.
بالنسبة لمريض “سكلر” عاش حياته كلها جنبا إلى جنب مع المرض، لم يكن الخوف من الموت وارِدًا لديه، وإلاّ كان أجّل كل مشاريع حياته، ولم ينجز منها شيئا.. كل أمراضه مجتمعة لم تهزمه، ظلّ باسطا يديه وقلبه بالعطاءات السخية، إلى أن غادرنا في السادس من نوفمبر 2020 أي بعد يومين تماما من ذكرى مولده.
باكرا رحل هذا “الفريد” تاركا خلفه نتاجا ثريا، يحتار الأصحّاء كيف أنجزها ومتى، ومع هذا فقد أنجز الكثير في خلال حياته القصيرة هذه. كاتب وسيناريست ومنتج سينمائي، ورجل رقيق وشهم، وإنسان جدا، يا الله كم هو إنسان، ودعوني أبسّط لكم حجم خسارتنا التي لا تعوّض في فقيدنا النبيل، للذين لا يعرفون فريد عن قرب، أو الذين لم يسمعوا باسمه قبل اليوم. فبعض العظماء يولدون لحظة وفاتهم مولدا أبديا، وفريد منهم.
لكن هل يمكن تلخيص فاجعتنا؟ لقد جعلنا نعتقد على مدى سنوات أن الموت صديقه، فهو قريب منه، ولكنه لا يريد أذيّته. صدّقنا أنه قد يشارف على نهايته ويعود، وأنّه سيخرج من المستشفى بسيناريو جديد أو نص روائي، أو نصوص تحكي تجربته الخارقة وهو يقفز بين عتبات الموت مثل لاعب سيرك محترف. هذا الرجل الطيب بالوراثة، الخفيف الظلّ، الجميل الروح، غادرنا في “عام كورونا”، رحل مع كوكبة من العباقرة والشخصيات الأدبية، التي برعت في صنع المشهد الثقافي لأوطانها، وغادرت في صمت.
ربما ما يحدث اليوم بسبب فيروس كورونا، جعلنا نكره أن نحدّق في الموت، بل على العكس فنحن نحاول أن نتجنّبه، بهدف إخفائه، أو زواله وتنحيه جانبا. فقد فُرِض علينا أن نعيش حالة الحداد بشكل فردي وحميمي، بعيدا عن النظام الاجتماعي والجماعي الذي كان ساريَ المفعول، إلى أن كشّر كوفيد 19 عن أنيابه ووضعنا أمام حقيقة صادمة، إننا وحيدون في هذا العالم، مصائرنا الخطيرة نواجهها دائما بمفردنا، وأن كل تلك الجماعات والتجمعات التي ننتمي إليها وهم كبير. وها هو الموت يكشف كم نحن عُزّل من الدرع الجماعي الذي كنا نحتمي ونتباهى به في السابق.
في عزاء فريد رمضان الافتراضي، لفتت نظري “كتابة الحداد” التي رافقته، قرأت الكلمات التأبينية التي كتبها أصدقاؤه فيه، بعضهم ليسوا أكثر من أصدقاء فيسبوكيين لم يلتقوا به ولا مرة، ومع هذا أبدعوا في وداعه لغويا، بعواطف متأجّجة، وأساليب تعبيرية فاقت ربما أساليب من عايشوه. كتب كثر أنّه روائي البحرين الأول، بالتأكيد هو روائي كبير، ولكن هل قرأناه بالكمّ الذي يكفي؟ كتب أحدهم أيضا أن فريد رمضان سرقته السينما البحرينية، ولو أنّه أخلص للرواية أكثر، لما غطّته أسماء روائية أقلّ إبداعا منه، وهذا في نظري غير صحيح، فقد أخلص فريد لكل كلمة كتبها، سواء للسينما أو للسرديات. لكن مشكلة فريد أنّه لم يتخذ لا من الأدب ولا من السينما حصانا لبلوغ محطّة الأضواء. لقد كتب لأن الكتابة خلاصُه الوحيد مما كان يعيشه، إذ أنّ تجربته فريدة وموجعة مع المرض والإرهاق الجسدي المتكرر، لهذا كانت الكتابة صديقته، رفيقة عمره، وحبيبته، وإلاّ كيف اختارها في بلد عربي على أن تكون مورد رزقه؟ أي مغامرة مجنونة هذه التي خاضها؟ نندهش ونحن نسمعه يروي لنا حكايته مع الكتابة، ولعلّه رواها بعفوية كبيرة، بدون أي رغبة لإدهاش سامعيه، بدون أن يضيف ما قد يضفي عليها من صفات خارقة كالتي يعتمدها كُتّاب آخرون، إذ لم يخطر بباله أن رجلا يملك دماغا مبدعا وجسدا منهكا لا يمكن لأي مهنة أن تسعفه غير الكتابة. لقد كانت قدره الوحيد، مُنَزّلة إليه من السماء، فاستسلم لها وسلمها نفسه، لا خاضعا ولا راضخا، وإنّما مطمئنّاً.
في البحرين هو حبيبنا جميعا، هو المبدع المتّفق عليه كهمزة وصل لا جدال فيها بين أهل الثقافة والفن، حتى المتخاصمون يتفقون في محبته وإن أبقوا على خصوماتهم الشخصية. حصل على هذا الشّرف بدون أن يتملّق أحدا، وبدون أن يغيِّر في مواقفه لأجل فريق على حساب آخر، حتى أنّه لم يقف على الحياد، رفض أن يكون حياديا، مثل ظلال منتصف النهار موجودة وغير موجودة. كغصة في القلب ترمقني روايته «المحيط الإنكليزي» بحزن، فمنذ اقتنيتها وهي هنا، تنتظر دورها بين فوضاي التي تختلس مني أحيانا حرارة اللحظة ودفئها، أبرمجها، ثم أؤجلها بسبب مناسبات أدبية تفرض عليّ قراءات أخرى، وفي بالي أن فريد لا يلاحق أصدقاءه مُلِحّاً كي يقرأوه. لطالما سامح ببذخ لقد كان الأدب بالنسبة له مساحة طليقة، يمارس فيها الكاتب والقارئ معا حريتهما، وهذا ما يبني علاقة ود خفية بين الكاتب وقارئه. وهي من أجمل العلاقات التي تُولد من رحم الكتابة.
ما لفتني هو كل هذا الطلب على الرواية بعد غياب فريد، فقد وجدتني واحدة من بين عشرات المتلهفين لقراءتها، وتساءلت لماذا يولد بعض الكُتّاب بصيغة مختلفة لحظة موتهم؟ هل هي محاولة لاستعادتهم؟ أم إدراك متأخر بمدى أهميتهم؟ خلال تصفحي لتعليقات القراء المفجوعين في غيابه، كتب أحدهم: “أين كنتُ حين قرأ الجميع هذه الرواية؟”. وضعت له قلبا وأنا حزينة أكثر منه، وطرحت السؤال نفسه على نفسي.
في موضوع آخر كتب قارئ تعليقا عصف بي حتى شعرت بأني فقدت توازني: “هذا إعصار روائي! أكثر من أربعمئة صفحة بدون الشعور بالملل للحظة، حبكة رائعة، وشخصيات كثيرة تثير العجب والتفكير. موضوع الهوية والانتماءات المختلفة التي كونت الشعوب الخليجية كان لافتا جدا”.
ربما قلت لنفسي إنّها رواية السّاعة، وما أحوجنا إليها لنفهم تاريخنا الإنساني المتشابك، إذ لم يعد مقبولا أن نعيش مزيدا من الشتات ونحن ننتمي للجذور الإنسانية نفسها. صحيح أن الذين شيّعوا فريد رمضان إلى مثواه الأخير بكلماتهم التأبينية كشفوا أولا تقصيرهم تجاهه، فوضعوه في واجهة كانت محجوزة له طيلة السنوات الماضية، لكنها لم تمنح له تماماً، لكنهم أنصفوا أدبه بدون مبالغة في ذكر محاسنه.
ويبدو لي أن رواية “المحيط الإنكليزي” التي سكنت رفوف المكتبات منذ سنتين سيكون لها مصير آخر ما دامت قد خرجت للضوء بكل هذا الزخم التعبيري بشأنها.
لقد خاض فريد رمضان معاركه على الورق ضد الجهل الشرس الذي افترس العقول والضمائر. كان مراقبا رائعا لتاريخ البشر، وأدرك بنظرته الفلسفية العميقة كيف تتشكّل الجماعات، والقبائل، والأمم. وهذا ملخّص درسه الفلسفي ـ التاريخي الذي قدمه في أجمل أشكاله الإبداعية، متخذا الأدب والسينما سبيله النّاعمة لإيصال أفكاره العظيمة.
رحل ابن المحرق، ابن أجمل بقعة في البحرين، وقصيدتها النابضة عشقا، تاركا سحر عينيه المبتسمتين مطبوعا على أبوابه الخشبية الفائقة الجمال، وشوارعه الضيقة الشبيهة بشرايين القلب. يكاد الزائر للمكان يرى بصماته على كل شبر من حيطانه، يكاد يسمع وقع خطواته وهو عائد كل مساء، متفقدا أمكنته المفضلة.
يستحيل ألاّ يُرى الصبي الأسمر ذو العينين الضاحكتين وهو يركض خفيفا مثل غزال صغير خرج من أسطورة قديمة، وقد تخلّص أخيرا من كل أوجاعه التي جعلته يعبر إلى سنّ النضج منذ لحظة ولادته.

اقرأ المزيد

لا وعي المدينة

إِنْ كنا سنجد لا وعي الإنسان في أحلامهِ وفلتاتِ لسانهِ، والتّداعي الحُرّ لذكرياتهِ وتهويماتهِ أثناء الاسترخاء على أريكةِ المحلّل النفسي. فأين يمكنُ أن نجدَ لا وعي المدينة، الذي هو بطريقةٍ ما، يشكّلها ويدفعُ سلوكها رغم ندرة حضورهِ الظّاهر في الحياةِ اليوميّة؟.
إن الإنسانَ ليلجأ إلى جعل المكانِ مرآةً لما في نفسهِ من صراعاتٍ شديدةِ التجريد. لأنّه سيجدُ في الصِيغ المكانيّة مجازًا ووسيلةً للتعبير. فالبيتُ النموذجي كما حدّده “غاستون باشلار” يمكن أن نجدَ فيه القبو والعِليّة. حيثُ يصبحُ فيهِ القبو بالنسبةِ للإنسانِ في أحلامِ يقظتهِ بمثابة اللاوعي من حيث ارتباطهِ بالعالمِ السفليّ المُظلم بكائناتهِ الزّاحفةِ البطئيةِ الغامضة، وتكونُ العليّة فيهِ بمثابةِ الأنا الأعلى لارتباطها بالسقفِ والسماء. وقد استعارَ باشلار من المحلّل النفسي “كارل غوستاف يونغ” مثالاً عمّا يعنيه هروب الإنسان الحديثِ من عقده النفسيّة، أي هروبه من مواجهةِ لا وعيهِ: “مثلَ رجلٍ سمعَ صوتًا مريبًا في القبو فأسرعَ إلى العليّة، وحينَ لم يجد لصوصًا فيها قدّر أنّ ما سمعهُ مجرّد وهم. بينما في حقيقة الأمر، لم يجرؤ هذا الرجل على المجازفةِ بدخول القبو”. كي ما يوضّح فكرته عن اللاوعي، يستعمل “يونغ” هنا مجازًا مكانيًّا. فليس القبو الواقعيُّ سوى امتدادٍ لأحلامِ يقظتنا عنه، والتي هي لم تأتِ اعتباطًا، وإنما بتركيبٍ من تعامل الإنسانِ برغباتهِ ومخاوفه مع القبو الواقعي الذي يحملُ في حقيقتهِ ما يحفّز تلك المخاوف والرغبات.
ولو عُدنا إلى تجلياتِ هذا المفهوم في فيلم “الأم” في قراءةٍ أخرى، إذ يسرد الفيلم التاريخ الديني بطريقة رمزيّة وفق بيئة غربيّة معاصرة على طريقة رواية “أولاد حارتنا”، التي رمّزت التاريخ الديني ضمن البيئة المصريّة، بل من غير المعقول أن لا يكون مخرج الفيلم أو مؤلفه قد أطلع على تلك الرواية، لكنّ بينهما اختلافًا هامًا، فرواية نجيب محفوظ، محورها الرئيسي هو العدل والبحث عن الفردوس المفقود في عزبة الأب، بينما المحور الهام في الفيلم هو “العنف”.. قطرات الدم البسيطة كافية لأن تخترق أرضية الغرفة وصولاً إلى قبو البيت الذي يرمزإلى اللاوعي حيث عنف الطبيعة. هذا الدم غير قابل للتنظيف، وكل ما فعلته الممثلة “جينفر” التي ترمز للطبيعة الأم أن غطت بقعة الدّم بسجادة رقيقة. الفيلم يتخذ من “الأم” زاوية للنظر، بينما يمثل الشاعر، الممثل خافيير”الرب” الذي اتخذ من الغرفة العلويّة مقرًا لابداع نصوصه، تاركًا الجميع على هواه، فيما تقوم زوجته بكل الأعباء في تجديد البيت وتحمّل الضيوف المزعجين ـ أيْ البشرـ.
وإن كان اللاوعيُّ عند الإنسان يتشكّل من مكبوتاتهِ في الطفولة المبكّرة وغرائزه المقموعة، سيكونُ في المدينةِ أيضَا تجسيدٌ لكلّ هذا. وستعملُ المدينةُ الحديثةُ أيضَا، مثل ذلك الرجل في مثال “يونغ”، على الهربِ من لا وعيها بالذهابِ إلى العليّة. إذ ستقلّ فيها الأماكن المُظْلمة بفعل الإنارة، خصوصًا مع الانتقال من الإنارة بالمشاعل، إلى فوانيس الغاز، وصولاً إلى الكهرباء. الإنارةُ هنا تزدادُ حتّى تصلَ إلى كلّ الأماكن والأزقّة الضيقة.
وقد يبدو غريبًا أنْ أعتبرَ هذهِ الإنارة هروبًا. فبالطبعِ أدركُ ضرورتها العمليّة، بل وأثرها الاجتماعي الإيجابي، وأساس نشأتها الاقتصاديّة حيثُ أنّ أوّل ما تمّ إنارتهُ في مدينةِ باريس بفوانيس الغاز كانت الشوارعُ العريضةُ ذات المتاجر الكبيرة، وذلك لإطالةِ أمَد التسوّق. أدركُ هذا، ولكنّ هذهِ الإنارة تاتي ضمن سياقٍ أشمل في المدينة وهي تنمو مبتعدةً عن الطبيعة. فهل الليلُ الذي نعيشهُ الآن هو الليلُ الذي عاشهُ أجدادنا؟ إنّ ليلَ المدينةِ لا يثيرُ هواجس ميتافيزيقيّة كما كان يفعلُ ليلُ القرية القديمِ المليءِ بالألغاز والخرافات التي تتسلّل من الهدوءِ المُطبق عبر أصواتِ الحشرات، إلى مُخيّلة المعتكفِ في منزلهِ. وإن كان من شيءٍ سيثيرهُ ليلُ المدينة فهو الرّغباتُ التي تشعُّ من نيون يافطاتِ الإعلاناتِ على البنايات، أو المخاوف من غريبٍ مجهولٍ عندما نتمشي في ساعةٍ متأخرة في أماكن قليلة الروُّاد.
إنّ ارتباطَ فلسفة التنوير بباريس، وبعض المدن الأوروبيّة ترافقَ أيضًا مع الإنارةِ في الشوارع، في التباسٍ بينِ المعنيين. حين قَطعتْ تلكَ الفلسفة العلاقةَ بين ماضيها في القرون الوسطى، والتي تُسمّى مجازًا بالقرون المظلمة، هاربةً إلى “عليّة” العقل كي ما تُخضِع ضمن منطقها كلّ ما تعتبرهُ مُظلمًا وغامضّا وبدائيًّا. بدءًا من ماضي القرون الوسطى الذي سيتحوّل إلى مجرّد مادةٍ في المتحف حينَ تمّ إنشاؤه مع ولادة الدول الحديثة في الغرب، وليس انتهاءً باستعمار الشعوب في أسيا وأفريقا والأمريكيتين والتحكُّم بمقدراتها. تلكَ الشعوب التي تمثّل لا وعي المدينة الحديثة. ولذا سيكون من اللازمِ إخضاعُها ضمن المنطق الغربي.
أدركُ أنّ للأمرِ دوافعَ اقتصاديّة، ولكنّ الشّكل الذي كان يتّخذهُ تبريرُ الاستعمارِ هو ذريعةُ نشر قيمِ التحضّر. حيثُ لن يُسمحَ لتلكَ الشعوب إلا أن تكون مُقلّدة للمستعمر أو أن تعيش ضمن تراثٍ مُقلّم لهُ طقوسه الفلكوريّة التي تُدهش الغربيين، ولكن بعد نزعِ قيمتهِ الحقيقيّة. أليس هذا ما يحدثُ حين تحاول دولةٌ ناميّة، في الوقتِ الحاضرِ، أن تنشر موادَ إعلاميّة عن السياحةِ في بلدها. حيث ستقدّم لهم صورةَ الحداثة التي تقلّد الغرب، لكنّها ستقدّم التراثَ أيضَا بعد أن يتمّ تغطيتهُ بالشمعِ كي ما يصبحَ مادّة للفرجة يستطيعُ الآخر أن يتفاعل معها، أي بعد إضفاء الطابعِ الجماليّ عليه، ونزعِ أثرهِ الاجتماعي والنفسي والسياسي. هذا ما أعنيهِ بالهروب من قبو المدينة إلى عليّتها. فحين يذهبُ السّائحُ إلى مدينةٍ، لن يستطيعَ فهمها من خلال عروض الأزياء والرقصات، بقدر ما سيفهمها بذهابهِ إلى حيثُ لا زالتْ تلكَ الثقافة التي أنتجتها فاعلةً في بيئتها الحقيقيّة، والتي لن تكونَ مقدّمةً في بروشورات السياحة. إن رؤيةَ شجرة قد تعطينا تصورّا عن الغابة، لكنّها لن تمنحنا معنى العيش في غابة.
إن الابتعادّ عن الطبيعة، ذهنيًا وواقعيًّا، سيدفع الإنسانَ المتحضّر لاستدعائها أحيانًا إلى بيئته، ولكن في شكلٍ حديثُ مثل هندسة الحدائق. التي ستكونُ الغايةُ منها هي معايشةُ الطبيعة ولكن بعدَ نزع خاصيّتها الغامضة أو المثيرة للقلق لتكوّن مرتّبةً ومفهومة، خصوصًا حين يكونُ جُهد الإنسان واضحًا في هندستها.
كما أنّ طفولة المدينة، التي هي لا وعيها أيضَا، يمكنُ أن نراها في ريفها أو ضواحيها البائسة التي لم تلتحقَ كثيرًا بالتحديثِ، والتي قد تستبعدُ من الحضورِ الإعلامي في مدينةٍ نامية لتنتشر صور واجهاتِ المباني الفخمة. أو يتمُّ تأطيرهُ في السياحّة ليصبح غير حقيقيّ، تمامًا مثل دخولِ نفق الرعب في مدينة الملاهي. بما يمثّله من تجربةً زائفةً تهدف إلى الإثارة عبر استفزاز المخاوف، وليس عبر مواجهتها في الحقيقة. هكذا تصبحُ زيارةُ بعض الاماكن الشعبيّة المقترحةِ من وزاراتِ السياحة. أو الذهابِ في رحلةِ تخييمٍ في الصحراء، أو القيام بجولةِ لرؤية وحيد القرن في أفريقيّا.
إن أي زيارةٍ إلى مدينة، لن يكتمل فهمنا لها إن لم نذهب مناطقها الخلفيّة، أي إلى مكبوتاتها. كما أنّ غرائز المدينة سنجدها في الطبيعةِ التي شُيّدت فيها. أهي صحراءٌ أم غاباتٌ أم جبال. وقد تتمثّل المكبوتاتُ في الضواحي الفقيرة ذاتِ التوتراتِ الاجتماعيّة، والأزقّة الخلفيّة قليلةِ المارّة، والسجون، ومستشفياتِ المجانين.
فالحياةُ ما قبل المدنيّة، لم تكن تحدث فيها مثل التمايزات الحادّة بين العاقل والمجنون، الغني والفقير، الوجيه والشّقي. فجميعهم كانوا يعيشون ضمن فضاءٍ واحد. وكلّما تمّدن المجتمع، كلّما أقامَ مثل هذهِ التمايزاتِ الحادّة لفصل التفاعل الاجتماعي. حيث لن يروا بعضهم بعضًا إلا من التلصص من حلال زجاج التلفاز والهاتف.
ولذا سنجدُ أنّ نشوء أوّل “مستشفى للمجانين” في البحرين 1932م، كان قد سبقهُ بناء مؤسسات الدولة الحديثة. حيثُ كان تابعًا أول الأمر إلى بلديّة المنامة التي تمّ إنشاؤها في عام 1920م. فمنذ نشوء بلديّة المنامة سيتمُّ وضع عدّة تمايزات، من هو العاقل والمجنون، من هو البحريني وغير البحريني من خلال جوازات السفر بدءًا من عام 1937م. وسنجد في هذهِ الفترة، تحديدُ الأراضي، أماكن المنتزهات والحدائق، حتى تمّ انشاء حديثة للحيوان في منامة الخمسينات.
إن هذا التحديد من شروطِ المدنيّة، وأصل نشأتها، ولكنّ الثمن الذي يدفعهُ الإنسانُ ضريبةَ ذلك هو في ابتعادهِ عن اللاوعي، لكنّه سيتخذ أشكال جديدة من خلال الهروب.
فالإنسانُ البدائيُ أقربَ لأن يعيش حياة اللاوعي، كما وضّح فرويد وسمّاه طفولة العقل البشري، ولذلك يلجأ ذلك الإنسانُ إلى ابتكارِ الخرافاتِ والماورائيّات، عبادةِ الأسلاف، الطوطميّة وما إلى ذلك. وهنا لن يشكّ أي دارسٍ لعلم النفس بأن ذاتَ هذهِ العقليّة موجودة في المدن الحديثة، ولكنّها تبدو بمظاهر عقليّة. ولا أعني بذلك وجودها في هذا الفرد أو ذاك وحسب، وإنما هي موجودة في الأساطير التي ترويها المدن عن نفسها، وتنتج بها أشكالًا مختلفة من التعابيرِ الطقوسيّة. فحين اختفى عصر الرقص الجماعيّ الطقوسي، حلّت محلّها “حفلات الروك آند رول”، وما إلى ذلك مما يمكن تتبّعه. وفي حين كان البدائيُّ يعيشُ متناغمًا مع الطبيعة، حيث لا فصل بينه وبين الأشياءِ خارجه، والذي نسميّه نحن لا وعيًّا، ومبتكرًا لهُ رموزه التي تشكّل له لغةً في فهم العالم. لا زالت المجتمعاتُ الحديثةُ تعيشُ مطمئنّة بوهم عقلانيّتها. والتي سرعان ما تثبتُ هشاشتها حينَ يشتدُّ صراعُ الجماعات، أو في حينِ صعودِ نزعاتٍ فاشيّة.
كان البدائيُّ ينتجُ فنًّا يستطيعُ من خلالهِ أن يتطهّر نفسيًّا، وأن يشعر بوجودهِ يتحّقق من جديدٍ عبر تلك الطقوس فيما غدى الفنُّ الحديثُ يهدف إلى التسلية والإثارة. وهذا ما يعنيهِ الهروبُ إلى عليّة العقل. لأنّ الفصل بينَ ما هو وعي أو لا وعي، لم يكن ليوجد لولا تحقّق الوعي الذي هو أرفعُ من العقل الأداتي. ولذا سنجدُ أن المدنيّة الحديثة، كلما ابتعدتْ عن تحقيقِ الوعي، نحو العقل الأداتي. سترتدُ، أو ترتدُّ جموعٌ غفيرةٌ منها، نحو أفكار روحانيّة قديمة ترتدي لبوسًا حديثُا. أليس في هذا معنى انتشار كتبٍ شعبيّة مثل كتاب “السر” او انتشار الصوفيّة أو ألروحانيّة البوذية في المدن الغربيّة مع العولمة الرأسمالية، مثلما انتشر قبل ذلكَ التيّار الرومانسيّ مع الثورة الصناعيّة في القرن الثامن عشر.
ليس هذا دعوةٌ رومانسيّة للعودةِ إلى البدائيّة وإنما من أجل تكتشف المدينةُ لا وعيها من خلال فهمه ومواجهته، هو في دخول قبو المدينة (الرمزي)، وليس في هدمهِ أو اخضاعهِ أو وضعِ الإنارة الاصطناعيّة فيه حتى لتنتفي عنه صفة القبو. إن القبو الذي نلغي عنه صفة القبو، لن يختفي من وعينا تمامًا، وإنما ستبت بدلاً عنّه أقبيةٌ أخرى. أفلا تشكّل الحديقةُ الخلفيّة في منزلٍّ أمريكي خالٍ من القبو. ما يجعلها تشبهُ فكرة القبو؟. إن بحثنا المستمرّ عن تنوير الخارجِ ووضع الطبيعة تحت المجهر، لن يلغي الظلمةَ في النفس البشريّة، ولن يلغي المجهريات التي تعيش في ذواتنا. إنّه هروبُ للأمام.
ما لم تستطع المدينةُ أن تواجه خوفها المتجذّر من الموت، كما فعل جلجامش ببحثه عن زهرة الخلود، وكما تفعل المجتمعاتُ الحديثة بمسحِ أي أثر للشيخوخة عبر عملياتِ التجميل. حينَ لا تستطيع تقبّل فكرة الموت. فإن القبو سيظلّ موجودًا دائمًا. هذا الذي تحاولُ المدينة إبعادَه عن مجال وعيها. وهنا ستنتج المدينةُ أشياءَ عظيمة كي تمنحها صفة الخلود، لكنّ هذا الخلود سيُبْنى على الجماجم.

• من كتاب يصدر حديثًا: “المدينة والمدنيّة”.

اقرأ المزيد

قراءة أولية في تقرير 2019/2020

شكل التقرير الجديد يحدّ من الرقابة البرلمانية

تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية 2019/2020 هو رقم 18 في سلسلة تقارير الديوان، لكنه يأتي في ظلّ إدارة جديدة للديوان، لذلك يوجد في صيغته أوجه مغايرة عن التقارير السابقة.
من ناحية الشكل، يلاحظ أن التقرير الجديد قلص في حجمه، إذ إنه يبلغ 322 صفحة، بينما التقرير السابق 2018/2019 يقع في 881 صفحة. وقد لا يعود الفرق في الحجم فقط إلى تغيّر الإدارة فحسب، إذ يمكن إيعازه إلى جائحة الكورونا ومستجداتها التي شملت فترةً من الحيز الزمني للتقرير.
مـَـنْ يقارن أساليب العرض بين التقرير الجديد ونظرائه السابقين، يجد أن التقرير الجديد يكثر من استخدام وسائل العرض عن طريق الإفنجرافيك، وهي بالمناسبة وسائل عرض باتت تنتشر في التقارير والبيانات الرسمية سواء المخصصة للإعلام أو المعتمدة للعرض العام وفق قواعد الشفافية. هذه الطريقة مع بساطتها وتسهيلها المعلومة للمتلقي، إلا أنها لا تصلح لأن تُعتمد في البيانات الرسمية التي يحتاج المراقب فيها إلى تفصيل يسمح له بالتدقيق والمقارنة مع ما يصل إليه من معلومات وبيانات عبر وسائله الخاصة، خصوصاً إن كان هذا المراقب نائباً لديه صلاحيات رقابية يحركها نحو أداء الجهات التنفيذية، إذ أنه في هذه التفاصيل تكمن “شياطين” الفساد، وبدونها يعدم أو يتقهقر الدور الرقابي المؤمل.
في إطار المقارنة أيضاً بين الجديد والقديم يتضح أمر غاية في الأهمية، كانت التقارير السابقة تحوي ردود الجهات الحكومية على ملاحظات ديوان الرقابة وتعقيب هذا الأخير عليها إن لزم الأمر. هذا الإجراء غائب عن التقرير الجديد، إذ يكتفي بعرض المخالفة والتوصية.
إغفال رد الجهات الحكومية على المخالفات وتعقيب الديوان على الرد، يضعف الدور الرقابي لمجلس النواب الذي يضطر حينها إلى الاستفسار عن سبب المخالفات الواضحة في التقرير، مع العلم أن التقارير السابقة عندما تورد ردود الجهات وتعقيب الديوان عليها تعطي سنداً سياسياً في الرقابة البرلمانية على جدّية الإصلاح من عدمه عند الجهات محل الرصد والرقابة، وذلك عند تحريك الأدوات الرقابية المتاحة وخصوصاً السؤال البرلماني، ففي الغالب عندما يأتي رد الجهة على السؤال البرلماني قريباً أو مطابقاً مع ردها على الديوان الذي جزماً يعقب عليه، فإن النائب مقدّم السؤال يستشعر التهاون في الإصلاح وتلافي الخلل، على رغم أسبقية ملاحظة وتوصية وتعقيب الديوان. كل هذا يغيب في الشكل الجديد لتقرير الرقابة.
الملاحظات الآنف ذكرها، تدلل على أن التقارير السابقة أفضل في التفصيل من التقرير الجديد الذي يصاغ في ضوء الإدارة الجديدة للديوان، لذلك فإن أول ما يمكن البوح به هنا هو ضرورة إرجاع آلية العرض السابقة في التقارير الحاوية على التفصيل من رد وتعقيب، مع إبقاء الإنفجرافيك كعامل مساعد لاختصار التفصيل لمن أراد التلخيص، لا حذف الإطناب بداعي وجود القشور!
من ناحية الموضوع، فإن التقرير تناول في شقّ الرقابة المالية المشتملة على الحساب الختامي للسنة المالية المنتهية في 31 ديسمبر 2019، كل من الجهات التالية: وزارة الأشغال وشؤون البلديات والتخطيط العمراني، أمانة العاصمة، بلدية المنطقة الشمالية، بلدية المحرق، وزارة التربية والتعليم، وزارة الصحة، المجلس الأعلى للبيئة، وزارة الخارجية، وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف (شؤون العدل)، هيئة جودة التعليم والتدريب، وزارة الإسكان، هيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية، هيئة الكهرباء والماء.
وعن رقابة أعمال الالتزام، فإن التقرير شمل الجهات التالية: هيئة الكهرباء والماء، إدارة الأوقاف الجعفرية، إدارة الأوقاف السنية، بنك اللحرين للتنمية، هيئة تنظيم سوق العمل، شركة طيران الخليج، وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، وزارة الصحة، وزارة الأشغال وشؤون البلديات والتخطيط العمراني، المجلس الأعلى للبيئة، هيئة جودة التعليم والتدريب.
وجاء فصل مستقل للرقابة على الجمعيات السياسية والملاحظات عليها.
مع كثرة الملاحظات التفصيلية التي يمكن الخوض فيها، إلا أنه اختصاراً لهذه العجالة يمكن إلقاء الضوء على موضوع يعتبر من مواضيع الساعة، وهو “نظام تصريح العمل المرن”. يجب القول بدايةً إن الخطة الوطنية لسوق العمل تعود إلى أكثر من 7 سنوات، أي أن آخر خطة وضعتها هيئة تنظيم سوق العمل كإستراتيجية وسياسة عامة بشأن تشغيل العمالة الوطنية والأجنبية تعود إلى يونيو 2012 وهذا مخالف لنص قانون سوق العمل ذاته وبالتحديد البند (أ) من المادة الرابعة الذي ينص على ضرورة وضع الخطة كل سنتين.
هنا يمكن القول إن نظام تصريح العمل المرن المطبق ابتداءً من 23 يوليو 2017 لم يأت على سند خطة واضحة تواكب مستجدات سوق العمل. بالإضافة إلى ذلك فإن هيئة تنظيم سوق العمل أطلقت هذا النظام دون “أن تعقد مشاورات مع الجمهور والجهات المعنية”، وهذا مخالف لنص البند (ب) من المادة الخامسة في القانون، كما أن الهيئة حين أطلقت هذا البرنامج لم تحدد الفئات المستهدفة منه بشكل دقيق مما ساهم في تغير هذه الفئات، والنتيجة أن نسبة 58% من العمالة المستفيدة من هذا النظام لم تكن عمالة غير نظامية على عكس الهدف الذي أطلق البرنامج من أجله، وهو احتواء العمالة غير النظامية.
ويمكن هنا الإشارة إلى قرار الرئيس التنفيذي للهيئة رقم 17 لسنة 2017 الذي لم يحدد المهن غير التخصصية التي يمكن للعامل الأجنبي أن يزاولها، وهذا بلا شك يعطي العامل مساحة واسعة للتجاوز دون أن يكون هناك سند قانوني واضح لصد هذا التجاوز. الطامة الكبرى أن 96% من تصاريح العمل المرن أعطيت لمهن تزاولها العمالة الوطنية التي تبلغ فيها نحو 59 ألف عامل بحريني من المؤمن عليهم في القطاع الخاص لدى الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي. الطامة الأكبر أن الهيئة منحت التصريح المرن لعمالة أجنبية تعمل في مهن تخصصية كالطب والصيدلة والتمريض والهندسة ونظم المعلومات، وكذلك منحت التصريح لعمالة أجنبية لديها سجلات تجارية. وهذا كله مخالف لهدف البرنامج واشتراطاته.
ويجب الإشارة إلى أن الهيئة لم تضع آلية واضحة لمتابعة تصاريح العمل المرن، كما أنها لم تحدد فترة سماح واضحة لتأخير سداد الرسوم الشهرية ولا مدة واضحة لإلغاء التصريح عند تخلف السداد. وهو ما ساهم في تدمير السوق البحريني على عكس المؤمل منه.

اقرأ المزيد

أكان عليك أن تموت؟!

طوال الأسبوع الأول الذي تلى رحيله، وأنا أقول لنفسي سأكتب شيئاً عن فريد، ولكن ماذا عساني أكتب؟ قرأت معظم المقالات التي كتبها الأصدقاء عنه. أُعجبت بها كثيراً. كلما قراتها شعرت بعجزي أكثر إزاء أن اكتب شيئاً.
أذكر أني كنت في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، أوائل سنوات عملي بوزارة التربية والتعليم في مبناها بمنطقة القضيبية، حيث كنا نعمل في إدارة العلاقات العامة والأنشطة التربوية (اسم الإدارة آنذاك)، كان فريد يأتي يأتي، أحياناً، لمقر عملنا ويطلع بعض الأصدقاء من زملاء العمل من الأدباء والفنانين على كتاباته.
ذات يوم هاتفني فريد من أجل ترتيب لقاء الأربعاء بأسرة الأدباء والكتاب. قال: ليس عبثا اخترتك أن تكوني معنا بلقاء الأربعاء،علمأ بأني لا أتذكر الآن من كان المنسق، ولكننا نلتقي مساء الأربعاء بمقر الأسرة، ثم أصبحتُ كلما كتبت شيئاً أُطلع فريد عليه. اطلع أولاً على الشعر ثم لاحقاً على السرد. أذكر حين أطلعته على قصة “بحجم القلب” قال: جميلة جداً ومكتملة، وقد ضمنتها، فيما بعد في مجموعتي القصصية: (أيام خديجة).
كنا نتبادل الإيميلات لأن الهاتف النقال لم يكن قد ظهر بعد. حين أرسل له قصة أو قصيدة أبقى في ترقب بانتظار رأيه.
آخر مرة التقيت فيها فريد في معرض الكتاب عام 2018، واذكر أنه حدثني، يومها، أن روايته (المحيط الإنجليزي) ستصدر قريباً، (صدرت في سبتمبر 2018 عن دار سؤال) وحضرت حينها حفل تدشين مجموعة زوجته أمل: (وقت ليس لي). تبادلنا، يومها، بعض الأحاديث المقتضبة. ورأيته آخر مرة عبر الفضاء الافتراضي حين أقامت له أسرة الأدباء لقاءاً عبر “زووم” عن الرواية نفسها.
قاسياً هذا الرحيل المباغت. أرسلت الصديقة فضيلة الموسوي عصر الجمعة 6 نوفمبر (فريد رمضان في ذمة الله)، كأننا كنا نياماً واستفقنا على لذعة ثعبان. توالت المسجات عبر مجموعة الواتساب تباعاً، الله يرحمه. وكتب احدهم، تحققوا من الخبر، هل الخبر صحيح؟.
كعادتنا لا نصدق أو لا نريد أن نصدق. رحت من فوري، أبحث في مواقع الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لم تكن هناك أي إشارة إلى رحيله، فأرسلتُ رسالة صوتية إلى الشاعرة فضيلة الموسوي استفسر منها. وأجابتني بمسج صوتي آخر: الخبر حديث جداً، ليس لدى أي تفاصيل.
كان نبأ رحيله صحيحاً للأسف. لماذا نحن في غفلة؟ لماذا نعيش المسلمات ونعتقد أن الأشياء السيئة لن تحدث لنا أو لأحبابنا.
كل شيء ممكن الحدوث. بعدها توالت “مسجات” التعزية، ومع حلول المساء نشر الخبر رسمياً في جريدتي (البلاد)، و(الوطن) وبقية الوسائل الإعلامية. إذاً فعلتها ورحلت يا فريد. ومنذ رحيله لم تتوقف المقالات عن فريد. ومازال هناك كم هائل في الطريق سيكتب أيضاً.
أكان عليك ان تموت يا فريد، لنعرف وتعرف مدى ومقدار حب الناس لك؟ أكان عليك أن تموت، لتتدفق كل هذه الكلمات الرائعة في صفاتك وخصالك، أكان عليك أن تموت، لنعرف وتعرف مكانتك في قلوبنا. أكان عليك أن تموت لنرثيك بكلمات دامعة. أكان عليك أن تموت لنشعر بفقدك كل يوم؟.

اقرأ المزيد

الرقابة المالية والادارية وصلاحيات مجلس النُوّاب

لا يخلو العمل في القطاع العام من المخالفات والتجاوزات والأخطاء وشبهات الفساد فهذه طبيعة العمل. الطبيعة البشرية تجعل مثل هذه الممارسات واقع يستوجب التعامل معها دون القبول بها. تنقسم المخالفات بشكل عام الى ثلاثة اقسام. مخالفات ناجمة عن قصور في المنظومة السياسية والادارية ومؤسساتها وسياساتها. ومخالفات نتيجة عدم التزام المسئولين بالانظمة. ومخالفات صادرة عن تصرفات واجراءات فردية، أو جراء تعاون مجموعة من الأشخاص، على مستويات مختلفة من المسئولية، لإخفاء آثار التجاوزات أوإلباسها لباساً شرعياً، وهذه حالة فساد صارخ وهو أخطر الأنواع خصوصاً، إذا تمتع بحماية من جهات نافذة. وكل من هذه الأنواع الثلاثة يحتاج إلى معالجات مختلفة.
المخالفات الواردة في تقارير ديوان الرقابة المالية والادارية في معظمها من النوع الاول والثاني ولم تكشف التقارير المنشورة عن اي تجاوزات من النوع الثالث.
يقول رئيس اللجنة المالية النائب محمود البحراني بأن اللجنة ستقوم بدراسة متأنية للمخالفات الواردة في التقرير وستقدم توصياتها للمجلس بأسرع ما يمكن، ويقول بأن الأمل كان معقوداً على تركيز التقرير على تجاوزات المناقصات وقضايا الفساد والتجهيزات الإدارية الكبرى، لكنه لم ير ذلك في التقرير. أما رئيس اللجنة السابق على اسحاقي فيرى أهمية التعامل مع التقرير بشكل مختلف؟ هذا الاختلاف ينحصر فقط في سرعة الانتهاء منه! لأن هناك ميزانية تنتظرهم لإقرارها، وهذا عائق إجرائي.
النائب أحمد السلوم يتمنى مستوى أعلى من الشفافية في التعامل مع المال العام. ويضيف بأن تقرير هذا العام قدّم توصيات نوعية تختلف عن سابقاتها، ويعد بأن اللجنة ستعمل على تفعيل المحاسبة والمساءلة لفرض الإلتزام. أما النائب أحمد العامر فإنه يبدو غير متفائل بمخرجات دراسة التقرير بسبب صعوبة القرار في أي الأدوات تستخدم مهنياً، وأن النواب غير ملزمين كأفراد بأي أداة برلمانية، ولا يوجد اتفاق على أي الأدوات أفضل. بعبارة اخرى لا يثق بقدرة المجلس في اتخاذ قرار. وهذا عائق بنيوي.
أظهرت تصريحات النواب صعوبات اجرائية، ومشاكل التزام، ومعوقات بنيوية تقف عائقاً في تفعيل الأدوات الدستورية. وتطرح أسئلة حول ماهو المانع في تفعيل الأدوات الدستورية سابقاً، ولماذا بعد أكثر من عقد من الزمن لا يطرح هذا السؤال في المجلس كمناقشة عامة علنية؟ وثانياً: لماذا لا توجد إرادة جمعية لتفعيل ماهو متاح من أدوات؟ وثالثاً: هل الأدوات الدستورية كافية لمعالجة التجاوزات؟ يعول رئيس اللجنة المالية النائب محمود البحراني على تقديم توصيات بشأن المخالفات والتجاوزات، ويشير إلى استخدام الأدوات الدستورية من قبل المجلس ككيان واحد.
هذه الادوات (المناقشة والسؤال والتحقيق والاستجواب) كانت متوفرة منذ بداية المجلس ولم تتمكن من معالجة التجاوزات، فكيف الحال الآن وقد تمّ اضعافها في البرلمان السابق والحالي؟
المجلس مطالب بإعادة النظر في هذه الأدوات ورفع قدرته على حماية المال العام، ليس فقط في الميزانية العامة ولكن في جميع ايرادات الدولة والأملاك العامة، أي المال العام بجميع مكوناته الثلاثة. كذلك هو مطالب بمراقبة أداء الحكومة في تحقيق أهداف التنمية ورفع مستوى المعيشة وعدالة توزيع الثروة وتكافؤ في تحمل الأعباء الضريبية التي أصبحت أمراً واقعاً. وبالتالي فإن السؤال هل مجلس النواب بأدواته الدستورية الحالية قادر على التعامل مع تحديات تحسين الأداء ومراقبة المخالفات المتعلقة بالميزانية العامة وإيرادات الدولة وأملاكها؟ أم نحن بحاجة إلى مؤسسات اضافية وسياسات أخرى ومقاربة مختلفة لقضايا المال العام؟
تُبرز المخالفات والتجاوزات في التقارير حاجة لأدوات بنيوية ودستورية لرفع كفاءة الرقابة. لكن الأهم هو تغيير في المجلس النيابي نفسه من حيث القانون الانتخابي لتعديل التركيبة في المجلس ليكون للجمعيات السياسية دور أكبر مع تمثيل أفضل لفئات المجتمع والطبقة العاملة والجمعيات المهنية وتقليل الدوائر الانتخابية إلى أقصى حد بما لا يزيد عن خمس، ورفع مستوى صلاحيات المجلس في المساءلة ضمن رؤية شاملة لتقوية المجلس بشكل عام.
حينها يمكن رفع مستوى الحوكمة والتدقيق الداخلي وإعادة تصميم بعض العمليات وإنشاء هيئة لمكافحة الفساد. كل هذه المفاهيم وغيرها يمكن الإستفادة منها في طرح الحلول ضمن منظومة إدارية متكاملة منها: أولاً؛ انشاء جهاز تخطيط على مستوى الحكومة يضع أهداف بمشاركة مجتمعية ومؤشرات أداء متفق عليها مسبقاً، وتكون خاضعة للمساءلة. ثانيا؛ لا يمكن للمساءلة أن تؤتي نتائجها دون أن تتمتع المنظومة السياسية والإدارية بقدر من الشفافية تتيح للمجتمع متابعة أداء المؤسسات والوزارات والحكومة بشكل عام. غياب هذه الشفافية تؤدي إلى كثرة التكهنات وتعاظم الإتهامات وزيادة التشكيك في الإنجازات. ثالثاً؛ لكي تكون الشفافية فاعلة والمساءلة مؤثرة يتطلب الأمر توفر المعلومات وحرية التعبير في مناقشة الأداء والتقييم الموضوعي المبني على المعلومات الموثقة. رابعاً؛ في تقديم مقترحات الحلول يجب إدراك أن الغاية من الحوكمة ومن المنظومة السياسية والإدارية الفاعلة هي تحقيق الأهداف الاستراتيجية لتقدم وتنمية المجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً ورفع مستوى الرفاهية للمواطن وضمان الأمن والاستقرار في الدولة.

اقرأ المزيد

النسوية في موجتها الرابعة .. أين نقف منها!

تعيد الحركة النسوية في الآونة الأخيرة إنتاج نفسها في العالم، أو ما يعرف بالموجة الرابعة لهذه الحركة التي بدأت موجتها الأولى في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، من رحم البيئة السياسة الإشتراكية اللبيرالية والتي هدفت إلى فتح الفرص للنساء مع التركيز على حق الإقتراع.
التحرك عملياً بدأ في مؤتمر سينيكا فولز في 1848، ثم صاغت مبادئه إليزابيث كادي ستانتون فيما يسمى إعلان سينكيا فولز، وتزامنت هذه الحركة مع دعوات حق المرأة في التصويت بالإضافة إلى حركات مطالبة بإلغاء الرق.
الموجة الثانية بدأت في الستينيات من القرن الماضي واستمرت حتى التسعينيات، بالتزامن مع صعود الحركات المناهضة للحرب والمطالبة بالحقوق المدنية وحقوق الأقليات في العالم، غير أن هذه الموجة أتسمت بخطاب متشدد وراديكالي بحسب وصف الكثير من المهتمين بالحركات النسوية، كما أن الموجة الثانية كان خزّانها الرئيسي من النساء ذوات البشرة السوداء تحت شعار التضامن، وأن الصراع طبقي ورفعوا حينها شعارات مناهضة التمييز.
أما الموجة الثالث فجاءت مكملة لمبادئ الموجة الثانية مع صبغة شبابية أكثر، لكونها مرحلة نضالات فردية أكثر منها حركة جماعية تحت عنوان “لم نعد بحاجة للنسوية”.
أما الآن والعالم يشهد صعوداً للموجة الرابعة، التي تبدو أكثر وضوحاً وتحمل إمتدادات أكثر عمقاً وتجذراً من سابقتها، فيجدر بنا السؤال عن مفهومنا المحلي للنسوية، عن مدى ابتعادنا أو قربنا من هذا المفهوم، عن قبولنا أو رفضنا له ولماذا، أيضا من المهم أن نسأل عن مدى فهمنا الصحيح للنسوية وقدرتنا على فصل الأهداف عن الخطابات، خصوصا أن هذا المفهوم ارتبط في العديد من المراحل بخطابات وشخصيات نسائية راديكالية أثرت على تبني أو قبول العديد من المجتمعات لهذه الأهداف، ما يحتم علينا ضرورة وضع الأهداف على الطاولة وقياس مدى قدرة مجتمعاتنا على استيعابها وقبولها.
تهدف النسوية بطبيعة الحال إلى الدفاع عن حقوق المرأة، والمساواة بين الجنسين في السياسية والاقتصاد والحياة الإجتماعية. وفي مسألة المساواة تحديداً هناك خلط كبير في المفاهيم. خلط أو لبس بين مفهومي المساواة والتماثل، كأن نقول المرأة “نفس” أو “مثل” الرجل، وعلى اعتبار أن الرجل يمتلك قدرات جسدية أكبر، فبالتالي لا يمكن للنساء أن يكنّ مثل الرجال، وهنا يكمن الخلل أو التضليل الحاصل في المفهوم، الأمر الذي أوقع بعض النسويات أنفسهن في الفخ ودفعهن إلى خوض معارك لا معنى لها في تحدي اجسادهن من باب اثبات القدرات الجسدية عبر العمل في مجالات الأعمال الشاقة وغيرها، ورغم أن هذا خيارهن ولكن من المهم أن ندرك أن “نفس” لا تعني “متساوٍ” لأن عدم المساواة الجسدية لا تعني عدم الحصول على حقوق متساوية.
على سبيل المثال طفلاك من نفس الجنس ويتمتعان بقدرات ذهنية ومؤهلات شخصية متساوية ولكن أحدهما أقل في قدراته الجسدية هل يصح منع الطفل الأضعف من الحصول على حقوق متساوية مع الأقوى بنية؟!
مثال آخر، طالبان في نفس الصف أحدهما لديه قدرات جسدية أكبر من الآخر، هل يصح منع الضعيف من الحصول على الموارد التعليمية وفرص تطوير المهارات بسبب ضعف قدراته الجسدية؟ إذا كيف لنا أن نعمق فهمنا لمسألة المساواة؟
اعتقد، أولاً، من المهم أن نتجاوز حصر مسألة المساواة في المرأة فقط، كطرف مازال هو الأضعف في المجتمع طبعا، إلى الإيمان بجوهر المبدأ أن كل إنسان، يستحق حقوقًا متساوية وفرصاً متساوية بغض النظر عن جنسه أو دينه أو لونه أو عرقه، وإذا كان هناك من تثير هذه الفكرة مخاوفه، فعليه أن يكون صريحاً مع ذاته عن منبع هذه المخاوف ودوافعها، وربما هي الخطوة الأولى في مسار أحداث أي تحول في نمطية التكفير لدى الأفراد والجماعات.
ومن ثم يأتي السؤال الآخر للمعارضين، لماذا تعارض أن تحصل المرأة على حقوق متساوية بالكامل على كل الاصعدة. هل من العدالة أن تحصل مجموعة على كل الفرص، وتحرم فئات أخرى فقط لأن هناك اعتقاداً بأنها ضعيفة، ما سبب ضعفها هل هو ضعف أصيل أم هو نابع من منظومة المجتمع، وبصراحة علينا أن نكون صادقين مع انفسنا قبل الإجابة على هذه الأسئلة.
وأخيرا، هل المساواة تمنع وصول المجتمعات إلى تنمية حقيقية أم أنها الاستثمار الأول في التنمية البشرية؟!
الإجابة على هذه الاسئلة كفيلة بأن تساهم في وضع أسس ننطلق منها في تبني أو رفض أي تحرك نسوي.
من جانب آخر، لابد من تسليط الضوء على الأسباب التي دفعت مجتمعات وأشخاصاً إلى رفض أي حركة نسوية أو حتى التعاطي مع هذا المفهوم، وعلى رأسها الصورة النمطية المتمثلة في ارتباط الحركة النسوية بالمرأة القوية والمناكفة للرجل وذات الشخصية الصدامية، بالإضافة إلى وجود إعتقاد أن المرأة تريد إزاحة الرجل من واجهة المجتمع بغرض سحب بساط التأثير والسيطرة منه، والأهم الذي يمسّ مجتمعاتنا هو الاعتقاد أن النسوية ستقلب العادات والتقاليد رأساً على عقب، وستغير طبيعة الأدوار الراسخة بين الجنسيين وستمسّ المعتقدات الدينية، وهذا أمر لابد من وضعه في الحسبان عند مخاطبة المجمتعات.
عموماً، هذه المخاوف والمواقف المسبقة من شأنها أن تتلاشى إذا ما وضعنا مسألة المساواة في نصابها الصحيح، وصححنا المفاهيم والصور النمطية والمعتقدات الخاطئة التي صاحبت النسوية. حينها سنكون أكثر استعدادا للاستقبال الصحيح. وفي نهاية المطاف احترام المعتقدات والقيم والمثل العليا في المجتمع عندما توضع في عين الاعتبار خلال أي تحرك أو نشاط مدني يكون له تأثير أكبر من التحركات التي تجنح للتصادم مع القيم الاجتماعية الراسخة. هذا ما أثبتته العديد من الدراسات مؤخراً.
وختاماً، أمام كل التحركات العالمية من أجل تمكين المرأة ووضع هذا الملف ضمن الأهداف العالمية للتنمية المستدامة وفي ظل صعود الموجة الرابعة للحركات النسوية للعالم أين نحن؟ وماذا أعددنا لها على صعيد المجتمع النسائي الناشط؟ ما هي المعوقات والتحدّيات وكيف يمكن مواجهتها للسير على الخطى العالمية؟!

اقرأ المزيد

الآمال المنشودة

عبّرت البحرين عن حزنها على رحيل صاحب السموالملكي الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس مجلس الوزراء، وجرى استذكار ما قدّمه الراحل من خدمات ومنجزات للوطن على مدار عقود، وما نهض به من أدوار في بناء الدولة وأجهزتها المختلفة.
وعبّر البحرينيون أيضاً عن تهانيهم لصاحب السمو الملكي ولي العهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة على الثقة الملكية السامية بتعيينه رئيساً لمجلس الوزراء، وعن تمنياتهم له بالتوفيق في أداء المهام الكبيرة في المرحلة المقبلة، في مواصلة مسيرة التنمية وتحقيق تطلعات المواطنين في حياة كريمة تلبي حاجاتهم في مختلف المجالات.
وفي هذا السياق جاء ما عبّر عنه المنبر التقدمي من خلال البلاغ الصادر عن مكتبه السياسي، الذي رفع فيه التعازي برحيل المغفور له الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، كما تمنى فيه لسمو ولي العهد رئيس الوزراء التوفيق والسداد في تلبية أماني وتطلعات شعب البحرين وتحقيق كلما ينهض بواقع هذا الشعب في المرحلة المقبلة، ويفتح آفاق جديدة له خاصة في مجالات التنمية والتطور والتحديث وضمان الحياة الكريمة للمواطنين وتحقيق المواطنة الدستورية.
وعبرت جمعيات سياسية، بينها المنبر التقدمي، ومؤسسات للمجتمع المدني وهيئات شعبية مختلفة، عن حرصها على دعم ومساندة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء في توجهاته الرامية إلى تحقيق تلك الأهداف والتطلعات، وكل ما يصبو إليه شعب البحرين، وتحقيق المصالح العليا للوطن والمواطن.
التحدّيات التي أمام وطننا ليست قليلة، خاصة في ظروف الأزمة الاقتصادية العامة في العالم التي فاقمتها جائحة “كورونا”، وترافقت مع الانخفاض الكبير في أسعار النفط الذي هو مصدر دخلنا الأساسي، كما أننا نقع في إقليم مضطرب يواجه مخاطر مختلفة تهدد الأمن والاستقرار فيه.
ومن هذه الزواية بالذات أكدّ “التقدمي” على أهمية بلوغ المعالجات الصائبة للمشكلات والمعوقات التي تواجه بلادنا على كل الصعد، ومثل هذه المعالجات تتطلب توافقاً بين الإرادتين الشعبية والرسمية، والمؤمل أن سمو ولي العهد رئيس الوزراء الذي يدرك أهمية ذلك، سيواصل جهوده في هذا الاتجاه، وسيحرص على مشاركات شعبية أوسع في رسم القرارات، بما في ذلك السعي لتطوير الأدوات الرقابية والتشريعية لمجلس النواب ليكون شريكاً فعالاً في أداء هذا الدور.
وتتميز البحرين بوجود كوادر كفؤة من أبنائها من الجنسين ومن مختلف الأجيال، بمن فيها الجيل الشاب، وهي قادرة على العطاء والبذل في خدمة الوطن إن وجدت الرعاية والاهتمام والتمكين، ونثق بأن سمو ولي العهد رئيس الوزراء سيعطي هذا الأمر اهتمامه الكبير.

اقرأ المزيد

التطبيع مرفوض شعبيا

في البحرين وفي غيرها من الدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع دولة الاحتلال الصهيوني، وفي الدول التي ستسير على الطريق نفسه، هناك حقيقة ساطعة هي أن هذا التطبيع مرفوض شعبياً، ولن يحظى، في أي حال من الأحوال، بغطاء شعبي، ولا حتى بتفهم للمزاعم التي تساق لتبريره.
ولنا في ذلك تجربة ثابتة وواضحة في دلالاتها، هي تجربة التطبيع في مصر والأردن، فرغم مرور عقود على توقيع حكومتي البلدين على ما وصف ب”اتفاقيات سلام”، فإن شعبيهما الشقيقين استمرا في رفض هذا التطبيع، ووقفت القوى الشعبية كافة سداً منيعاً بوجه أي اختراق صهيوني للمجتمع فيهما، كما كشفت التجربة نفسها زيف المزاعم التي يجري ترويجها عن الرفاه المنتظر من وراء التطبيع مع عدوٍ غاصب وعنصري معبىء بالكراهية ليس فقط لكل ما هو فلسطيني، وإنما لكل ما هو عربي.
وقد كشفت ردود الفعل الشعبية في البحرين خلال الأسابيع القليلة التي مرّت منذ اعلان توقيع الاتفاق مع الكيان الصهيوني استياء كافة مكونات شعبنا من هذه الخطوة، وتأكيدها على أن الصهاينة غير مرحب بهم في بلادنا بكافة الصور، ونحن على يقين من أن شعبنا الذي تربى على حب فلسطين وشعبها، والتضامن مع قضيتها العادلة، ولم يتردد بعض أبنائه عن التضحية بأرواحهم في سبيل نصرتها، سيستمر على هذا الموقف على الدوام.
وتجلى موقف شعبنا في رفض التطبيع في الكثير مما نشرته وسائل التواصل الاجتماعي، وفي ما صدر من بيانات من الجمعيات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وهيئات وجمعيات مناهضة التطبيع والتضامن مع شعب فلسطين، وفي الندوات الافتراضية المختلفة التي شارك فيها نشطاء بحرينيون معبرين عن موقف شعبهم مما يجري.
وفي هذا السياق أتى البيان الذي أصدرته اللجنة التنسيقية للجمعيات السياسية، وأعلنت فيه رفضها للاتفاقيات المبرمة بين مملكة البحرين والكيان الصهيوني، التي جاءت بالتزامن مع إعلان الكيان الصهيوني عن إنشاء آلاف المستوطنات الجديدة في أراضي الضفة الغربية المحتلة، مؤكدة أن ذلك يكشف بكل وضوح نوايا الكيان في ضم كافة الأراضي المحتلة وتهويدها.
ودعا البيان شعب البحرين بكافة فئاته وشخصياته وجمعياته السياسية ومؤسسات المجتمع المدني إلى ترجمة المواقف المناهضة للتطبيع بمقاطعة أي سلع وخدمات شملتها الاتفاقيات الموقعة في الجوانب التجارية، أو السياحية، أو الصحية، أو الاستثمارية، أو غيرها، كما دعت إلى إطلاق حملة واسعة تضامناً مع الشعب الفلسطيني الشقيق، ولفضح واستنكار كافة الممارسات الإجرامية الصهيونية ضده.

اقرأ المزيد

الربيع

تبدو الحديقة في مثل هذا الوقت من العام، رائعة بأزهارها الحمراء وحشائشها الخضراء، وعطرها الأخَّاذ، وليس أجمل من جلسة على الكرسي في مثل هذا الطقس، في صحبة كتاب.
والحق أنَّه اعتاد هذه الجلسة منذ أمد بعيد، إنَّها تملأ نفسه طمأنينة وراحة هو بأمسِّ الحاجة إليها، وهو في هذا السن دون زوج وأبناء.
لقد قام بما عليه كأخ كبير، ومات والده راضِ عنه، وكنت آخر كلمة سمعها من أمه، وهو يقلَّها إلى المسجد الكبير: وفقك الله ووهبك زوجا صالحا، ترعاك كما رعيتنا جميعا.
وها هم أشقُّاؤه وشقيقاته، فتحوا بيوتا، وأنجبوا أبناءا، وأعينهم تفيض بدمع العرفان، للأخ الذي آثر أن يحرم نفسه لأجلهم.
وقام من على الكرسيِّ، وتمشَّى ببطأ شابكا أصابعه خلف ظهره، مسرورا بمنظر الأرض الخضراء، وبالنخلة الوحيدة المرفوعة الهامة، وبشجرة اللوز الوارفة الظلال.
وسقطت كرة عند قدميه، فانحنى والتقطها وأخفاها خلف ظهره، لعلمه أنها لابن جاره المشاغب محمود. وسمع صوت الباب يفتح، وصوت الطفل يقبل مسرعا للحديقة، وهو يقول:
– أريد كرتي.
فأحبَّ أن يشاغبه فقال:
– أيَّة كره؟
أجاب الولد في قلق:
– لقد سقطت في حديقتكم.
– ما لونها؟
– أخضر.
قال في ود:
– لدينا كرات كثيرة، تعال اختر منها ما تشاء.
ودخل الولد الحديقة، وبحث فلم يجد كرته، فقال:
– أين كرتي؟
– هناك .. أنظر.
وأشار إلى البطيخ الأخضر..
– تقدم خذ منها ما تشاء.
وجاء الولد، ولمَّا لم يجد كورته أوشك على البكاء:
– هذه ليسة كور إنها بطيخ أخضر.
فضحك، وأخرج الكرة من وراء ظهره وأعطاها اياه، وقال مُتصنِّعا الغضب:
– لن أعطيك إياها إذا رميتها هنا مرة أخرى.. أسمعت؟!
أمسك الولد بالكرة وفرَّ هاربا.
لحظات وسمع صوت الخادمتين يرتفع بالصُّراخ، فبان عليه الضيق والكدر:
– ألن تكف هاتين المجنونتين عن الصراخ؟
ثمَّ أطلَّت فجأة امرأة ضخمة الجثَّة فبان عليه الانزعاج الشديد، كأنَّما أُلقت حجرا في بركة راكدة هادئة.
ابتسمت متودَّدة، فتساءل حتى متى يتحمَّل مضايقاتها؟!. لقد دخلت البيت دون استئذان، وستحاول الآن اقتحام خلوته المحببة إليه.
إنها امرأة مُطلَّقة ولديها طفلان، لم تزل تحاول الإيقاع به كي يتزوَّجها. لقد بلغت بها الجرأة أن تحدَّثت مع شقيقاته، أفهمتهنَّ أنَّها أفضل زوجة يمكن أن يحظى بها، هي بحاجة لزوج يرعاها، وهو بحاجة لامرأة تسعده، وكأنه صبي صغير بحاجة لها ولغيرها، أو انه غرُّ جاهل لا يعلم من أمرها شيئا، ولا يعلم أن سوء أخلاقها دفع بزوجها لتطليقها رغم الطفلين.
وتقدَّمت خطوة، فأشار إليها بحزم:
– أرجوكِ.. أنا لوحدي في البيت، وليس أمرا طيبا أن تدخلي.
ويبدو أن لهجته كانت شديدة الامتعاض، ما دفعها للانصراف بحنق شديد.
حمد الله، ثم عاد إلى مجلسه وأمسك بكتابه، حين سمع صوت جلبة محبَّبة عند الباب…
– شيء لطيف حقَّا.
قال ذلك في انشراح وسعادة. إنهم أشقَّائِه وشقيقاته، جاؤوا يقضون المساء معه، وعن قريب سيملأ أبناؤهم البيت ضجيجا ومرحا.

اقرأ المزيد

لينين في مواجهة هيغل [مقتطف]

لوي آلتوسير

ترجمة: هشام عقيل

اليوم، في إبريل 1969، بينما نعيش في ظل انشقاق فعلي في الحركة الشيوعية العالمية، وبينما يعقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره التاسع، وتجرى الاستعدادات للمؤتمر العالمي للأحزاب الشيوعية في موسكو، لا يمكننا أن نعتبر التفكير حول لينين وهو يقرأ (منطق) هيغل في 1914 و1915 كشيء لا صلة له بالوضع الحالي. إنها ليست المدرسية بل الفلسفة، وبما أن الفلسفة هي السياسة في النظرية، فإنها بالتالي سياسة. وضعنا الحالي متقدم بكثير على الوضع الذي كان فيه لينين، حيث أننا لا نعيش حرباً عالمية، ويمكننا أن نرى بوضوح مستقبل الحركة الشيوعية العالمية، رغم انقسامها الحالي، ولعلّ هذا الوضوح هو بسبب هذا الانقسام، رغم معلوماتنا الضئيلة حوله؛ حيث يمكن للمرء التفكير دائماً.

يمكن فهم تناقض سلوك لينين إزاء هيغل عبر المقارنة ما بين حقيقتين:

1. الحقيقة الأولى

كرّس لينين في العام 1894، في كراس (من هم ”أصدقاء الشعب“)، إثني عشر صفحة لكتابة الفرق ما بين ديالكتيك ماركس المادي وديالكتيك هيغل! رغم أنه – لينين- بشكل واضح لم يقرأ هيغل آنذاك، بل قرأ فقط ما كتبه ماركس حول هيغل في خاتمة الطبعة الألمانية الثانية لكتاب (رأس المال)، وما قاله انغلز حول هيغل في كتابي (ضد-دورنغ) و(فويرباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية).

تلك الإثنا عشر صفحة هي عبارة عن إعلان صارم ضد-الهيغلية. الاستنتاج النهائي لهذه الصفحات (استنتاج كتب كملحوظة) هو، وسأقتبس لينين نفسه: “إنه من السخف ربط الماركسية بالديالكتيك الهيغلي” ( Lenin, Collected Works, Vol.1, p.174n.). يقتبس لينين إعلان ماركس القائل إن منهجه هو: (“العكس المباشر” لمنهج هيغل) (p.167). أما بالنسبة إلى صيغ ماركس الهيغلية، التي تظهر في كتاب (رأس المال)، وبالأخص في الجزء الأول من المجلد الأول، التي قال عنها ماركس إنها نتاج لما قام به من: “تغزل (kokettieren) بأنماط التعبير الخاصة بهيغل”، فإن لينين يصفي الحساب معها عبر مبرر أنها: “اسلوب ماركس في التعبير”، وترتبط بـ: “أصل المذهب نفسه”، مضيفاً بداهة يقول فيها: “جب علينا أن لا نلوم النظرية على حساب أصولها” (p.164). يواصل لينين قائلاً إن الصياغات الهيغلية للديالكتيك، الـ ”النموذج الديالكتيكي الفارغ“ للثلاثية، هي “غطاء” ما أو “جلد” ما، ولا يمكن أن يزيل المرء هذا الغطاء أو الجلد من دون تغيير أي شيء في الوعاء المكشوف أو الثمرة مقشرة، ولكن بالفعل أنها يجب أن تكشف أو تقشر من أجل كشف ما تخبئه في الداخل.

لأُذكر القارئ أن في العام 1894 لم يقرأ لينين هيغل، ولكنه قرأ كتاب (رأس المال) لماركس بعناية، وفهمه أكثر من غيره – كان في الرابعة والعشرين من عمره فقط – لدرجة أن أفضل تقديم لكتاب (رأس مال) ماركس نجده عند لينين. مما يبدو أنه يثبت حقيقة أن أفضل طريقة لفهم هيغل والعلاقة التي تجمع هيغل وماركس هي فوق كل شيء آخر قراءة وفهم كتاب (رأس المال).

2. الحقيقة الثانية

كتب لينين في 1915، في ملاحظاته حول كتاب (المنطق الكبير)، ملحوظة يعرفها الكل عن ظهر القلب: “من المستحيل فهم كتاب ماركس (رأس المال) كلياً، وبالأخص فصله الأول، من دون قراءة ودراسة منطق هيغل بأكمله بعناية وإحكام. هكذا، بعد نصف قرن، لم يفهم الماركسيون ماركس!!” (Collected Works, Vol.38, p.180).

لأي قارئ سطحي، يناقض هذا التصريح بوضوح تصريحات 1894، بما أنها كانت إعلانات ضد-الهيغلية بشكل راديكالي، هنا يبدو أننا أمام إعلان مناصر للهيغلية بشكل راديكالي. بلا شك، إن ذهبنا بهذا الإعلان إلى مدى بعيد جداً وطبقنا مقولة لينين على لينين نفسه سيظهر مؤلف النصوص المذهلة حول كتاب (رأس المال) ما بين 1893 و 1905 كشخص لم ”يفهم ماركس“، بما أنه لم يقم، قبل 1914 و1915، بـ ”دراسة وفهم منطق هيغل بأكمله“!

سأترك المفسرين التقليديين يحررون أنفسهم من هذا ”التناقض” الصغير، رغم أنني أشك بأنهم سيقومون بالكثير حوله؛ مهما أعلنوا، مثل مفسري نصوص لينين الأخرى، أن هذا ”التناقض” هو المحرك الكوني لكل تقدم، من ضمنه التقدم المعرفي.

أما بالنسبة لي، فأنني سأقبل كلمة بكلمة لهذا الإعلان الثاني للينين كما قمت بذلك للإعلان الأول. كان لينين محقاً عندما قال ”لفهم كتاب رأس المال”، وبالأخص (ولاحظ ذلك لأنه عبقري) فصله الأول، أيّ الجزء الأول من المجلد الأول الشاذ، وأنه شاذ لأنه لا يزال هيغلياً، ليس في توظيفه الاصطلاحي وحسب، بل أيضاً في شكل استعراضه، من المهم جداً معرفة (منطق) هيغل بعمق ولسبب جيد جداً.

يمكنني اختزال تناقض الحقيقة الثانية هذه، لهذا الإعلان الثاني للينين، عبر الإشارة مباشرة أنه يأتي (في الصفحة السابقة لدفاتر لينين الفلسفية) بعد صيغة مثيرة للاهتمام جداً. يعلن لينين أن في الواقع: “تحليل هيغل للقياس المنطقي … يذكرنا بتقليد ماركس لهيغل في الفصل الأول”. هنا نجد إعادة صياغة لتشخيص ماركس: ”تغزّله” بهيغل. إذا كانت القبعة تناسب رأسك فإلبسها؛ أنا لم أقل ذلك، بل إنه لينين من قال ذلك متبعاً ماركس. في الواقع، لا يمكن المرء فهم الجزء الأول للمجلد الأول من دون أن يرفع، بشكل كامل، ”غطاءه” الهيغلي؛ من دون أن يقرأ هذا الجزء بشكل مادي، مثلما قرأ لينين هيغل؛ من دون، إذا يسمح لي هذا الافتراض، إعادة كتابته.

هذا يؤدي بنا مباشرة إلى أطروحتي المركزية حول قراءة لينين لهيغل: يحمل لينين في ملاحظاته حول هيغل مثل الموقع بالضبط الذي تبناه مسبقاً في كراس (من هم ”أصدقاء الشعب“) و( المادية والنقد التجريبي)، أيّ في اللحظة التي لم يكن لينين قد قرأ هيغل بعد، مما يؤدي بنا إلى ”استنتاج” صادم ولكنه حقيقي: في الأساس، لم يحتاج لينين قراءة هيغل ليفهمه، لأنه قد فهم هيغل بالفعل حيث قرأ ماركس بعناية. بالتالي، سأقوم بوضع مقولة خاصة بي: بعد قرن ونصف لم يفهم أحد هيغل لأن من المستحيل فهم هيغل من دون دراسة كتاب (لرأس المال) بعناية وإحكام! استفزاز بمقابل استفزاز آخر؛ أتمنى يغفر لي هذا، على الأقل في المعسكر الماركسي.

أما بالنسبة للهيغليين، فيمكنهم الإستمرار بتفكرهم بهيغل، مفكر كل المفكرين هذا، أو مفسر كل التفسيرات في تاريخ الفلسفة. في كل الأحوال أنهم يعلمون، بوصفهم هيغليين جيدين، أن التاريخ قد انتهى، وبالتالي بإمكانهم أن يلتفوا ويدوروا حول نظرية نهاية التاريخ، أيّ عند هيغل.

في النهاية، إنها ليست مجرد دوارات التي تلتف مراراً وتكراراً، إذ يمكن لعجلة التاريخ أن تدور مراراً وتكراراً أيضاً: عجلة التاريخ الفلسفي على الأقل، التي دائماً تدور مراراً وتكراراً. وعندما تكون هذه العجلة هيغلية، فتكون أفضليتها مثل الأفضلية التي أعطاها باسكال للإنسان بالنسبة إلى القصبة، هذه الأفضلية هي: أن الإنسان ”مدرك“ بها.

اقرأ المزيد