المنشور

أُنْثَى تُشْبِهُكَ

سَأَسْتَلِفُ غَمَّازَتَيْكَ
وَأَسِيرُ بِلا قَدَمَيْنِ لِقَلْبِكَ
قَدْ يُرْهِقُنِي المَسِيرُ
لَكِنِّي سَأَسْأَلُ اللَّيْلَ عَنْ طَرِيقٍ مُخْتَصَرٍ
عَنْ قَمَرٍ يَخْتَصِرُ الضَّوْءَ بِوَجْهِكَ
وَيُعْلِنُ لِلَّيْلِ نَهارِي
*****
سَأَسْتَلِفُ حَدِيثاً لَذِيذاً
مِنْ شَفَتَيْكَ
وَأَقْبَلُ بِالصَّمْتِ عِقاباً لِتَهَوُّرِي
*****
سَأَسْتَلِفُ حاسَّتَكَ
وَأَذُوقُ مَعانِي النَّهْدِ
مِنْ شَفَتِي
*****
لِتَسْتَرِحْ الأَسْئِلَةُ قَلِيلاً
افْتَحْ دُرْجَ دَهْشَتِكَ
هُناكَ أُنْثَى تُشْبِهُكَ
تَغْسِلُ أَوانِيَ حُزْنِها
وَتُضَفِّرُ رُوحَها
كَيْ تُرَمِّمَ المَسافَةَ

*****
بَكارَةُ البَحْرِ مَسْجُونَةٌ هُناكَ
البَساتِينُ نَهْدٌ غامِضٌ
الرَّوائِحُ قَمْيصٌ قَلِقٌ مِنْ غِيابِ الهَواء
*****
الغِوايَةُ
قَلْبٌ يَنامُ عَلَى الصَّمْتِ
*****
أُحِبُّكَ
سَأُخَبِّئُها تَحْتَ طِينِ رُوحِي
وَأَتْرُكُ النَّبِيذَ
لِيُصَلِّي مَعَكَ صَلاةَ التَّوْبَةِ
*****
لَوْ قَبَّلْتَنِي أَكْثَرَ لَنَبَتَ ياسَمِينٌ عَلَى شَفَتَيَّ
*****
قُبَّعاتُ حَنانِكَ
وَ
أَصابِعُكَ
.
قَبِّلْنِي وَسَأَنْجُو مِنَ المَوْتِ
*****
أَنا عاشِقَةٌ جِداً
إلا أَنَّهُ لا حَبِيبَ لِي
*****
الدُّمُوعُ شَهْقَةٌ حائِرَةٌ فِي نَفْسِ اللَّيْلِ
*****
تَعالَ
جَرِّبْ أَنْ تَقْتَرِبَ مِنْ قَلْبِي
أَوْ
ضَعْ رِسالَةً تَحْتَ البابِ
أَنْتَظِرُكَ مُنْذُ غَيْمَةٍ
*****
البارِحَةَ رَأَيْتُكَ تُراقِصُنِي
خَبَّأْتُ مَشاعِرِي فِي صُنْدُوقٍ قَدِيمٍ
وَقَفْتُ عِنْدَ دَهْشَتِكَ وَأَنْتَ تُمْسِكُ يَدِي وَتَبْحَثُ عَنْ عَيْنَيْها
أَيْنَ تَعَلَّمْتِ الرَّقْصَ؟
كانَ قَلْبِي سَيُجِيبُكَ لَوْلا أَنَّهُ فِي الصُّنْدُوقِ القَدِيمِ
*****
قَلِيلاً قًلِيلاً تَنْمُو أَصابِعُكَ داخِلِي
فَيَسْتَوِي جِسْرُ اللَّذَّةِ
وَيَهْرُبُ الصَّمْتُ مِنْ خارِطَةِ الجُنُونِ

*****
الحُلْمُ بَحْرٌ دُونَ مِلْحٍ
قَوارِبِي إِلَيْكَ
تَخْتَبِئُ فِي الصَّمْتِ
أَجُرُّ عَرَبَةَ الكُحْلِ
وَأَتْرُكُ عَيْنِي تَنامُ فِي القَلَقِ

*****
النَّوْمُ قافِلَةٌ مُحَمَّلَةٌ بِالأَغانِي
وَشْمُ وَعْدِكَ عَلَى صَدْرِي
رُفُوفُ الكُتُبِ المَنْسِيَّةِ فِي ذاكِرَةِ القُبَلِ
النَّوْمُ
غَزالَةٌ تَرْتَوِي مِنْ سُحُبِ بَياضِكَ
*****
المَسافَةُ بَيْنَ حُلْمِي وَانْتِظارِكَ
تُشْبِهُ قِطَّةً تَمُوءُ فِي زَوايا الفَرَحِ
المَسافَةُ شَهِيدَةُ التَّوْقِ
لا تَأْتِي حافِيَةً
المَسافَةُ مُحَمَّلَةٌ بِمُزْنِ بَوْحِكَ
وَهَمْسِ أَطْرافِكَ عَلَى نَهْدِي
*****
فِي ذاكِرَةِ قَلْبِي نَخْلَةٌ
كُلَّما تَمَلَّكَنِيَ الخَوْفُ هَزَزْتُ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
فَيَسَّاقَطُ رُطَبُ رُوحِكَ لِيُنْقِذَ غُرْبَتِي مِنْ مَخاضِ الجَفافِ
فَأُصْبِحُ جَسَدَ الوَرْدَةِ
وَيَتَسَرَّبُ عِطْرُكَ لِي فَأَكْتَمِلُ
*****
فِي أَصابِعِي دالِيَةٌ
خَلْفَها قِصَصُ العَصافِيرِ
أَجُوعُ إِلَيْكَ فَأُتِمُّ نُذُورِي لِشَجَرَةِ النَّبْقِ
وَأُطْعِمُها جَيِّداً كَيْ تَحْجِزَ لِي مَقْعَداً فِي العِناقِ
*****
يَتَسَرَّبُ جَسَدِي
أَتَلَفَّتُ، أَراكَ
فَأَعْرِفُ جِهَتَهُ
أَرْسُمُ قُبَّعَةً وَخَلْخالاً
ظِلَّانِ يَرْقُصانِ
يَدْخُلاِنِ الكَوْنَ
فَتَهْرُبُ الفَوْضَى مِنْ نافِذَةِ البَرْدِ
هَكَذا أَشْرَبُ نَخْبَ رُجُولَتِكَ
وَأَحُجُّ إِلَيْكَ

اقرأ المزيد

الحب: أبجدية أبجديات الإنسانية

يقول دويستوفسكي في رواية (الزوج الأبدي): “الأفكار العظيمة هي إلى حد ما ثمرة قلب كبير وليست نتيجة ذكاء كبير”. لقد تقدمت الإنسانية كثيرا في مجال العلوم والمعرفة، لكنها من دون المحبة والقلب العطوف إلى أين أخذتنا؟ الحرب، القتل، والكراهية! لذا فإن أكثر ما يحتاج إليه البشر اليوم هو غرس مشاعر المحبة التي تبني جسور العلاقات بينهم. وإن العقل وحده لا يكفي لذلك لمحدوديته، فكانت الأفكار دائما ما تضع البشر في عقد منغلق.

حين سألوا ألبير كامو إذا ما أراد تأليف كتاب عن الأخلاق فماذا سيكتب. قال: “لجعلته من مائة صفحة، تسعة وتسعون منها بيضاء وفي الأخيرة سأكتب: لا أعرف سوى واجب واحد، ألا وهو الحب”. فإن عاطفة المحبة هي التي تقف وراء كل عمل أخلاقي. كل عمل أخلاقي ينشأ من الرغبة في حفظ النوع، ونحن نسعى لحفظ حياة من نحب، وكلما أحببنا أكثر كلما اتسعت دائرتنا الأخلاقية، كلما وقفنا ضد الحرب، والكراهيات العرقية والدينية، وإذا اتسعت هذه الدائرة قد تشمل حب الحيوانات، وسنفكر ليس فقط في حفظ النوع البشري، وإنما في مفاهيم أخلاقية لحفظ الحياة بشكل عام، وقد ننخرط في النشاط البيئي وكيفية الحفاظ على الحياة الفطرية وما على الأرض من خيرات.

اليوم أحدثكم عن أهم أبجدية في أبجديات الإنسانية والتي تقوم عليها الأخلاق، واعتقد أن كل فعل بشري محمود قام على هذه الأبجدية، وهي: “عاطفة الحب”. ليس الحب المقترن بالعشق بين الرجل والمرأة، وإنما المحبة التي تتسع وتشمل كل شيء.

قالوا: “إن من يحب الله يحب خلقه”. لا يمكن أن تحب الله ولا تحب خلقه. وكنت أتساءل كيف يمكن أن يصدر هذا العالم المتعدد الثقافات والأديان واللغات والأعراق من خالق واحد؟ وكيف للواحد أن يضم هذه الكثرة؟

لم أجد إجابة لفترة طويلة، فإن كل مِلّة اعتنقت في الله صورة ما إن رأت خلافها أنكرته، وكانت أبجديات الكراهية تطغى على أبجديات الإنسانية حين يتحدث الإنسان عن الله. وأخيرا وجدت جوابا عند الفيلسوف الصوفي ابن عربي الذي أقام نظريته على فكرة الحب وتعدد الواحد، فإن الله خلق العالم محبة ورحمة بالخلق حين أوجدهم، وهم لمحبتهم إليه يطلبون العودة إلى أصلهم فلا يبقون هنا، وبين الإيجاد والعودة، على الإنسان أن يكون خليفة الله في أرضه بمحبة الناس ورحمتهم.

فالعالم مثل شجرة وما فيها من أغصان متفرعة وثمار شتى تتصل بجذر هذه الشجرة من غير أن يكون الجذر هو الأغصان ومن غير أن تكون الأغصان هي الجذر، لكن هذا الكل من أغصان وجذع وثمار وجذر يمثل الشجرة. وهذه هي نظرية وحدة الوجود، أي تعدد الأغصان في الواحد الذي يحضر في كل شيء في الطبيعة كحضور العدد واحد في كل الأعداد بنسبة وهذه النسبة هي التي تجعل العدد مختلفاً، الأعداد لا تستغني عن الواحد لكن الواحد مستغنٍ عن الأعداد إلا أن الوجود يكتمل بها ويتمايز.

هذه الوحدة هي نفسها التي دعا لها القرآن حين قال: “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” أي يا قبائل العرب، يا من اغرقتكم التفرقة فيما بينكم باسم اوثانكم، وأصبح كل واحد منكم راضيا بثمرته ويتصارع عليها تعالوا نتحد ونعتصم بحبل الله، تعالوا ننظر كيف أننا كلنا شجرة واحدة لا تبنى على الكراهية والانغلاق، بل تبنى على اتصال كل اجزائها وتعاونها فيما بينها لتُخرج ثمار العالم من بارئها. لكننا بعد نبينا عدنا نتفرق باسم الله تفرق الجاهلية ونبني أوثاننا وينغلق كل منا على ثمرته. كان النبي شجرة حب في مواجهة ثمار الكراهية. لذلك لم يهدم المسلمون الأوثان التي وجدوها في العراق ومصر وبلاد فارس التي كانت تمثل اختلاف الأديان والثقافات وتنوعها في شجرة الوجود الإلهية، بينما حطم النبي أصنام مكة التي كانت تفرق بين الناس على أساس طبقتهم الاجتماعية ووجودهم القبلي والعشائري.

كل محبوب جميل ولكن ليس كل جميل محبوب، كل محبوب هو ما كان فاضلا وخلوقا وايجابيا أنت تراه جميلاً لهذه المفاهيم المعنوية، لكن الجميل الذي يدعوك للمستنقع، للدمار والكره، يصبح قبيحا مع الأيام وتحاول الانفكاك منه. مثل ان تنبهر بفتاة حسناء ولكن شيئا فشيئا مع الأيام يذهب بريق جمالها لقبح ما تحمل من المعاني والمفاهيم والسلوك المتدني. لذلك فالمحبة هي التي تقودك لرؤية الجمال، وليس الجمال هو الذي يقودك للمحبة، ولا يغرّنك ما يراه الناس جميلا، ولكن انظر بعين قلبك هل ترى فيه شيئا جميلا؟ هذا ما قاله تشي غيفارا: “إذا فرضت على الإنسان ظروف لا إنسانية ولم يتمرد فإنه سيفقد إنسانيته شيئا فشيئا”.

إننا نقيم علاقاتنا اليومية ليس على الرابط الفكري، فقد يقرّب الرابط الفكري بين شخص وشخص أو بين جماعة وجماعة تتناسب في مفاهيمها، لكن هذا الرابط لا يعول عليه بين المختلفين، وإن الرابط القلبي هو ما يقوي علاقاتنا بمن هم حولنا، فقد يشترك معك أحدهم في فكرة ولكن يختلف معك في المشاعر، وقد يختلف معك أحد في الأفكار ولكنه قريب منك بمشاعره وقلبه، إن علاقتك بالثاني تكون أقرب من الأول. لذا قيل في الإنجيل: “الله محبة”. الله محبة وليس فكرة من الأفكار لأن المحبة هي ما تجعل الإله إلها يضم الكثرة والإنسان إنساناً يشفق على المساكين وعلى الأرواح من الكائنات التي أدنى منه في مرتبة العقل.

اقرأ المزيد

أشياء لا تشترى

الثقافة بوصفها سياسة

هناك من يعزف على لحن التطبيع الثقافي وأهمية التواصل مع المثقفين والمفكرين والفنانين الإسرائيليين من أجل التعرف على الآخر وخلق جسور تواصل بعيدا عن الجانب السياسي والعسكري تؤدي إلى تحقيق السلام، متجاهلاً جرائم العدو الإسرائيلي الغاصب لأراضي فلسطين والموغل في جرائمهِ اليومية في حق الشعب الفلسطيني المناضل والمدافع عن أرضهِ ومقدساتهِ وعزتهِ وكرامته.

مسلسل التطبيع الثقافي مع الإسرائيليين ليس بالجديد، من أشهرهم في هذا السياق، الكاتب المسرحي المصري علي سالم الذي انطلق بسيارته في 7 إبريل 1994 من العريش إلى رفح وصولاً إلى فلسطين المحتلة (إسرائيل). ونشر مقالًا فى مجلة “الشباب المصرية” بعنوان “السلام الآن” قال فيه إن الاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين يشكل لحظة نادرة فى التاريخ، إنها لحظة اعتراف الأنا بالآخر، أى أنا موجود وأنت أيضا موجود، الحياة من حقي ومن حقك الحياة. وقد قوبلت زيارته ردود فعل متباينة في صفوف المثقفين المصريين تجاه مسألة التطبيع الثقافي مع إسرائيل واستنكار واسع ومقاطعة له في مصر وأغلب الأقطار العربية.

يطرح بعض المثقفين العرب الأسئلة التالية: “لماذا لا يمكن أن نحارب إسرائيل ونسالم، في الوقت نفسه، الفن والأدب اللذين يُنتجهما كبار الأدباء والفنانين اليهود، خارج إسرائيل وداخلها؟

ألا يمكن أن نكون في حرب مع بريطانيا، مثلا، وأن نكون في الوقت نفسه، في سلام مع شكسبير؟ ألا يمكن أن نعادي ألمانيا، أو فرنسا، أو إيطاليا، ونظل في الوقت نفسه أصدقاء لبتهوفن وغوتة، لديكارت وروسو، لدانتي وليوناردو دافنشي؟ نعرف جميعا أن الإسلام حارب في بداياته اليهود، دون أن يقاطع الفكر اليهودي أو الثقافة اليهودية، وحارب الروم، في ما بعد، والفرس، دون أن يقاطع الثقافة البيزنطية أو اليونانية أو الفارسية”.

هذه الأسئلة تُنسب إلى الشاعر والمفكر السوري أدونيس، كما يذكر د. جوزف لبر ، الأستاذ في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية. لكن الأخير لم يحدد مصدر اقتباسه لنص أدونيس. وبالمناسبة هذه الأسئلة تم طرحها على طلاب الماجستير في قسم اللغة العربية وآدابها للعام الدراسي 2019-2020 *

يحضرني قول كافكا : “الأدب يعني أن تهجر معسكر القتلة”، فكيف يسمح بعض المثقفين العرب لأنفسهم بالتواصل عبر الندوات والمؤتمرات والأنشطة الثقافية المختلفة مع الفنانين والأدباء المنتمين للكيان الصهيوني؟ أليس جميعهم إلا ما ندر يدعم دولتهِ إسرائيل وسياساتها المؤكدة على قتل الفلسطينيين وسلب حقوقهم ومعاداة العرب. ثم كيف يتم الدمج والمماثلة بين اليهود والصهيونية، فاليهودية دين سماوي، لكن الصهيونية فكرة عنصرية استيطانية قائمة على انتزاع أرض من شعبها وطرده منها.

أما القول بإمكانية أن نكون في حالة حرب مع بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا، ونكون في حالة سلام وتواصل مع شكسبير، غوتة، ديكارت، فلا يمكن المقارنة هنا بين حركة الدول الاستعمارية التي قامت في سياق تاريخي محدد له شكله وعوامله ونتائجه، والتي أثمرت تضحيات ونضالات شعوبنا في دحره ونيل الاستقلال، وبين الكيان الصهيوني الذي هو مولود حرام نتج عن سياسات دول أوربية كبرى تحالفت مع الحركة الصهيونية في إقامة وطن قومي لليهود على أراضي فلسطين. لذلك لا يمكن المماثلة بين الشعب البريطاني أو الشعب الفرنسي اللذان لهما بعد تاريخي وثقافي وحضاري، وبين “شعب” مختلق لا يتجاوز وجوده السبعين عاما، تكوّن من عصابات مارست القتل والتنكيل بشعب فلسطين الذي وجوده يعود إلى آلاف السنين. من جانب آخر إذا وجد مثقف أو فنان أو كاتب إسرائيلي يعارض احتلال دولته لفلسطين ويدافع عن حق الشعب الفلسطيني وما يتعرض له من ظلم وقمع وقتل، عندها لا مانع من نشر تصريحاته وكتاباته والتأكيد على صحتها.

أما الحديث عن الدولة الإسلامية (ومحاربتها لليهود وعدم مقاطعتها للفكر أو الثقافة اليهودية) ففي ذلك خلط فاضح للهدف الخطير من هذا الطرح. لأن المقارنة هنا باطلة بين يهود شبة الجزيرة العربية، ومنهم يهود المدينة الذين اعتبرهم الرسول(ص) والمسلمين مواطنين داخل الدولة الإسلامية كما نصت على ذلك صحيفة المدينة، ولكن بعد غدرهم بالمسلمين وتحالفهم مع قريش تمّ طرد يهود بني النضير وبني القينقاع ويهود خيبر من المدينة والجزيرة العربية. بينما يهود دولة إسرائيل ينتمون إلى كيان غاصب ومحتل لبلد آخر ومعادي للأمة العربية بالكامل. فأي حديث يصح هنا عن تواصل ثقافي وفكري كما يروج له مجموعة من الكتاب العرب المشبوهين في عملهم والمطعون في شخصياتهم.

كذلك في الحديث عن حرب المسلمين مع الفرس والروم، وعدم حصول المقاطعة الثقافية مع هاتين الإمبراطوريتين، من يطرح مثل هذه الفكرة هو لا يرى أو يغض النظر عن قانون تاريخي في الصراع والحروب بين الدول أو الإمبراطوريات الكبرى في مختلف العصور، وهو بديهية التواصل السياسي والاقتصادي والثقافي بمختلف الأساليب فيما بينها، سواء في أوقات الحرب أو السلم. بينما دولة الكيان الصهيوني ليست أمة ولا حضارة ليتم التواصل معها ثقافيا، بل يفرض وجودها بالضرورة حالة حرب دائمة لا تنتهي إلا بزوالها.

وقد نجح القادة العرب عام 1967 في قمة الخرطوم بتسجيل ثلاثة لاءات نظيفة في سجل البطولة والرجولة (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض) مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه، وأنتجت فكرة أن كل من يفكر أو يسعى للخروج عن (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض) فهو باعتراف الجميع (خائن)، وقد لاقت هذه اللاءات إعجاب واستحسان الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، فصفقت لها لأنها منسجمة مع مزاجها تجاه عدوها الأول والأبدي.

واستمر هذا المزاج حتى وصل بنا قطار التاريخ إلى محطة (كامب ديفيد) حيث اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر التي سعت إلى تغيير المزاج العربي من (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض) إلى فكرة أن إسرائيل جارة وصديقة ويجب أن نعيش معها بسلام وأمان حتى نقي الأجيال اللاحقة من حرارة الحروب. وقد عبر عن الرفض وعدم الصلح الشاعر أمل دنقل فى قصيدته “لا تصالح”؟: لا تصالح/ ولو منحوك الذهب/ أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما/ هل ترى ؟/ هي أشياء لا تشترى.

لا يمكن فصل الثقافة عن السياسة، الفعل الثقافي كالذي يطالبنا به هذا البعض، هو في جوهره فعل سياسي غايته تسويغ نهج سياسي بعينه، كي يبدو مقبولاً ومستساغاً، وبهذا فإن هذا النوع من “الثقافة” المزعومة قد يكون أشدّ خطورة من الفعل السياسي المباشر.

اقرأ المزيد

محطات مضيئة في نضال حركتنا العمالية

سنتطرق لبعض ما دوّن عن نشوء وتطوّر الحركة العمالية في البحرين، بعد أن تحوّل غالبية الكادحين في البحرين إلى عمال، خاصة بعد تأسيس شركة بابكو.
خاضت الحركة العمالية البحرينية نضالات مطلبية، حقوقية ونقابية، أفضت إلى تحقيق الكثير من المنجزات عبر مراحل زمنية مختلفة، قدّمت خلالها تضحيات جسيمة، من خلال الكوادر العمالية، خاصة منها تلك التي ساهمت في العمل الوطني عبر وقفات بطولية، منها تنظيم الاضرابات والاحتجاجات والمسيرات.
قبل ظهور الحركة العمالية، كان غالبية السكان في المدن والأرياف من الفلاحين والحرفيين، فبعض الفلاحين امتلكوا أراض يعملون عليه، فيما عمل كثيرون كعمال زراعيين في الأراضي التابعة للملاك شبه الإقطاعيين، كما كان البحر هو مصدر الرزق للألوف من الكادحين، ومنهم صيادي اللؤلؤ الغواصين الذين عانوا كثيراً من صنوف القهر والاستعباد، ولهم أيضاً مواقف بطولية في الدفاع عن حقوقهم باحتجاجات غالباً ما جوبهت بالقمع.
وهناك صيادو الأسماك، والعاملون في استخراج الرمال والحصى البحري لإستخدامه في البناء، كما اشتهرت البحرين بصناعة السفن بأحجام مختلفة، وكانت تباع لدول الخليج ودول الجوار مثل سواحل العراق وإيران، كما اشتغل الكثيرون على صناعة أدوات صيد الأسماك، وصناعة الفخار والنسيج، فضلاً عن مهن الحدادة والنجارة والبناء، وبعض من عملوا فيها هاجروا للعمل في دول الخليج، وبينهم من استقرّ هناك.
شكّل اكتشاف النفط وتسويقه إيذانا بانشاء المرافق، وتشييد الطرق وشبكات الكهرباء والماء والمواصلات، ونشأت للأيدي العاملة الوطنية والاعتماد عليها بصفتها عمالة رخيصة، فالتحق بالعمل في شركة بابكو الألوف من الكادحين الذين تدرجوا في العمل بالاستفادة من خبرات الأجانب وفيما بعد من التدريب والتعليم.
وهكذا نشأت لبنات الطبقة العاملة البحرينية الفتية الصناعية، رغم الظروف الصعبة التي عانى العمال منها، جراء تعرضهم للاستغلال البشع في ظلّ هيمنة الاستعمار البريطاني، فتبلور الوعي في صفوف العمال تدريجياً.
خاض العمال في (بابكو) العديد من الاحتاجاجات، ذات الطابع العفوي وغير المنظم حتى تفجر أول اضراب منظم للعمال عام 1938 في قسم الخزّانات في سترة، وطرحت فيه مطالب دفع علاوات للعمال العاملين في النوبات الليلية، والمساواة مع العمالة الأجنبية في الأجور، وتوفير سبل السلامة والمواصلات ، إضافة إلى المطالبة بتشكيل النقابات العمالية.
وفي أواخر عام 1942 قام عمال النقل التابع لشركة بابكو باضراب آخر، تلاه اضراب أقوى في 22 ديسمبر من عام 1943، تركزت فيه المطالب على تحسين ظروف العمل، رفع سقف الرواتب المتدنية، ضرورة توفير سبل التدريب للعمال، وأن تكون الجمعة من كل أسبوع يوم عطلة للعمال مدفوعة الأجر، ووقف الغرامات التي كانت تفرض على العمال جراء بعض الأخطاء البسيطة وغير المقصودة.
ومع تأثر الحركة العمالية البحرينية بالمدّ الثوري بالوطن العربي، اليساري والقومي، دخلت في ترابط عضوي مع القوى الوطنية المختلفة والحركة الجماهيرية بشكل عام والتي كانت آنذاك تطالب بالاستقلال الوطني.
وفي العام 1954 تأسس اتحاد العمل البحراني ليكون محطة مضيئة في مسيرة طبقتنا العاملة، في إطار النهوض الوطني بقيادة حركة الهيئة، ولقى الاتحاد تجاوباً منقطع النظيرمن ألاف العمال، وتقول بعض المصادر أن عدد أعضائه بلغوا 11 ألفاً، وأسندت قيادة الاتحاد للمناضل الوطني عبدالرحمن الباكر.

اقرأ المزيد

الاعتذار من الماضي الاستعماري

“زمن الاعتذار .. مواجهة الماضي الاستعماري بشجاعة” عنوان الكتاب الذي صدر العام الماضي 2019 عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، وساهم في تحريره أربعة باحثين هم كل من: مارك جيبني، جين كوايكود، رودا. هوارد – هاسمان، نيكلاوس شتاينر، وهو من ترجمة كل من: عاطف معتمد، عمر عبد الفتاح، عزت زيان، نادية عبد الفتاح.
ولئن تناول الكتاب ما تعرض له العراق من غزو أمريكي 2003 ارتكب خلاله جرائم بشعة بحق شعبه؛ فإنه للأسف لم يتناول قضايا العالم العربي الاستعمارية القديمة والحديثة نسبياً؛ ومنها القضية الفلسطينية، وخطورة ما خلفه الانتداب البريطاني على فلسطين؛ وبدعم غربي للضيف الجديد على عالمنا العربي”إسرائيل” والتي وعدتها بريطانيا (استناداً لصك وزير خارجيتها بلفور 1917) بتسليمها التركة وأوفت بوعدها، وأضحت هذه القضية منذئذ مصدر زعزعة وعدم استقرار أمن المنطقة العربية برمتها ما أفضى إلى عرقلة تطور نمو دولها المستقل اقتصادياً وسياسيا.
كما يكتسب الكتاب أهميته في ضوء الأحداث التي وقعت في الولايات المتحدة ربيع العام الجاري إثر مقتل المواطن الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد الذي لفظ أنفاسه خنقاً تحت ركبة رجل شرطي أبيض في الشارع أمام الملأ لمدة تقرب من عشر دقائق في مدينة مينيا بوليس بولاية مينيسوتا، وهو الحادث الذي فجر بدوره سلسلة من الاحتجاجات الكبيرة أمتدت إلى معظم الولايات الاخرى؛ كما أمتدت إلى البلدان الغربية حيث لا تخلو من دلالات أعمال تحطيم تماثيل رموز التفرقة العنصرية وتجار الرق والاستعمار ليس في الولايات المتحدة فحسب؛ بل وفي استراليا وعدد من الدول الأوروبية وبخاصة بريطانيا، وهؤلاء لم يرحلوا دون اعتذار في الحقبة التي يتناولها الكتاب جراء ما أقترفتهم أيديهم بحق الإنسانية والشعوب المستعمرة فحسب، بل المدهش بأنهم كُرموا بتماثيل تخلدهم في بلدانهم وهو عار مضاعف، وجرى التنديد الرسمي بتكسيرها وتوعد الفاعلين.
والكتاب الذي بين أيدينا يقع في عشرين فصلاً، وقد جاءت عناوينه كالتالي على التوالي: الاعتذار من منظور القانون الدولي (للباحث ريتشارد بيلدر)، الاعتذار والعدالة والاحترام (للباحث جانا تومسون)، المظلومية التاريخية والنظرية السياسية الليبرالية (للباحث مايكل فريمان)، الاعتذار .. تحليل عبر الثقافات (أليسون دنس رينتان)، خارطة طريق لسياسات الاعتذار (للباحثين: جين مارك كوايكود وجين مارك)، عند ما يكون الأسف كافياً – إمكانية الاعتذار عن الرق في نطاق محلي (إليانور برايت)، الجامعة والعبيد – الاعتذار ومعناه (ألفريد بروفي)، دور الاعتذار في المصالحات الوطنية : نحو مؤسسات جديرة بالثقة (بابلو دي جريف)، الصراع مع الماضي – الاعتذار وشبه الاعتذار وعدم الاعتذار في كندا (مات جيمس)، الاعتذار والمصالحة في اتفاقية وايتانجي لعملية التسوية في نيوزلندا – اعتذار الدولة في ظل الهيمنة الامريكية (مريديث جيمس)، اعتذار الدولة في ظل الهيمنة الامريكية ( كارلوس أ . بارودي )، “أنقذنا من الخطيئة الأولى” – اعتذارات بلجيكا لرواندا والكونغو بول كيرنتس)، ألمانيا تواجه تاريخها الاستعماري في ناميبيا – الأسف يعتريه غموض شديد (ليونارد جامفا)، كلمات تنتظر اجراءات رأي النخبة الافريقية في اعتذارت الغرب (ليونارد جامفا)، الاستعمار والاستعباد وتجارة الرق – رؤية هولندية (بيتر بير)، هل تواجه اليابان ماضيها؟ حالة اليابان مع جيرانها (اليزابيث س. دال)، اعتذارات الفاتيكان .. تجربة البابا يوحنا بولس الثاني (مايكل ر . ماروس)، إعادة النظر في اعتذارات الشركات – المال والاحتيال القائم على نظام الفصل العنصري (بوني ابيهاوه)،الاعتذار والحرب على الإرهاب (للباحثين: مارك جيني ونيكلاوس شتاينر)، السلطة الرابعة وحالة الحرب على العراق – اعتذار أم دفاع عن الموقف (جوناثان هـ . ماركس).
وسنقتصر هنا على تناول بعض الفصول العشرين المهمة التي تتناول شروط الاعتذار ووضع معاييره الفعلية على مشرحة تحليل الباحثين كل حسب تخصصه في الجانب الذي اختاره، والعلاقة بين الجاني والضحية قبل وأثناء زمن الاعتذار.

وحتى اليوم مازال عدد الدول التي قدمت “اعتذاراً” عن ماضيها الاستعماري محدودا ويشوبه الالتباس؛ فلم تقدمه كوثيقة رسمية بلا غموض بحيث يترتب عليها – كما يفترض – في القانون الدولي التزامات بتعويضات مالية لحجم الأضرار الاقتصادية والنفسية جراء ذلك الاستعمار الطويل والنهب المنهجي لثروات شعوبها ومصادرة سيادتها وشخصيتها الاعتبارية وغيرها ما عرقل تنميتها المستقلة.

وهنا فإن بعض أبحاث هذا الكتاب عنيت بأن تناقش مدى قيمة تلك الاعتذارات اللفظية الخاوية المضمون عن المساءلة القانونية الفعلية، أو نوع الاعتذارات التي لا يترتب عليها إلزام الدولة الاستعمارية الفالتة من العقاب جبر ضرر الدولة المتضررة، سواء أكانوا من مواطنينها، كالاميركيين السود في الولايات المتحدة وغيرها، أو شعوب البلدان الأخرى.

وفي رأينا فإن من بعض تلك الجروح النفسية الخطيرة الغائرة التي تركها المستعمر بلا حل ؛ التقسيمات والتسويات الطائفية بين مكونتها والتي كان لها دور – كما يشهد مؤرخو الغرب المحايدون – في تأجيجها وفق مبدأ “فرق تسد”: عرب وأمازيغ، مسلمون وأقباط، مسلمون بمختلف طوائفهم في مواجهة مسيحيين بشتى طوائفهم ( لبنان نموذجاً )، سنة وشيعة إلخ . وترتب عليها بعد الاستقلال تقاليد وأعراف لم تجتث من جذورها ويصعب محوها بلا رجعة، بل لطالما عانت منها وما برحت تعاني منها معظم بلداننا العربية تبعاً للمستفيدين في الداخل والخارج من فتح تلك الجروح القديمة أو النائمة والتي لا تكاد تلتئم حتى يُعاد فتحها من جديد.

في الفصل الأول اتخذ الباحث بيلدر ما خلصت إليه “لجنة القانون الدولي” حول مسؤولية الدول كأساس لمرجعيته في دراسته. وفي الفصل الرابع أستعرض الباحث أليسون رنتلين الطرق المختلفة التي يمكن بها الاعتذار، وكذلك السُبل المختلفة لتفسير الاعتذارات لدى الضحايا؛ ففي بعض ثقافات الشعوب يكفي مجرد الاعتراف بالخطأ كاعتذار رسمي، أو بما يحفظ ماء وجهه. وفي ثقافات اخرى فإن الاعتذار “الكلامي” دون تعويضات ليس له قيمة.
وفي الفصل الخامس تناول الباحثان مشكلة السعي إلى الغفران لما لا يمكن غفرانه . وفي الفصلان السادس والسابع عالج فيلمنج وبروفي مسألة مدى حق المواطنين من أصل إفريقي المطالبة باعتذارات عن جرائم ارتكبت بحقهم وحق أجدادهم في الماضي.
أما الفصلان الثاني الذي جاء تحت عنوان “الاعتذار والعدالة والاحترام“ والعاشر الذي جاء تحت “الاعتذار والمصالحة” فقد قام الباحثان جانا تومسون ومرديث جيبس بدراسة وتحليل الجرائم التي اقترفها المستوطنون البيض الغزاة في أستراليا ونيوزلندا بحق السكان الأصليين.
وإذ أتخذ الأول من أستراليا نموذجاً لبحث المطالب الفلسفية للاعتذار السياسي الحقيقي، فإن الثاني سلط الضوء على محاولة الملكة إليزابيث الثانية ورئيس نيوزلندا للاعتذار للشعب الماوري، واتخذ من هذه المحاولة – رغم قصورها – نموذجا يمكن الاحتذاء به في الدول الغربية في كيفية التعامل الإنساني مع المهاجرين واللاجئين الذين وفدوا من تلك البلدان التي استعمرتها تلك الدول.
وهذه قضية في نظرنا ما فتئت تتفاعل وتكتسب أهميتها في ضوء الأعمال الإرهابية التي مازالت تشهدها أوروبا منذ مطلع العقد الجاري، وزحف اللاجئين الفارين من مناطق الحروب والتوتر الإقليمية وانعكاسها على تعقيد مسألة الاندماج. وفي وقت كانت فيه أغلب الدول الغربية حذرة ومترددة تجاه دمج الوافدين من بلدان مستعمراتها السابقة منذ أواخر الثمانينيات؛ فإن كندا تبنت سياسة رسمية للتعددية الثقافية منذ 1988. وأخيراً فإن الفصل الحادي عشر يتناول فيه كارلوس بارودي مسألة القصور في “لجان الحقيقة” في أمريكا اللاتينية تجاه فظائع أنظمة الانقلابات العسكرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين باعتبارها تتم بمعزل عن مسؤولية الولايات المتحدة القانونية لتورطها في التخطيط لتلك الانقلابات ودعمها؛ وهي مسألة لا تبعد عنها تورطها نفسها في دعم دول افريقية وشرق أوسطية ومن بينها إسرائيل.

اقرأ المزيد

اترك أنفي من فضلك

في حب الكراهية المقيتة

– أنفك أعقف، طويل، ضخم، لا يقاس، ولا نهاية له!
– أنفك عريض، شاسع، وفسيح، مثل القرنبيط!
يفتح هذا الحوار الكوميدي “الطفولي” أجنحة للضحك حول صديقين تربطهما علاقة وطيدة وعميقة –أو هكذا يبدو- إلى تصاعد الحدث، حين لاحظ أحد الطرفين أن أنف الآخر، الطويل، مبلل في كأس الشراب، ومازح صديقه الذي رأى في المسألة تنمُّراً على قِصر أنفه.. ثم بدأت المعركة!
هل يبدو الأمر مبالغة؟ الواقع أن هذه الفكرة قدّمتها الإسبانية ماروشا بيلالتا في نص “قضية أنوف”. وتصدير هذه القضية “التافهة” مقصود به استقراء القضايا الشبيهة في حياتنا العامة، للإشارة إلى أن كل النار من مستصغر الشرر، تقوم لشدة بساطتها في أي مكان بالعالم، وفي أي توقيت، تبدأ بين أفراد/ أيدولوجيات، وتنتهي بكوارث ملموسة، لا يصدق العاقل شرارتها الأولى في الغالب! ومراجعة سريعة لأحداث كبيرة تكشف كيف أن حدثاً أولياً هشاً، مثل نقرة إعجاب –أو تجاهل- على صفحات التواصل الاجتماعي، تثير الحفائظ، حتى تتحول إلى معركة يتداخل فيها أطراف آخرون متضامنون، فكيف بتصادم الأفكار الكبيرة المتضادة الأخرى؟
جُسدت هذه الفكرة في العرض المسرحي “اترك أنفي من فضلك” التي عمل المخرج المصري إسلام أمام على إعادة تشغيلها بنكهة محلية، تناسب الذائقة العامة، المدرج تحتها أي فئات عمرية وأي مستويات ثقافية، عبر شخصيتي بيسو وسيسو –روبيرتو وريكادو في النص الأصلي- الصديقين المرتبطين ببعضهما منذ الصغر، ونتيجة هذه العلاقة الوطيدة يقرران الشراكة في المنزل، بحيث يتزوج أخو الأول من أخت الثاني، ويعيشان بمعية الجدة والأب، حتى يأخذهما خلاف الأنوف المذكور إلى التقسيم والأحزاب والحرمان من النعم “الطبيعية” التي استحقاها نظير توطيد علاقتهما ببعض، حتى مع الاستعانة بشخصية البطلة في “أليس في بلاد العجائب” كراوٍ محرك ومتداخل مع الأحداث، وشخصية منسجمة مع شخصيات العرض، بأزيائها القريبة من الشكل الكاريكاتوري، وأيضاً لموازنة الحدث السريع الذكي في تنفيذ فكرته العميقة التي تخدع ببساطتها. وربما لذلك أشارت مؤلفة النص الأصلي إلى كونه “مهزلة مأساوية”، تأكيداً على أن كل ما يضحك ظاهرياً، سيحزنك في العمق، حين ترى نفسك وخلافاتك الصغيرة وعداواتك التي تنشأ من سوء فهم، أو قلة صبر، أو قصور في قراءة موقف؛ أسباباً للاستسلام في منطقة مريحة: التسليم بالكراهية، دون عناء البحث في المنطقة المجاورة التي تحتاج إلى جهدٍ البحث حتى وقت أخذ القرار.
والكراهية مرهونة بها المسافة التي تخلق بين طرفين، انتهت علاقة الود – أو لم توجد أصلاً – لتبدأ أشواط إطلاق غرائز الشر، والحقد، والعقد المكنونة في حرية لن تتاح لو كانت الحياة سلاماً بين أشباه روبيرتو وريكاردو.
ولا شك في تطوّر حوار الأنوف الطويلة منها والقصيرة، إلى مستوى آخر، حيث العيوب والنواقص التي يطلقها أي طرفين على الأشخاص ذوي العلاقة متاحة و”مقبولة”، على اعتبار أنها فرصة للتفريغ والتحرر من كل أمر كتم من قبل، أو يسمح بقوله في هذه الأحوال! ولنقِس هذا على الحوارات المتشابهة على نمط: أسنان زوجتك معوجة/ أختك نحيفة كالشعرية/ حماتك قنبلة/ عمتك برخينيا دوروتيا ليست عذراء! وحتى لو أثار هذا الحوار الضحك لدينا لوقت قصير، سيكون مألوفاً أيضاً وشبيهاً بما قد يكون مر علينا لخصمين تجمع بينهما علاقة واقعية، أو افتراضية، أو حتى ندين في مناصب سياسية على الصفحات الاجتماعية المعروفة التي تكشف لعموم المتابعين مستوى التفكير والأسلوب المتبع في التنفيس عن العداوات.
فالفرد -وقت الكراهية والغضب- لا يكون كما في الأوقات الأخرى التي لا يتعرض فيها لضغط أو معاناة، تظهر القناع الذي يتمسك به حفاظاً على الصورة التي “يحب” أن يصدرها عن نفسه. ورغم عدم تعرض النص والعرض معاً لتاريخ الشخصية النفسي، المليء قطعاً بأثقال غير مرئية تهب خارجة من أول احتكاك، نتيجة خبرة سابقة وذاكرة تحتفظ بالسلبيات رغماً عنها أو بإرادتها، لذا يجب الأخذ في الحسبان أن الجميع يحمل كمية خذلان وألم ومعاناة بنِسب، يتفنن العقلاء في السيطرة عليها، عسى أن يفلحوا في ضبط النفس.
ولن يتوقف الأمر عند الطرفين المختصمين، ومن ذهب للتحزب مع طرف ضد طرف بإرادته، سيتنقل إلى مستوى آخر، كما أوضحه النص في امتداد النزاع لطفلين من المشاهدين بتقنية “المسرح داخل المسرح”، في عدوى تبادل الشتائم: غبي/ أهبل/ بهيم/ حيوان/ دودة/ ضفدعة، وهو يمثل انعكاس حالة الصديقين، وأيضاً إشارة لتساوي مستوى التفكير عند الصغار والكبار معاً، لكي يتمكن الغارق في الكره والعداوة من رؤية نفسه بوضوح! وأيضاً من هذه الحالات، تخرج شخصية محبة للسلام، مثل “ليو” الذي لا يؤمن بالحروب، ولا بالانقسامات، ولا بالتمييز العنصري بين البشر، وفي حكمه “الطبيعي” على قضية روبيرتو وريكاردو في أنه ليس هناك فرق بين الأنوف الطويلة والقصيرة.
ما المانع أن يستمتع الجميع بحياته، ويتقبل الآخر كما هو بلا تغيير؟ هل الكراهية تجعل الفرد ذا شخصية أقوى؟ أكبر؟ مهاباً من قبل الآخرين؟ هل هو تنفيس عن إحباط آخر في منطقة مخفية عن العلن؟ أم إن الكراهية ووجود أعداء يصنفون تحت بند “الحسد”، جزء من المباهاة أن ثمة مميزات في الشخصية لم يحظ الآخرون بها، فتصبح مدعاة للكراهية والعداوة؟ ومنطق “ليو” في “قضية أنوف” غير المتحيز لا يلقى سمعاً، ولا يروق لذائقة القطيع المستسلم لفكرة سهولة إشعال العداوة المعتاد مع أول خلاف، لذا فإن أمثال “ليو” لا مكان لهم في الواقع، كما اعتبروه في النص عدواً، وقتلوه لرفضه أن ينساق لأحد التكتلين، هو كذلك في الواقع المعاصر؛ إما أن تكون ضمن، أو تصنف عدواً، وفي أفضل الأحوال ستكون على الهامش، كما رمزية “أوليسس” الأخرس، وهو الشخصية الوحيدة التي تحاول تفادي نشوب حرب بين العائلتين، وأيضاً وجود شخصية الحانوتي/ صانع التوابيت في النص، مهمة، لأنها تعطي ثقلاً درامياً للمستفيدين من سقوط الناس في فوهة الخلاف والموت، مستعملين بذلك نفس الأدوات: “أبيع الأذى.. أذى عنصري.. أذى ديني.. استعدوا للحرب.. معي كل العناصر اللازمة: العقد/ الأحقاد/ الثأر/ العناد. لذا تحوله المؤلفة إلى بائع متجول لزبائنه أينما أرادوا، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء القدوم! وهو يحاول كسب رزقه/ تحقيق مصلحته الشخصية على حساب الآخرين، الذين يغذون فيه السيطرة، وتغذية شهوة بشرية من حيث لا يعون.
ولا بد أن هذه الشخصية تعمر طويلاً عن عمر المأسوف عليه “ليو”! بينما حسابات الدين تتجه إلى منطقة أخرى، تبدو عادلة في الظاهر، ولكنها تحزُّب آخر معني بمعايير مختلفة. فالقسيس يؤكد أن مسألة طول الأنوف أو قصرها هي مسألة نسبية، المهم هو الانتماء للحزب الصالح، أو الطالح، ووحدة القياس هنا متباينة، ولا يمكن أن تكون ثابتة، لذلك نعود إلى المربع الأول في تحديد الخير والشر، الحب والكراهية.
ورغم الكوميديا السوداء التي طغت على عرض “اترك أنفي من فضلك”، واعتماد المخرج على فكرة النص الأصلي، دون الاستعانة بكامل الشخصيات التي ربما ستفرع الفعل وتؤثر على إيقاع العمل الكلي، إلا أنه نجح في إشاعة جو من البهجة، رغم جدية القضية، دون المساس بأي تفصيل يضيف للعمل. من البديهي أن ينطلق فكر كل من سيشاهد العرض ويذهب إلى العمق الكبير المعني بالدول والأفراد المسئولين عن الأحداث الكبيرة، وهو أمر صحيح، على الأقل حسب وجهة نظر ماروشا بيلالتا في تناول قضية الخلافات شديدة التفاهة وتحولها إلى قضايا كبيرة، بفضل مغذيات الكراهية من أفراد ودول مستفيدة من تعميق الصراع.
لكن، ماذا عن العمق قصير المدى جداً؟ العمق المعني بعلاقات البشر، كما صورة العرض، واستبدال الكراهية بالحب، حتى وإن بدا الأمر ثقيلاً وصعباً في البداية، لكن يقيناً سيصبح العالم مطمئناً وناعماً بالسكون، دون ادعاء مثالية أو تمثيلها. وليس صحيحاً ولا منطقياً ما كتب عن أن هذا العرض يرسخ التنمُّر في عقول الأطفال –باعتبار أنه مسموح لكل الفئات العمرية بمشاهدة العرض، وأيضاً لشكل الدمى الذي يوحي بقابلية أن يكون هذا عرض أطفال أو ناشئة-، ذلك أن العرض لم يخلق مشكلة ويطلقها بلا حلول، وأيضاً ليس بمقدوره قفل العرض بنهاية سعيدة تقليدية تناسب عروض المسرح المدرسي ومسرح الطفل، ذلك أن الحياة الواقعية بعيدة عن تقديم نهاية تكافئ وتعاقب، الخيرين والأشرار، حسب التصنيف المتغير كل مرة في زي مختلف! لذا، فإن ريكاردو وبيسو ومعهما ليو، وكل العناصر التي قدمت على هذا النسق، ليسوا شخصيات مسرحية جسدوا فكرة فنتازية، بل هم أشخاص موجودون بالقرب منا، ونحن أيضاً نشكل هذا النسيج في هيئات مختلفة في الهويات، والشكل، والدين، والمجتمع، يمثلون أفكارهم، ومعطياتهم، وبيئاتهم، وكلهم على حق، ومنطقيون فيما يدعون إليه، إلا فكرة استيعاب الآخر وتقبله ببساطة كما هو بلا تغيير، تماماً كما قال ليو في قضية أنوف: هناك مكان للجميع في هذا العالم، أتفهمون؟

• كل التنصيصات الموجودة مستلّة من نص “قضية أنوف”، تأليف ماروشا بيلالتا، ترجمة وتقديم: د.زيدان عبدالحليم زيدان، مراجعة د.رضا غالب، من المسرح العالمي، العدد السابع عشر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. يوليو 2011م

اقرأ المزيد

المريضة الصامتة

المشاعر غير المعبّر عنها لاتموت أبدًا . إنها ً دُفنت حيٌة ، وستظهر لاحقا بطُرق أبشع .
سيغموند فرويد

رواية ذات قدرة فائقة على الإمساك باهتمامك، عملية إبداعية في الوصول إلى الهدف، ولكن بصعوبة المشتاق إلى النهاية المأمولة، قصة غامضة لكن بصيص أمل يتسرب لك رويداً رويداً للوصول الى الحقيقة، إنها رواية”المريضة الصامتة لمؤلفها ألكس ميكايليديس الصادرة عن المركز الثقافي العربي في هذا العام 2020.

أسّرت لي إحدى الزميلات بأنها بعد قراءة الرواية، تفجرت في داخلها ذكرى كانت تعتقد أنها قد دفنتها، ولما سألتها عن تلك الذكرى، قالت: “خيانة زوجي لي مع زوجة صديقه مما أجبرني على طلب الطلاق، فمن يا ترى يداوي جراحي؟ فالذكريات التي كنتُ أحبسها أخذت تندفع بعد أن قرأتُ تلك الرواية وتجد سبيلها اليّ عبر تلك الكلمات لبطلة الكتاب (اليسيا بيرينسون)”.

قلتُ إذن سأقرأها حتى أتمكن من الإلمام بما عانيته، فشعرت بخيط الألم المدفون في صوتها يدفعني نحو تلك الرواية لمعرفة المزيد، وما أن بدأت في القراءة حتى وجدت نفسي قد إنغمستُ فيها كلياً، ولم تترك لي مجالا للتنفس من شدّة التشويق ورشاقة عباراتها ومحتواها المعبر عن آلام وأحزان من يتعرضون للخيانات الزوجية.

تقول: “حتى وأنا جالسة على مكتبي أدرك أن هناك شظايا من حياتي لا أريد لها أن تقفز من ذاكرتي، حتى وإن كان السبب هو إنني لم أجد حتى الآن مبرراً فيما حصل لي وزوجي مما يسبب لي فيضاناً من المرارة في داخلي بسبب هذه الخيانة، ما تزال تمرٌ بي لحظات لا أصّدق فيها بأن زوجي أقدم على هذا العمل الشنيع ودمر حياتي وحياة إسرة صديقه بفعلته هذه رغم تلك السنين من الحب الجياش، والعلاقات الطيبة بين الأسرتين”.

“لم يكن في مقدوري تصوّر ذلك وانا التي كنت أظنّ بأن زوجي ملاك لم يبخل على بشئ وكل ما يملكه من حب لي كافٍ لأن يكون سياجاً عن أي إنحرافات، ولكن هذا ما حصل فهل من تفسير مقنع؟”.
قلت لها: لا تسمحي لما حدث أن يؤثرعلى حياتك، فأجابت: لكن الأمر ليس بيدي يا عزيزي حتى أنني لم أعد قادرة على التركيز في عملي وأجنب نفسي مأساة ما حدث”.

اجتاحتني رغبة في الإستزادة من معرفةهذه الحالات، فلجأت إلى أرشيف المحاكم فوجدتُ الكثير من هذه المآسي المعلنة والمخفية في قلوب من تجرّعها وعاناها بصمتٍ للحفاظ على ما تبقى من علاقات أسرية. كيف لتلك المرأة أن تنسى تلك الإساءة وتتجرع صنوف العذاب النفسي ، لتقول كنت أخشى أن أغمض عينيىّ ليلا ، لاستيقظ على أحلام لا تنتهي بانتظاري فالمرء يبدأ في تذكر الأشياء القديمة عندما يكبر، واكتشفت أيضا مقدار التشوش الذي يتقافز في ذهني، فلم يكن من السهل علىٌ أن أجلس دون التفكير فيما حصل وهآنذا قد جاوزت الأربعين من العمر ومازلت على هذه الحالة المرضية .

تقول: “ألهذه الدرجة كنتُ معدومة الإحساس لما يدور من حولي، هل من المعقول أن يتحوّل الحب بين ليلة وضحاها إلى خيانة، أمر لا يصدق، وهي تشرح ما تعرضت له أحسست بأن عيٌنيها مليئتان بالأسى والظلم والفجيعة”.

استحضر الذكريات والمعلومات في رأسي لعلي أكتشف نسقاً واضحاً في ما قالته عن زوجها الخائن للعشرة فلا أجد غير الجحود والنذالة والنزوات العابرة التي تدمر الذات في لحظة شبق مرضي.

ندٌت عنها تنهيدة ألم وهي تقّص ما جرى لها والمرارة بادية على محياها وكادت الدموع تطفر من عينيها لولا أنني هوّنت عليها بتغيير مسار الحديث، وأثناء ذلك طرأ علىّ ما ذكرته روث في رواية (المريضة الصامتة): “إذا أردت أن تكون معالـِجاً جيداً، يجب عليك أن تستوعب مشاعر مرضاك – لكن يجب عليك ألا تتمسك بها لأنها ليست مشاعرك، لا تنتمي إليك”.

ولكن وبعد برهة قالت: “شخص قادر على الكذب مراراً وتكراراً، ويستطيع أن يخون شريكه دون أن يشعر بأي ندم أيستحق أن يكؤن سويًا؟ ألم مضاعف ألا تكون محبوباً، فقلت كما قالت كاثي في الرواية: “الحب الذي لايشمل الصدق لا يستحق أن يطلق عليه اسم الحب.”

تقول بأنها تبكي صمتاً كل ليلة على وضع مضى عليه سنين، ولكن ذكراه تؤرقها وتجلب لها الحزن على ما آلت إليه تلك العلاقة الصادقة، ولكن للحياة ما لايمكن تجنبه أو ما تتفاجأ به، مضيفة: “هل لأنني أحببت بعمق شديد؟ أو لأنني أحببت أكثر من اللازم”؟.

“لقد جاء وغزا حياتي، كما تقول كاثي، سرق وأغوى وأفسد الشئ الوحيد في العالم الذي كانت له قيمة بالنسبة اليٌ”، ومع ذلك كانت تكرر: “هل هو فعلا أحبها، أي زوجة صديقه أم كان فقط يستغل جسده؟”.

عندها تأملت ملياً، وطلبت منها وأنا عاجز فعلا عن تقديم المساعدة، أريد أن اساعدك ولكن كيف؟

ألقت عليّ نظرة حزينة وأبقت إبتسامة بين شفتيها غير آبهة بما قلت ونظرت إلى من حولها، وقالت: “شكرا على تعاطفك ولكن مثل هذه الجروح لا تندمل حتى ولو مضى زمن عليها”. عندها تيقنت بأن من من يعش التجربة ليس كمن يسمع عنها، ففي رواية (ذائقة طعام هتلر) قول للراوية، فحواه أننا معشر البشر “نعيش في زمن موبوء، زحزح اليقينيات، وشتّت الاُسر، وشوه كلّ غرائز البقاء”.

فالقلب المعطوب لذلك الزوج الخائن لاسبيل إلى إصلاحه\، فتغليبه لغرائزه على حساب أسرته جنى ثماره دماراً لكلا الاسرتين وخراب بيتين، وحزناً واسى ودموعاً وفقداناً ولوعة وفراقاً، كل ذلك بسبب نزوة عابرة كلفت الأسرتين هذه الاوجاع، فالتجاوز والنسيان في مثل هذه الحالات مستحيل لمن عاش التجربة حتى ولو أراد ذلك، تظلّ صنوف العذاب النفسي تراوده بين الحين والآخر والقلق يلازمه أبد الدهر.

مذاق المرارة الذي تجرعته تلك الإنسانة في ما تبقى من قلب مترع بالجراح يشبه إلى حد ما الموت كمداً، وظلّ شبح تلك الخيانة لايفارقها كالظل، ولم تستطع تجاوز محنتها رغم مرور السنين، فأي ألم قاتل تشعر به وهي تخسر فجأة، وبلا مقدمات حياة بكاملها بنت عليها كل أحلامها وأشواقها، فلغم الخيانة قد فجر كل ذلك وأبقاها حبيسة التشاؤم والعزلة فأصبحت حطام امرأة، ومنطق الاقدار وسطوتها أقوى من أي شيء نحسب له ألف حساب، كي نقلل من فجوة الخسارات.

وانتهت إلى ما يشبه اليقين: “لقد قضيت معظم حياتي أحاول أن أنسى، أما الآن فكلّ ما أريده هو أن أتذكر، أتذكر الوقائع يوماً بيوم، ساعة بساعة، دقيقة بدقيقة علني أنسى”. قالتها كمن ينفض عن نفسه ثقلاً نزل عليه فجأة من دون وعي. هنا تذكرت قول نيكوس كازانتراكيس فى روايته الرائة (الحديقة الصخرية):”إن قلب المراة جرح لا يندمل أبداً إذا لمسته حتى ولو بريشة طاووس يصرخ من الألم”.

اقرأ المزيد

السفر الذي يُغيّر

في “موت طفيف” للروائي والقاص البحريني أمين صالح، يستوقني ضمن كثيرٍ من المقاطع التي احتوى عليها الكتاب ما نصه: “الجهات ليست صديقة المسافر”، ربما لأنها في ما يشبه درس الضياع، ذهبت تلك الكتابة، وفي بلادٍ لا دليل لديها عليه. ليست كل الجهات بتلك الصفة التي نحتها أمين صالح ضمن مجال شعري لا حجة لنا عليه. هناك جهاتٌ صديقة له، وليس بالضرورة أن يكون قد ألف المكان في السفر الذي هو فيه، وليس بالضرورة أن يكون بشر تلك الجهات والمكان قادرين على أخذه إلى الألفة التي يحتاج أو يفتقد، فيدخل في مصالحة مع نفسه ومع كل ذلك.

المسافر بطبعه يقلق من المكان الأول الذي يصله. لا يرى جهات فيها أصلاً، كل الجهات متشابهة، وأحيانا كل البشر متشابهون، حين لا يأتيها مشحوناً بذلك القلق.

لكن نفس المسافر يملك القدرة على أن يجعل الأمكنة الجديدة التي تصلها روحه، تتطوع في تقديم جهاتها له، بحيث يحفظ ملامحها ودهاليزها كما يحفظ ملامح أبنائه أو أصدقائه، أو حتى العابرين في البلاد التي جاء منها.

كيف يمكننا من دون السفر أن نكتشف جهات جديدة تعلمنا إعادة النظر في الجهات التي جئنا منها. بمعنى أن نقف عليها طويلا. أن نفهم قدرتها على احتوائنا، وقدرتها أيضا على تنفيرنا منها، بموهبتها الطاردة لكل من تراه غريبا. يحدث ذلك في الأمكنة التي ننتمي إليها .

الجهات لها حاستها من الغرباء. لها حاستها أيضا أمام أهل الأرض. ولهم عندها مراتب ومقامات. منهم من يستوى على أرائكها، ومنهم من تخصص له مساحة على رصيف، ومنهم من تراه أهلا لأن يفترش العراء وهو محاصرٌ بالوحوش وقطاع الطرق والباحثين عن مواضع النهب.

لا درس أعمق من السفر. لا درس أقدر على أن يربي فينا التمسك بالجهات التي جئنا منها مثلما يفعل السفر. الحنين الذي نصاب به في ذلك الانتقال الذي يشبه تحرك الروح من مركزها، هو الذي يضاعف قيمة التفاصيل في أمكنتنا التي تركناها وراء ظهورنا لأكثر من سبب. ربما بسبب رفاهية منحناها لأنفسنا. ربما هرباً من جحيم لا نعرف اسمه، ولكن يكفي أن نضعه في ذلك التصنيف. ربما بحثا عن ذواتنا القلقة والوجلة التي تحتاج في ظروف ما إلى أن تقسو على نفسها بشكل مضاعف بالنأي والابتعاد، كي نرى بشكل أكثر وضوحا وصدقا.

لا معنى للسفر إن لم نكتشف حجم أخطائنا وخطورتها، وأثرها على من حولنا. لا معنى للمسافر أيضا إن لم يعد بدرس لمكانه الأول. ولا معنى للمسافر الذي يعود كمن لم يغادر. ولا معنى للسفر الذي لا تعود منه بحصيلة خبرتك عن نفسك، قبل خبرتك عن البشر والأمكنة التي عاينتها ووقفت عليها. وبالنتيجة، لا معنى لتلك الجهات.

وفي العودة إلى الجهات. كل الجهات تتشابه خارج الحدود التي تنتمي إليها ما لم تكتشف علاقة البشر بها، والأثر والتحول الذي تحدثه في المكان والمحيط من حولها.

جهات المسافر أن يتذكر، وعجز منه أن ينتظر تذكرها لها، ليس باعتبارها جمادا، وهي ليست كذلك بالمناسبة، بدليل قدرتها على إحداث التغيير داخلنا.

وأجمل الجهات تلك التي لا تغير الجميل عندنا. وقدرتنا على تغيير القبيح عندها. تبدو وصفة صعبة، لكن من قال إن الإنسان ولد سهلا كي يكون على علاقة من السهل؟

اقرأ المزيد

في ذكرى هيئة الاتحاد الوطني، كيف صنع البحرينيون وحدتهم؟

تمرّ خلال هذه الأيام ذكرى تأسيس هيئة الاتحاد الوطني، التي قادت النضال الوطني الديمقراطي في منتصف القرن العشرين، ففي الثالث عشر من أكتوبر عام 1954 اجتمع ممثلو الشعب البحريني في مأتم ابن خميس بالسنابس واختاروا 120 مواطناً من مختلف الفئات والمناطق ليشكلوا الهيئة التنفيذية العليا، التي اختارت بدورها لجنة تنفيذية من ثمانية أشخاص هم عبدالعزيز الشملان، عبدالرحمن الباكر، السيد علي كمال الدين، محسن التاجر، ابراهيم بن موسى، عبدالله بوذيب، عبدعلي العليوات، وابراهيم فخرو.

وقد صاغت الهيئة مطالب الشعب البحريني، يومذاك، في بنودٍ رئيسية في مقدمتها: تأسيس مجلس تشريعي يمثل أهالي البلاد تمثيلاً صحيحاً عن طريق الانتخابات الحرة، وضع قانون عام للبلاد جنائي ومدني على يد لجنة من رجال القانون يتمشى مع حاجتها وتقاليدها على أن يعرض هذا القانون على المجلس التشريعي لإقراره، اصلاح المحاكم وتنظيمها وتعيين قضاة لها ذوي كفاءة يحملون شهادات جامعية في الحقوق، ويكونون قد مارسوا القضاء في ظل القوانين المعترف بها.

كما نصت المطالب على السماح بتأليف نقابات للعمال ونقابات لأصحاب المهن الحرة تعرض قوانينها ولوائحها على المجلس التشريعي لإقرارها، وتأسيس محكمة عليا للنقض والإبرام مهمتها أن تفصل في الخلافات التي تطرأ بين السلطتين التشريعية والتنفيذية أو أي خلاف يحدث بين الحكومة وأي فرد من أفراد الشعب.

لا تكمن القيمة التاريخية لحركة الهيئة في هذه المطالب الجوهرية فقط، والتي عكست توق شعب البحرين في التحرر من الهيمنة الاستعمارية، وتحقيق الديمقراطية والشراكة السياسية، وإطلاق الحريات العامة، بما فيها الحريات النقابية، وإنما أيضاً في كونها حركة وطنية شاملة، جامعة، غطت البحرين كلها، وفيها تمثلت كافة فئات الشعب ومكوناته.

وحين انقض المستعمرون على حركة الهيئة واضطهدوا قادتها إما بالسجن أو النفي، واصل جيل جديد من الوطنيين البحرينيين الذين تلقوا خبراتهم النضالية الأولى في حركة الهيئة، وكانوا يومها شباناً في مقتبل العمر حمل راية النضال الوطني، من خلال التنظيمات اليسارية والقومية.

في كل سنة تمرّ علينا هذه الذكرى يتعين علينا التأكيد على أن الفكرة الوطنية المُوحدة ليست ماضياً وتراثاً فحسب، إنها حاجة راهنة شديدة الإلحاح، بوجه كافة صور التصدع الطائفي والمقاربات التي ترمي لتصوير التناقض أو الصراع في المجتمع كما لو كان صراعاً بين الطوائف والمذاهب، لا بين المصالح الاجتماعية والسياسية المختلفة، التي من شأنها أن توحد المواطنين، سنة وشيعة، في المطالب والطموحات، على النحو الذي عرفناه في تجربة الهيئة وفي انتفاضة مارس عام1965، وفي النضالات العمالية والجماهيرية في السبعينات والثمانينات قبل أن تجتاحنا الغلواء الطائفية.

وكما قيل مراراً من قبل المخلصين، وما أكثرهم في هذا الوطن، أن الرد على هذه الغلواء الطائفية يمر عبر بناء صف وطني واسع يتجاوز التصنيفات المذهبية والطائفية، والتجربة الملموسة على مدار السنوات المنقضية تؤكد ان الوحدة الوطنية لن تنشأ إلا من خلال الروافع الجديرة بانجاز هذه المهمة، ونعني بها القوى الوطنية والديمقراطية غير طائفية التكوين، فما من تيار قادر على استنهاض المزاج الوطني المشترك سوى تيار الحركة الوطنية الديمقراطية بمعناه الواسع الذي يضم القوى والتنظيمات والشخصيات المؤمنة بأهدافه، وما الصدع الذي أصاب وحدتنا الوطنية إلا ناتج، في أحد جوانبه على الأقل، عن ضعف دور هذا التيار بسبب الصعوبات التي يعاني منها، والتي يعود جزء منها على الأقل إلى انحسار نفوذه بسبب عوامل موضوعية وذاتية معقدة لا يجوز ابتسارها في بعض الأحكام السريعة.

إن استعادة الخطاب الوطني الجامع ليست مهمة سهلة أو سريعة، لكنها مهمة ليست مستحيلة، ولتحقيقها فان جهوداً جبارة يجب أن تبذل من أجل إعادة بناء الوحدة الوطنية للمجتمع، ونظن انه هدف يمكن أن يستنهض قوى واسعة، فاعلة أو كامنة، في المجتمع، هي جديرة بأداء هذا الدور.

الاختبار الحقيقي لجدية أي خطاب تكمن في وطنيته، والمقصود بوطنية الخطاب مقدرته على التعبير عن المصالح المشتركة لجميع مكونات الشعب، ومقدرة أصحابه على مخاطبة هذه المكونات جميعاً، وتلمس مصالحها ومطالبها وتطلعاتها، وهذه ليست مهمة سهلة، لكن بدونها لن يخطو المجتمع إلى الأمام، إذا ما استمر دفعه نحو الاصطفافات المذهبية أو الطائفية التي أعادتنا وستعيدنا عقودا إلى الوراء وستصرف الأنظار عن مهام التحول الديمقراطي الحقيقي الذي ناضل شعب البحرين وضحى في سبيله.

لامناص لنا جميعاً من قبول البحرين كما هي، أي بكافة مكوناتها الاجتماعية والمذهبية والسياسية، ويخطئ من يعتقد أنه بالوسع عزل أو شطب أي مكون من هذه المكونات من خريطة البلد الاجتماعية، فالأمر لا يتصل بأفراد، وإنما بتكوينات تشكلت عبر سياق زمني ثقافي واجتماعي مديد، وبالتالي فإن كافة هذه المكونات مطالبة بأن توفر لنفسها ليس فقط شروط العيش المشترك، وإنما، أيضاً، التفاعل الخلاق بين بعضها بعضاً، وهو التفاعل الذي منه تشكلت الشخصية الوطنية البحرينية التي هي، إلى حدود بعيدة، نسيج ذاتها بالقياس لمحيطها القريب.

لا قيمة لأي منجز أو مكسب سياسي إذا كان ثمنه النيل من الوحدة الوطنية للمجتمع، لأن هذه الوحدة بنيت عبر مسار تاريخي معقد، وناضلت من أجلها أجيال من البحرينيين أفلحوا في إقامة تكوينات وطنية بالمعنى الصميم للكلمة، لا تعبر عن طوائف أو فئات، وإنما تعبر عن تطلعات مشتركة لكل أفراد الشعب، والأصح من هذا القول إن المكاسب السياسية المتعلقة بالإصلاح تستقيم بالتوافق والإرادة المشتركة لكافة مكونات المجتمع في سبيل المزيد من الشراكة بين الدولة والمجتمع، وأن الوحدة الوطنية تنبني وتتوطد عبر هذا النهج بالذات، لا عبر نهج آخر سواه، بإعادة الاعتبار لفكرة المواطنة المتكافئة التي تعمق وتعزز فكرة الانتماء لهذا الوطن، ولفكرة أن يكون فيه متسع للجميع بكافة الحقوق والواجبات.

اقرأ المزيد