المنشور

مُريد الذي أرانا رام الله

تعرفتُ على مريد البرغوثي، أول مرة، أواخر سبعينيات، أومطالع ثمانينيات، القرن الماضي، حيث التقينا مرات في مؤتمرات وفعاليات اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي (WFDY)، الذي كان مريد عضواً في لجنته التنفيذية ممثلاً لفلسطين، وأذكر موقفه الداعم لاختيارمنظمتنا الشبابية يومها، اتحاد الشباب الديمقراطي البحراني، في إحدى الهيئات القيادية في الاتحاد العالمي المذكور.
توطدت صداقتنا لاحقاً في التسعينات، فترة عملي في الشارقة، ومن خلاله تعرفتُ على زوجته ورفيقة دربه الراحلة الأديبة والناقدة الكبيرة د. رضوى عاشور، حيث زارا الشارقة أكثر من مرة للمشاركة في أنشطة ثقافية، معاً او منفردين، أحدها كان معرض الشارقة الدولي للكتاب في إحدى دوراته، حيث أقام مريد أمسية شعرية، فيما قدّمت رضوى محاضرة قيّمة عن ثلاثيتها الشهيرة: “غرناطة، مريمة، الرحيل”، التي كانت، يومها، حديثة الصدور في طبعتها الأولى عن دار الهلال.
وبعد عودتي للوطن في مطالع الألفية الجديدة، التقيت بمريد في البحرين أكثر من مرة، وأذكر أني قدّمته في أمسية بمركز الشيخ إبراهيم آل خليفة عن كتابه النثري الثاني: “ولدتُ هناك.. ولدتُ هنا”، حيث قرأ منه أحد نصوصه، بعد أن تحدث عن فكرة الكتاب ومحتواه.
علاقتي بمريد الشاعر والأديب لا تقل عن علاقتي به كإنسان، أنا الذي أُخذتُ بنصوصه الشعرية، حتى أني اخترت مقطعاً من أحدها لأصدّر به كتابي: “ترميم الذاكرة”، وهو المقطع القائل: “أتعبتني يا دورة المفتاح/ في الباب الذي ما خلفه أحد”، تعبيراً عن وحشة المنفى، الذي كابده مريد، لأنه، شأنه شأن أجيال من الفلسطينيين، وجد نفسه محروماً من العودة إلى فلسطين، هو المولود في إحدى بلداتهأ، بلدة “ديرغسانة” بالضفة الغربية، ليس بعيداً عن رام الله، بعد احتلالها من الصهاينة في عدوان 1967، وكان يومها يدرس الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة.
ليست فلسطين وحدها من وجد مريد نفسه منفياً عنها، فقد أبعد من مصر التي أقام فيها رفقة زميلته في كلية الآداب، التي أصبحت زوجته وأم ابنهما الوحيد الشاعر تميم، رضوى، حيث عمل مريد، بعد تخرجه من الجامعة، في إذاعة فلسطين في القاهرة، ولكنه أبعد قسراً بعد زيارة السادات للكنيست، ليجد نفسه يتنقل بين المنافي، حتى أنه أحصى في كتابه “رأيت رام الله” عدد البيوت التي عاش فيها، فبلغ رقماً كبيراً تجاوز العشرين.
لا يكفي الحديث عن مريد الشاعر المتميز فقط، إذ لا بد من الوقوف مطولاً أمام كتابيه النثريين: “رأيت رام الله”، و”ولدتُ هناك .. ولدتُ هنا”، ويمكن النظر إلى الأول بصفته واحداً من أهم وأرق وأعمق كتب السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث، وكتبه بعد زيارته الأولى لرام الله ودير غسانة بعد غياب طويل دام ثلاثة عقود، لا ليحكي فيه سيرته وحده، وإنما سيرة التراجيديا والبطولة الفلسطينيتين عامة.
ولبلوغ هذه الفكرة لن أجد أبلغ من قول مريد نفسه: “أنا أكبر من إسرائيل بأربع سنوات (في إشارة إلى أنه ولد في العام 1944)، والمؤكد أني سأموت قبل تحرير بلدي من الاحتلال الإسرائيلي. عمري الذي عشت معظمه في المنافي تركني محملاً بغربة لا شفاء منها، وذاكرة لا يمكن أن يوقفها شيء. عندما سمح لي بزيارة فلسطين بعد ثلاثين سنة من العيش في أماكن الآخرين. لم أكن بحاجة لمعايشة أماكن الماضي، بل ماضي الأماكن”. وفي هذا يصف مريد شعور كل من وجدوا أنفسهم طويلاً خارج أوطانهم قسراً.
ومريد الذي كان يعرف أنه سيموت قبل أن تتحرر بلده من الاحتلال، كان على يقين أيضاً من أن الفلسطينيين لم يخسروا وطنهم “في مباراة للمنطق” بحيث يستردوها “بالبراهين”. المساجلة في هذا أمر عبثي، وربما هذا ما أراد مريد شرحه في “رأيت رام الله”، حين أوضح أنه “من السهل طمس الحقيقة بحيلة لغوية بسيطة: ابدأ حكايتك من “ثانيا”. وهو الأمر الذي يعني تجاهل ما حدث أولاً، فغالباً ما يكون أولاً هو المقدمة و”ثانياً” هو النتيجة، حين تلغي أولاً تصبح النتيجة سبباً وردة الفعل تصبح هي الفعل، وما أكثر التجليات لهذا الأمر في الحياة، كم من “الوقائع” تفبرك دون أن تكون قد حدثت أصلاً، وكم من الوقائع تُخرج من سياقها، وتُسقط بعض عناصرها، فتحمل من الدلالات نقيض ما كانت عليه في الأصل.
هذا ما حدث ويحدث مع القضية الفلسطينية؛ طمس البدايات، والبدء مما تلاها في صوغ سردية مزيفة عما جرى حقيقة، ومع أن مريد يؤكد على أنه “علينا أن نعترف بأننا مسؤولون أيضًا. جهلنا مسؤول. قصر نظرنا التاريخي مسؤول، وكذلك صراعاتنا الداخلية، وخذلان عمقنا العربي المكوّن من دول معجبة بمستعمريها حد الفضيحة”، لكنه يرى أن “تاريخنا ضبطَنا في لحظة كنا فيها في قاع الضعف. في قاع النعاس. بوسعنا الآن أن نقول لأطفالنا إن النعاس لن يظل نصيبهم إلى الأبد ولا إلى بعض الأبد”.
وفي النظر إلى الإنسان الفلسطيني، فإن مريد لا يختلف عن محمود درويش، في التأكيد على ضرورة كسر الصورة النمطية عن الفلسطيني المحصورة في “الضحية”، أو “البطل”، إنه كما محمود يؤكد على أننا “نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا”، ففي قصيدته “الشهوات”، يُعبّر مريد عن مجموعة رغبات، والتي على فرط بداهتها و”طبيعيتها” لم تعد متاحة للفلسطينيين، الذين كان قدر أجيال منهم أن تولد لتناضل من أجل استعادة الحق المغتصب، لا من أجل أن تعيش حياتها العادية بكل تفاصيلها.
من بين تلك الرغبات التي عبّرت عنها القصيدة: «شهوة لبلاد تطالب أبناءها/ بأقل من الموت جيلاً فجيلاً، وفيها من الوقت وقت نخصصه/ للخطايا الحميمة والغلط الآدمي البسيط/ وزحزحة الافتراض البطولي عنّا قليلا/ فمسكينةٌ أمة حين تحتاج كل البطولات من كل أبنائها/ وتعيش الحياة قتيلاً قتيلاً”.
من تلك الرغبات أيضاً، حسب الشاعر “شهوة أن تضايقنا فى المرايا ككل العباد/ التجاعيد حول الجفون”، في إشارة إلى الفتيان والشبان الذين يستشهدون مبكراً وهم في مقتبل الحياة، فما أن تتفتح زهرات أعمارهم حتى يخطفهم الموت، فلا يبلغون كهولتهم أو شيخوختهم، كي تضايقهم في المرايا تجاعيد الوجوه، ككل العباد، “شهوة أن نُعلق فى غرف النوم لوحاتنا الغامضاتِ/ وليس شريط السواد على صورة الغائبين”.
***
برحيل مريد خسر الشعر الفلسطيني، والعربي عامة، واحداً من أكثر وجوهه موهبة وتميزاً ورقة، كما خسرت الحركة الثقافية الفلسطينية واحداً من أكثر وجوها نقاء والتزاماً بالموقف الوطني الفلسطيني المبدئي، وهو الموقف الذي عبّر عنه، لا في نصوصه الشعرية والنثرية وحدها، وإنما في مجمل مواقفه المعلنة، مع ما جرّه عليه ذلك من تبعات، سواء كانت تلك المتصلة بالسياسة الرسمية الفلسطينية، خاصة بعد توقيع إتفاقيات “أوسلو”، أو تلك التي تتصل بالشأن العربي عامة.
قبل عشر أعوام، حين اندلعت الانتفاضات والاحتجاجات العربية من أجل الديمقراطية والحرية والخبز والكرامة الإنسانية، رفض مريد إطلاق مصطلح “الربيع العربي” كإشارة للثورة، مؤكداً أنه “مصطلح زراعي موسمي تافه، يغفل الدم المسفوك وجرائم القتلة ويطمس شرف السعي الدائم للكرامة”، مضيفاً: “أن الثورة لها اسم واحد هو”الثورة”، وأن الحاكم يسميها “مؤامرة” والراغبون في دخولها خريف الموت يسمونها “الربيع” والإعلام يتواطأ مع الطرفين “ضدها”.
قال مريد أيضاً: “إن الثورة هي أقصى درجات النقد الجماعي للدكتاتور، ولا تستمر إلا إذا واصلت نقدها لذاتها أثناء النضال وبعد نجاحها أيضاً. الثورة هي استمرار النقد”، وتابع قائلاً : “حتى الطغاة يمكن أن يكونوا مع”الربيع” فهذا لا يكلفهم شيئاً لكن العسير أن يكونوا مع “الثورة” لأنها تكلفهم عروشهم، واستطرد:”ما أتفه مصطلح الربيع العربي”.
أكانت تلك نبوءة شاعر مبدع؟ ربما، ولكن لمريد نبوءة أخرى لا تقلّ بلاغة، وردت في أحد دواينه الشعرية قبل احتجاجات 2011 بعقود، اختارها المفكر المصري الكبير نصر حامد أبو زيد ليستهل بها كتابه المهم: “التفكير في زمن التكفير”، وفيها يقول مريد: “قبائلنا تسترد مفاتنها/ في زمان إنقراض القبائل”. أليس ذلك توصيفاً أو ما يشابهه للحال التي نحن فيها من انفجار الهويات الفرعية، قبلية وطائفية ومذهبية وعشائرية؟.
أهل الاستبداد ماهرون في “ابتكار” سبل استمرار استبدادهم، حتى لا يكون هناك مكان للرأي الآخر، الرأي الرافض لاستبدادهم والساعي لاقتلاع جذوره. أليس هذا ما عناه مريد في قصيدته ” المرآة” عن والٍ حذّرته عرّافة من الموت إن هو لم يستشر الرعية في أمور الولاية، وخوفاً من الموت دعا الوالي وجهاء القوم للمشورة. وحين دخل عليهم وهم ينتظرونه أخرج مرآة من جيبه، وحدّق بإعجاب في صورته. سأل الصورة المشورة، ولما أجابت شكرها، ثم كسرها “مخافة أن يعوّدها على حق الكلام!”.

اقرأ المزيد

خمس عشرة مرآة.. ولا أرى وجهي

مرآة الرواق

حين لم تعد مؤمناً.. ولم يعد يعنيك شيء، صارت الأشياء كلها ملساء لا وجه لها، وصرتَ تقرض أظافركَ أمام الدخان، وتتعثر بالكلمات التي لم تعد تثق بقوتها. تندسّ في حضنٍ من رماد، وعيناكَ تدمعان صدأَ خوفك..
حين لم تعد مؤمناً، وبأصابعك الملفوفة تحكُّ ملامحنا الواضحة تطلق علينا رصاصات العمى من مسدّس إغماض.. تفتلُ شاربي هلعك أمامنا بتجاهلٍ يشبه النسيان.

مرآة الحقيبة

الآن أنتِ فقط صفعة مفاجئة على الزجاج
وعَرَقٌ خفيف من أصابع طرية، يترك بصمة حقاً
لكن الغبار كفيل بمحوها
الآن، أنا فقط تهشّم الزجاج إثر الصفعة
لم يتفتت، بقي متماسكاً،
والغبار، الذي سيمحو البصمة
سيشكل على خطوط الزجاج المتقاطعة
بصمة أخرى
كأنما بصمة الزمن.

مرايا واجهات البنايات

أول اليأس يسحبك كالغريق إلى القعر
بعد أن تترك نفسك له، بعد أن تيأس من اليأس؛
سترى أنك ثابت، كأنك شجرة ميتة، أو حجر مهمل

لا تخش بعد، لليأس حيلة أخرى
في مرحلته الثالثة، يعطيك اليأس خفة غريبة
كأنك تسبح في ماء، أو تتحرك في اللاجاذبية
إنك السمكة في حوض صغير وضيّق
لا تحتاج أكثر منه.

مرآة الحلاق

هذا حزن خفيف يقشر الروح ولا يحفرها، كحجل يرف قرب الأرض لا يثقب سماءه ولا يكاد التراب يشعر بقدميه، حزنُ ما انتهى ونُسي ولم يبق منه إلا خاطر مموه،
حزن تناديه ليحط على كتفك وأنت ماض في هدوء الذاكرة، تستطيع التفاهم معه بعينين لا تطرفان، أو تنهيدة لا تحس، حزن خفيف كالتفاتة لخلف خائف.

مرآة فيلم

لا أحد يشبهك
تأخذ بيدي كل ليلة
تضغط على رقبتي
ولا تترك قبلا
كمنوم مغناطي تتركني أغمض عيني
تدخلني عوالمك، تتغول في عوالمي
تصف لي الحياة، وتنصفني منها
أنت، بميلان خدك الداكن
وصوتك الحاد كقطرة مطر على الزجاج
يا خوفي، يا خوفي
لا أحد يشبهك
حين تضع رأسي في حجرك
وتبدأ في الفحيح.

مرآة المحمول

ثمة من يحاول أيها العدم..
يحفرك من الجهة الأخرى
لا، ليس النجاة التافهة
إنما الصدمة بك
رفع القماشة الأخيرة عن وجهك
والقول بكل يأس
كم أنت جميل
كم أنت جميل أيها العدم
كأنك اللست شيئا
تلتمع عيناه
في ضوء شبحي
آت من مشكاة بعيدة
هي الحياة
هي الحياة
لا علاقة لنا بها..

مرآة في غرفة الطبيب

إني أتنفس
إني حيّ
وبالرغم من هذا، ثمة من يجري لي تنفساً اصطناعيا
يضغط على صدري
يقبلني قبلة الحياة
بين حين وحين
في يوم أو آخر
ومهما قلت له، إني اتنفس
لا يسمعني
إني حي
لا يلتفت لي
يضغط أكثر
وينفخ في فمي
كل الهواء..
الهواء الذي أختنق به
ولا أموت

مرآة المصعد

سيكون لانهياري صوت القهقهة
سيظنون أني أضحك
وحين ينتبهون
لن يروا سوى غباري
يغطي وجوههم المتفاجئة
سيضحك واحدهم على الآخر
سيقهقهون كذلك..
وعندها فقط
سيكون لانهياري معنى.

مرآة البار

أعمى، ولكن لا يرى عماه
وكلما اصطدم بحائط
تخيل حضناً

مرآتكِ أنتِ

كالسكين
ابتسامة الهزيمة
التي تقطع وجهي الآن
..
كالسكين
خروجك السلس
من الحكاية
..
كالسكين
حاد ولا يسع خطوتي
طريق الرجوع هذا..

انعكاس الصورة، على كأس متسخ

أمد أذرعي في زوايا العالم
هل أنا عنكبوت؟
لا خيوط عندي
عندي انتظار الوقوع
عندي وهن المصيدة
أمد أذرعي لا كالمصلوب
ولا كالرجل الفيتروفي
لا أحصل على شيء
لا أحصل على شيء
قبضتي جمرات
بيتي يحترق
قصيدتي الكرة المجوفة،
أنا فأر السيرك
قولي للقدر يمد يده
ليقع العنكبوت

ليرى البعيد يرحل
ليرى التائه يصل
ليرى المهتز يتوقف عن الاهتزاز
أمد يدي في زوايا العالم
أعمى يتحسس الفراغ
لقد طردتني الريح،
ها أتقلب في ضحكة
تمضي نحو كهف من الأسئلة.

وجه غريب، يعادل مرآة

اليوم رأيت الحزن، كان طويلاً وبلا ظل. لم تثر فيّ رؤيته عاطفة ما، كأني رأيت غريباً ولم أنتبه. لم يبد هو الآخر أن شيئاً أثير فيه، فرك لحيته وهو يحدق في وجهي؛ ليس كمن يتذكر، إنما كالذي يفكر في أمر بعيد ثم مضى..
بعد أن اختفى تماماً تذكرت، ليس الحزن، وليست العاطفة، تذكرت الشحاذ العجوز الذي حين كان يأتي إلى قريتنا، يطرق الأبواب كلها، أما بيتنا فيدخله دون اسئذان، يجلس مطولاً مع والدي ويتسارران، ويخرج دون أن يأخذ شيئاً.
كان حينها هو أيضاً يلتفت لي، ويفرك لحيته ويفكر، مثله تماماً.. أما أنا فأسأل نفسي، دائماً: لماذا هذا العجوز من دون ظل؟

مرآة حمام البيت

اليوم هو اختبارك، ليس الأمس أو الماضي،
حيث التفاتة حنين، أو زفرة راحة،
ليس الغد أو المستقبل، وما فيهما إلا فراغ كأس
يملؤه القدر أو التذكر
اليوم اختبارك،
اليد الرطبة قابضة على الساعة،
اليوم حيث لا تفاصيل، ولا هلاوس،
اليوم حيث ما يكون فيه يختصر في طرفة عين،
اليوم عليك أن تعيشه
وما إن ينقضي، وتعرف أنك لم تفلت من قبضته،
لم تنفرج قضبانه عن ضوء؛ حتى تتركه خلفك،
أثراً يرشد الذاكرة إلى الوهم،
فتاتاً تستدل به عجلات الزمن الذاهبة في المجهول.
اليوم حيث لا شيء يحدث،
لا الزمن حبل مشنقة يصير،
ولا المكان ورقة تلوكها الريح التي مضت
آخذةً صورتك.
اليوم
أيها الوحيد كتمثال أبيض،
لم يتحرك فوقه ظل.

وحل

الحقيقة أني هربت، من يغمض عينيه بدلاً مني؟ من يقترح على الحياة قسوة مغايرة؟ لو التقينا، أنا وأنتَ وكل العابرين في نفق هروبنا هذا، لو التقينا مرة صدفة، في بياض مفتوح مثل لطمة مفاجئة، لاعترف أحدنا للآخر، لا أخطاء لنندم عليها، ولا مرايا لنحرفها عن الضوء، أيدينا المتعرقة في أيدي بعض، وليس علينا أن نخمن، أنا وأنتم، طابور طويل من السكاكين والخناجر، وسلسلة طعنات لا تحصى، لذا لو التقينا صدفة، في مصعد كبير مثل حلم، لصمتنا جميعاً، ونحن نحدق للأعلى، حينما الأسرار تنتقل من أحدنا للآخر بالعدوى، يقول أحدنا في سرّه: ليتني خرجت من الغبار. آخر: كان الدم مستورداً وكنت أنت الضحية. آخر: جواز سفري مزور. آخر: الحلم ضيق، وأصابعي حادة. آخر: على الموت أن يلتفت للخلف الآن. آخر هو أنت: الحقيقة أني هربت.

مرآة، زجاج، عيون

أمام البحر
وفي هذا الجو الرطب والبارد
سأفتح يدي كنبي
أو ممثل يؤدي دور نبي
كذلك فمي سأبقيه مفتوحاً
حتى يملأ صدري الهواء الرطب
وأصاب بالبرد
وسأسعل مثل موجة
حتى تطنّ في أذني نحلة ساخنة
ومن يدي المفتوحة
ستخرج القبل كلها
التي ظننت أني تركتها على شفتيك
ومن فمي المفتوح
لن يخرج قليل من الهواء
سأحاول أكثر، ولن أستطيع
أختنق ولا أستطيع، لن يخرج هواء
سيحمر وجهي
وأسقط على الرمل المبلل
ولن يخرج من فمي هواء

وحين سيجدونني، ستكون علامة الاستفهام الكبيرة
تسد فمي، والقبل التي ظننت أني تركتها على شفتيك
تروح وتجيء، مع الموج البارد، أمام البحر.

اقرأ المزيد

الحكومات النيوليبرالية ومـواجهة “كورونا”

التحذيرات من نفاد إمدادات الأكسجين في مدينة ماناوس بالبرازيل وصلت إلى المسؤولين الحكوميين المحليين والفيدراليين قبل أسبوع من الكارثة التي أدت إلى وفاة مرضى مصابين بكوفيد-19 اختناقاً. لكن كيف يمكن حكومة دولة حديثة – مثل البرازيل – أن تعترف بأنها لم تفعل شيئًا عندما وردت هذه التحذيرات وأنها ببساطة سمحت لمواطنيها بالموت دون سبب؟!
قاضي المحكمة العليا والمحامي العام، طالب الحكومة البرازيلية بالتصرف، لكن هذا لم يحرك إدارة الرئيس البرازيلي خافير بولسونارو. كل شيء في هذه القصة – المفصلة في تقرير المحامي العام خوزيه ليفي دو أمارال – يكشف عن مساوئ الخصخصة وعدم الكفاءة.
مسؤولو الصحة المحليون علموا في أوائل شهر يناير أنه سيكون هناك نقص وشيك في الأكسجين، لكن تحذيرهم لم يكن له أي وزن. فقد أبلغ مقاول خاص يعمل بوظيفة توفير الأكسجين الحكومة قبل ستة أيام من نفاد هذا الإمداد الضروري لمكافحة كوفيد-19 من المدينة. وحتى مع المعلومات المقدمة من المقاول، لم تفعل الحكومة شيئًا ؛ وقالت لاحقًا – خلافًا لكل النصائح العلمية – إن العلاج المبكر لفيروس كورونا لم ينجح. وقد دفع عدم حساسية وعدم كفاءة حكومة بولسونارو المدعي العام أوغوستو أراس نحو الدعوة إلى تحقيق خاص. وبينما تردد بولسونارو، أرسلت حكومة فنزويلا، في عمل تضامني، شحنة من الأكسجين إلى ماناوس.
إن التطور الأخير الناجم عن مزيج الحكومة السيئ من الخصخصة وعدم الكفاءة والقسوة يعزز القضية التي رفعتها نقابات الرعاية الصحية البرازيلية ضد بولسونارو في المحكمة الجنائية الدولية (ICC) في يوليو. لكن المشكلة ليست خطأ بولسونارو وحده أو خطأ البرازيل بل تكمن المشكلة في الحكومات النيوليبرالية، كالحكومات في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وغيرهما، والحكومات التي تتجاوز التزاماتها تجاه الشركات الربحية والمليارديرات والتزامها تجاه مواطنيها أو تجاه دساتيرها. وما نراه في بلدان مثل البرازيل هو مأساة حقيقية.
لقد حان الوقت لإيجاد محكمة للمواطنين للتحقيق في الفشل الذريع لعدد من الحكومات التي لم تتمكن من مواجهة أو كسر سلسلة العدوى بكوفيد -19. وستجمع مثل هذه المحكمة المعلومات الواقعية التي من شأنها أن تضمن أننا لا نسمح لهذه الدول بالتلاعب في مسرح الجريمة، وستزود هذه المحكمة، المحكمة الجنائية الدولية بأساس متين لإجراء تحقيق جنائي في هذه الجريمة ضد الإنسانية عندما يتم تخفيف اختناقها السياسي.
وهنا ينبغي القول إنه يجب علينا جميعاً أن نشعر بالغضب. والغضب في الواقع ليست كلمة قوية بما فيه الكفاية.

اقرأ المزيد

التنوير في الأدب البحريني (1- 2)

حين الحديث عن التنوير يعني الذهاب إلى منطق العقل؛ فالتنوير أو ما أطلق عليه عقلنة الواقع، يأخذنا مباشرة إلى الحركات الثقافية والفكرية والفلسفية التي عاشتها أوروبا خلال القرن الثامن عشر وبخاصة بعد هيمنة الكنسية آنذاك على مقدرات المجتمع والواقع والإنسان، وفي مقابل ذلك الدعوة إلى تحرر المرء من الوصاية التي تؤكد عليه مباشرة أن يطيع وإن فكر أو عارض أو تساءل، ولكن أي مفهوم أو مصلح أو مبدأ أو فكرة ما يريد أصحاب الفكر المستنير والمتطلع تطبيقها على أرض الواقع، لابد، قبل التنفيذ مراجعة إمكانية التطبيق نفسه من خلال نسج علاقة وطيدة بين الفكرة وأصحابها في إطار القناعة التامة، وكذلك أخذ الفكرة من جانب تصورها على أرض الواقع، ومدى إدراكها من المؤمنين بها، وأفراد المجتمع، بالإضافة إلى تلك الوسائل وآليات العمل والتنفيذ التي لا تشكل خطرًا أو ردة فعل مجتمعي.
وبعيدًا عن تلك الأبعاد التاريخية لعصر التنوير، وحركته داخل المجتمع الأوروبي عامة والفرنسي بشكل خاص، فإن جل الأمكنة الغربية المتواجدة فيها العقول المستنيرة آنذاك كانت تحتضن الأفكار المعنية بتغيير حياة الناس، وتحويل المجتمع المنغلق إلى مجتمع منفتح، مجتمع يسهم في تحديث أدواته من أجل الارتقاء بالإنسان ومجتمعه، لهذا كانت الصالونات الأدبية والثقافية والمقاهي المنتشرة، فضلاً عن عدد من المطبوعات التي تحمل سمات الدعوة إلى التغيير والتفكير، كل هذه كانت تؤدي الدور المنوط بها من أجل المساهمة بشكل أو بآخر في تنوير أفراد المجتمع، بمعنى آخر جاء التنوير كرد فعل في الدول الأوروبية على ممارسات رجال الكنيسة آنذاك باسم الدين المسيحي، وأدخلوا دولهم وشعوبهم في عصور مظلمة، بدءًا من القرن السادس عشر حتى حدوث التغيير في القرن الثامن عشر.
ومن هنا فالتنوير لم يأت صدفة أو من فراغ، وأن حالة التطور الاجتماعي والثقافي لم حدث مباشرة وتكون على أرض الواقع، بل ظلت هذه الرؤى، وعاش أصحابها طبيعة المجتمعات، ومكوناتها وتكوينها في سياق الأضداد والثنائيات، ففي الوقت الذي نعيش الليل والنهار، فإننا نعيش الثابت والمتحول، نعيش في المكان بوصفه ثابتًا، ونعيش في الزمان بوصفه متغيرًا ومتحركًا، وفي ظل هذه الثنائيات المتعددة يبني المجتمع نفسه، ويقود أفراده على اختلاف حقولهم وتوجهاتهم وتطلعاتهم وأفكارهم ومخزونهم المعرفي مجموعة من الأفكار التي تسهم في صنع حياة أفضل تتسم بالتحديث، وتؤمن بالمتغيرات والتحوّلات، لهذا لا يمكن للأدب والثقافة أن تقدما رؤية تجاه التنوير والتطوير إلا في سياق هذه الأضداد وتلك الثنائيات، أي كيف يمكن لنا الإشارة إلى أن هذا تطوير، وذاك تنوير إلا إذا لاحظنا ولامسنا ما في المجتمع من تراجع وتخلف وانغلاق، أو على الأقل بعض التباينان.
ولا شك أن التأثير الغربي وقع على أرض العالم العربي من خلال الأفكار التي نادى بها فلاسفة التنوير ورجالات الفكر والتربويين والعلماء والأدباء والنقاد وغيرهم في أوروبا، أمثال٬ فولتيو، جان جاك روسو، هيوم، فرنسيس بيكون، إسحاق أنيوتن، اسبينوزا، أما من حاول القيام بفعل التنوير عربيًا، فهم أولئك الذين زاروا البلاد الغربية عامة، وفرنسًا تحديدًا، أو الذين تأثروا بالآخر الغربي عبر التواصل غير المباشر من خلال المطبوعات والإصدارات، أو من خلال التواجد الأجنبي على الأرض العربية، ومن هؤلاء ذكرًا لا حصرًا: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، عبدالرحمن الكواكبي، خير الدين التونسي، رفاعة الطهطاوي، رشيد رضا، قاسم أمين، فرج أنطوان، الطاهر حداد، شبلي شميل، إسماعيل مظهر، سلامة موسى، الزهاوي، محمود أحمد السيد، طه حسين، سعد زغلول، معروف الرصافي، وغيرهم الكثير.
وعلى الرغم من النقد وعدم الرضا، والتباين الصارخ من قبل عدد من فئات المجتمع العربي، فإن الساحة العربية ولادة بالمفكرين المؤمنين بالتنوير وتحديث المجتمع، لهذا لحق بركب التنوير مجموعة طليعية من المفكرين والكتاب المتميزين المنادين بقراءة تاريخ الأمة العربية والإسلامية، وتاريخنا الحضاري والفكري والثقافي والأدبي، أمثال: محمد أركون، وصادق جلال العظم، ونصر حامد أبو زيد، وحسن حنفي، وجورج طرابيشي، ومحمد عابد الجابري، عبدالله العروي وسواهم، ولكن في خضم هذا التباين، والتأكيد على تطوير المجتمع بما يتوافق والتحوّلات الفكرية والفلسفية والثقافية، هل لنا أن نتساءل: ما التنوير؟
هل هو ما كان يؤكد عليه كانت بأن التنوير يتمثل في محاولة خروج الإنسان من بوتقة القصور والاعتماد على الآخر في التفكير بدلاً عنه، ذلك الآخر الذي يرسم له مسيرة حياته، ونهجه في الحياة؟ وكأن هذا التنوير هو رفع الوصاية على الإنسان، وأن يوظف عقله للتخلص من عجزه في التكفير، وهنا أشار الدكتور سليمان الشطي في كتابه (إضاءة وتنوير – 28) بأن صاحب المحل التجاري يقول: لا تفكروا بل ادفعوا، ويقول رجل الدين: لا تفكروا بل آمنوا، يقول صاحب القرار: فكروا ما شئتم وفيما شئتم، ولكن أطيعوا.
وإذا كان التنوير ضد الوصاية، فهذا يعني لابد من تحرر الإنسان من الوصاية نفسها، والتفكير في التخلص من العجز الذي يمنعه من توظيف قدراته لفهم الواقع والحياة والإنسان والكون، ولكي يحقق هذا التحرر عليه أن يوظف العقل بوصفه الطريق المنطقي والمنهج العلمي لفهم ما كان ويكون في دائرة التاريخ والحضارة، وفي طبيعة الأنماط الاجتماعية، والمستويات الاقتصادية، والتطلعات السياسية، والقراءة الفاحصة لمكونات المجتمع وأفراده في المجالات التي تشكل عقول الناس، وهذا ما أكده تودوروف في كتابه (روح الأنــوار – 13) أنه ” لابد أن تكون استقلالية المعرفة في مقدمة ما سيفتك من استقلاليات، وتنطلق استقلالية المعرفة من مبدأ مفاده أن ليس لأية سلطة مهما كانت راسخة ومحترمة أن تبقى في مأمـن من النقـد، وأن ليس للمعرفـة سـوى مصدرين هما العقل والتجربة “، أي في كيفية فهم النص الديني، والنص الأدبي والنص الفلسفي وغير ذلك، وهذا يتطلب من مؤمني الفكر التنويري أن يحاربوا الجهل والخرافات والخزعبـلات والأوهـام، وكل شيء طارد للمعرفة، ومقاومة فخ التطرف والجهل والتعصب، الأمر الذي يؤكد ما ينادي به التنوير من حاجتنا إلى الحرية الفردية المسئولة، وقبول الآخر مهما كان دينة أو جنسه أو طائفته أو مذهبه أو ملته أو قوميته .. إلخ.
وحتى نقترب من النص الأدبي البحريني وعلاقته بالتنوير، نتساءل: هل التنوير هو عقلنة العلم؟ أم هو الاهتمام بالإنسان وعلاقته بالمجتمع؟ أم هو بناء مجتمع سليم وإنساني؟ أم هو الحرية؟ أم هو كل هذا؟ وهنا أيضًا يتساءل حليم بركات في كتابه (غربة الكاتب العربي – 66): ” كيف نفهم العلاقة بين الكاتب والكتابة كتعبير عن الذات، وبين الذات والواقع المختلف في أبعاده؟ أليست الكتابة عملية خلق وإنتاج في آن واحد؟ “، وهنا حين نحاول المقاربة بين النص الأدبي البحريني والحالة التنويرية، فلدينا النص الشعري، النص السردي، والنص المسرحي، والدراما التلفزيونية والأفلام السينمائية، فضلاً عن الدراسات الثقافية والنقدية، وكذلك دور الصحافة، وأن التنوير لا شك جاءنا من مناطق عربية شمالية كما هو واضح تأثرًا بالمنجز الأدبي العربي.
ومن قرأ شعر الشعراء إبراهيم العريض والشاعر عبدالرحمن المعاودة والشاعر أحمد محمد الخليفة وغيرهم من تلك الأجيال التي هيأت الأرضية الشعرية لشعراء البحرين المعاصرين فيما بعد، عرف ولاحظ عمليات التأثر في بناء النص والمرجعيات التي كان يتكئون عليها، أي كان تأثرهم بالنص العربي القديم ومرحلة الإحياء واضحًا، ولكن بعد هذا التأثر نهج الشعراء أنفسهم مناهج وطرقًا يرون من خلالها سبل التنوير المجتمعي في المجتمع، أي بات لكل واحد من الشعراء منهجه وطريقة كتابة شعره ورؤيته للعالم والحياة، ثم جاء بعدهم شعراء آخرون اهتموا أيضًا بالقراءة والاطلاع والبحث والتقصي، فانتجوا نصوصًا إبداعية باتت تضاهي النصوص العربية الأخرى، ويفوق بعضها أيضًا.
وبالمثل كان للنص السردي بدءًا بالقصة القصيرة وصولاً إلى الرواية، إذ كان التأثير واضحًا في النصوص الأولى التي نشرت في الصحافة البحرينية والخليجية آنذاك منذ الأربعينيات، إذ نجد كتابات الشمال العربي المشرقي عامة والتأثير بالكتابات المصرية تحديدًا في النص القصصي البحريني، ولكن بمرور الوقت، لم يقف هذا الجيل عند مرحلة التأثير بقدر ما حاول هو والأجيال التي جاءت بعده، وتحديدًا في السبعينيات للخروج من محيط التأثر العربي إلى التأثر بالمنجز العالمي، والأخص المنجز الأدبي الروسي وأمريكا اللاتينية، فضلاً عن القراءات الأخرى في الآداب العالمية أيضًا، فبرزت نصوص إبداعية سردية قصصية ثم روائية كما ظهرت في مقابلها نصوص شعرية، لنجد في هذا النتاج البعد التنويري، إن كان في شكله المباشر أو الخفي، وفي إطار المبادئ المنادي بها التنوير نفسه، ويؤكد ذلك ما نقله تودوروف في (روح الأنوار – 100) عن (فيكو) الفيلسوف الإيطالي وأحد مؤسسي فلسفة التاريخ، ” أن المعرفة بواسطة الاطلاع على الأسطورة والشعر أنسب في بعض المواضيع من تلك التي تعتمد على العقل المجرد “، أي علينا ألا نلغي من حساباتنا دور العلوم الإنسانية عامة، والأدبية بشكل خاص، فلربما قراءة رواية تكشف لك طريقًا مهمًا في مسيرة التنوير، والوعي بالمجتمع كما هي رواية الأم لمكسيم غوركي.
ولكن ربما يقول البعض أن هذا ليس تنويرًا بقدر ما هو نشر فكر إيديولوجي معين كان يؤمن به هذا الكاتب أو ذاك، وهذا صحيح إلى حد كبير؛ لأن المفهوم العام لفعل التنوير عند عدد من المثقفين والكتاب حتى وقت قريب يكمن في توعية المجتمع بقضاياه المختلفة من خلال الفكر المؤدلج، وهنا نتساءل، أي تنوير نرمي إليه نحن الكتاب والمثقفين والمبدعين؟ هل ما يتوافق وما نحمله من فكر ووعي في محيط إيماني بإيديولوجية معينة، أم الأمر مختلف تمامًا، حيث التنوير لا يرتبط بالفكر المؤدلج، وإنما بالأفكار العامة المعنية بالعدالة الاجتماعية، والحرية، واحترام حقوق الآخرين، وفيما يتعلق بالتعليم وحضور المرأة والجندر وغيرها من تلك السياقات التي تنادي بها العديد من المنظمات الدولية ذات التوجهات الحقوقية في العالم.
من هذه التباينات في الرؤى تجاه مفهوم التنوير، نحد الكثير من التيارات الفكرية ذات الصيغ المختلفة، الفلسفية أو الفكرية أو الثقافية أو الأدبية أو الدينية، وغيرها، ترى نفسها وما تحمله من فكر ووعي يرتبط بنهجها الفكري هو المشروع الذي ينير المجتمع ويسهم في تحديثه وتطوره، وهنا يقول حليم بركات أيضًا – ص132: إن الثقافة العربية ” ليست شيئًا واحدًا، ولم تكن في مختلف عصورها إجماعًا وخارج التناقضات والمواجهات والصراع، وقد أسهم عدد من المفكرين في تحليل المواجهات والمعارك بين القديم والجديد، بين الإبداع والتقليد، بين أدب الحياة، وأدب الكتب، وأدب الذاكرة، وأدب المعاناة الوجودية، وثقافة اليقين وثقافة الشك، وثقافة العقل، وثقافة القلب، وأدب الوصف، وأدب الكشف، وبين الثابت والمتحول … “، وهذا يفرض علينا وضع جل الأفكار الداعية إلى التنوير ودراستها ونقدها لمعرفة مدى صلاحيتها في بناء المجتمع والإنسان والحياة، وبخاصة إذا آمنا أنه ينبغي على التنويريين حماية الإنسان، وتعليمه لكي يستخدم عقله من أجل التحرر من كل المعتقدات التي تفرض عليه الوصاية من جهة، وانغلاق التفكير من جهة أخرى.

اقرأ المزيد

الفريد سمعان

لم يدر في خلدي أن أكتب يوماً عن القامة الوطنية والثقافية والتنظيمية، الرفيق الفريد سمعان، فقد كنت دائما أسير بجواره، وانظر إليه كما لو أني انظر لواحد من رفاق فهد، فقد عاصره واستمع إليه، وحمل الأمانة في مجال الثقافة والتنظيم. فالشاعر الفريد سمعان، ليس شخصاً عادياً فقد وجد في خضم مشكلات العراق منذ الثلاثنيات مناضلاً في صفوف الحزب الشيوعي كشخصية وطنية وقفت عبر تاريخ العراق مع أهم تحولاته: مشاركات فاعلة في المظاهرات، أنشطة ثقافية، رئاسة مؤسسات للأدباء، محامياً للدفاع عن حقوقهم، مظلة للفقراء والمعوزين.
عندما جئت بغداد من البصرة عام 1970، كان من بين الشخصيات التي شكلت عينّة من المناضلين الذين التقيت بهم في مقر مجلة “الثقافة الجديدة” في الباب الشرقي: الفريد سمعان، وابو كاطع (شمران الياسري)، عبد الرزاق الصافي، وفخري كريم، والدكتور صفاء الحافظ، ومن أول جلسة تداول بشأن الثقافة العراقية، قال لي الفريد: نريدك أن تكون ناقدنا الذي يغطي نشاطات الأدباء للمجلة.
ما كان وجودي في بغداد إلا للاستزادة من العلم والثقافة، وأكون قريباً من نبض الحياة اليومية، وبالفعل كان الفريد سمعان النافذة الحيّة لي عندما جنّد نفسه لتمابعتي والاهتمام بي كأب يرعى الناشئة من الأدباء، وأول حصاد لي مع الزميل الناقد فاضل ثامر هو كتابنا المشترك” قصص عراقية معاصرة”. قرأ الفريد سمعان مقالتي النقدية وصوب أخطاءها وقوّم منهجيتها.
بعد أقل من سنة انتظمنا سوية في خليتنا الحزبية التي كان يقودها، وكنت من بين زملاء أدباء وفنانين نؤسس شيئاً ثقافياً متميزاً هو نتيجة لما مرّ الحزب الشيوعي فيه من إنتكاسة في خطوطه الثقافية بعد شباط الاسود 1963. فأعدنا خطوط المثقفين، وكان الفريد أحد القادة الميدانيين الذين يتابعون عمل خليتنا الفتية. يأخذ بأيدينا في حلقات تثقيفة وتنظيمية أنتجت نواة للهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء الذي أعيد تشكيله عام 1972. بعد أن الغى البعثيون الاتحاد وحوّلوا مقره في ساحة الأندلس إلى مركز شرطة للجوازات.
اتسعت خطواتنا، واتسع الشارع العراقي بنا، واتسعت اشغال الثقافة والمثقفين، فصدرت جريدة “طريق الشعب” لنجد أنفسنا مع نخبة مدربّة من المثقفين يشكلون النواة الصلبة لقيادة الثقافة العراقية، كانت مميزاتها الوضوح والإرتباط بالثقافة الوطنية وانتاجها الأدبي والفني، كانت “طريق الشعب” مدرسة، لتصبح جامعة بصفوف أدباء ومثقفين وسياسيين، كان الفريد سمعان في قمة القيادة فيها، وفي خضم الحياة اليومية للشارع الثقافي الوطني.
في هذه الفترة التي استمرت لعام 1978 حيث اتسع ميدان العمل الوطني فضربت الجبهة الوطنية، كان الفريد يستضيف عدداً منا في بيته، وفي مكتبه حماية من ملاحقة الأمن، أو كفالته لمعيشة لمن لم يقدر منا على تحملها.
بعد عام 1978، وحيث تمت الهجرة القسرية لمجموعات المثقفين العراقيين، بقي الفريد في العراق، كما بقيت أنا، وجدت الفريد وحده في الشارع الثقافي الوطني، لايزال يحمل همّ الحزب والثقافة، كان يحذرنا من الخروج العلني، وعلينا أن نحترس كثيراً. كنت التقي به في سوق الشورجة حيث عملت لي دكاناً صغيراً للعيش، وفي مكتبه في شارع السعدون المحاط بالأمن نقضي بعض نهار، نشرب أو نعيد بعض ما مضى أو نتبادل بعض المنشورات، كانت خطواته لا يمكن احتسابها عندما تجده. الفريد لم يهاجر، ولم يهادن، ولم يخضع لظلم أو يستسلم لمخاوف.
كل شيء بعد عام 1978 تفكك، بقينا نخطو بقدمين فارغتين من اي مرسى مثلما كنا نسير إما إلى “الثقافة الجديدة” أو “طريق الشعب” أو لاتحاد الأدباء أو ل”الفكر الجديد”، الآن أصبحت أقدامنا فارغة من الجهات التي نقصدها، لم يبق لنا إلا الزيارات المتباعدة واللقاءات التي لا يحددها زمن أو مكان، هكذا بعدت بنا الأيام لأجد نفسي مرات عديدة التقي الفريد في الأسواق أو في الدرابين القريبة من مقر مكتبه، أو في بيته البعيد. ومن خلال هذه الخطوات كنا نتبادل منشورات الحزب وآخر مستجدات الأخبار، وبعض مايصلنا من أدبيات يجلبها لنا أصدقاؤنا الكرد من الشمال عندما يزورون بغداد، ومع كل لقاء مع أبي شروق يوصينا بالحذر وتوخي المراقبة والانتباه، فالسلطات مازالت خائفة من أقدام الشيوعيين التي تسير في شوارع العراق ومدنه وجباله وأهواره وسجونه وبيوته المخفية. لازلنا نتلمس وجودنا في عين الألاف من الناس الذين يعرفون من نحن، وما هي خرائطنا لبناء العراق. وقبيل هجرتي من العراق التقيت الفريد في مكتبه بشارع السعدون لأبلغه بالهجرة وعدم العودة، قال كن على حذر، فللسطة أذرع في الخارج أيضا. ولم ينس ان يدس في جيبي بعض النقد.
وحينما استقرّ بي المطاف في هولندا، وعرفت أنه في المانيا اتصلت به، ووسط ضحكاته وقفشاته عرفت أنه سيعود للعراق ثانية، فقد جاء بزيارة عابرة لابنه، سيعود بعدها لعرينه في شارع السعدون. لقد كان نموذجاً للإنسان الوطني الملتزم بقضايا شعبه، تمر السنون ويصل عمره الى الثانية والتسعين، ولايزال معين الفريد سمعان يغطي على خطوط المثقفين والفنانين، فأي طاقة يملكها هذا الرجل الذي واصل النضال من سجن إلى سجن، ومن مظاهرة إلى أخرى. فقد كان نموذجنا الوطني بامتياز.

اقرأ المزيد

الصين بعد ماو

رسالة استقالة إلى جمعية الصداقة الصينية-الفرنسية

الصين بعد ماو

ترجمة وإعداد: هشام عقيل

[في 11 مايو 1977 سلم شارل بيتلهايم رسالة استقالته لجمعية الصداقة الصينية-الفرنسية التي كان يترأسها. يحلل بيتلهايم في هذه الرسالة، بشكل عام ، مجرى الصراع الطبقي في الصين بعد رحيل ماو تسه تونغ؛ وعلى ذلك لاحظ – بشكل مبكر – بأن الحاصل في الصين هو الرِدة إلى النظام الرأسمالي] .

الأصدقاء الأعزاء،

تعلمون بأن الأحداث التي تلت وفاة الرئيس ماو شكّلت مصدر قلق شديد بالنسبة لي. فمثل العديد من أصدقاء الصين توجستُ الخطر الذي يحوم حول مستقبل الاشتراكية في الصين منذ اعتقال القادة الأربعة الذين لعبوا دوراً محورياً في الثورة الثقافية، كما أن جميعهم – بإستثناء تشيانغ تشنغ- حظوا على ثقة ماو تسه تونغ.

لا يمكن أن تعدّ التهمة الموجهة لهؤلاء الأربعة، القائلة بأنهم حاولوا أن يقودوا إنقلاباً على النظام، تهمة مقنعة على الإطلاق. نحن نعلم، في العادة، بأن الزمر التي تنجح في قيادة إنقلاب على نظامٍ ما غالباً تتهم القادة القدماء بمحاولة الاستحواذ على السلطة عن طريق القوة.

إن مخاوفي وشكوكي تشتد عند العواقب السياسية لهذه الأحداث خصوصاً بعد أن قام اثنين من القادة المعتقلين، ياو ون-يوان وتشانغ تشون-تشياو، بمساهمات هامة – رغم أنها غير مكتملة – لتحليل الأساس الطبقي للرِدة الرأسمالية في الصين.

… إن الطريقة التي تمّ فيها “نقد” القادة الأربعة، ولا يزالون إلى يومنا هذا يتعرضون له، لا تمت بصلة إلى تعاليم الرئيس ماو. في المواد المنشورة ضد هؤلاء الأربعة لا نجد تحليلاً ماركسياً، بل – بالأحرى – لا أكثر من القذف والتشهير؛ وهذا المستوى الهابط لا يبين سوى عدم قدرة القيادة الحالية للحزب الشيوعي الصيني على حمل أي نقد جاد للخط السياسي التابع للقادة الأربعة.

تحمل الحملات المضادة لهؤلاء الأربعة تهماً لا تنطبق عليهم، بل إنها -على العكس- تنطبق على ممارسات القيادة الحالية نفسها! نقرأ بأن “تزييف” الصور، التزييف المنسوب للقادة الأربعة، تثبت بأنهم كانوا في مثل الوقت “متآمرين منحطين وانتهازيين متعطشين لسلطة الدولة والحزب”. بلا شك لا بد من إدانة تزييف الصور، لا وبل كل أشكال تزييف الحقائق التاريخية؛ لكن هذه الممارسات هي الطاغية عند القيادة الحالية، وهذا واضح في عددي نوفمبر- ديسمبر 1976 لمجلة ( الصين تنهض) حيث ظهرت الصور المزيفة علناً.

التهم الموجهة ضد الأربعة تنكر كل مقومات الماركسية. على سبيل المثال، التوبيخ الذي ناله تشانغ تشون-تشياو لمحاولته حمل تحليل طبقي للمجتمع الصيني الحالي ورغبته في تطوير الماركسية لا يعبر سوى عن إنكار صريح للاشتراكية العلمية وتحريفية تبشر بثورة مضادة.

أما التهم الأخرى فهي غير واقعية أو، إن قبلنا بها، ستجعلنا جدياً نشك في أخلاقية أسلوب حياة الكوادر القيادية للحزب الشيوعي الصيني. مثل إتهام القادة الأربعة بأنهم لا يدفعون لوجبات الطعام في المطاعم التي يرتادونها؛ أو الرسالة المزعومة التي ارسلت إلى تشاينغ تشنغ بشأن “الفستان الامبراطوري” الذي قامت بطلبه.

أخيراً، ثمة تهم لا تعدو كونها مبالغات تشوه الوقائع؛ إنها لا تتعدى كونها تزييفاً صريحاً. هكذا، في الأشهر القليلة الماضية قالت الصحف والمجلات بأن الأربعة عاشوا حياة بورجوازية انتهازية وفاسدة. تكتب الصحف والمجلات بأن وانغ هانغ – ون هو ممثل نموذجي للبورجوازية الجديدة؛ كما أنها تقول بأن الأربعة كانوا أشبه بملّاك الأراضي وبورجوازيين، وبالتالي كرّسوا حياتهم كلياً للطريق الرأسمالي. إنهم يحاولون إظهارهم كأعداء الحزب الشيوعي، والطبقة العاملة، والشعب الصيني بأكمله؛ كجواسيس، وتوابع للأطراف الأجنبية، ومستوردي الأدوات المطلوبة للعملاء السريين، بالإضافة إلى استيراد السلع المرفهة. تكتب هذه الصحف والمجلات بأنهم بددوا أموال الدولة بغية الإضرار بالتراكم الاشتراكي لإشباع رغباتهم المادية. كما إنها اتهمتهم بكونهم عملاء الكومينتانغ.

إن كانت هذه التهم صحيحة وواقعية فذلك سيجعلنا نشك في مقدرات القيادة الحزبية وفي يقظة ماو. في هذه الحالة، سيكون علينا أن نتوقع بأن بعض أو كل القادة الحاليين يعلمون كعملاء الكومينتانغ و”يتجسسون لصالح العدو”.

لكن إذا كانت هذه التهم غير صحيحة، كما أعتقد أنا شخصياً، فإنه من المستحيل أن نثق بقادة يعملون على خداع الشعب عبر تصفية المعارضين لهم؛ لا عبر اللجوء إلى تفسير أسس الخلافات، بل عبر اللجوء إلى القذف والهجوم.

في ظل هذه الظروف، لا يسعنا سوى أن نستنتج بأن الوفاء الظاهري للخط السياسي التابع لماو تسه تونغ عند القيادة الجديدة هو لا شيء سوى غطاء يهدف لتمويه خط مناهض له. في الواقع، حين تفحصتُ النصوص المنشورة في الصين في الأشهر الماضية، بالإضافة إلى ملاحظة ما يحصل في الممارسة الفعلية، استنتجتُ بأن الخط التحريفي هو الذي يتنصر حالياً. فإن الحزب تخلى عن نقد تينغ هيساو بينغ، فنسمع دعوات ترجع الأولوية للإنتاج بدلاً من الثورة. كما أن مبادئ مثل النظام والإنضباط تمّ التشديد عليها، وهكذا يخسر الشعب حقه في التعبير عن رأيه الصريح، ناهيك عن حقه وواجبه في التمرد على السياسات البورجوازية. أما القضايا المتعلقة بوضع المرأة في الانتقال الاشتراكي فتمّ إنكارها تماماً؛ ولا نجد أي مكان للصراع ضد الحق البورجوازي. كما أن قضية تواجد البورجوازية في الحزب الشيوعي نفسه تم تفاديها تماماً، وتمّ استبدال الصراع الطبقي بالصراع ضد القادة الأربعة.

باختصار، نقد هؤلاء الأربعة يعبر عن موقف تحريفي لا ثوري، إذ إننا لا نجد أي مكان للتفرقة ما بين الخطأ والصواب في أقوالهم وأفعالهم. وبالتحديد، تمّ استغلال اخطاء هؤلاء القادة لإنكار تحليلاتهم الصحيحة، وهذا المنهج مناهض لمتطلبات المادية الديالكتيكية؛ ويعزز هذا، بدوره، الأفكار البورجوازية.

إن ما نراه يحصل في الصين يؤكد النزوع نحو التحريفية في السياسات الحالية: فضوابط المصانع أصبحت قهرية وقمعية شيئاً فشيئاً. كما إنه تمّ عملياً التخلي عن سياسة الباب المفتوح في مجال التدريس. معنى هذا هو بينما تقوم القيادة الحالية بتمجيد الثورة الثقافية في أقوالها فإنها في حقيقة الأمر تلغي كل ما حصدته الثورة الثقافية.

أما بالنسبة للسياسة الخارجية فإنه تمّ التخلي عن مبدأ الصراع ضد القوتين العظمتين في العالم -الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي – ليحل محله مبدأ الصراع ضد الامبريالية السوفيتية وحدها. نتيجة لذلك اختفت الإدانات الموجهة للإمبريالية الأمريكية بشكل تدريجي؛ فإن تدخلاتها أو تدخلات حلفائها في حياة الشعوب الأخرى أصبحت في أعين القيادة الصينية الحالية كأفعال “إيجابية”. هذا واضح في حالة الأحداث التي حصلت في زائير. حين تتجابه قوتان امبرياليتان وجهاً لوجه أنه من غير الصائب أن تختار أن تقف في صف واحدة منهما ضد الأخرى. هكذا، الممارسات الدولية الحالية للحزب الشيوعي الصيني تضر بصورة ومكانة الصين عند شعوب العالم، وبالتحديد شعوب العالم الثالث. في الواقع، هذه السياسات تنصب مباشرة في مصلحة الإشتراكية – الإمبريالية.

هذا هو حكمي الذي أنا مضطر أن أتبناه وفقاً للحاصل في الواقع الصيني الآني. لا نملك العديد من المعلومات لنعرف بالضبط مقدار قوة الأطراف المناهضة للخط السياسي الحالي. بلا شك هذه الأطراف موجودة، وهذا ما تشهد عليه درجة الممارسات القمعية الحاصلة في الأشهر الماضية. إنه من المستحيل التنبؤ تحت أي ظرف، ومتى بالضبط، سترجع الصين إلى خطها الاشتراكي ثانية.

اقرأ المزيد

قراءة نقدية في كتاب (الجائحة!) لسلافوي جيجك ( 2 – 2)

عناوين فرعية

الطفرة القادمة للإنتاج الرأسمالي في بعض الأبنية الاجتماعية الرأسمالية تعتمد كلياً على الإنتصار الإيديولوجي والسياسي للأشكال النقدية والإصلاحية للرأسمالية

سلطوية الدولة الرأسمالية الحديثة تضع البورجوازية في أزمة مكشوفة، وهذا، بحد ذاته، يشكل العامل المؤبد للنظام الرأسمالي

التعافي التدريجي بعد أزمة 2008، ونزعة الرأسمالية لمناهضة هبوط معدل الربح لم تتم بشكل قوي ليس لأسباب اقتصادية محضة، بل لأسباب سياسية ايضاً ترتبط بمجريات الصراع الطبقي

في تناولنا لكتاب سلافوي جيجك عن جائحة كورونا، عرضنا في الحلقة السابقة للفرضية الأولى التي تتصل بتوجه النظام الراسمالي العالمي نحو تقوية العوامل المناهضة لهبوط معدل الربح عبر قيادة طفرة في معدل التراكم. ونواصل في هذا العدد عرض الفرضيتين الثانية والثالثة.

الفرضية الثانية:

إن الأزمة الراهنة للطبقة البورجوازية تولد إنقساماً آيديولوجياً وسياسياً في الآيديولوجيا البورجوازية: جانب محافظ (حرية السوق، إلخ) وآخر نقدي-إصلاحي (تعظيم دور الدولة). وفقاً للحظة-الراهنة الحالية في أغلب البلدان الامبريالية وبعض البلدان الكولونيالية، يعمل الجانب الأخير في صالح ما ذكرته في الفرضية الأولى.

لقد لاحظ بولانتزاس، في إضافاته الرائعة للعلم الماركسي، بأن الدولاتية السلطوية تعظم من تدخل دور الدولة الاقتصادي كلما تعاظمت كوننة الرأسمالية، وفي ذلك تترافق نزعة تسيد الجهاز التنفيذي الإداري على التشريعي (ومن هنا يأتي المعنى الاصطلاحي للسلطوية). هذا المفكر لاحظ كل هذه الحقائق في فترة بسيطة جداً، وهي مرهونة بالحقبة الأولى لهذه المرحلة وهي حقبة إنتقالية، ولم يتسن له أن يشهد التحولات الهائلة التي حصلت بعد إنتحاره. إن المرحلة الحالية من الرأسمالية، كما أحددها، هي حقبة تسيد كوننة أو عولمة رأس المال، ومعها تتعاظم سلطوية الدولة الرأسمالية. أضيف بأن هذه السلطوية قد تأتي مع أيديولوجيا نيو-ليبرالية ولكن هذا لا يعني بأنها لا تترافق أحياناً مع آيديولوجيا كينزية هجينة لدولة الرفاه الاجتماعي؛ هذا كله مرهون بالصراع الطبقي. مرة اخرى، أحثكم على تقفي أثر بعض أطروحات جيجك وغيره من المفكرين اليساريين الذين أصبحوا يتحدثون باسم آيديولوجيا دولة الرفاه الاجتماعي.

مثلاً، تابعوا تصريحات شانتال موف مؤخراً بشأن عودة ما تسميه بالسياسي في عالم تجاوز السياسة، وهي تضع ثقتها المطلقة في الحركة الاجتماعية البيئية في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تتمثل بجماعة بيرني ساندرز وأليكساندريا كورتيز كالطرف الذي سيمثل الدال المهيمن النقيض للنيوليبرالية في الدولة الأمريكية. شخصياً، أرى بأن جهود جماعة أليكساندريا كورتيز التي تأتي تحت البرنامج التشريعي المسمى بالصفقة الجديدة الخضراء هي جهود يمكن اعتبارها – بتحفظ شديد- تقدمية، ولكنها لا تتعدى كونها نوس-تالجيا لإعادة تقديم دولة الرفاه (دون أن أعني بأنها غير واقعية، ولن يتم تبني نقاطها الأهم). إن شانتال موف تستهين بقدرة الآيديولوجيا البورجوازية على الامتصاص الآيديولوجي للخطاب المناهض لها؛ تستهين بقدرة البورجوازية على أن تتبنى خطاباً مناهضاً للبورجوازية. بالفعل، على الرغم من أن جو بايدن لا يتفق مع كل تفصيلات الصفقة الجديدة الخضراء، ولعله يرى بأن بعض نقاطها راديكالية جداً بالنسبة له، إلا أنه يعمل ضمن مثل الفلك؛ وهو قد كسب، سلفاً، ثقة ساندرز وكورتيز.

لا بد في هذه الحالة أن نقيس الأمور وفقاً لمجريات الصراع الطبقي نفسها. لاحظوا بأن التعافي التدريجي من بعد أزمة 2008، والنزعة الطبيعية للرأسمالية نحو مناهضة الميل نحو هبوط معدل الربح لم تتم بشكل قوي لا لأسباب اقتصادية محضة (إذا لم يكن بيننا طبعاً بعض مناصري هذا النزعة المشؤومة)، والوجود المحض لا يحضر إلا على المستوى النظري، بل لأسباب سياسية ايضاً ترتبط أساساً بمجريات الصراع الطبقي (اقتصادياً، وسياسياً، وآيديولوجياً) من حيث عدم قدرة البورجوازيات على تحييد الطبقات الشعبية، وبالتالي عدم قدرتها على زيادة حقيقية في معدل التراكم. إن عودة ثيمات النظرية الكينزية وآيديولوجيا دولة الرفاه الاجتماعي، على الرغم من اختلاطها ببعض الثيمات التي تحسب اشتراكية (لا اظن بكل بساطة بأن الكينزية بشكلها المحض ستعود، أو دولة الرفاه الاجتماعي كآيديولوجيا ستعود، بل للبورجوازية دائماً نزعة اصلاحية وهي كنزعة لها جذوراً نظرية وآيديولوجية مشتركة؛ كاوتسكي وبيرنشتاين أمثلة جيدة على ذلك) ستنصب في مصلحة تحقق طفرة في معدل التراكم، هذه الطفرة التي يبحث عنها النظام الرأسمالي، وبطريقة متوائمة مع تحييد الطبقات الشعبية.

أنا أتحدث بالتحديد هنا عن أزمة البورجوازيات بدلاً من أزمة الرأسمالية البنيوية بحد ذاتها، ومن دون أن أقع في ما نسميه – نحن البحرينيون – بالتفلسف الفارغ سأقول بأن الدولة البورجوازية الحديثة تؤبد أزمة البورجوازية كيلا تصلها الأزمة الاقتصادية الرأسمالية. (عليكم أن تمعنوا في الحقيقة التي لم يمل ماركس من ذكرها: الإنفصال النسبي للدولة عن الاقتصاد). إن سلطوية الدولة الرأسمالية الحديثة تضع البورجوازية في أزمة مكشوفة بشكل دائم، ولكن ذلك بحد ذاته يشكل العامل المؤبد للنظام الرأسمالي نفسه. كل شيء يعتمد على فهمنا لهذه الحقيقة: التناقضات الداخلية للطبقة البورجوازية، وهي تناقضات شاملة اقتصادياً، وسياسياً، وآيديولوجياً. لما كان التوسع الاقتصادي للدولة هو الذي يفعل هذه المواجهة المباشرة ما بين الطبقات الشعبية والبورجوازية (ايّ، اتخاذ رأس المال الاحتكاري قطاعات معينة تحسب تاريخياً من ضمن المكتسبات الشعبية كمواقع اقتصادية استراتيجية)، فإن البورجوازيات أصبحت دائماً معرضة لهذا الصراع الطبقي المكشوف؛ ولكن لأنها معرضة لهذا الصراع الطبقي، ولأنها مهددة بأن تكون مأزومة دائماً، فإنها في مثل الوقت تعظم من تناقضاتها الداخلية ما بين أقسامها وأشكالها الآيديولوجية المختلفة. ما أعنيه هنا بكل بساطة بأن الدعوات الإصلاحية، أو ما تسميه شانتال موف بالإصلاحية الثورية أو الراديكالية، لا تشكل صوتاً مختلفاً عن البورجوازية نفسها، ايّ – وبكلمات أكثر وضوحاً – إن بعض أقسام البورجوازية لن تمانع نقد النظام الرأسمالي، ولن تمانع أن تمتص ببعض الثيمات التي تحسب اشتراكية عند البعض.

إذن، الأشكال الصريحة للآيديولوجيا النيو- ليبرالية والأشكال الصريحة لإصلاح ونقد الرأسمالية تشكلان المواقع الأيديولوجية الحالية التي تعمل عليها طبقة البورجوازية ككل اليوم. إن الطفرة القادمة للإنتاج الرأسمالي في بعض الأبنية الاجتماعية الرأسمالية تعتمد كلياً على الإنتصار الآيديولوجي والسياسي للأشكال النقدية والإصلاحية للرأسمالية؛ ايّ أنها تعتمد كلياً على الإنتصار السياسي والأيديولوجي للبورجوازية؛ مهما أحبّ أتباع كوندراتيف اقناعنا بأن الطفرات تعتمد على الموجات الاقتصادية لتطور الرأسمالية.

لستُ أدعي بأن جيجك جاهل بالوهم الذي تولده الآيديولوجيا النيو – ليبرالية بأنه لم يعد للدولة أي دور فعال، إذ إنه كفيلسوف جاد رأى ذلك بوضوح وكان من القلة الذين أكدّوا على هذه الحقيقة. على العكس، سأقول بإنه – بشكل مفارق تماماً – لأنه حاول تفادي الوقوع في هذا الوهم وقع فيه. “إن ما يجعل الفلاسفة فلاسفة هو أنهم دائماً يقعون على وجوههم”، هذه الملاحظة لا تقدر بثمن لآلتوسير. أضيف إلى ما قاله آلتوسير بأنهم يقعون على وجوههم من دون أن يدركوا ذلك؛ بأن الزلة أو التعثر ما هي سوى لحظة ضرورية في صيرورة الفلسفة (راجع فينومينولوجيا الروح لهيغل الذي لم يسمح لأي خطأ أن يسمى خطأً في تاريخ الفكرة الشاملة كلها). هكذا جيجك، بوصفه فيلسوفاً حقيقياً، ومؤمناً تماماً بنفي النفي يمارس هذا النفي نفي بشكل جيد، يرى بأن الدولة قوية سلفاً ولكن قوتها خاضعة لآلية السوق (ايّ استقوائها يخدم قوة السوق)، وما يطرحه هو خضوع السوق لقوة الدولة، ايّ هبوط الأخيرة إلى الأولى والأولى إلى الأخيرة: منطق هيغل يشع سروراً هنا! لكن من هنا تحديداً نرى التعثر، إذ إن هذا الرأي يفترض بأن للدولة الرأسمالية جهازاً محايداً وجهازاً خاضعاً للمصالح المباشرة لرأس المال الاحتكاري.

إذا كان الكتاب في متناولكم الآن افتحوا، وأنا أشير بالتحديد إلى النسخة الانكليزية، الصفحة 10 أو 102 أو 103، ستجدون الفيلسوف يقول: “نحن بحاجة إلى دولة قوية في أوقات تفشي الجوائح…”، أو: “علينا أن نتبع ما قاله كانط الذي كتب عن قوانين الدولة التالي: ”اطع ولكن فكر، لا تتخلى عن حرية التفكير“، أو مثلاً بشكل أكثر وضوحاً: “من هنا تأتي رؤيتي لما أسميه بالشيوعية، لا كحلم مبهم ولكن ببساطة لتسمية واقع الأمور بمسماها … بالإضافة إلى حاجتنا إلى تقوية وتفعيل دور الدولة سنحتاج إلى تنظيم إنتاج الحاجيات الضرورية مثل الأقنعة، وأجهزة التنفس، وعزل الفنادق والمنتجعات، ضمان الحد الأدنى للبقاء عند العاطلين، إلخ.. بعيداً عن آليات السوق”.

الآن لست واثقاً تماماً بأن أي مشاهد منكم سيستطيع الولوج إلى الفصل الأخير من (النظرية العامة للعمل، والفائدة، والمال) لكينز، ولكنه في كل الأحوال سيجده يقول: “إذن، ستبدو الدعوة إلى تعظيم وظائف الدولة كشيء مرعب يهدد مبدأ الفردانية بالنسبة إلى صحفيي القرن التاسع عشر أو لأي مصرفي أمريكي معاصر. لكنني على العكس أدافع عن هذه الفكرة… يبدو بأن الأنظمة الديكتاتورية قادرة على حل مشكلة التعطل بشكل أكثر كفاءة ولكن على حساب الحرية… إنه من الممكن، وفقاً للتحليل السليم، التوصل إلى علاج مرض التعطل وفي مثل الوقت الحفاظ على مبادئ الحرية.”.

أذكركم بأن كينز كان يتفاخر بأنه يمثل نوعاً من الفكر الاشتراكي، رغم أنه في الحقيقة لم يمثل سوى الاشتراكية البورجوازية، والكينزية ليست سوى مذهب من المذاهب العديدة للاشتراكية البورجوازية، مثلما يتفاخز جيجك بأنه شيوعي دون أن يكون شيوعياً. تتشارك الاشتراكية البورجوازية والاشتراكية البورجوازية الصغيرة المظاهر التالية: من الجانب السياسي تأليه الدور التدخلي للدولة (يدعو جيجك إلى التأهب العسكري للدولة في حال تفشي الجوائح، وبأن عليها أن تكتسب سلطة عليا في أوقات كهذه لإحتواء الأزمات)، ومن الجانب الاقتصادي يقوم التحليل كله على مبدأ “شح الإستهلاك” فترتبط الوفرة بمناهضته عبر الدولة، ايّ احتواء الفوضى الإنتاجية التي يتميز بها النظام الرأسمالي دون غيره عبر الدولة نفسها (نقد كينز لريكاردو مثال على ذلك). يذكرني ذلك كثيراً بما قاله لينين يوماً عن هذا الشكل من الاشتراكية: (إنها تسلم الدولة مهمة محاربة الرأسمالية المتوحشة، ايّ أنها كمن حاول أن يقتل السمكة المتوحشة عبر اغراقها في النهر).

هكذا، كل ما تقوله فرضيات جيجك، وهي تلتف عبر عبارات هيغلية -لاكانية هنا وهناك، هو: ”علينا اغراق السمكة المتوحشة في النهر!“. لكن لأن فرضياته لا تقوم على أسس ساذجة، وهو واع بما يقوم به، فإنه يقع في التصور البورجوازي – ولا استغرب من ذلك، إذ إن هذا التصور أشاعه هيغل في القرن التاسع عشر – بأن المجتمع البورجوازي ينقسم إلى مجتمع سياسي (الدولة البورجوازية) ومجتمع مدني، وفي هذا الإنقسام تمثل الدولة المصالح العامة للناس: الصحة، والخدمات الاجتماعية، والتعليم، والبنية التحتية، البريد، إلخ. إذن، المعادلة تكمن ما بين مدى كون الدولة ممثلة للمصلحة العامة وإلى مدى كونها ممثلة لمصلحة البورجوازية، ايّ أننا – حسب هذه الفكرة، سواء أكان بوعي الفيلسوف أو من دون وعيه – أمام أجهزة محايدة طبقياً في الدولة (ايّ، أجهزة تحقق المصلحة العامة، أو توفر الظروف العامة للإنتاج والاستهلاك بشكل مجرد من طابع طبقي — هكذا يسيء بعض الماركسيين فهم فرضيات انغلز) وأجهزة تحقق المصالح الطبقية المباشرة لرأس المال الاحتكاري؛ كل شيء يعتمد على احتواء الثانية عبر الأولى (هذه الفرضية البسيطة نجدها عند تشومسكي، وشانتال موف ولاكلو، والأوروشيوعية، وسلافوي جيجك بطرق مختلفة).

في حقيقة الأمر، إن القطاعات التي غرضها تحقيق المصلحة العامة هذه هي كلها مبنية ضمن الدولة الرأسمالية، ايّ أنها تعمل مباشرة ضمن مصلحة الطبقة البورجوازية. من الواضح أنني لا أعني بذلك بأنها ليست مكتسبات شعبية ناتجة عن صراع مرير قادته الطبقات الشعبية، ولكن حالما تدخل ضمن بنية الدولة الرأسمالية فأنها تبني على أسس المصالح المباشرة للطبقة البورجوازية: أنها لا تحقق المصلحة الاجتماعية لكل الطبقات، بل غرضها تحقيق المصلحة العامة للطبقة البورجوازية. كما أنه من الواضح بأنني أعي بأن شكل هذه القطاعات تختلف من مرحلة إلى اخرى، ومن دولة إلى اخرى (في الدولة الليبرالية كانت توفر الظروف العامة لإعادة الإنتاج الرأسمالية، أما في المرحلة الحالية فإنها تشكل مناطق حقيقية لإعادة إنتاج الرأسمالية نفسها فيها)؛ خذوا مثلاً القطاع الصحي. سأتصور، من دون أن اتهم أي أحد بالسذاجة السياسية، بأن أغلبنا سيرى بأنه القطاع الوحيد الذي لا يمكن أن يعتبر ضمن ما قلته للتو. لكن في حقيقة الأمر، يشكل القطاع الصحي قطاعاً عضوياً ضمن الأجهزة القمعية للدولة الرأسمالية.

توفر الجائحة لنا أفضل الأدلة على ذلك: أتصور بأن أغلب المرتابين، وأنا بلا شك واحد منهم، في بداية الجائحة ركزوا على انتشار وسائل المراقبة الأمنية المباشرة التي تهدف احتواء الناس وتجمعاتهم، ولكن أليس مثيراً للاهتمام بأن هذه الوسائل لم تأتِ بشكل أمني مباشر؟ أليس مثيراً للاهتمام بأن هذه الوسائل خضعت للقطاع الصحي بدلاً من كونها اجراءات أمنية اعتيادية؟ أنا لا أعني هنا أجهزة التتبع وحسب، بل الأشكال الحقيقية للمراقبة الأمنية – البايولوجية (لعل الفوكويين المعاصرين سيكتبون أموراً مثيرة للاهتمام في هذا الشأن): لا أدري إن كنتم تتابعون نشاطات مركز واتسون الصحي التابع لشركة آي بي إم (IBM)، فإن تقدم التكنولوجيا الصحية تتوافق مع ما تقدمت به للتو. إنهم الآن يطرحون جدياً (لتفادي أي جائحة قادمة) تركيز استحصال المعلومات البايولوجية الصحية من الناس (مثلاً، عبر الأجهزة الذكية)، وتحليلها (عبر أجهزة الذكاء الاصطناعي القادرة على التنبؤ)، وضبطها، وتخزينها ومشاركتها مع الجهات المعنية لاحتواء أي أزمة ممكنة. هنا تجدون كيف تعيد الرأسمالية إنتاج نفسها في القطاعات الصحية وفي مثل الوقت تتعاظم سلطوية الدولة الرأسمالية.

أنا مرغم على إعادة صياغة الفرضية الثانية لكم: تنزع الرأسمالية الآن (خصوصاً بعد جائحة كورونا) إلى تعظيم من تركز سلطوية الأجهزة التنفيذية، إذ إن الطفرة الرأسمالية المؤملة تعتمد على ذلك بقدر اعتمادها على تحييد الطبقات الشعبية عبر تغليفات آيديولوجية اشتراكية لإصلاح رأسمالي للرأسمالية (قال ماركس في البيان الشيوعي بإن الاشتراكية البورجوازية تعني شيئاً واحداً: ”بقاء البورجوازية كبورجوازية لخدمة الطبقة العاملة“). إن نجاح هذين العنصرين حتماً سيقود الإنتاج الرأسمالي إلى طفرة في معدل التراكم.

لهذا السبب بالتحديد لم أفصل التوجه الحالي لبعض الذين يطلقون على أنفسهم يساريين اليوم من التوجه الذي نجده عند بعض أقسام البورجوازية؛ مهما أحبّوا التخلص من السمكة المتوحشة. إن جيجك في لحظات التجلي في كتابه يعيد صياغة ما قاله هيغل في (فلسفة الحق) بإن “الفلسفة ليس من واجبها أن تقول كيف على العالم أن يكون، بل تفصح عما هو العالم عليه”. اسم هذا الإفصاح بالنسبة إلى جيجك هو الشيوعية. إنه يرى نشاطات الدولة (التأميمات، التنظيم والإنضباط العسكري، إلخ)، ولم يخيل له ابداً بأن هذه النشاطات تدخل ضمن الميكنزمات الطبيعية للدولة الرأسمالية، فيشخص كهيغلي-جيد ما العالم هو عليه (لكن باسلوب مكارثي): “إن الرأسمالية قد غدت شيوعية!“ (مفارقة ديالكتيكية اخرى). إنه يتخيل، مثل كاوتسكي، بأن يمكن للنظام الرأسمالي العالمي، بأنه يمكن للامبريالية العالمية، أن تتعايش سلمياً (هذا ما يسميه بالشيوعية ايضاً) عبر التنسيق والإنضباط الأممي لتفادي كل الأزمات. أهناك أي داعٍ لأفند هذه اليوطوبيا؟ أهناك أي شيء سأقوله بهذا الشأن لم يقله لينين قبلي؟

الفرضية الثالثة

اليوم، وصلت الامبريالية إلى أعلى درجات الطفيلية، وفي ذلك أنها تهدد الوجود البايولوجي للبشر (أسلحة الدمار، عدم القدرة على الحفاظ على السلام، تدمير كوكب الأرض، إلخ)؛ مهما بلغت درجة إصلاحنا لها. ليس ثمة أي داعٍ لاستمرار بقاء الامبريالية على وجه الأرض.

قال أرسطو قديماً بأن الجندي المذعور يفقد كل حواسه، وتخرج روحه عن جسده، فلا منطق ولا مبدأ يبقى لديه: هكذا تدفع المادية الديالكتيكية، وهي فلسفة الرعب كما لاحظ آلتوسير قديماً، ولأن جيجك يبشرنا بالشيوعية على مستوى الدولة، وينسى تماماً أن ينظر إلى الطبقات الشعبية (التي لا يثق بها)؛ حقاً أن النزعة الواقعية التي يبشرنا بها موجودة سلفاً، إنها حاضرة، ولكن ليس على مستوى الدولة الرأسمالية القائمة بل عند الجماهير نفسها في صراعها الطبقي اليومي، إذ إنها تخلق وتبتكر عالماً جديداً في كل خطوة في صراعاتها اليومية. واجبنا لا يقع في التأمل في الدولة، بل نكون مركزاً للقاء وتجميع كل الحركات التي لها مصلحة ثورية في مناهضة النظام الرأسمالي؛ وإن كانت الفلسفة تريد أن تكون سلاحاً ثورياً، ايّ بالضبط لا- فلسفة، عليها أن تكفّ عن التأمل وتبين للجماهير ما قاله ماو تسه تونغ قديماً: “من حقنا أن نتمرد!”. تعلمنا الجماهير، تعلمنا الطبقة العاملة، بأن القضية ليست قضية تحولات الدولة، بل قضية الاشتراكية: الاشتراكية هي استبدال قانون القيمة بقانون التوجيه الاجتماعي للإنتاج؛ نزع ملكية الوسائل الإنتاجية من يد البورجوازية لتكون في يد الطبقة العاملة. إن هذا الهيغلي ينتظر التغيير من فوق، ولكننا نقول له: حذاري وإلا سقطت مثل طاليس في البئر! فإن التغيير قادم من تحت.

الآن، لا طائل من محاولة اقناع الفيلسوف بذلك إذ سيكون علينا أن ننتظر أن تعود روحه إلى جسده المذعور. هناك وقت كاف، ففي مقالته حول الذعر ذكر مونتين قصة الحارس الذي، إبان غزو شارل الثالث لروما، سيطر عليه الذعر تماماً لدرجة أنه توجه هروباً نحو جيش العدو بدلاً من الإنسحاب للاحتماء في الأماكن المحصنة في المدينة؛ حين عاد إلى شعوره وأدرك خطأه، حاول أن يصحح نفسه عبر الهروب مرة اخرى إلى المدينة بسرعة كبيرة لدرجة لم يتسن لجيش العدو أن يدرك بأن جندي هارب قد حط في مواقعهم.

لم يذكر مونتين ما إذا عاد الحارس سالماً أم لا، ولا أدري ما إذا كان سيعود إلينا جيجك… ربما لِمَ لا؟

اقرأ المزيد

عندما تذهب “كورونا”

“لين تخلص الكورونا” – من منكم لا يسمع هذه العبارة بين حين وآخر، إنها متداولة على نطاق واسع الآن بين الناس، وها هو عام 2020 الذي هو عام الجائحة بامتياز قد انتهى، ودخلنا عام 2021 فهل تراه سيكون أيضاً عاماً آخر ل “كورونا”، أم أننا سنغادرها وتغادرنا وتصبح ماضياً؟
ما أن أطلب من أحدهم شيئا حتى يأتي الجواب جاهزاً: “لين خلصت الكورونا”، وهذا مفهوم لأن كل منا عانى بشكل أو بآخر من تداعيات الجائحة، وعلى مدى عام كامل فقدت العديد من الأرواح على مستوى العالم، كما أن الكثير من الدول أغلقت مطاراتها، وتوقفت حركة السفر بشكل كبير، وحتى مع إعادة فتح المطارات مازالت حركة السفر محدودة.
كم هو مؤلم، أننا لم نستطع ان نعزي أصدقائنا وأحبائنا في فقدهم لأهلهم لأحبائهم الذين رحلوا دون مراسم العزاء الاعتيادية، ولم يسنح للآخرين تقديم التعازي بالشكل الاعتيادي. تقول إحدى الصديقات: هرعت دون تردد إلى المقبرة بعد سماعي وفاة أحد الأصدقاء الأعزاء، وفي المقبرة لم أتمالك نفسي واحتضنت ذويه. لكني كنت قلقة جداً حين عدت الى المنزل.
ورغم هول ما حدث ويحدث، فإن إرادة الحياة ستبقى أقوى. فالعديد من الزيجات تمت، حتى لو اقتصر الحضور على الأهل وقلة من الأصدقاء، ومع ذلك فإني أعرف أن بعض الأهالي أصيبوا بعد إقامة مراسم عقد القرآن لأبنائهم.
حملتنا ظروف الجائحة على ان ننتبه لأنفسنا أكثر، بقينا في منازلنا فترات أطول، أعدنا ترتيب بيوتنا، اكتشفنا متعا أخرى غير متعة السفر، لكننا افتقدنا الكثير، ولعل أكثر ما افتقدته هو اللقاءات الثقافية، ومع أنها أصبحت تتدفق بكثرة عبر برنامج”زووم” والكثير من وسائل التواصل الاجتماعي، لكن ذلك لا يعوض عن اللقاء الطبيعي وجهاً لوجه.
على مستوى العائلة كان هناك تخوف كبير، فامتنعنا عن لقاءنا كل أسبوع منذ مارس الماضي، ومع أني كنت حذرة ولكني لم أبالغ في مخاوفي، فكنت أتسوّق بشكل طبيعي، وقمت ببعض الزيارات التي لم يتجاوز عدد الحضور فيها العدد ثلاثة أو أربعة، استمتعت في حدود المتاح، فالمبالغة في التهويل لها أثر سلبي.
(لين خلصت الكرونا) أمر لم يعد يعنيني. ما يعنيني هو استثمار الوقت على أحسن صورة، فحياة كل فرد فينا معدودة ومحدودة، فلماذا نضيعها في الانتظار دون جدوى؟ كل ما نحتاجه الآن هو التعايش والتقبل. بالرغم من أن حدة الخوف بدأت تقلّ، خاصة مع بدء التطعيم باللقاح، ما يجعلنا نأمل في أن الوباء سيخف تدريجياً، ولكننا ما زلنا في الحال التي لم نكن نتخيلها قبل عام، في أن نرى الناس تمشي وتؤدي أعمالها وهي مغطية وجوهها. فكلما مشينا في الشارع، أو ذهبنا لقضاء بعض الأمور تجد الناس ونحن ضمنهم، يضعون الكمامات.
لتداعيات جائحة “كورونا” دورس وعبر عظيمة للفرد وللمجتمع وللحكومات، حيث كشفت المستور، سواء كان هذا المستور على مستوى الفرد او الحكومة وعلى مستوى الناس والعلاقات، وانكشفت المعادن. ونحن الذين كنا ننبهر كثيراً بالدول الأوربية، والولايات المتحدة الأمريكية، وجدنا أن دولنا أكثر احترازاً ووقاية في أنظمتها الصحية. ربما عرفنا أن علينا أن نقدر النعم التي حولنا وتحيط بنا ولم نكن نقدر قيمتها.
قالت لي احدى الصديقات بعد أن أعيد فتح المطاعم عندنا في البحرين، دعينا نخرج بعد حبس طويل، وافقتها وخرجنا. كان المطعم مملوءاً، كنا نرتدي الكمام، ولكننا ازلناه عند الأكل، وتبادلنا الأحاديث الشيقة.
بالرغم أنى أرى الآن أن الوضع أصبح أقلّ اخافة ربما عند البعض. وكان الناس فريقين خلال الجائحة، بعضهم لم يصدق ولم يهتم ومارس حياته بشكل طبيعي، فيما بعضهم الآخر لم يوقف ابداً تجمعاته العائلية. بعضهم التقى بحذر، فيما بعضهم الآخر امتنع تماماً.
ما أود قوله، خلاصة، أن تنتهي “كورونا” أو لا تنتهي أمر ليس في أيدينا، وليس تحت سيطرتنا. ولكن ما في أيدينا هو التكيّف مع الوضع الراهن، والاستفادة بقدر الإمكان منه. لا أن نبقي حياتنا معلقة، ونبقى اسرى الانتظار الذي لن ينتهي. علينا التعامل مع الظرف، مع اللحظة ولا أعتقد أن الحياة سوف تتوقف.
تستطيع أن تزور أهلك مع الاحتراز وترك مسافة آمنة، تستطيع التسوق بقدر وأنت محتاط، تستطيع التنزه على البحر، وممارسة رياضة المشي، تستطيع القراءة والبحث والاستماع إلى الموسيقى، الرسم والغناء. ثمة أمور كثيرة تستطيع أن تمارسها وأنت في بيتك. ربما اكتشفنا اننا نستطيع ممارسة العمل من البيت. ونستطيع عمل أشياء كثيرة. وأن المتع قد تكون موجودة لدينا بالداخل وليست بالضرورة الجري خلفها بالخارج. وأن المتع ليست مقتصرة على السفرات والرحلات فقط.
لذلك أقول بكل ثقة إن “كورونا” ليست كلها شر، فلا يوجد ربح مطلق ولا خسارة مطلقة. علينا ألا نجعل الوباء يشلّ تفكيرنا. ولا أنكر أنني افتقد التجمعات العائلية واللقاءات الثقافية، ولكن حتى تنفرج الأمور أستطيع أن أمارس حياتي بقدر المتاح. فالحياة مستمرة وعلينا أن نتلاءم مع ظروفها.

اقرأ المزيد

الميزانية بوصفها أداة في السياسة العامة للدولة

صدرت الميزانية العامة لعام 2021-2022 في ظل ظروف الجائحة الصحية وفي ظل تنامي الدين العام والعجز. وفي استعراض الميزانية نتساءل ماهي اهدافها والمبادئ التي قامت عليها؟ وماهي السياسات التي تريد الحكومة ان تدعمها من خلال الميزانية؟ وما مدى ارتباط الميزانية ببرنامج الحكومة والرؤية؟ وماهو تاثيرها على رأس المال البشري؟ وما علاقتها بالنشاط الاقتصادي؟ وماهي خيارات الحكومة ومجلس النواب والمجتمع لتقليل العجز والدين العام؟
الميزانية هي أداة سياسية اقتصادية اجتماعية ترتبط بالخطة التنموية طويلة المدى (الرؤية) وبالخطط والبرامج المرحلية (برنامج الحكومة والخطة الاستراتيجية). وبالتالي فإنها أداة في السياسة العامة للدولة وتحدد توجهاتها. فهي سياسة مالية تعكس تاثير الحكومة في إدارة وتحريك الاقتصاد، وهي أداة لتوزيع الدخل والثروة لتحقيق مساواة وعدالة اجتماعية أكثر، وهي أداة لخلق توازن بين مختلف المصالح والطبقات في المجتمع بما يخدم التنمية الاقتصادية بشكل عام، وفي نفس الوقت هي اداة لاحداث توازن بين الحاجة الانية والتطلعات المستقبلية.
ووفق وزير المالية فإن الميزانية تقوم على مبادئ ثلاثة هي: الحفاظ على الدعم الاجتماعي للمواطنين الأكثر احتياجا، واستمرار تحسين كفاءة الخدمات الحكومية وتقليل مصروفاته الإدارية، ومراعاة الاستخدام الأمثل للموارد المالية.
من مراجعة الميزانية نجد أن ما قدمته الحكومة لا يتسق بشكل واضح مع هذه المبادئ. فمثلا بالرغم من ارتفاع بند دعم الأسر محدودة الدخل بمقدار 14 مليونا، أي بنسبة (11.3%) إلا إنه تمّ تخفيض الضمان الاجتماعي ككل بنسبة 10% ودعم التقاعد بنسبة 12.6% وهذا يتعارض مع المبدأ الاول الذي يرى ضرورة دعم الفئات الاكثر احتياجا. كذلك زادت نفقات الحكومة الإدارية بنسبة 8% وهذا يضع تساؤل حول المبدأ الثاني في رفع كفاءة الخدمات الحكومية وتقليل مصروفاتها الادارية. أما قضية الاستخدام الأمثل للموارد فنرى أن الصحة والتعليم هما أفضل استثمار للمال العام، وهذان البندان تقلصا بواقع 3% للصحة و7% للتعليم، اما الدعم الحكومي فقد انخفض من 585 مليون في 2019 الى 402 مليون في 2022، منخفضا بنسبة (31%).
لعرض بعض جوانب الميزانية نذكر أن الإيرادات النفطية المتوقعة (45 دلار للبرميل) لعام 2021 كانت 1.4 ملبار دينار منخفضة عن ايرادات 2020 بواقع 33% والتي كانت 2.14 مليار دينار. اما الايرادات غير النفطية فبلغت 580 مليون دينار في 2022 بانخفاض قدره 4.3% عن 2020 (او 25 مليون دينار). بلغ اجمالي الايرادات في 2022 مبلغ 2.3 مليار دولار مقارنة ب 2.9 مليار في 2020 بانخفاض 26% (او 600 مليون دينار). وبالرغم من هذا الانخفاض الكبير نسبيا نجد أن المصروفات لم تتغير كثيراً، حيث كانت 3.55 مليار في 2020 انخفضت الى 3.48 في 2022 بواقع اقل من 1% (او 62 مليون).
أما نسبة العجز في الميزانية (بين الايرادات والمصروفات) فقد بلغت 35.8% (1.27 مليار) في 2021 وانخفض الى 33% في 2022 (1.14 مليار). وتمثل فوائد الدين العام نسبة كبيرة من العجز فقد بلغ 708 مليون دينار في 2021 ارتفع الى 756 مليون في 2022. مرتفعا عن 2020 بواقع 8.6%، و 18% عن 2019. وان اكثر البنود التي تعرضت للتخفيض هي علاوة تحسين المعيشة للمتقاعدين، واعانة المواد الغذائية، وبرامج الاسكان (علاوة الايجار)، ودعم هيئة الكهرباء.
يثير استعراض الميزانية عدد من القضايا والتساؤلات. القضية الاولى هي ان الميزانية تصدر كل سنتين وبرنامج الحكومة كل اربع سنوات وبالتالي فالميزانية تطرح رؤية برنامج الحكومة لاربع سنوات في اول المدة، وتعتبر تقرير لمنتصف المدة لبرنامج الحكومة، وعليه ينبغي ان تشرح ماذا تحقق من البرنامج وماذا بقي وماهي العقبات او المعوقات وكيف سنتعامل معها؟ وكذلك تعتبر الميزانية تقريرا عن استراتيجية الحكومة طويلة المدى وكيف ستؤثر فيها. لذلك تبرز الاسئلة التالية:
1. ماهي المشاكل والقضايا التي ستعالجها هذه الميزانية؟ وكيف ستكون المعالجة والتاثير؟
2. ماهو مستوى الانخفاض في معدلات البطالة الذي نسعى الى تحقيقه؟ وكم هي الوظائف التي ستخلق وكيف وفي اي مجال؟
3. ماهي القطاعات الاقتصادية التي ستستفيد من الميزانية ولماذا هذه القطاعات، وكيف ستستفيد؟
4. ماهو الارتفاع (او الانخفاض) في معدلات مستوى المعيشة؟ وماهي الشرائح التي ستتاثر (محدودة الدخل، متوسطة الدخل، الغنية)؟ وكم نسبة التغيير؟
5. كيف ستؤثر الميزانية في مستوى التعليم والصحة والضمان الاجتماعي والامن والدفاع وكيف توازن بين هذه المتطلبات ولماذا؟
6. ما هي الانجازات بشكل عام وكيف ساهمت الميزانية السابقة في تحقيقها؟
7. ماهي خيارات الحكومة وخطتها في زيادة الايرادات؟
8. كيف سيكون التعامل مع العجز (او الفائض) في الميزانية ومع الدين العام وتاثيره على الاقتصاد والاستثمارات الاجنبية؟
9. ماهي المعايير التي تقاس بها التنمية والتي ستتحقق وكيف ستكون المساءلة على هذه المعايير؟
10. ماهو النمو الاقتصادي المتوقع في المرحلة القادمة؟ وفي اي القطاعات سيكون النمو اكبر؟ وكيف سينعكس على مستوى معيشة المواطن؟
القضية الثانية تتعلق بتاثير الميزانية على رأس المال البشري والاجتماعي. تقتضي التنمية والاستقرار الاجتماعي الاهتمام بالتعليم والصحة والضمان الاجتماعي عير ان هذه البنود تاثرت سلبا في الميزانية. فقد بينا اعلاه ان مخصصات الضمان الاجتماعي انخفضت بواقع 10% والتعليم 7% والصحة 3%. السؤال لماذا تنخفض هذه المصروفات الضرورية والهامة للتنمية والمتوافقة مع الرؤية وبرنامج الحكومة في حين ترتفع نفقات اخرى بما يتعارض مع مبدأ الاستخدام الافضل للموارد. بناء الموارد البشرية يقتضي الاهتمام بالتعليم والتدريب وخصوصا التعليم العالي والبحث العلمي، فقد بقيت ميزانية الجامعة 38 مليون دينار لا تمكنها من التعاون مع القطاع الانتاجي ودعمه بالابحاث، حيث هذه هي مقومات الابتكار وزيادة الانتاجية ورفع مستوى المعيشة. لم تنصف الميزانية هذه العناصر مما يثير تساؤلاً حول كونها ميزانية تنموية.
القضية الثالثة هي مدى توفر المعلومات والشفافية. فمثلاً لا تذكر ديباجة القانون أية تفاصيل، ولا تتعرض لأي فرضيات ولا تجيب عن أي من التساؤلات حول أداء الميزانية السابق، أو توقعات المستقبل. الفرضية الوحيدة تتعلق بسعر النقط الذي بنيت عليه الميزانية وهو 45 دولار للبرميل. السؤال الذي يقلق الكثيرين هو ما هو تصور الحكومة لضريبة القيمة المضافة، وكيف تفسر الحكومة ارتفاع ايرادات (الجهاز الوطني للايرادات) الضرائب من 213 مليون دينار الى 360 مليون (بزيادة 70% تقريبا)، وهل سترتفع الضريبة أم ستبقى كما هي. لم يتعرض مشروع الميزانية الى ذلك. ارقام تتغير من عام الى اخر دون ان تعطي الحكومة شرح او تبرير للتغيير واسبابه وتداعياته. فمثلا هنات تخصيص 48 مليون دينار دعم الكهرباء في 2021، وتوقف في 2022، ادى ذلك الى تضارب في تصريحات النواب بين من يقول بوقف دعم فواتير الكهرباء وبين من يرى استمرارها الى ان اكدت الحكومة الاستمرار.
القضية الرابعة هي ما علاقة الميزانية بالشركات المملوكة للحكومة والشركات الاجنبية التي يعمل مجلس التنمية الاقتصادي على جذبها وكيف تسهم في الميزانية؟ ولماذا تبقى بعض الايرادات خارج الميزانية؟ فمثلا ممتلكات تساهم في الميزانية بواقع 10 مليون دينار، فما هو المنطق والسبب في ذلك؟ وهل هي نسبة من الارباح ام رقم مناسب فقط؟
القضية الخامسة هي ما علاقة الميزانية بالنشاط الاقتصادي. في الوقت الحاضر ترتبط الميزانية بهذا النشاط بشكل محدود من خلال الرسوم لفتح السجلات، وخلق فرص عمل تستفيد منها في الغالب عمالة أجنبية تمول مشاريع تمكين ودفع ضرائب قيمة مضافة على مشترياتهم المحدودة جداً، وتأجير عقارات تستفيد منه البلديات. أما الانفاق الحكومي في المشاريع فإنه لا يخلق فرص عمل للمواطنين بما يكفي، وتستفيد منه العمالة الاجنبية بشكل اكبر، وفي الحالتين فإن التأثير الإيجابي لذلك على الميزانية محدود. وكذلك الحال بالنسبة للاستثمارات الاجنبية. وبالتالي فإن مستوى النشاط الاقتصادي لا ينعكس على الميزانية بما يكلفي كما هو الحال في الدول التي تفرض ضرائب دخل وثروة تعزز الميزانية. أما ضريبة القيمة المضافة فهي تضر بالطبقة العاملة ومحدودة الدخل بشكل أكبر وبالتالي فهي تضر بقدرتها الشرائية، في حين لا يتاثر بها الأغنياء بنفس القدر.
تقوم الميزانية على فرضية أن الإيرادات هي عنصر يكاد يكون ثابتاً، ولا مجال لزيادته. هذا يضعنا أمام خيارات صعبة في تنويع ايرادات الحكومة وتنويع الاقتصاد. يتطلب الأمر إعادة النظر في ايرادات الدولة وليس الميزانية فقط. فهل ضرائب الدخل والثروة (التصاعدية في الحالتين) على الطبقة الغنية والدخول العالية والشركات هو أحد هذه الخيارات؟
فرض أو زيادة الضرائب في وقت الركود امر ليس مستحب. والفرضية هنا هو أن ذلك يسحب سيولة من السوق فيضعف الطلب الكلي (aggregate demand) ويقلل الإدخال الممكن للاستثمار. كذلك إذا فرضت الضرائب على دخل الشركات فيمكن أن يؤدي إلى هروبها إلى دول مجاورة، كما قد يضعف الحوافز لاستثمارات جديدة سواء كانت محلية أو أجنبية. لذلك فإن هذا الخيار يفضل أن يكون قراراً خليجياً إن امكن.
مع أخذ كل ذلك في الاعتبار، فإن الضرائب هي مصدر إيراد الحكومات في جميع الدول التي ليس لها ايرادات نفطية او غيرها (مستقلة عن المجتمع وعن النشاط الاقتصادي) وبالتالي فإن المحاذير المذكورة أعلاه تؤثر في معظم دول العالم. تقوم الدولة بتعويض نقص السيولة الناتج بزيادة انفاقها على المشاريع والضمان الاجتماعي للحفاظ على مستوى الطلب الكلي. لذلك فإن السياسة المالية، (التي تعبر عنها الميزانية) تضع نظام ضريبي ياخذ هذه المحاذير في الحسبان. كذلك تسعى الحكومات إلى تحقيق توازنات في المجتمع وتقليل الفجوة بين مستويات الدخل العليا والدنيا لتحقيق عدالة اجتماعية، والحفاظ على الرفاه وجودة الحياة. وبالتالي فإن ضرائب الدخل والثروة إذا فرضت على الطبقة الغنية (وعلى أرباح الشركات) وعلى الثروات المنقولة وغير المنقولة مثل الأراضي، واستخدمت إيراداتها لتحسين مستويات المعيشة والاستثمار في المشاريع الانتاجية وتطوير البنى التحتية، فإن ذلك قد يرفع الإنتاجية، والتأثير على الطلب الكلي قد لا يتاثر وسيعتمد على كيفية التعامل مع سياسة الضرائب والإنفاق الحكومي. أما من حيث هروب الشركات ورؤوس الأموال فهذه ظاهرة عالمية اليوم، يمكن للدولة أن تحدّ من تأثيرها بوضع ضرائب على الثروة سواء كانت في البلد أو خارجه (ازدواج ضريبي لمعاقبة التهرب).
الفائدة الأخرى من الضرائب هي فرصة للمطالبة بمزيد من الشفافية في إدارة المال العام، وأوجه انفاقه وبالتالي ترفع حصة الميزانية من الإيرادت العامة للدولة. في النهاية فإن هذا دور التخطيط الاقتصادي والسياسية المالية والميزانية ينبغي أن تعكس كل المصالح وتوازن بينها.

اقرأ المزيد

ماذا يُرسمُ لهيئة التأمين الاجتماعي؟

“على المرء أن ينتظر حلول المساء ليعرف كم كان نهاره عظيماً” – (وليم شكسبير)
لا يخفى على المتتبع أحوال هيئة التأمين الاجتماعي وتأثير قراراتها السلبية على العاملين في القطاعين العام والخاص منذ بضع سنوات، وعودة خروج موجة أخرى على التقاعد المبكر بسبب تلك القرارات.
ففي بداية عام 2016 وعلى أثر تلميح لوزير المالية السابق الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة، في رده على كلام ذكره النائب السابق عبدالرحمن بوعلي إلى إمكانية مراجعة نظام التقاعد في البحرين، وذلك لوجود تحديات مختلفة، وبأن الحكومة ستصدر قرارات لإلغاء مكافأة نهاية الخدمة، ورفع سن التقاعد إلى 65 عاماً، وإلغاء نظام شراء سنوات الخدمة، وما تبعه من موجة خروج الآلاف من العاملين على التقاعد المبكر بعد مضي عدة أشهر، وهو ما وصفه وزير العمل، رغم خروج تلك الآلاف، بالإشاعة والتي كان له الأثر في تضاعف وزيادة عدد المتقاعدين مبكراً في الربع الثاني من عام (2016)، إلى أكثر من ضعف العدد الذي كان عليه في الربع الأول من العام نفسه.
ولم يحدّ من هذه الموجة إلا قرار رئيس مجلس الوزراء المغفور له صاحب السمو الملكي الشيخ خليفة بن سلمان رئيس مجلس الوزراء في ذلك الوقت وما أكد عليه أن مكافأة نهاية الخدمة لن تُمَسَّ أو تُطالَ وأنّ ما يُثار حول إلغائها غير صحيح البتة، لتعود الحكومة في مرئياتها المقدمة لمجلس النواب بمسمى (مرئيات إصلاح أنظمة التقاعد) في القطاعين العام والخاص لتثير نفس الهواجس وبصورة أكبر من السابق، بحيث من المتوقع مبادرة الآلاف من العاملين في القطاعين بالتقدم لطلب التقاعد المبكر قبل تطبيق تلك الإصلاحات المزعومة وخاصة في ما يعنى بإلغاء التقاعد المبكر وبالخصوص في فئة النساء.
وهذا ما يتضح من إحصائيات هيئة التأمين الاجتماعي نفسها، ففي إحصائيات الربع الثالث من العام المنصرم 2020 أي بعد نشر هيئة التأمين مرئياتها لإصلاح التقاعد تضاعف أعداد المتقاعدين مبكراً في القطاع الخاص بحيث بلغ في الربع الثالث فقط ما مجموعه 1303 متقاعد، وبما يفوق مجموع الربعين الأول والثاني، حيث كان عدد المتقاعدين فيهما 603 و 463 على التوالي، وبنسبة تفوق الـ 55% من مجموع المتقاعدين مبكراً خلال الـ 9 شهور .
نتسائل هنا ما الفائدة من كل هذه الاصلاحات المزعومة بعد تقليص أعداد المشتركين المتوالية وعبر مشاريع وبرامج لها تأثير سلبي كبير على ديمومة الهيئة وخاصة في ما يختص بأعداد المشتركين؟ حيث تم إخراج الآلاف في العام ما قبل الماضي من القطاع العام عبر برنامج التقاعد الاختياري وقبلها خرج الآلاف جراء تصريح غير محسوب العواقب. لتعاد الكرة وتفقد الهيئة عددا مماثلاً إذا لم يفوق أعدادهم من جراء هذه المرئيات.
من المسؤول عما يحدث، والذي يعتبر تدميراً لهذه الهيئة ومقدمة للقضاء عليها؟
وهل هي مقدمة لتصفية الهيئة تمهيدا لصالح أنضمة تعتمد آليات الخصخصة في هذا الجانب؟ وهل يعي المسؤولون تبعات هذه الإجراءات التي لن تقتصر على المواطنين بل ستتعداه الى أمن البلد ومن عليها اقتصادياً واجتماعياً وتهديد السلم الأهلي بشكل مباشر؟ فهل ننتظر ما يخفيه لنا حلول المساء، وغياب شمس نهار التأمينات الاجتماعية؟

اقرأ المزيد