المنشور

توضيح الواضحات

تقرير الرقابة ومأزق نظام “التصريح المرن”

فلاح هاشم
ما جاء في تقرير ديوان الرقابة المالية الأخير 2019/2020 بخصوص تصريح العمل المرن وسياسات هيئة تنظيم سوق العمل يتوافق مع ما سبق وتوصلت إليه لجنة التحقيق البرلمانية في تقريرها المقر من مجلس النواب في جلسته السابعة عشر من الدور الثاني بتاريخ 4 فبراير 2020 خاصة في ما خلص إليه تقرير اللجنة النيابية في:
 مخالفة الهيئة للقانون الناظم لعملها في الفقرة (أ) من المادة (4) والتي تنص على وضع وتنفيذ خطة وطنية بشأن سوق العمل تحدد التوجهات الاستراتيجية والسياسات العامة لتشغيل العمالة الوطنية والاجنبية كل سنتين والتي تم تجاهل تنفيذها منذ يونيو 2012.
 مخالفة الهيئة للقانون بعدم تفعيل آلية الحوار الاجتماعي، والذي ينصّ عليه القانون في الفقرة (ب) من المادة الخامسة، التي تنص على أنه (في حالة عزم الهيئة إصدار أية أنظمة أو لوائح أو قرارات أو اتخاذ أية تدابير ذات تأثير ملموس على سوق العمل، فإنه يجب عليها أن تعقد مشاورات مع الجمهور والجهات المعنية لاستطلاع آرائهم قبل إصدار أي من تلك الأنظمة أو اللوائح أو القرارات أو اتخاذ تلك التدابير).

هذا بالاضافة الى ما اشار اليه التقرير الى العديد من المخالفات الاخرى منها: غياب الدراسات والمسوحات عن العمالة التي يحتاجها سوق العمل ولا تتعارض مع المهن المستهدفة، وعدم تقيد الهيئة بهذه الفئات، وما بيّنه التقرير من عدم تطابق الاشتراطات على حوالي 22 ألف تصريح عمل مرن حتى نهاية أغسطس 2019، ومخالفة صريحة للاشتراطات المنصوص عليها، تم منح تصاريح عمل مرن لأفراد أسر مقيمين في المملكة دون إقامة سارية، هذا عدا عن عدم متابعة إجراءات تجديد التصاريح وتحصيل مستحقات الهيئة من الرسوم التي تصل إلى حوالي 1.2 مليون دينار.
مما سبق يتضح جلياً المأزق الذي مرّ به نظام التصريح المرن الذي لا يقتصر على المخالفات التي سبقت إصداره أو ترافقت مع تنفيذه، وإنما هي، في رأينا، نتيجة لنهج السياسات التشغيلية وما نتج عنها من اختلالات جوهرية منذ عقود، خاصة في ما يعنى بالعمالة الوافدة وبالذات الرخيصة وبظروف عملها التي تنعدم فيها إمكانية حصولها على أرض الواقع على العديد من الحقوق بما تشمل الحد الادنى للأجور والذي يعتبر حجر الزاوية في تنظيم علاقات عمل لائقة وما يتبعها من الحق في التنظيم النقابي والمفاوضة الجماعية والحماية الاجتماعية، وما أنتجته هذه السياسات من تحدّيات وتبعات على العديد من الصعد، بدءاً من انعكاساتها على فرص العمل للعمالة الوطنية وتأثيرها على مستوى الأجور، وكذلك المستوى المعيشي للعمالة الوطنية والوافدة بصورة عامة وتبعاتها المجتمعية والتركيبة الديمغرافية للبلد.
لقد أدت هذه السياسات في التشغيل وإغراق البلد بالأيدي العاملة الوافدة الرخيصة لمصلحة أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين بدون أية ضوابط وما رافقها من الكثير من الممارسات، وعدا عن أنها غير قانونية فإنها تتعارض مع العديد من الأخلاقيات والمبادئ الانسانية بحيث أصبحت المتاجرة برخص العمل، والتي تعتبر إحدى اوجه المتاجرة بالبشر، مصدر إثراء للعديد ممن امتهنها لعقود طويلة أمام مراى ومسمع الجهات المعنية، مما يتطلب معالجة هذه الاختلالات بدراسة مسبباتها والظروف التي أدت الى نموها بحيث أصبحت تشكل مخاطر على المجتمع هذا بالاضافة لما له من تبعات تحتمها التزامات المملكة بحكم انضمامها إلى مؤسسات ذات شأن حقوقي وعمالي على المستوى الدولي.
لقد تمّ تشريع نظام التصريح المرن لمعالجة تبعات ونتائج هذه السياسات، من دون أن يعالج الأسباب الحقيقية لها، ولذلك لم يجن منه إلا الخيبات والفشل والذي تجلى في موقف جميع الشرائح المجتمعية الرافضة له، رغم كل الحملات الترويجية التي بذلت فيها الميزانيات الكبيرة. وفشل الهيئة في تحقيق ما أعلنت عنه عند بداية تطبيق هذا النظام، والذي حددته بـــتخفيض أعداد العمالة غير النظامية بـ 48 ألف عامل غير نظامي خلال عامين، حيث أكدّ التقرير أنها انخفضت بمقدار 18 ألف فقط خلال سنتين من تطبيق النظام، أي بمعدل أقل من 46% من العدد المنشود. بل أدى إلى تفاقم مشكلة العمالة غير النظامية بتحوّل أعداد كبيرة من منها إلى عمالة غير نظامية بدلاً من الحد منها.
آن الأوان لمغادرة هذه السياسات المدمّرة عبر حوار جاد مع جميع القوى المجتمعية المعنية بموضوع العمالة لوضع رؤية شاملة تأخذ في الحسبان مصالح البلد العليا وكافة شرائحه الاجتماعية وبالأخص قواه العاملة.

اقرأ المزيد

الإستراتيجية الأمريكية …مابعد الانتخابات ؟

كانت الانتخابات الأمريكية في الثالث من نوفمبر 2020 الماضي الحدث الأكثر جدلاً، فقد تابعها الملايين من الناس عبر العالم، وانشغلت بها معظم القنوات الفضائية والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، فهي لم تكن انتخابات عادية كالتي تُجرى في هذه البلاد أو تلك، وكانت الآمال متناقضة حولها، فهناك دول ورؤساء وقادة وكتَّاب براهنون على فوز الرئيس ترامب المرشح عن الحزب الجمهوري، وآخرون بالعكس يراهنون على فوز جون بايدن المرشح الديمقراطي.

ولكل فريق حساباته ومصالحه في فوز هذا المرشح أو ذاك، ففي حين يشكل فوز الرئيس ترامب تعزيزاً لنفوذ القوى اليمينية والشعبوية في أوروبا وبعض البلدان حول العالم، وإعطاء شحنة معنوية لها، وطموح العديد منها الوصول للسلطة وأخرى الاستمرار فيها لتنفيذ أجندتها ومآربها، وفي بعض البلدان العربية كان قادة ورؤساء ومن حولهم يمنّون النفس أيضاً بوصوله، وكذلك الكيان الصهيوني الرابح الأكبر في عهد إدارة ترامب التي حققت له الكثير من أطماعه وتطلعاته، كنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، إغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ووقف الدعم المالي لوكالة الغوث “الأونروا” التي تُعنى بشؤون اللاجئين الفلسطينيين، للضغط على القيادة الفلسطينية لكي توافق على المشاريع التآمرية بما في ذلك “صفقة القرن” التي رفضتها كل الفصائل الفلسطينية، اتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين والسودان.

علماً بأن واشنطن لا يمكن أن تتخلى عن دعم إسرائيل، سواء وصل إلى البيت الأبيض جون بايدن أو بقي فيه ترامب، على حساب الشعب الفلسطيني الشقيق وقضيته العادلة، وحتى إنْ طُرحت حلول أو تسويات، فلن تغير واقع الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية المحتلة ولن تؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، فأولوية أي رئيس أمريكي هي عدم تمكين أي دولة من دول المنطقة من التفوق العسكري على الكيان الصهيوني.

أما في قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية هناك تجربة ماعُرف (الربيع العربي) الذي تحوّل إلى (خريف عربي) في عهد إدارة باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، حيث تمَّ تدمير العديد من البلدان العربية ودعم قوى التطرف والغلو في المنطقة لتحقيق مآربها، فليس من مصلحة الإمبريالية الأمريكية ترسيخ الديمقراطية والحريات العامة في البلدان العربية، وبالأخص التي تصنفها ب (الصديقة) أو (الحليفة)، فالمهم بالنسبة لواشنطن ألا تتضرر مصالحها في المنطقة الحيوية في العالم والتي تحتوي أراضيها وبحارها على مخزون كبير من الطاقة يشكل أكثر من ثلثَي مخزون العالم.

واهم من يعتقد أن مجيء جون بايدن سوف يغير الوضع، هناك دوائر ومؤسسات تضع الإستيراتيجيات السياسية لا يمكن لأي رئيس أمريكي أن يخرج عنها، عليه تحقيق الأهداف والتخطيط الاستراتيجي الموضوع له سواء مع الحلفاء أو الأعداء .

ينسب للرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، قوله إنهم ( اي الأمريكان) لا يذهبون إلى خارج الولايات المتحدة دفاعاً عن الديمقراطية أو الشرعية الدولية أو لمحاربة الدكتاتورية، بل “نذهب إلى هناك لأننا لن نسمح بأن تمس مصالحنا الحيوية”، وأهم المصالح الاستراتيجية للإمبريالية الأمريكية هي حماية آبار النفط، والحفاظ على الكيان الصهيوني.

وعلى صلة بهذا فإن (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) أصدر تقريراً عن الاستراتيجية الأمريكية عن الشرق الأوسط وضعته مجموعة من كلا الحزبين الأمريكيين – الجمهوري والديمقراطي – وتضم خمسة أشخاص من بينهم اثنين من مستشاري الأمن القومي السابقين، صمويل بيرغر وستيفن هادلي؛ والسفير الأمريكي السابق في العراق وتركيا جيمس جيفري؛ ومسؤول سابق في إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما ومبعوثاً للسلام في الشرق الأوسط لفترة طويلة دينيس روس؛ والمدير التنفيذي لمعهد واشنطن روبرت ساتلوف.

يرى واضعو التقرير أن “الهيكلية الكاملة لنظام الدولة في الشرق الأوسط معرضة للخطر”، ويقدّمون عناصر لقيام استراتيجية جديدة لمواجهة “هذا التهديد العميق للمصالح الأمريكية، تنطلق كالعادة من التأكيد على أن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل “مهمة للغاية بالنسبة لكل طرف وهي بمثابة دليل ريادي على الالتزام الأمريكي تجاه حلفاء واشنطن في المنطقة، لدرجة أنه لا يجب السماح بتدهورها أكثر مما هي عليه الآن.

وتطرق التقرير للأوضاع في سوريا والعراق وبعض البلدان العربية، مشيراً إلى القوى التي على الولايات دعمها أو تمكينها من الوصول إلى السلطة وامتلاك النفوذ والقوة، مما يشير إلى أن استراتيجية وخطط وأهداف الإمبريالية الأمريكية في المنطقة واضحة، لن تتغير بمجيء الرئيس الجديد، فهناك قوى مالية وصناعية احتكارية من خلال معاهد ومؤسسات ترسم وتخطط وتأمر بالتنفيذ لتلك السياسات الخارجية والداخلية ولا يمكن لأي رئيس أمريكي الخروج عن مسارها .

وسيظل العرب خاسرين دائماً، خاصة فيما يتصل بالقضية الفلسطينية، طالما بقيت هذه استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، ما يحتم علىينا البحث عن شركاء وأصدقاء يدعمون القضايا العربية، وتعزيز المشاركة الشعبية في القرار السياسي بترسيخ الديمقراطية في المجتمع العربي والتوقف عن انتهاكات حقوق الإنسان وممارسات التمييز والكراهية ضد الآخر والتصدي للفساد واحترام حقوق الأقليات القومية والمرأة وغيرها من الحقوق المشروعة.

اقرأ المزيد

تبقى .. كأنك لم تمت

للوهلة الأولى .. فكرت بأنه حصد بلا شك جائزة جديدة . “بسرعة ، سأرسل تهنئة”، قلت. ثم فجأة بدأت حروف النعي تصفع عيني بقسوة. وعقلي لا يصدق. فطوال سنوات كان يعارك المرض. وينهض. يتوعك. ويفوز . ماذا استجد الآن ليخسر المعركة؟.
“قولوا إنني أحلم”. قولوا إننا جميعا نحلم، سألت بعضاً من أصدقاءنا المشتركين. كان عندي بصيص أمل بأن يجيب أحدهم بأن الخبر كاذب. لقد “أخطأوا” . أو “تسرعوا”. إنه خبر بشع كاذب وسيحاسب من تعمد إطلاقه ليحزننا. لكن أحدا لم يرفق بي وينكر الخبر.
هل يكفي ذلك ليجعل من رحيلك حقيقة بالنسبة لي ؟؟
الحقيقة .. الحقيقة هي أنني كنت أشق الطريق وحدي لسنوات، ثم منّ الله عليّ بمعرفتك. شاءت الظروف أن نلتقي في منعطف الطريق، فكنت أول من اهتم بي ومدّ لي يد العون. ولست أنسى أبداً المرة الأولى التي هاتفتك فيها لأطلب منك – على استحياء – مساعدتي، لما عرفه عنك الجميع من تقديم الدعم لـ (الشباب) الذين كنت في ذلك العمر “أحسب” في عدادهم. ومن يومها، وأنا أرسل إليك أفكاري العادية فتحوّلها إلى قطع من ذهب. تعالج كل نص بشكل خارق، وبطريقة لا تخطر على بال أحد سواك. لم تقل يومابأن “لا وقت لديك” للوقوف إلى جانبنا. ولم تشتك يوما بأن تلقيك العلاج يحول دون ” معالجتك ” نصوصنا .
أنت أول من دلني على الطريق. ووضعني على أول السلم. بفضلك، حققت أشياء كانت فيما سبق من أيام تبدو حلما مستحيل الحدوث لمن هو مثلي . وحين كنت تقدمني للآخرين، كُنتَ تلمع صورتي وتقول عني كلاما أكبر مما أستحق. فأخجل من تواضعك ، ومن مساندتك ، ومن لطفك الذي قلما يجد مثله أحدنا في هذا العالم . ثم فجأة، أشعر بالرغبة في الاختباء. أنزوي على نفسي لأنني أخاف أن لا أكون جيدة حقا كما تتصورني وتصور عني للآخرين. أخاف أن يأتي يوم أخذلك فيه وأخيب ظنك.
بصفتي ممرضة، كنت تسألني أحيانا عما نراه من أنواع المعاناة البشرية المختلفة. كيف يتقبل الناس نصيبهم من الحياة؟. وبصفتي “كاتبة “، كنت تسألني إن كنت أفضل الكتابة بالليل أم بالنهار. وما هي طقوسي قبل أن أكتب. ما الكتب التي أقرأها؟ وماذا يجب عليّ أن أقرأ. كيف أطور “أدواتي”. تعاملني، أنا المجهولة، وكأنني أنا “المهمة هنا”! . كأنني أهم منك!.
نصائحك .. ربما فشلت في اتباعها كلها. فلم أصبح بعد أقلّ خجلا كما يلزمني. ولا أكثر شجاعة. أترى … ما زلت في حاجة للكثير من الدعم . فانهض.. من أجلي. ومن أجل كل من أحبوك هنا في هذا العالم الذي لم يستحق يوما وجود ملاك مثلك على أرضه. انهض .. ما زلت بحاجة للكثير من النصح والإرشاد، والمحبة التي تغدق بها على الجميع. أيأست مني لهذا الحد ولن تعود لتمد لي يديك؟. هل فشلتُ كثيرا إلى حد أن غضبتَ مني ورحلت؟؟ .
ألن يصادف أن ألتقيك مرة أخرى، في ندوة ما؟ . أحقا .. لن نتجول معا من جديد في معرض الكتاب؟ ولن نلتقي مجددا في أي مهرجان سينما؟ في نادي السينما؟.. أو في مشاريع كتابة مشتركة تحدثنا عنها مطولاً من قبل ثم ألهتني الحياة، وشغلك المرض فتأخرنا عنها؟. ألن تعدني مجدداً، بأن تحضر لي في المرة القادمة كتاباً مهماً عن السينما يجب أن لا أفوت قراءته. أو تسمي لي فيلماً جديداً لا بد أن أشاهده ؟
يا صاحب الأفضال عليّ، كيف تركتني في منتصف الطريق؟. خدعتني بابتساماتك حين تحكي عن مرضك، فصدقت أنني برغم ما تقول لن يأتي علي يوم أسمع فيه خبر موتك. خدعتني .. إلى حدّ أن تجرأت مراراً وشكوت لك بعض همي وكأنك لست أكثر تعباً في الحياة مني. فكم أنا خجلة الآن من نفسي.
أتساءل الآن إن كنت قلت لك ما يكفي من المرات قبل أن ترحل، كم أنا ممتنة لكل ما قدّمته من أجلي. هل شكرتك بما يكفي؟. هل علمتَ، قبل أن تغادر هذا العالم، كم أدين لك بالعرفان؟ إن كنت لم تعلم فعد إلى هنا لدقيقة أخيرة. أو لنصف ساعة، لن تكفيني لشكرك على كل ما فعلت. ولكنني على الأقل سأعرف أنها فرصتي الأخيرة لأفعل، ولهذا فلست أنوي عتابك على رحيلك المفاجئ، لا تقلق.
بدل العتاب، سأطمئنك ..
هل قلت لي مرات من قبل بأنك تحب محمود درويش؟ . وهل قال درويش ذات قصيدة “تنسى كأنك لم تكن” ؟… حسناً، فأنا أقول بأنك “تبقى … كأنك لم تمت. نعم، فالشعراء يخطئون أحياناً. وأحيانا يكذبون !.
أما الحقيقة..الحقيقة التي سأطمئنك إليها فهي أننا وإن ظلت الحسرة في القلوب، فإن لك في الذاكرة من نبل المواقف ما لا يمكن للزمن أن يمحوه. وفي الروح، لنا منك عطر أخير.
عطر لقاءات لن تكون . ولن يبدد الوقت عطرها.

اقرأ المزيد

شرط الرأسمالية المُسيّسة اغراق الإنسان في التفاهة

الموت و”ما بعد” يحاصران العالم ( 3 – 3)
عبدالله السعداوي

طرح دريدا مفاهيم مثل الاختلاف والتأجيل والإرجاء بدلاً من المفاهيم البنيوية المتعلقة بالثبات والاستقرار والتكرار اللانهائي للنمط، مؤكداً على وجود لا – نهائية، ولا- تحديد في موروث المعنى، إن المعنى اللغوي هو ظاهرة غير مستقرة في جميع الأوقات والسياقات ويظهر ذلك من خلال دراسة الخطابات التي توظف اللعب اللغوي للكلمات والتورية. هكذا تكتسب اللغة كما يقول دريدا طاقات لانهائية لتوليد المعاني الجديدة للإبداع، ويتلاشى المعنى المحدد والمستقر في اللحظة التي يتمّ فيها انتاج جديد.
ينتقد دريدا الفلسفة الغربية باعتقادها بامكانية حضور المعنى كاملاً ونهائياً لعقل المتكلم، وأن هذا المعنى ينتقل ليستقر فيه الخطاب وينتقل كما هو إلى المتلقي، وهذا ما يدعوه ب (ميتافيزيقيا الحضور)، ويذهب إلى انكار وجود نوع من الإزاحة في المعنى الذي يفترض ان يكون حاضراً دائماً كما هو في ذهن المتكلم ،ومن ثم ينتقل إلى الخطاب كما هو أيضاً دون تغيير أو إزاحة – محض وهم ٍنميل إلى الأخذ به بتأثير الثقافة الإنسانية.
ذلك أن الاختلاف والتأخير دائماً ما يقع للمعنى ويعطل الحضور الكلي، وبذلك أصبح التأكيد على الاختلاف والتأجيل والمعنى غير القابل للتحديد والاكتمال داخل النظام من المبادئ الأساسية. وكان نيتشه يرى بأن أي ارتباط دنيوي – بجنس أو عرق أو أثنية أو تاريخ – ليس إلا سراباً أو بناءاً يراد الاعتقاد به بعد اقامته على نوع من أنواع الايمان المصمم لجعلنا معلقين عالياً بحبل المعنى الواهي فوق هوة الحقيقة غير المريحة، وقد كان مقتنعاً بأن هذه الأبنية كلها محكومة في أخر المطاف بالتنازع فيما بينها، ومحكومة بأن تسبب العنف أكثر من ما تحله.
وبذلك فتح الباب لفلسفة مابعد الحداثة التي أظهرت الفيلسوف دريدا التفكيكي الذي اعتمد التشكيك الجذري في دلالات النصوص مقوضاً تماماً فكرة استقرار المعنى. نظرة دقيقة للتفكيك توضح ان أي بنية سياسية، اقتصادية وغيرها تسن ويحافظ عليها بأفعال استبعادية بمعنى أنه أثناء خلق شيء ما ستستبعد لامحالة مالا يتفق معه. تصبح هذه البنى الاستثنائية قمعية. كما أن القمع يصبح أحد النتائج المترتبة عليه.
يصرّ دريدا على أن ما يتم طمسه وقمعه يعود مرة أخرى لزعزعة البناء مهما بدأ البناء في مأمن، ومن هنا يصدر الفيلسوف ريتشارد رورتي متأثراً بمقولات دريدا التفكيكية في طرح تصوره للنشاط التأويلي الذي يمارسه المتلقي على النصوص، فعلى العكس من مقولات الفيلسوف السيميائي أمبرتو ايكو المتعلقة بوجود ضوابط جمالية وتأويلية يفرضها النص على المؤول، يأخذ رورتي بالفلسفة التفكيكية والتي تقوم بتفكيك المعنى وتقول للمعنى المرجع. ويطل علينا المفكر (ايشلمان) ليقول لنا ان السنوات الخمس عشرة الأخيرة شهد نشوء حالة في العلوم الانسانية تسمى (مابعد النظرية) ومن هنا ينطلق ليعلن ايشلمان (بموت مابعد الحداثة) ويبدأ بصياغة مصطلح (مابعد مابعد الحداثة) فكل النظريات مابعد البنيوية التي ظهرت في مرحلة مابعد الاستعمار لم تستطع أن تواكب الحداثة المتغيرة والتي يجري الاشارة لها بلفظ العولمة. في كتاب ايشلمان: (نهاية مابعد الحداثة)
هناك جملة تغيرات طرأت على الأدب والعمارة والسينما والفن والسياسة توضح مما لا يدع مجالاً للشك أننا غادرنا حقبة مابعد الحداثة، ويطلق على هذا العصر الجديد عصر (الأدائية) حيث تأخذ نماذج الفلسفة والفن والسينما والأدب منحنى سمو وتعالي يتجاوز الواقع المادي ويعود بالفلسفة نحو الواحدية بعيداً عن التضخم والتشظي الكامن في نموذج مابعد الحداثة.
وفي نفس الطريق يمشي استاذ الأدب آلان كيربي في مقاله المهم (مابعد موت مابعد الحداثة)، قائلاً: (إن مابعد الحداثة ماتت وتم دفنها، وأتى في مكانها نموذج جديد للسلطة وللمعرفة تشكل تحت ضغط تكنولوجيا جديدة وقوى اجتماعية معاصرة)
يتحدث في مقاله المثير عن نهاية مابعد الحداثة وظهور تطبيقات أدبية وفنية وسياسية تأسست في واقع مغاير وعلى نماذج فكرية مختلفة، ويطالب القراء أن يلقوا نظرة على سوق المنتجات الثقافية، أين الانتاج الثقافي مابعد الحداثي؟ هل لا زالت أي من نظريات دريدا، فوكو، جان بودريار تشغل الساحة الفكرية الآن؟ كل هذه النظريات توقفت ولا تشغل إلا الأكاديميين، كذلك تخلى منتجوا المواد الثقافية المقروءة، المرئية والمسموعة عن انتاج مواد تتعلق بما بعد الحداثة. ويرى كيربي ان الشعور بلا جدوى النظريات أدى إلى موتها.
لقد أصبحت مسرحية مثل في (انتظار جودو) أو رواية (1984) لأورويل قديمة جداً بل وظهرت في واقع مغاير وسط نمط ثقافي مختلف. أما الآن مع ما بعد مابعد الحداثة فإنها تدفع القارئ لاتخاذ مواقف متعالية على الواقع المادي، بحيث يعتقد القارئ أن عليه الوصول لدرجة من البطولة والتعالي والتجاوز يهزم بها الواقع المادي المكبل لروحه. تقدم هذه الاستراتيجية السردية التعالي أو تجاوز الواقع المادي على انه السبيل للوصول للحقيقة، على عكس التشظي الذي يسود عالم مابعد الحداثة والذي اتفق فيه الجميع على ان لا حقيقة اساساً بل محض تأويلات متأثرة بالسياق التاريخي والمحلي المصاحب لها.
يقول آلان كيربي: إن “مابعد مابعد الحداثة” على عكس “مابعد الحداثة” تضفي على المتلقي، وليس الكاتب أهمية، وكأنه شارك في كتابه أو هو من كتب العمل برمته. يرى المتفاءلون أن هذه هي (دمقرطة الثقافة)، لكن المتشائمين يرون أنها دليل على أن المنتجات الثقافية المعاصرة تافهة وضحلة ومن هنا يقول كيربي: (أعتقد أن ما يحدث أكثر من مجرد تغيير في النمط الثقافي، مفهومنا للسلطة، للمعرفة، للأنا، للواقع وللزمن قد تغير فجأة وإلى الأبد؛ هناك فجوة بين المحاضرين والطلبة، تلك الفجوة التي ظهرت في أواخر 1960 لكن الأسباب مختلفة. فالتحول من الحداثة إلى مابعد الحداثة لم ينبع من اعادة صياغة عميقة للعلاقة بين العرض والطلب في الثقافة، بل حدث بسبب لهجة خطابية مبالغ فيها، لكن في أواخر التسعينات وأوائل الألفية الجديدة، أعادت التكنولوجيا الحديثة هيكلة طبيعة الكاتب والقارئ والنص والعلاقة بينهم بعنف وإلى الأبد)
تُصوّر الثقافة المعاصرة مابعد الحداثة في مشهد يجلس فيه الفرد عاجزاً، يطرح أسئلة عن الحقيقة كأشكاليات، لذلك ارتبط الفرد ارتباطاً وثيقاً بشاشات السينما والتلفزيون. ظهر بعد ذلك نوع من الحداثة الزائفة، حيث أصبحت مشاركة المتلقي جزءاً من الناتج الثقافي، يظهر ذلك في كل برنامج تلفزيوني أو إذاعي، وفي النصوص التي توجهها وتحرك مسارها مشاركات المشاهد أو المستمع – تكون فيه الاتصالات الواردة للبرامج حقيقية برعاية الأخ الأكبر لذلك أسميها (حداثة زائفة)، فالمتصل ليس فعلاً المشاهد أو المستمع المستهدف المطلوب رأيه. تشمل الحداثة الزائفة كذلك ألعاب الكومبيوتر التي تضع الفرد في سياق خلق المحتوى الثقافي، ضمن حدود مرسومة مسبقاً، فيتعدد محتوى اللعبة بتعدد شخصيات اللاعبين.
أكثر الظواهر الثقافية الدالة على الحداثة الزائفة هو (الانترنت) فكرة أن الفرد بمجرد نقر الفأرة يتحرك بين عدد لانهائي من الصفحات، يخلق فضاء لمنتجات ثقافية وجدت لتوها ولن توجد مرة أخرى. ينخرط بعدها الفرد بشكل كثيف في عمليات ثقافية تعطيه احساساً زائفاً بأنه يتحكم ويدير ويخلق بيئته الثقافية الخاصة بمنتجاتها فصفحات الانترنت ليست مؤلفة، بمعنى أن لا أحد يهتم من كتبها. على الأغلب تعمل الصفحات اعتماداً على اضافات العوام مثل ويكيبيديا، أو عن طريق ردود الفعل في التعليقات مثل مواقع التواصل، ما يتميز به الانترنت بشكل جوهري هو ان أي شخص يستطيع اضافة أي صفحة ( كالمدونات) في مابعد الحداثة، الشخص يقرأ، يستمع، يشاهد كالمعتاد. لكن في الحداثة الزائفة الشخص يتصل، ينقر، يطبع، يتصفح، يختار. هنا تكمن الفجوة الجيلية، والتي تفرق بشدة بين الناس الذين ولدوا قبل 1980 وبعده.
يرى من ولدوا بعد 1980 انهم وأقرانهم أحرار مستقلين، مبتكرين، فعالين، مسيطرين صوتهم مميز عالي ومسموع. مابعد الحداثة وماقبلها على العكس من ذلك تبدو نخبوية مملة، كمشهد متكرر يضطهدهم ويسد الأفق أمامهم، أولئك الذين ولدوا قبل 1980 يرون، المقصود هنا ليس الناس، المحتوى والمشاهد والوسائل التي تتسم بالعنف، بالإباحية، بغير الواقعية، مبتذلة، مملة استهلاكية، بلا معنى وبلهاء ويكون عصر ماقبل الحداثة الزائفة بالنسبة لهم هو العصر الذهبي للذكاء، والإبداع، والتمرد، والأصالة. ومن هنا جاء أسم (الحداثة الزائفة) الذي ينطوي ضمنياً على توتر بين التطور الذي تقدمه التكنولوجيا، وتفاهة وجهل محتواها في نفس الوقت.
إنما يحدث ليس مجرد تغيير في نمط الثقافي مابعد الحداثي بل بالأحرى ولادة مفاهيم جديدة للسلطة، للمعرفة، للأنا، للواقع، للزمن، مفاهيم جديدة تعيد تعريف العلاقة بين القارئ والنص بعنف وللأبد، ففي حين أن بعد الحداثة كانت تطرح اشكاليات كالواقع والحقيقة كأسئلة استفهامية ووجودية، تتناول الحداثة الزائفة الحقيقة على انها (أنا)، أنا المتعالي المتجاوز للواقع المادي، (أنا) الخالق للحدث بالتفاعل الحي مع الأحداث وتصويرها بالكاميرات ونشرها في مقاطع الانترنت، أنا من يخلق الحقيقة نتيجة لذلك، يحل الجهل والتعصب الناجم عن تضخم الأنا محل الروح الساخرة الناتجة عن القلق الوجودي والعدمية المصاحبة لما بعد الحداثة.
الآن تفتح بوابة مابعد الإنسانية وهذا المصطلح تم تداوله على نحو متزايد من قبل عديد من المفكرين والفلاسفة. اعتمد الفيلسوف بيتر سلوترديك عام 1999 مصطلح مابعد الإنسانية قاصداً أننا ننتقل من (العابر للانسانية (الترانس هيومانيسم) إلى (البُست هيومانيسم)، وهو زمن سيختفي فيه الإنسان الذي عرفناه واحتفينا به طيلة آلاف السنين. سيصبح الإنسان من الغابرين من تلك الكائنات التي كانت ثم زالت. لم يبقَ من الإنسانية التي عرفتها شيئاً مذكوراً. ستصبح القيم التي قامت عليها حياتها هباءً منثوراً، وتنهار المبادئ التي بنى الإنسان عليها تاريخه في الأرض ومعارفنا ستذروها رياح هوجاء لا تبقي ولا تذر. وكثير من المفكرين يرون بأنها النهاية وحقائق العلوم تقول بذلك وتؤكدها يوماً بعد يوم: التكنولوجيا الاصطناعية، تكنولوجيا الضئيل، جامعة التمايز، طب الاصلاح التقليدي، النانو تكنولوجيا، جامعة الفوارق، طب الإضافة، الإنسان الآلي، العقل الافتراضي، علوم الاعصاب.
فها نحن ذاهبون إلى أزمان سيكون فيها اللامنتظر، المفاجئ من القواعد الاساسية التي تحكم العالم ونرى الإنسان النصف آلي والنصف حيواني والنصف بيولوجي شبه جاهز. فالعبور هو المقدمة للوصول إلى القطيعة. يقرر كروزويل دون أي شك أنه سيصار إلى تدعيم الإنسان برقاقات تكنولوجية إضافة إلى قطع غيار أخرى، التي تستهدف تجاوز الحدود الطبيعية التي تحكم الإنسان، لتجاوز قدراته البيولوجية والعقلية بواسطة تكنولوجيا متقدمة، وخصوصاً في حقل الذكاء الاصطناعي وإيجاد المبررات الفلسفية الداعمة في هذا التجاوز وتشريعه عقلياً وأخلاقياً والتأهيل المسبق بقبوله عبر مختلف الوسائط الفنية والثقافية والتربوية.
وما بعد الإنسانية تحتوي على سبع تعريفات على الأقل، وفقاً للفيلسوف فرانشيسكا فيرناندو معادية للانسانية. أي نظرية تنتقد الإنسانية التقليدية والأفكار التقليدية حول الإنسانية والظروف الإنسانية. ثقافة مابعد الإنسانية فرع من نظرية ثقافية ناقدة للافتراضات التأسيسية للإنسانية وإرثها الذي يفحص ويشكك في المفاهيم التاريخية الإنسانية والطبيعة الإنسانية.
يقترح الفيلسوف تيدساتزكي وجود نوعين من “ما بعد الإنسانية” من النوع الفلسفي، وهناك نوع ثالث من “ما بعد الانسانية” يرعاها الفيلسوف هيرمان دوويورد على الرغم من أنه لم يصفها بأنها (مابعد الإنسانية) إلا انه قام بنقد جوهري وانتقائي كبير للإنسانية، ثم قام ببناء فلسفة لا تفترض فكراً انسانياً ولا سكولاستياً أو يونانياً.
وقد قال ايهاب حسن: قد تنتهي النزعة الإنسانية، لأن الانسانية تحوّل نفسها إلى شيء يجب على المرء أن يدعوه بلا حيلة بعد البشرية. ومن المنظرين الذين يكملون ويتبادلون جوديث بتلر، وعلماء سيبرونيون مثل غريغوري بيتسون، وارن ماكولوتش، ونوربرت وينر، وبرونولاتور، وكاري وولف، والين غراهام، وناترين كايلز، دونا هاراواي، بيتر سلوترديك، وستيفان لورنز سورجنر، وهناك الفيلسوف روبرت بييريل الذي كتب عن حالة مابعد البشرية والتي غالباً ما يتم استبدالها بما بعد الانسانية.
آمن الفلاسفة السياسيون في هذا العصر أمثال بينجامين فرانكلين، ووليام جودوين، ونيك بوستروم الفيلسوف السويدي أن عدم المساواة والظلم وكذلك الموت يمكن القضاء عليه بواسطة التقدم العلمي، ولذلك كان ينظر إلى العلوم على انها امتداد للعقل، وأنها واحدة من أبرز المدارس الفكرية وتطبيقاته. وغالبا ما يستشهد بملحمة جلجامش غالباً على أنها أول الأعمال الأدبية الناجية، والتي تحتوي على ما قد يطلق عليه أول رواية مكتوبة، لشخص يسعى إلى تدخل مؤيد لما بعد الإنسانية، وهو بطل رواية ملك مدينة “أوروك” الذي ظلّ يبحث عن الخلود كما أنه غالباً ما يستشهد بالبحث عن الخلود باعتباره واحداً من غايات حركة مابعد الانسانية.
ومن بعيد عبر مجاهل القرون نسمع صوت المرأة وهي تقول: إلى أين تمضي يا جلجامش؟. إنّ الآلة كتبت الموت على الإنسان واحتفظت بالخلود، سيطرت كلمة الموت على الفلسفة ثم الأدب والفن: موت المؤلف، موت الشخصية، موت الناقد، وظهر مصطلح مابعد الدراما، مابعد التمثيل (في السياسة) مابعد فورد في (الاقتصاد)، مابعد الهوية (في علم الاجتماع) وكل هذا بسبب العولمة وازدياد موجات الهجرة ونهاية الدول القومية، فضلاً عن الثورة في تكنولوجيا الاتصالات التي كان لها أكبر الأثر في تفتيت ما هو جمعي، وفصل الفرد عن محيطه الطبقي والاجتماعي.
سلطة التفاهة (الميديوقراطية) هو كتاب للفيلسوف الكندي (آلان دونو)، والذي يرصد فيه التفاهة كنسق متغلغل ضمن تفاصيل الأوضاع السياسية والاجتماعية، تصنعه وتدعمه قوى عولمية وامبراطورية عابرة للدول والمجتمعات، وبخاصة الرأسمالية وقواها المتوحشة إذ تحكم أسواقها وصراعاتها بعرض التفاهات كبضائع رائجة وغدت هي المادة الراكدة على المقاهي ومنصات الاعلام وعبر البورصات وأقبية السياسة الدولية. ورغم ذلك لا يعد الأمر بهذه السذاجة المريحة لأن عبارة نظام التفاهة تفترض وجود إرادة تفاهة، وليس هذا منطقياً ولا سيما بالنسبة للجانب الأخلاقي، فلا يوجد هناك من يستطيع الانتهاك العام لقيم قد تلحق به الأذى المعنوي أيضاً يحتاج النظام إذا افترضنا اقترانه بالتفاهة وعياً مفارقاً بما يؤديه من نتائج وآثار وعلى المنوال ذاته يحكم النظام سلوك الأفراد والجماعات استناداً إلى انه لا يجري نظام بلا سلطة.
بالفعل يرى دونو أن البلاهة غدت تقنية من تقنيات الأنظمة السياسية، وهي لا تأتي دون أقطاب يحملون منظومات وأفكاراً وخططاً قابلة للتطبيق الفارق، إنه إذا كان البلهاء تافهين حتى النخاع، فالسلطة تعطيهم نظاماً خاصاً لإضفاء الجدية والمشروعية على أفعالهم، أي أن السلطة مصفاة لا تستثني البلهاء، بل تعطيهم قدرات صارمة وفاعلة على المستوى الجمعي، فالسلطة لا تخدع فحسب، إنما تشرعن الخداع طوال الوقت مادامت هي التي تغلف وجوده. إنها صدفة لامعة تحوي داخلها يرقات وطحالب التفاهة التي تتناسل بجوف السياسات المهيمنة.
كل سياسة من هذا الصنف هي الحاضنة التي توفر شروطاً لنمو الطحالب التافهة. وللدقة فإن السلطة قد تفرز مايخادع جمهورها العريض إلا ان التافهين يتعاملون معها سياسياً بشكل متواطئ وهنا يأتي مفهوم الكتلة من التفاهة المهيمنة الآخذة في الانتشار.
الحاكم التافه يتعامل مع السياسة بمنطق الكتلة لدرجة أن نظامه السياسي يسير وفقاً لفيزياء خاصة، يحرص على اشاعة روح البلاهة عن طريق شبكة كبيرة من الموالين والأنصار والحلفاء وأصحاب المصالح شريطة أن يكونوا على ذات المستوى من التفاهة، وأن يكون التسابق لا لصالح الدولة إنما لترسيخ السلطة وسطوتها بشكل أفقي عام، بواسطة العلاقات بين التافهين تتكون شبكة التفاهة تلتهم النظام السياسي، وتستبقه معبرة عن مصالحها. التافهون كالجراد البري لدى الأنظمة السياسية العربية، ينتشرون في كل مكان، يتراقصون على كافة المسارح، يلتصقون بالكراسي التصاق الديكتاتور بحذاء السلطة وزيّها الرسمي. لقد بلغ التافهون المدى في التعليم والثقافة والسياسة والفن والإعلام والواقع الافتراضي، أصبح الواقع مغطى بكمٍّ مهول من لعاب التافهين.
فالرأسمالية لا ترتبط بحروب لنهب ثروات العالمية والسيطرة على الشعوب ومركزية السوق والاستهلاك، بل لن يتم كل ذلك إلا إذا جعلت الانسان نفسه أحد السلع التافهة. شرط الرأسمالية المسيسة أن تغرق الانسان في أوحال التفاهة. إن السوق الحقيقي في السياسة هي سوق التفاهات.

اقرأ المزيد

الترامبيِّة

مثلما ارتبطت حقبة أمريكية حالكة (1947-1957) بجوزيف مكارثي النائب الجمهوري في الكونجرس الأمريكي واكتسبت مسمى “المكارثيِّة” (توجيه اتهامات بالتآمر والخيانة جزافاً دون الأخذ بالأدلَّة)، كذلك سترتبط بدونالد ترامب الرئيس الأمريكي الخامس والأربعين حقبته الكارثيَّة وستكتسب مسمى “الترامبيِّة”(اتخاذ قرارات ومواقف سريعة وفق مزاجية وأهواء فردية دون اعتبار لانعكاساتها السلبية على المجتمع الأمريكي وعلى العالم أجمع).
وإذا كان الضرر الذي خلفته “المكارثيِّة” كفكر وسياسة نائب واحد في الكونجرس قد انعكست حلكتها على الداخل الأمريكي فحسب، فإن “الترامبيِّة” كأداء وسياسات رئيس دولة هي القطب الأوحد عالمياً في المرحلة الراهنة، قد انعكست كارثيَّتها على المجتمع الأمريكي ودول العالم وذاق ويلاتها المجتمع الدولي برمته.
لم يأت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خلفية سياسية، ولم يمر بتجربة عمل سياسي ذي قيمة تؤهله مثل سابقيه من الرؤساء الأمريكيين لتبوُّء المنصب السياسي الأول والأخطر والأكثر حساسية على مستوى العالم. جاء ترامب بخلفية رجل الأعمال الملياردير متنوع الاستثمارات من تشييد الأبراج ناطحة السحاب إلى نوادي القمار إلى الاستثمار في برامج الواقع التلفزيونية، فهو شخصية تلفزيونية شهيرة عالمياً أنتج وقدَّم برامج تلفزيونية عديدة ربح منها مئات الملايين من الدولارات. وفي كل ذلك هو المستثمر الذي يضع في أولوياته حسابات الربح لا الخسارة، ولا بأس لبلوغ ذلك من توظيف أكثر السبل التواء وتهرباً من الالتزامات.
يفصح المنتج الوثائقي بالإضافة لعديد التحليلات النفسية عن سمات شخصية الرئيس ترامب وماهيَّة أدائه كرجل البيت الأبيض ذي المنصب العالمي الأكثر حساسية وتأثيراً. شخصية حيوية، استعراضية محبة للظهور، طموحة يشغلها تحقيق النجاحات وبلوغ القمم فيها، وهي في ذلك تملك جلداً على امتصاص الانتقادات وتجاوز الإخفاقات بسبل شتى وطرق ملتوية. شخصية منفردة بالرأي، سريعة في اتخاذ القرار، نرجسية منتقمة غير متسامحة تجاه من لا يروق لها أو يختلف معها من قادة الدول والمسئولين. شخصية متكبرة تنظر للآخر باستعلاء ظاهر، لا تتورع عن الافتراء وتشويه السمعة والسخرية والتفوه بالكلام النابي. شخصية عنصرية تجاه المجموعات الاثنية والملونين وحتى ذوي الاحتياجات الخاصة.
رفع ترامب شعار “أمريكا أولاً” وأدار معاركه مع دول العالم مستلهماً الشعار، بيد أننا سنجد أن المجتمع الأمريكي كان هو الخاسر الأكبر خلال ولايته. ردَّد ترامب دوماً أن سياساته قد أسهمت في نمو الاقتصاد الأمريكي وفي توفير فرص عمل وفي ارتفاع الدخل العام للولايات المتحدة الأمريكية. على عكس ذلك يعلن الخبراء والمحللون الاقتصاديون المختصون أن سياسات الرئيس ترامب أفرزت مشاكل اقتصادية عديدة وقع الاقتصاد الأمريكي في براثنها على غير صعيد.
خاض ترامب حرباً تجارية واسعة ومتعددة الأوجه مع الصين التي تمكنت وبقدرات فذة مبهرة من تجاوز كل الإشكالات الاقتصادية والتجارية التي تسبب ترامب في بروزها. خاض أيضاَ حرباً تجارية حول الألمنيوم مع كندا وثالثة مع المكسيك. ووفقاً لمعطيات التحليلات المختصة أضعفت تلك الحروب الأسواق الأمريكية وخلّفت عجزاً تجارياً اجمالياً ودفعت بالبنك المركزي الأمريكي لخفض أسعار الفائدة، كما ارتفعت الرسوم الجمركية ونسب إفلاس المزارعين.
اتبع ترامب سياسة عدم الاهتمام بحرب أسعار النفط الدائرة عالمياً بما فيها استئجار الناقلات فأفلس جراء ذلك ما يربو على الخمسين شركة أمريكية. انكمشت صناعات أخرى وتناقصت شيئاً فشيئاً نسبة إسهام قطاع الصناعة في الناتج الداخلي الأمريكي. أخذ الاقتصاد الأمريكي يتراجع وارتفعت الأسعار وانخفض معدل الأجور وتزايد عدد العاطلين.
اتَّبع ترامب سياسة اللامبالاة وعدم الاهتمام بمواجهة جائحة كورونا وقلَّل من خطرها ولم يلتزم شخصياً بالاحترازات الوقائية، بل ودعا حشود مناصريه إلى عدم الالتزام. كانت سياسته تلك وبالاً على المجتمع والاقتصاد الأمريكي. أصبحت أمريكا رائدة التطور الاقتصادي والعلمي والتقني عبر العالم ضمن أسوأ البلدان في إجراءات مواجهة الجائحة، والأعلى نسبة عالمية في عدد الاصابات بالفيروس وعدد الوفيات جرائه.
لقد ضربت جائحة كورونا الاقتصاد الأمريكي ضربة قاصمة فاتجه للمزيد من التراجع والانكماش ودخلت أمريكا ركوداً اقتصادياً فاق ركود 2008. تزايد ارتفاع الأسعار وفقد أكثر من عشرين مليون مواطن أمريكي وظائفهم، وبلغ عجز الموازنة 3.1 تريليون، وغدا الدين الفيدرالي أكبر من الناتج المحلي وذلك لم يحدث في الولايات المتحدة إلا إبان الحرب العالمية الثانية. اليوم يقدِّر المختصون الحاجة إلى 1.8 تريليون لإنعاش الاقتصاد الأمريكي من جديد.
على الصعيد المجتمعي أذكى ترامب وغذَّى انقسام المجتمع الأمريكي سواءً في حملاته الانتخابية أو لقاءاته الجماهيرية بتوظيف نزعته العنصرية الشعبوية وتحريضه على العنف. استجابت له مجاميع الأمريكيين البيض من الفئات المجتمعية المعوزة ذات المستوى التعليمي المتوسط خاصة فئات الشباب من الجنسين وجمهور برامجه التلفزيونية ممن يحلمون بمستقبل أفضل ويتمثلون الشهرة والثروة والنجومية التي يجسدها ترامب. وفي أوساط شعب يحمل الكثير من أفراده السلاح أذكت سياسات ترامب العنصرية توجهات العنف ضد الآخر والقتل التي ارتفعت بمستويات عالية لم يعرفها المجتمع الأمريكي على مدى عقد سابق لولايته. اليوم تنبئ غالب توقعات المراقبين بأن الولايات المتحدة الأمريكية مقدمة على المزيد من الصراعات ومن العنف.
على الصعيد العالمي خلق ترامب عداوات مع دول تحالف “بريكس”، وسوء علاقة مع دول المجموعة الأوربية وغيرهما. في الشرق الأوسط أذكت سياسات ترامب الصراعات والحروب في اليمن، سوريا، ليبيا، العراق، لبنان، إيران وغيرها ونهبت أموال وخيرات دول المنطقة العربية. والأدهى من كل ذلك أن سياساته ومشاريعه أضرَّت أيّما ضرر بالقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني بمستوى لم يسبق له مثيل منذ اغتصاب فلسطين 1948. إسرائيل هي الرابح الأكبر من ولاية ترامب، ولم تحلم بما قدّمه لها على طبق من ذهب في حزمة ما كُشف عنه ونُفِّذ من صفقة القرن، والخشية كل الخشية مما سيسفر عنه باقي بنودها.
سيظل العالم يتذكر لعقود طويلة أي ويلات كارثيَّة جلبتها “الترامبيِّة” على المجتمع الأمريكي وعلى العالم أجمع.

اقرأ المزيد

على شفا الموت

شهدت الفترة خلال عامي 2006 – 2008 حوادث مرورية راح ضحيتها عمال يتمّ نقلهم في مركبات غير ملائمة، حسبما أوضح مدير إدارة التراخيص بالإدارة العامة للمرور حينها ‬بينت الإحصاءات المرورية خلال تلك الفترة ‬ تزايد الإصابات والوفيات إثر حوادث شاحنات نقل العمال‮ (‬السكسويل‮). ‬‬
هذا الأمر دعا وزير الداخلية حينها لإصدار القرار القرار رقم‮ (٣٥) ‬لسنة ‮٨٠٠٢، والذي نصّ على أنه “لا‮ ‬يجوز نقل الركاب في‮ ‬أية مركبة ليس بها أماكن معدّة للجلوس من المصنع المنتج للمركبة تتوفر فيها مواصفات السلامة،‮ ‬ولا‮ ‬يسمح بوجود ركاب أو أشخاص في‮ ‬الأماكن المخصصة للحمولة بمركبات النقل على اختلاف أنواعها، ويعمل به اعتباراً‮ ‬من أول‮ ‬يناير ‮٩٠٠٢”. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
قرار منع نقل العمال في المركبات غير المخصصة لذلك كان ثمنه أرواح أولئك العمال التي زهقت حتى لا يتحمل صاحب العمل عبء تخصيص مركبة ملائمة لنقلهم من مقار سكنهم لمواقع العمل. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
اليوم وبعد أكثر من 10 أعوام على ذلك القرار، يحصد الموت أرواح 4 عمال في حادثتين منفصلتين وفي أقل من شهر، بسبب غياب الإجراءات الرادعة، الحادث الأول راح ضحيته أحد عمال البناء الذي سقط من مبنى قيد الإنشاء ولقي حفته في الحال، فيما الحادث الآخر الأكثر تداولاً كان وفاة 3 عمال حينما كانوا يهموّن بصيانة إحدى قنوات الصرف الصحي، فيما استطاع الدفاع المدني انقاذ زميلهم الرابع من براثن الموت.
النقابي المخضرم وعضو ومجلس النواب عن كتلة “تقدم” سيد فلاح هاشم قال في تصريح له إن: “التشريعات والقرارات المعنية بالصحة والسلامة المهنية ستبقى حبراً على ورق وستؤدى إلى مزيد من الضحايا بين العمال ومزيد من الألم لأهاليهم، إذا لم يتمّ تنفيذها ومراقبة ذلك بجدية”. مشيراً إلى أن: “مملكة البحرين سبق لها وأن صادقت على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم (155) لسنة 1981 بشأن السلامة والصحة المهنية وبيئة العمل بالموافقة عليها عبر قانون رقم (25) لسنة 2009، كما وأصدرت قرارات وزارية تنفيذية معنية بالصحة والسلامة المهنية، تتوافق بدرجة كبيرة مع المعايير الدولية، منها القرار رقم 8 لسنة 2013 بشأن تنظيم السلامة والصحة المهنية في المنشآت، وما نصّ عليه من تشكيل لجان مشتركة في جميع مواقع ومنشآت العمل”.

وأرجع هاشم ضعف الرقابة على تنفيذ وتطبيق ما تنص عليه من إجراءات وتراخ ٍ مستمر في المتابعة من الجهات التنفيذية، إلى “قلة العامل البشري في وزارة العمل المعني بمتابعة هذا الموضوع، وعدم تشكيل اللجان المعنية بالسلامة والصحة المهنية في معظم المنشآت والمواقع العمالية”.

العمال هم الحلقة الأضعف في هذه السلسلة، وعليه فإن أراوحهم ستقبى على شفا الموت حينما لا ينظر إلى تفعيل تنفيذ التشريعات والقرارات الخاصة بالسلامة والصحة المهنية وبيئة العمل، بجدية وإلتزام أخلاقي أولاً وأخيراً.

اقرأ المزيد

تقارير ديوان الرقابة.. بين الحكومة والنواب

لا أستطيع أن أزعم أنني قرأت كافة التفاصيل الواردة في التقرير الأخير لديوان الرقابية المالية والإدارية (2019-2020)، والذي يحوي بين دفتيه ما مجموعه 322 صفحة، تُوّثق ما عوّدنا عليه الديوان منذ تقريره الأول وحتى الآن من حرفية ومهنية لا يرقى لهما الشك، ولو أن التقرير الآخير ربما يكون على جانب كبير من الوضوح والتسلسل في طرح جوهر الملاحظات بدلا من الاسترسال في التفاصيل التي ربما اضاعت الكثير من المضامين المهمة في التقارير السابقة، وذلك ما يحسب للتوجهات المعلنة كما جاء في مقدمة التقرير لمباشرة ومتابعة أعماله ضمن استرتيجية ومنهجية عمل جديدتين.
ومن المهم هنا التأكيد على أن الديوان يسترشد، بحسب ما جاء في المقدمة، بالمفهوم العالمي للقيمة المضافة المتبع لدى مختلف الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة، وذلك بحسب معايير “الانتوساي” (إن القيمة المضافة والهدف الأسمى لمختلف اجهزة الرقابة والمحاسبة هو إحداث الفارق في حياة المواطنين، وذلك من خلال تحسين أداء الجهات الحكومية وتعزيز عوامل الثقة والشفافية)، وهذا بطبيعة الحال هو جلّ ما نطمح إليه كمواطنين وجهات أهلية في الحفاظ على موارد الدولة وماليتها وممتلكاتها.
لن أدخل في الكثير من تفاصيل التقرير الذي نحن بصدد مناقشة حيثياته، والأرقام والميزانيات، فهي كثيرة ومتكررة بكل أسف على مدى قرابة العقدين، لكنني سأكتفي بطرح السؤال الجوهري الذي يطرحه رجل الشارع العادي ويتم تداوله في المجالس والمنتديات كاستجابة تلقائية لما يحدثه الإصدار السنوي لتقارير الديوان وهو.. ماذا بعد؟! وما الذي سيفعله مجلس النواب باعتباره جهة رقابية وتشريعية تجاه ما يطرحه التقرير…؟!
تلك التساؤلات مشروعة تماماً، ومن المهم التركيز عليها وعدم تجاهلها سواء من السلطة التشريعية او من الحكومة ذاتها، باعتبار الأخيرة تحديداً مسؤولة مسؤولية مباشرة عن سرعة تصحيح جملة الأوضاع المعوجة والمخالفات والتجاوزات المالية والإدارية، التزاما منها على ما دأبت على طرحه باستمرار، من أن الحفاظ على المال العام وحماية ممتلكات الدولة والشفافية حيالها أولوية قصوى أمام السلطة التنفيذية!
نحن أمام تقرير جديد في سلسلة تقارير تعمدّ الدولة مباشرة بعد تقديم نسخ منه لجلالة الملك والسلطتين التنفيذية والتشريعية لتشكيل – لجنة – لتدارس ما جاء في تلك التقارير، ثم سرعان ما تنتهي تلك الإحتفالية دون أن نسمع جديداً عن الإجراءات المتخذة عملياً، لتصحيح الأوضاع، أو تقديم المتجاوزين والمتلاعبين مالياً وإداريا، ومهما كان موقعهم وحجمهم للمساءلة، فالدستور الذي نحترمه ونقسم على احترامه يؤكد أن للأموال العام حرمة يجب الحفاظ عليها (..).
في التقرير الأخير هناك وجوه متكررة من التلاعب والتسيّب مالياً وإداريا، ما يكفي لتغييرات جذرية وجوهرية في هياكل وزارات وجهات حكومية عديدة، على الرغم من أن التقرير الأخير يقول في مقدمته إن نسبة ما تمّ انجازه من تنفيذ لتوصيات التقرير السابق قد بلغت 80% ، وهي نسبة جيدة جدا بطبيعة الحال، لكننا حتماً لا نفهم إصرار وزارات وجهات عديدة، عاماً بعد آخر، على تكرار ذات التجاوزات والمخالفات للوائح المالية والإدارية دون أن يرفّ للمسؤولين فيها جفن، ودون وجود اجراءات إدارية رادعة.
هناك مخالفات في تحصيل عشرات الملايين من أموال الدولة، وهناك توظيف خارج القانون، وعلى حساب الكفاءة والكم لأجانب على الرغم من توجهات الدولة المعلنة بإحلال البحرينيين، وهناك تجاوز مستمر لقانون المناقصات، وتحايل والتفاف لعدد كبير من الجهات على لوائح إرساء العقود والمناقصات، وهناك تجديد لعقود خارجية وداخلية لموردين دون الرجوع لمجلس المناقصات (وهذا احتيال واضح ومتكرر ويحدث عن عمد وتقصّد لوزارات يتزايد عددها عاما بعد آخر)، وهناك تجاوزات متكررة للمادة (32) من قانون الميزانية والتي لا تسمح لأية وزارة أو جهة حكومية ب زيادة مصروفاتها المعتمدة إلا بقانون!
وهناك تجاوز متعمد لضوابط عمل الساعات الإضافية في جهات حكومية عديدة، وهذا يفهم منه التنفيع على حساب حرمة المال العام، وهناك وزارات تدفع نقداً ايجارات السكن لموظفيها الأجانب في وقت توفر لهم سكن خاص في مبان تؤجر بالملايين…الخ
وأمام هذا المشهد تبقى اسئلتنا تبحث عن اجابات عاجلة، ونحن نجهد من أجل تحقيق التوازن المالي المطلوب، ولكي نكون أكثر إقناعاً أمام المواطن البسيط، الذي بات يلهث لضمان مكتسباته المهددة فعلياً، في وقت يطالب مشروع الميزانية المعروض للمناقشة على السلطة التشريعية بزيادة “الإيرادات غير النفطية”، أي الضرائب تحديداً، وأي ضرائب؟!
أليس مطلوباً أن تقوم السلطة التشريعية بدور أكبر خلال الفترة القادمة لتحقيق المساءلة عن تلك التجاوزات والتعدي على المال العام توفيراً لمئات الملايين المضيعة التي نحن في أمس الحاجة اليها؟! أليس مطلوباً أن ترينا الحكومة بقيادتها الجديدة الشابة خطوات أكثر حسماً، لحماية المال العام وممتلكات الدولة، والتفكير بأساليب مبتكرة لضبط موارد الدولة ومحاسبة المتجاوزين علنا وبما يسمح به القانون، حتى نحقق الغاية من وجود تقارير سنوية للرقابة وسلطة تشريعية ورقابية ينتظر منا الكثير في زمن صعب وظروف قاسية كالتي نعيش؟!

اقرأ المزيد

من السبعين إلى التسعين

لم تكن امي حين بلغت السبعين من عمرها واهنة أو ضعيفة، بل سيدة نحيفة، خفيفة الوزن وسريعة الحركة، تنتقل كالفراشة بين الغرف والأحواش، تصعد أدراج بيتنا القديم وتهبط بسرعة قياسية، ولم تكن تعاني أي مرض من أمراض الشيخوخة، فلا ضغط دم ولا سكر ولا هشاشة جسدية أو ذهنية، حتى النظارة الطبية لم ترتدها إلا في منتصف الستينات من عمرها ومن أجل الخياطة فقط.
كان أول قرار اتخذته العائلة بشأن امي في هذه المرحلة الزمنية هو إيجاد دور جديد لها ونقلها إلى بيت آخر بتصميم عصري، بيت يناسبها ويناسبنا نحن أيضا حيث سنقضي في هذا البيت أياماً وأوقاتاً كثيرة، ادماج أمي في حياتنا قرار تشاركناه معا، نحن الأبناء الاربعة عشر، فليست امي هي تلك الشخصية السهلة المستسلمة لعمرها أو القانعة والراضية بقدرها الجديد المحدود، ولا نحن قادرون على الإستغناء عنها أو منحها مساحة صغيرة أو هامشية في حياتنا، وهي المرأة الاستثنائية الجبارة التي أنشأت وادارت عائلة كبيرة وحدها دون معين، ولقد بذلت أمي كل ما بوسعها، بل وناضلت من أجل هذا الإدماج، أي أن نكون جزءاً من حياتها، وتكون هي جزءا من حياتنا، تلك كانت رؤية أمي، وقد تحقق لها ما أرادت وما تمنت وما سعت من أجله.
في العام 2003 حين دخلت بيتها الجديد، كان الأبناء جميعا قد تزوجوا واستقروا في حيواتهم الجديدة، وكانت أمي تخطو نحو الخامسة والسبعين، لكنها، هنا في هذا البيت، بدت كامرأة جديدة ومتفرغة لهواياتها وصداقاتها ومشاريعها وضيوفها وأبناءها وأحفادها، وفي نسج علاقات جديدة ومختلفة وتبادلية مع كل فرد في أسرتها الكبيرة، وكانت تفاجئنا بل وتتفوق علينا في حيويتها وأفكارها وفي توقها الدائم للتغيير وعدم استكانتها للجمود، احتفلنا معها بأفراحنا وانجازاتنا وتشاركنا امنياتنا وطموحاتنا، وكانت هي في قلب هذه المناسبات من زواج وولادات وأعياد ميلاد ومشاريع عمل وسفر.
سافرت أمي مع أغلب ابناءها اثناء مرحلة تلقي تعليمهم العالي في الخارج، مصر والهند وبريطانيا وأمريكا. ثم سافرت معنا لاحقاً في رحلاتنا السياحية إلى سوريا ولبنان والقاهرة ودول الخليج وتركيا وإيران، ثم اخذناها إلى رحلات استجمام وعلاج إلى الأردن وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا ولبنان، ثم رافقت اختي الصغيرة في رحلة ولادة ابنها البكر في أمريكا، وتلك كانت رحلة طويلة ومرهقة لامرأة في منتصف السبعين من عمرها، بيد أن إصرارها على التواجد معنا في أهم الأيام وأصعبها يشي برغبتها الشديدة في عدم الانفصال عنا، وبعشقها لمواجهة الصعاب وحب المغامرة والتجربة واختبار اقصى درجات التحمل والصبر.
ذات مرة لقيت صعوبات عديدة في إحدى رحلاتها فظلّت تردد “يفترض بامرأة في عمري ان تكون مستقرة في بيتها لكني أصارع الدنيا عنوة وغصباً عني وعنها”.
تغلغلت أمي في أدق تفاصيل حياتنا. كان بيتنا في النعيم في وسط المنامة محطة عبور أساسية لنا جميعا بعد رحيلنا وانتقالنا منه، وكان هو “المطعم” أو “المضيف” لموظفي المنامة من أبناءها وأحفادها لاحقاً والذين يفدون اليها من مقار أعمالهم في العاصمة ظهراً وعصراً ومساءاً، أما بيتها التالي في “أبو صيبع”، فقد توسط أغلب بيوت أبناءها، وهي التي باركت اختيار موقعه وحرصت على تأثيثه واختارت ألوانه الزاهية البراقة وملأته بالنباتات والزهور.
ادماجها في حياتنا نهج سرنا عليه جميعاً ما أمدّ في عمرها وجعل شيخوختها سعيدة ومتجددة، وحقق للأسرة وحدتها وترابطها واجتماعها على مصالحها ونبذ الخلافات والشقاق والفرقة بين أفرادها.
حين كبرت العائلة وتمددت وجاء الأحفاد وبرزت الإشكالات العائلية المعتادة لأي اسرة كبيرة، قررنا أن نتعاطى مع هذه المستجدات ضمن مجلس خاص للعائلة، وأبقينا أمي بعيدة إلى حدٍ ما عن هذه الأعاصير العابرة حماية لصحتها وقولونها العصبي، لكن سرعان ما تحوّل هذا المجلس إلى نواة لحصد وتتبع إنجازات أبناء العائلة واحفادها في مجالات التحصيل العلمي والوظيفي، وجاءت أمي إلى هذه الاحتفالات لتوزيع الأوسمة وشهادات التفوق والهدايا، قالت امي لاحقاً: إن تلك كانت أجمل لحظات عمرها.
وحين وهنت صحتها وتعذّر عليها المشي والحركة، جئنا بالصور وبأفلام الفيديو إلى سريرها وحرصنا على أن تعرف وترى وتشارك معنا بحواسها وبقلبها ووجدانها، وتفرح وتشجع وتبدي رأيها وتمنح استحسانها وبركاتها، يهمس لها أحد أخوتي “عندي مشروع كبير وجئت طالبا دعواتك”، فتنخرط معه في مشروعه وتصبح جزءاً منه، وتهاتفه يوميا للسؤال والاستفسار.
تسألون عن سر العمر المديد، هذا هو الجواب، فقد تشاركنا معها مرحلة شيخوختها عبر ادماجها في حياتنا بكل تفاصيلها كي لا تشعر بوطأة الفراغ ووحشة الشيخوخة، وكي يستمر حبل الترابط والود والرحمة بيننا وبينها دون انقطاع، وتلك كانت رؤية امي لنفسها وعلى امتداد مراحل عمرها، وقد كنا نحن أبناءها عناصر أساسية وفاعلة في تحقيق هذه الرؤية.

اقرأ المزيد

حول الجذور الاقتصادية الاجتماعية للحالة الانتخابية في أميركا

على كثرة وتنوع المعلومات التي تُحشر في أدمغتنا تباعاً حول الانتخابات الأمريكية يبقى مصدرها ماكنة الإعلام الأميركية. وهي ليست خاضعة للمال السياسي، كما في كثير من البلدان. أصحابها هم رأس المال الكبير، الطرف المباشر في الصراع الانتخابي. كما أن النظام الانتخابي يرفض التمثيل النسبي ليسمح فقط بتنافس الحزبين الرئيسيين ويستثني بقية القوى السياسية، فلا ينتشر خطابها، وإذا ما أردنا فهم حقيقة ما يجري فمن الضروري أن نستخدم مصادر أكثر صدقية.
غالبا يصوَّر لنا أن شخصية وتصرفات ترمب هي التي أسقطته. دعونا نحكم من خلال التجربة الذهنية التالية: مَنْ مِنْ رؤساء أميركا كان جمهوريا فظاً، جعل من التمثيل والإعلام سلم شهرته منذ شبابه، نُصِّبَ كهلا، وقف ضد المهاجرين والإجهاض والمعونات والرعاية الصحية الشاملة، ولصالح خفض الضرائب على الشركات والأثرياء، دخل في نزاعات مع ثاني أكبر اقتصاد عالمي، سحب جنده من الشرق الأوسط، نابي الألفاظ وداعٍ لقمع المحتجين بقسوة، استثار كراهية قسم من الشعب وسماه سياسيون أجانب “صنيعة القوى الرجعية” ؟
دونالد ترمب؟ صح. لكن مهلا، ألا ينطبق ذلك بالضبط على الرئيس الأربعين رونالد ريغان. دونالد ورونالد شبيهان كالتوأم بصفاتهما السياسية والسلوكية. لكن ريغان فاز في الفترة الثانية بأغلبية لم يسجلها أحد حتى الآن 525 صوتا، أي 97.6% من أصوات المجمع الانتخابي. أما ترمب فخسر، إذ حصل على 232 صوتا (43.1%). إذن، يمكن أن نتفق أن المواصفات الشخصية والسياسية ليست حاسمة، رغم أثرها بالطبع. بين الرئيسين الجمهوريين فرق جوهري. ريغان جاء ليبني إدارة حكم الرأسمالية المالية التي تمكنت وآن لها أن تحكم، فدعمته بلا حدود، حاشدة غالبية “الطبقة الوسطى” الصاعدة. أما ترمب فجاء ليقوض أركان تلك الإدارة. ولكي نفهم قصته نحتاج الغوص بحثاً في الجذور الاقتصادية الاجتماعية التي هيأت لمجيئه. فهيا بنا.
أشار ك. ماركس إلى ظاهرة نقل صناعات كبرى إلى البلدان الأقل تطورا، حيث رُخص الطاقة والأرض والأجور والموقع الحيوي، رغم أنها ستستورد خامات الإنتاج من أقاصِ في المعمورة، ثم تصدر منتجاتها إلى أقاصِ أخرى (وكأن “ألمنيوم البحرين” بباله؟). هذا ميل طبيعي في تطوّر الرأسمالية. لكن هناك أسباب أيديولوجية فاقمت من هذه الظاهرة: بنتيجة الحرب العالمية الثانية تزايد تأثير الاتحاد السوفييتي وأفكار الاشتراكية عالمياً، ورأى أيديولوجيو الرأسمالية في تنامي عدد وتنظيم الطبقة العاملة في المؤسسات الإنتاجية الكبيرة خطراً يهدد مستقبل الرأسمالية، باعتبارها حاملة للأيديولوجية الماركسية – اللينينية وقاعدة اجتماعية للثورات الاشتراكية، وتجعل من “الشبح الذي يجول أوروبا” أكثر مرعبا. وَرَدَ في أذهانهم تفتيت الصناعات الكبرى إلى أصغر، ومعها تفتيت القوى العاملة. لكنهم اصطدموا باستحالة ذلك نظرا للخصائص التكنولوجية للصناعات العملاقة، فتم تحويلها إلى جنوب شرقي آسيا أساسا. المؤسسات الإنتاجية الأخرى جُزئت إلى “إنتاجيات” أصغر، “أضيق تخصصا”.
أضعف هذا التوجه قدرات الدولة الأميركية، وفرَّغ الكثيرين للتشغيل في مجال المال، وآخرين في مجال الخدمات الأخرى. أي، بدأ تراجع الاقتصاد الحقيقي مقابل تعاظم قطاع المال. وبدا المجتمع سريع التأقلم مع الواقع الجديد. أصبح الكسب في قطاعي المال والمضاربات العقارية وفي قطاعات التجارة والخدمات أقل عناء من الكدح في الإنتاج، وغدا الاستيراد مفتوحاً والقروض الاستهلاكية متيسرة و”الطبقة الوسطى” تتنامى. “احتل” المال الدولة بعد أن خرج من عباءتها و”امتلك” المجتمعَ بالقروض والأموال “السهلة”. وقد استشرت هذه الظاهرة في بلدان المليار الذهبي ثم في أطراف العالم الرأسمالي، التي هيمن فيها ما يسمى “حكم المصرف”… ظهرت العولمة الرأسمالية بأيديولوجيتها الليبرالية الجديدة.
تعايشت أمريكا مع ذلك من الثمانينات وحتى بداية الألفية وفق معادلة (إصدار دولارات – استيراد استهلاكي – زيادة الدين العام)، لكن مع حلول عام 2008 اتضح أن الاقتصاد يتأزم، ولم تعد البلاد تملك إلا سلاحين: طبع المزيد من الدولارات لمعالجة الأزمات المتصاعدة، والقوة العسكرية لفرض “هيبة” الدولار كوحدة أساس في الحسابات العالمية ولتغطية الدين العام والإبقاء على العولمة الأميركية كنظام لإدارة العالم.
بذلك ظهر تهديد حقيقي يحتقر قيمة العمل المنتج وكل منظومة العلاقات الاجتماعية والقيم والسلوك والوظائف الاجتماعية للعمل ورأس المال والبنى الفوقية من تشريعات وثقافة، وكنتيجة حتمية انهار ذلك العالم ليظهر على إثره “مجتمع المستقبل” الذي توجهه نخب تتخذ القرارات مختفية وراء كواليس العروض السياسية، ولا تتحمل أية مسؤوليات عما تمارسه من أعمال.
وفي الوقت الذي أصبح الاقتصاد الأميركي يَهِنُ أمام تقدم العملاق الاقتصادي الاشتراكي في جمهورية الصين الشعبية، جاء ترمب “حاملا السلم بالعرض” ضد المؤسسة الأميركية، بجمهورييها وديمقراطييها، ببرنامج اقتصادي يحمل نهجاً مغايراً للرأسمالية المالية، وليسحب نظام الإدارة من بين أيديها لصالح الرأسمالية الإنتاجية – التكنولوجية الأميركية، التائهة في المنافي والمنهَكة في الداخل. والحقيقة، هذا يخدم حاجات التطور الاقتصادي الأميركي.
المفارقة الخطيرة أن هذا التوجه الصائب يقوده ترامب بأيديولوجيته القومية الشوفينية المتمحورة حول “أمريكا أولاً”، المعادية للملوَّنين والأجانب وللضمان الاجتماعي، والمنحازة كلياً لمصالح كبريات الشركات، تناهضه عولمة رأسمالية (تسمى مجازا الأممية المالية “fintern”) بكل ما تدعو إليه من “ديمقراطيات على شاكلتها” بإطلاق “الاستعباد المالي” والتحرر من كل شيئ، بما في ذلك منظومات القيم وقواعد الأخلاق والسلوك الإنساني السليم. وهكذا فنحن أمام أيديولوجيتين متصارعتين، لكنهما تعكسان وجهي الأزمة العامة للرأسمالية التي تستنفذ بتسارع إمكانات تطورها.
التناقض الخطير الآخر هو أن ترمب، داعية الاقتصاد المنتج والذي يعتبر، أيديولوجيا، حامي القيم والتقاليد الدينية المسيحية والتماسك الأسري قد صنع ثرواته من أنشطة غير منتجة كالمضاربات العقارية، وأخرى معابة في المجتمع المحافظ (حفلات المجون والترفيه وصالات القمار). هذه التركيبة المعقدة توضحها تركيبة القاعدة الانتخابية لترمب: أولا، ذوو الدخل الذي يفوق 100 ألف دولار في السنة (المتضررون من ضرائب الديمقراطيين)، ثانيا، الأسر المحافظة، ثالثا، البِيض، الذين رجحوا ترمب على بايدن بتناسب 57 مقابل 43%، بينما خسر بين الملونين بشكل كارثي 12 مقابل 87%.
العامل الاقتصادي هو الحاسم عادة في الانتخابات الرئاسية الأميركية: «It is the economy, stupid!» شعار حملة بيل كلنتون الانتخابية. فاز أوباما في الجولة الثانية 2012 لأنه “نجح” في فترته الأولى في إضعاف لهيب أزمة 2008 عن طريق رشّات ناعمة متتالية من الإصدار النقدي. لكن فترته الثانية أظهرت الفاعلية المؤقتة فحسب لتلك السياسة التي، وإن نفعت النخب المالية، إلا أنها لم تنفع حتى ممثلي “الطبقة الوسطى” التي أخذت في التآكل سريعا، ناهيك عن الطبقات الدنيا، بسبب تراكم الديون وفقدان فرص العمل. لذا فاز ترمب بوعوده الاقتصادية الانتخابية رغم قساوة ولا أخلاقية معارك انتخابات 2016 من الجانبين.
وقد “تعاهدت” النخب المالية أن تَحُول دون حكمه، وفي أضعف الأحوال، تجعل الأرض تميد تحته طوال رئاسته الأولى، لتكون الأخيرة. ولعلنا نذكر الأحداث التي أشعلها الديمقراطيون من ديسمبر 2016 إلى يناير 2017 قبيل تنصيبه، مستفيدين من كل تمارينهم في “الثورات الملونة” و”الربيع العربي”، ثم مساعي تنحيته التي طالت حتى فشلت. ورغم كل مساوئ ترمب، بعنصريته البغيضة في الداخل والخارج، وفيما ارتكبه بحق الشعب الفلسطيني وقضية العرب الأولى، وانحيازه الاجتماعي لصالح كبار أصحاب الأعمال، إلا أنه كان وفياً لبرنامجه، إذ نجح في إعادة عدد من الصناعات الكبرى كالسيارات إلى أميركا وضرب أرقاماً قياسية في توفير فرص عمل جديدة. وبسبب تركيزه على حشد الإمكانيات من أجل الداخل، ابتزّ الخارج ماليا دون أن يتجه إلى إشعال حروب كبيرة فيما عدا الضربة التي وجهها ضد سوريا واغتيال قاسم سليماني.
إلا في هذه الانتخابات.. لم يلعب الاقتصاد دوره الحاسم. جائحة كورونا جرفت كل إنجازاته، ومقتل فلويد عقَّدتا الأوضاع بشدة. لولا الإثنتين لفاز ترمب بلا منازع. لكن المنافسات الانتخابية اتخذت مسارا آخر، هو امتداد للطابع العنفي واللاأخلاقي لانتخابات 2016، ما وضع أميركا على كف عفريت. لا أحد يجزم كيف ستسير عليه الأمور حتى 20 يناير 2021، لكن الواضح أن المسار القانوني والتقليدي بدأ يأخذ مجراه محفوفاً بخطر الارتداد. دعونا نأخذ بالمؤشرات القائلة أن جو بايدن سيصبح الرئيس المتوج في 20 يناير. لكن حظوظه ليست وافرة في أن “يصبح رئيس كل الأميركيين” كما يردد. أميركا منقسمة بالتساوي تقريبا، واستُنفذت إمكانيات الحشد الأفقي (كسب الأنصار). لا تزال مفتوحة فرص وصول النخب إلى تفاهم لوقف المواجهات. لكنها مع كل يوم يمضي تصبح أبعد منالاً، لتفسح الطريق أمام صراعات القوى بوسائل القوة. وهذا ما لا يتمناه المرء لبلد بعظمة أميركا وما لها من تأثير على العالم.
الإشارات تشي بأن طاقم أوباما سيحيط ببايدن في البيت الأبيض ويجعله في “حضانته”، لكنه يستحيل أن يكرر بايدن صورة الرئيس أوباما، إذ أن برامج الأخير لم تعد تعمل لأسباب مهمة اعترفت ببعضها هيلاري كلنتون في مقالها “البرنامجي” منذ فترة في “Foreign Policy” الذي يُعتبر الاستراتيجية الفعلية “للدولة العميقة” في أميركا بشأن استعادة الهيمنة العالمية. وسوف لن نحتاج إلى الانتظار حتى 20 يناير لمعرفة نهج وطريقة عمل بايدن. فهاهي كلنتون صاغت الأسس في مفاهيم دقيقة وغير قابلة لازدواجية الفهم.
وأخذا بعين الاعتبار مكانة “آل كلنتون” في التصنيف السياسي الأميركي فإن حظوظ تطبيق هذه الاستراتيجية جد كبيرة. المفارقة أن المقال يتضمن اعترافاً قوياً بأن ترمب كان محقاً، ومن الصعب بعد رئاسته بناء استراتيجية دون تضمينها نقاط ارتكازية غرزها في التفكير السياسي هذا الملياردير النيويوركي الغريب الأطوار. فقد ذكرت أن الإدارات السابقة لكلا الحزبين لم تُقدِّر آثار السياسة الاقتصادية على الأمن الوطني حين أضعفت القطاعات الهامة استراتيجياً، وأبعدت سلاسل الإنتاج الحيوية إلى الخارج، وكان من المصلحة أن يعمد الديمقراطيون إلى إبطاء الاتفاقيات التجارية الجديدة. يتضح لنا مما تقوله كلنتون إن العولمة على الطريقة الأميركية قد ماتت (هل قتلها ترمب؟).
تولي كلنتون اهتماماً أكبر للصراع مع الصين أكثر من روسيا، التي تليها بعد الفاصلة دائما. فكرة التعايش السلمي معهما لا تخالجها مطلقا، وهي تفهم الدبلوماسية كأداة تهيئ فرصا أفضل للضغط بوسائل القوة. وفي العلاقة مع أوروبا ستطلب أميركا، إضافة إلى الدفع نقداً، القيام بأعمال تساعد أميركا لإحراز أفضليات قبالة الصين أو روسيا. الخبر الجيد الوحيد هو العمل على تجنب حرب نووية مع الصين أو روسيا، لكن إمكانية ضربات صاروخية (وإنْ غير نووية) تظلّ تثير القلق.
استخدام القوة ينسجم وتاريخ بايدن السياسي الذي يعتبر أن روسيا هُزمت في الحرب الباردة ولا يحق لها المشاركة في السياسة الدولية “العليا”، وأن مجمعها النووي يجب أن يخضع للمراقبة. لكن Bloomberg أفادت أن مسؤولين روس يقَيِّمون العلاقات مع الغرب كحربٍ باردة جديدة، المواجهة فيها أيديولوجية، حيث تدافع موسكو عن القيم المحافظة في وجه الليبرالية الغربية. بالنسبة للشرق الأوسط والخليج كان بايدن شديد الحماس للحرب على العراق، ثم إلى تشطيره ثلاثا. طبيعي أنه سيتناقض ورؤى ترمب المعادية للقضية الفلسطينية والمتهاونة تجاه الانتهاكات الإسرائيلية، لكنه لن يرتدَّ على “منجزات” ترمب، وسيكون أخفض سقفا من أوباما في هذا الصدد، وكذلك بالنسبة لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم. وبالنسبة لإيران يبدو أنْ ليس العودة للاتفاق النووي فقط ما سيشغل بال أميركا، بل وسيصبح إبعادها عن الصين هدفاً منشوداً.
ورغم اللغط الكثير حول كيف سيكون أثر الإدارة الأميركية، أو الدول الكبرى عموما، على الديمقراطية في منطقتنا، فقد أثبتت كل تجارب الماضي أنْ لا تعويل على قوى خارجية لتحقيق نقلة ديمقراطية حقيقية ما لم تكن موضوعة داخلياً على جدول أعمال جميع أطراف المعادلة، سلطة سياسية وقوى سياسية، كمشروع وطني تنموي نابع من حاجات الدول وشعوبها، عملاً بالقاعدة الذهبية “أنك إن اعتدت الإتكاء على عكاز، فستفقد القدرة على المشي”.. تجربة مملكة البحرين العملية تقول أن ذلك ممكن إلى حد معقول. مثلا، أطلق جلالة الملك المشروع الإصلاحي بروح ميثاق العمل الوطني في بداية الألفية قبل أن تعلن الولايات المتحدة في عام 2003 مشروع التحويل الديمقراطي للشرق الأوسط الكبير. وقد نال المشروع البحريني خلال سنوات تطبيقه الأولى احترام العالم وغدا مثالاً قبل أن يتعثر فيما بعد، لأسباب يجب أن يراجع كل طرف مسؤوليته بشأنها. وفي هذا الصدد تبقى فكرة الحوار الوطني من أجل تجسيد الوحدة والإرادة الوطنية مطلوبة بإلحاح. ومع تقلد سمو ولي العهد لرئاسة مجلس الوزاء لنا، معا، الحق في أن نأمل ونسعى لهذا.
عودة إلى أميركا، فالأرجح أن بايدن لن يتمتع باستقلالية كافية، إذ يرى بعض المحللين أنه سيصبح الرئيس – الزومبي، لأسباب تعود إلى وصاية “الدولة العميقة”، وكذلك طبيعة التحالفات التي يعتمد على دعمها، والتي وَحَدَتْها مناهضة ترمب، من داخل وخارج الديمقراطيين – من قوى اليسار الراديكالي إلى اليمين الذي يضم ديمقراطيين وجمهوريين أيضا. عموما، بين الديمقراطيين يُحتسب بايدن على يمين الوسط. وإذا كانت هناك شكوك جدية في قدرة إدارته على إعادة توجيه الاقتصاد الأميركي صوب الإنتاج، فلا شكوك بأن للآلة العسكرية الأميركية حظوظ أوفر لمواصلة نشاطها حول العالم.

اقرأ المزيد

الليندي حاضر لم يمت

دروس انتفاضة تشيلي التشرينية

لم يكن مفروشاً بالورود الانتصار الذي حققه شعب تشيلي بقيادة قواه الوطنية والديمقراطية في استفتاء اكتوبر/ تشرين الأول الذي أسفر عن تصويت الغالبية العظمى (بنسبة 78 % من الناخبين)، لصالح إلغاء الدستور الموروث من عهد الدكتاتور الراحل أوغستو بينوشيه ولصالح دستور عقدي جديد، فهذا الانتصار جاء نهاية طريق طويل مغمس بالدم لنضالات 47عاماً ( 1973 – 2000 ) خاضها الشعب التشيلي بجسارة وقدم خلالها تضحيات هائلة تتوجت بانتفاضته التشرينية في اكتوبر / تشرين الأول من العام الماضي 2019 والتي اُطلق عليها أحد التقارير الإخبارية لقناة فرانس 24 “الثورة المفقؤة ” لكثرة ضحاياها من الجنسين التي فقأت أعينهم بتصويب متعمد من قوات الشرطة.

لا أحد من الشعب الأميركي يجهل ماذا يعني تاريخ 11 سبتمبر/ أيلول عام 2000 ؛ لكن قلة منهم من يعرف ماذا يعني تاريخ 11 سبتمبر / أيلول من عام 1973 لشعب تشيلي باعتباره اليوم الذي ارتكب فيه الدكتاتور المدحور أوغستو بينوشيه خلال انقلابه العسكري على الرئيس المنتخب سلفادور أليندي مذابح شنيعة بحق خيرة أبناء شعب تشيلي البررة بتخطيط ودعم من وكالة المخابرات الأميركية (CIA).

وفي الانتفاضة التشرينية، ورغم مرور 30 عاماً من سقوط النظام الفاشي منذ1990 فإن ميراثه القمعي كان حاضراً بقوة لما يتبدد بعد؛ متمثلاً فيما أرتكبته قوات الشرطة بحق المنتفضين السلميين من جرائم لا تقل فظاعةً عما أرتكبه أسلافها في عهد الدكتاتور المدحور، فنحو ألف وخمسمائة شاب وشابة جرى اعتقالهم خلال تلك الانتفاضة، وأكثر من 30 سقطوا شهداء، فيما فُقأت أعين المئات، وبضمنهم مراسلون ومصورون صحفيون ذكوراً وإناثاً.

ومثلما كان الإرث الوحشي القذر لعهد بينوشيه في قمع الانتفاضة حاضراً كانت الرموز الوطنية من ضحايا انقلابه حاضرة لم تغب من ذاكرة الشعب، فقد كان الثوار المنتفضون يتجمعون في ذكرى مقتل الليندي بالقرب من قصر الرئاسة وهم يهتفون “الليندي حاضراً خالداً لم يمت”. كما تجمعوا أمام الملعب الذي عُذّب فيه حتى الموت فنان تشيلي الوطني الكبير فيكتور جارا، والذي سُمي في 2003 بإسمه، وكانت الحركة النسائية المطالبة بالمساواة وملاحقة رجال الشرطة المغتصبين حاضرة خلال الانتفاضة متحدية فقء العيون والملاحقة.

على أن انقلاب بينوشيه ترك ندوباً ودروساً عظيمة لا في تشيلي وحدها؛ بل على صعيد الحركة اليسارية العالمية، ففي الوقت التي تقطع حركات يسارية بعدم جدوى النضال السلمي في ظل الأنظمة الاستبدادية بغض النظر عن مدى توافر الشروط الملموسة لاعتماد النضال المسلح، وكانت قيادة الثورة الكوبية في الغالب مع هذا التوجه؛ وليس خالياً من الدلالة في هذا الصدد البندقية التي أهداها جيفارا إلى الرئيس الليندي والتي دافع بها خلال قصف قصر الرئاسة، وقيل بأنه استخدمها في إطلاق النار على نفسه كي لا يقع أسيراً في أيدي الإنقلابيين.

و بموازاة ذلك جرت في أعقاب انقلاب تشيلي وانتكاسة التجربة الاشتراكية القصيرة (1970 – 1973) حوارات فكرية بين مدارس اليسار والفكر الاشتراكي العالمي على صفحات الدوريات والمجلات النظرية، وفي اللقاءات والندوات العلمية حول جدوى النضال السلمي للوصول إلى السلطة وبناء الاشتراكية في البلدان التي تتبنى أحزابها وقواها هذه الطريق في ظل أنظمة لا تتورع طغمة عسكرية فيها عن الدوس على الدستور واُسس النظام الديمقراطي فيها دون حصانات مكينة رادعة تصد بقوة عسكرياً وشعبياً ودولياً مثل هذه الانقلابات على السلطة المنتخبة، وهذا لا يتحقق إلا في ظل سلطة برجوازية قطع نظامها السياسي شوطاً كبيراً من التطور والممارسة الديمقراطيتين على غرار الأنظمة الديمقراطية الغربية بحيث تكون ذات قدرة على شل أيدي العسكر في مطلق الأحوال عن الانقضاض على السلطة دون تفويض دستوري صريح .

ولعل هذه المهمة هي على رأس أولويات المجلس التأسيسي المنتخب لسنّ دستور ديمقراطي عصري جديد يسمح بتطهير ما تبقى من مواريث وأدران أجهزة القمع في الشرطة وأجهزة السلطة التنفيذية عامة، ويؤسس لسلطتين قضائية وتشريعية مستقلتين.

اقرأ المزيد