المنشور

التمييز بين لعبة السياسة والقيم الإنسانية – د. علي فخرو


ما يجب أن يدركه قادة الحكم في بلاد العرب، وأن يدركه على الأخص من يقدّمون النصح والمشورة لأولئك القادة، أن الشعوب تستطيع ممارسة الصبر والانتظار بالنسبة لبعض المظالم والمطالب السياسية. فهي تستطيع أن تتحمّل، مع كثير من التململ، التباطؤ في الانتقال إلى نظام ديمقراطي عادل وحقيقي غير مزيّف، إذ تدرك أن الوصول إلى كذا ديمقراطية يحتاج إلى نضال قاس مرير، وأن الطريق إلى تلك الديمقراطية طويل ومتعرّج لكل المجتمعات البشرية.
 
وهي، أي الشعوب ، تستطيع أن تتحمّل الفروق الجائرة في الثروة والجاه والسلطة بين أقليّة تهيمن وأكثرية تعاني وتكافح، إذ تدرك الشعوب وتأمل بأن الزمن، طال أو قصُر، بعد مئة سنة أو ألف عام، سينهي أية فروق غير عادلة. فوعي الإنسان وقدراته في نمو دائم ونضج متراكم، وستفرض القيم الإنسانية إرادتها على القيم الأنانية الظالمة التي حكمت ولاتزال تحكم طول العالم وعرضه.
 
الشعوب تستطيع الصبر والانتظار على تأجيل أحلامها الكبرى لأنها تعلم بأن ممارسات الاستبداد والظلم وآلام وفواجع القوانين الجائرة والفساد والنهب موزّعة فيما بين الخلق كلهم، وأن مواجهتها هي من مسئولية الجميع لأنها تمس الجميع.
 
لكن تلك المظالم التي تطال الجميع تختلف جذرياً عن التمييز الموجّه إلى فرد أو مجموعة أفراد. نحن هنا أمام ظلم يفعل فعله الموجع والمدمر في الواقع الحاضر، وفي الحال. فالإنسان الذي يحرم من خدمات صحية أو تعليمية من حقّه كمواطن، والإنسان الذي يحرم من الحصول على مكافأة يستحقها، والإنسان الذي يُميَّز ضدّه في الحصول على وظيفة أو سكن ويُقدَّّم غيره عليه… هذا الإنسان لا يواجه مشكلة تستطيع الانتظار أو التأجيل لحين حلّها. إنه يواجه فرصة قد ضاعت، وحقاً قد سُلب، وحاضراً دُمًّر.
 
فلنتصوّر شاباً، من عائلة محدودة الدّخل، عاش طيلة سني طفولته ودراسته في المدرسة وهو يحلم بأن يحصل على بعثة دراسية ليصبح مهندساً أو طبيباً أو عالماً أو محامياً. لقد اجتهد، وأبدع في دراسته، وحلم مع أفراد أسرته بالخروج من ضنك العيش ومغالبة متاعب الحياة. حتى إذا جاء يوم الحصاد والمكافأة واجه واقع التمييز ضدّ حقه في المكافأة بسبب كونه فرداً من هذه القبيلة أو الطائفة أو الدين أو الأصول العرقية، أو كونه فرداً من هذه المدينة أو تلك القرية.
 
لا حاجة إلى القول بأننا في تلك اللحظة أمام مأساة فردية تدمّر الحاضر وتشوّه المستقبل وتغلق أبواب الأمل وتقتل الأحلام التي ترعرعت عبر السنين. أحلام ذلك الإنسان وأحلام محبّيه ممن ارتبطت حياتهم بحياته.
 
لا يمكن الحديث هنا عن الزمن الذي سيحلُ هذه المشكلة. إن الزمن سيحلُّ مشاكل آخرين سيأتون بعده، لكنّه لن يحلّ مشكلة هذا الفرد إيّاه في هذه اللحظة إيّاها.
 
هذا الوضع الظالم التمييزي العبثي ينطبق أيضاً على الشابة التي حلمت بالحصول على وظيفة معقولة محترمة بعد تخرّجها من الجامعة، لتكتشف أن التمييز قد أعطى وظيفتها التي تستحقها إلى غيرها، بسبب الانتماء لجماعة أو دين أو مذهب أو جهة.
 
وهو الوضع نفسه بالنسبة لشاب يريد الزواج والعائلة التي حلم طيلة حياته ببنائها، ولكنه لا يستطيع بسبب عدم حصوله على مسكن أُعطِيَ لغيره دون وجه حق، وبسبب مفاضلة تمييزية جائرة.
 
في جميع تلك الحالات نحن أمام ممارسات ظالمة شرّيرة تئد الأحلام، وتدمّر الحاضر، وتسدّ آفاق المستقبل.
 
هل من حقنا أن نلوم عند ذاك هذا الشاب أو تلك الشابة إن هما توجّها إلى أقصى درجات الغضب، واليأس من العدالة والشكّ في كل القيم، والالتحاق بجماعات التطرف والعنف العبثي؟
 
التمييز إذاً لا يمكن الحديث عنه في صيغة المستقبل وفي الوعود بالحلول الآتية من الشفق البعيد. التمييز ليس موضوعاً سياسياً يقبل التفاوض والأخذ والعطاء، والحلول الوسط. ولا يمكن الحديث عن الصبر على نصف أو ربع تمييز بانتظار ما سيأتي به الغد. وهو ليس نصف موت، إنه موت وجودي كامل. فعندما يدمّر الحاضر وتسدُ أبواب المستقبل وينحر الطموح وتذوي الأحلام، فإن الحديث عن أيّ نوعٍ من الوجود هو وهمٌ وعبثٌ بائس.
 
ستحسن أي سلطة ومستشاروها صنعاً إذا أدركوا حساسية وعمق الفرق الفلسفي والقيمي بين ممارسة السياسة وممارسة التمييز، فالأخير هو موضوع إنساني وجودي يعطي البعض على حساب وحقوق البعض، يدمّر حاضر البعض من أجل فتح أبواب المستقبل للبعض الآخر. هذه ليست لعبة سياسية وليس لها مكان في قاموس السياسة. إنها لعبةٌ شيطانيةٌ تهزأ بالقيم والأخلاق وعدالة السماء وضرورة تحكيم الضمير. 



 
الكاتب: د. علي فخرو 
صحيفة الوسط البحرينية 31 يوليو 2015م

اقرأ المزيد

بعبارة اخرى : عن الضحك البهيج وغير البهيج


مرة منذ سنوات كنت أقطع رحلة بالقطار بين مدينتين أوروبيتين، كانت رحلة طويلة تستغرق ليلة بكاملها وشطرا من النهار أيضاً. وحين اهتديت إلى قمرة الجلوس المخصصة، وجدت كهلاً منهمكاً في قراءة كتاب، وضعت حقيبتي في المكان المخصص وجلستُ على المقعد في مقابلة الكهل المنهمك في القراءة. كان يقرأ بنهم وشغف واستمتاع، أو هكذا بدا لي. أمر ما كان يشده في الكتاب الذي أمكنني استراق نظرة على غلافه، فقدرت من العنوان أنه يقرأ رواية، وفيما القطار يقطع الطريق الطويل والمدينة التي انطلقنا منها أصبحت خلفنا، فلم تعد هناك أضواء، كانت عتمة تخترقها كشافات الإضاءة المبهرة في القطار وجلبة عرباته وصهيل الصفارات التي كان يطلقها بين الحين والآخر. وكنت ألاحظ أن ثمة تعابير أشبه بالابتسامة ترتسم على شفتي الرجل الذي لم يرفع رأسه عن الكتاب أبدا، ولم يتفوه بكلمة، ثم فجأة ودونما سابق تمهيد وجدته يغرق في موجة من الضحك العالي، شيء أشبه بالقهقهة، ولم أستطع أن أدرك ما الذي جرى له، خاصة أن عينيه ظلتا مشدودتين إلى صفحات الكتاب.

وهو في غمرة ضحكه وغمرة اندهاشي مما يجري لم يجد ما يدعو للتوضيح أو التفسير، ثم إن موجة الضحك إذ توقفت قليلاً سرعان ما عادت إلى الانفجار مرة أخرى، وخطر في بالي أن أمراً ما غير طبيعي في هذا الرجل جعله يتصرف هكذا، قبل أن أفهم أن ثمة مشهداً مُضحكا في الرواية التي يقرأها حمله على هذا الضحك، ويبدو أن هذا المشهد طويل، ما استدعى منه موجات ضحك متتالية، بدليل أنه سرعان ما عاد إلى الهيئة الرزينة الصارمة والجادة التي وجدته عليها عند صعودي للقطار في البداية.

هل يمكن لإنسان أن يضحك كل هذا الضحك المدوي وحده، أي من دون رفيق يروي له نكتة أو يبادله الحديث؟ ثم هل، يمكن لمشهد ضاحك في كتاب، مهما كان ساخرا ومضحكا، أن يستدعي موجة ضحك مثل هذه؟

حسب تقرير علمي عن أسباب الضحك، يعرض لنتائج أبحاث أجراها علماء للإجابة عن السؤال القائل: هل يحس الناس بالمرح لأنهم يضحكون أم أنهم يضحكون لأنهم يحسون بالمرح؟ توصل العلماء إلى معرفة منطقة في الدماغ مسؤولة عن الضحك، حيث أجروا تجارب على دماغ فتاة في السابعة عشرة من عمرها  مصابة بمرض الصرع، بأن أدخلوا قطبا كهربائيا في موقع بالفص الأيسر من دماغ الفتاة، فوجدوا أن تمرير تيار كهربائي خفيف في هذا الموقع جعلها تبتسم، وعند تمرير تيار كهرباء أقوى راحت تطلق ضحكات رنانة تعدى السامعين وتجعلهم يضحكون. وحين سئلت عما إذا كانت تضحك من دون سبب، قالت إنها كانت تضحك لأنها كانت تتخيل أشياء مضحكة، بينها قراءة كلام في كتاب أضحكها، بطريقة تذكر بالرجل الذي كان جاري في القطار.

والحق أن معرفة كون الدماغ هو المسؤول عن الضحك، تفسد أوهاماً حلوة عندنا، حين نعرف أن هذا الدماغ على علاقة حتى بأكثر التعابير رقة وجمالا عندنا كالفرح والحزن واللهفة والحب، ولكن حتى بافتراض أن آلية الضحك عند الناس واحدة، يظل أن الناس يضحكون بطرق مختلفة، من الضحك المضيء المبهج، إلى مسحة حزن شفيف تظلل الضحكة الجميلة.

في مؤلفه الجميل «كتاب الضحك والنسيان» يقول ميلان كونديرا: «أن تضحك معناه أن تعيش بعمق»، لعله بذلك يحرضنا على أن نضحك، ربما لأن في الضحك نوعاً من العلاج ضد محبطات الحياة، أو أنه أي الضحك، مضاد حيوي للكآبة التي تنتاب الناس في أوقات تتكثف فيها بواعث الخيبة واليأس في النفس البشرية، وهي، من واقع التجربة المديدة للناس، سريعة الانكسار حتى لو كان هذا الانكسار وقتياً، حيث تتفاوت قدرة البشر على استعادة التماسك الضروري لاستئناف الحياة ومجابهة أعبائها.

السائد في الأذهان أن الإنسان الضاحك، أو كثير الضحك، هو إنسان متفائل، مقبل على الحياة، على خلاف الإنسان المتألم أو الذي يشكو الألم، الذي يقدم على أنه إنسان يائس، قنوط، ومنسحب من الحياة.

هذا التقسيم يبدو متعسفاً.  فقد قرأت ما يفيد العكس تماماً. يفرق ما قرأت بين الضاحك وبين المتهكم. فالضحك هو استخفاف بما هو معطى من قيم ووقائع، ونزوع عن الانفصال عنها، رغبة في الانفصال وحده وليس نشداناً للبديل. أما التهكم فتعبير عن إحساس بالفارق بين القيمة المعطاة والقيمة التي ترنو إليها.  فالمتهكم هو ذلك الإنسان الذي أدرك الصدع في العالم المحيط به، لذا فإنه حين يتهكم على واقعٍ قائم فإن في ذهنه صورة بديل هذا الواقع، صورة ما يجب أن يكون عليه الحال.  لذا فإن التهكم اقترن بالذكاء والنبوغ. كبار الكتاب والفلاسفة كانوا يسخرون مما حولهم، لكن ليس من أجل السخرية، كانوا يرون أبعد مما يراه الآخرون، لذلك فإنهم في واقع الأمر يقدمون البديل، يقدمون الرؤية المضادة للذي يسخرون منه من معطيات.

أما الذي يضحك فقط هو حسب الأستاذ أحمد حيدر في «إعادة إنتاج الهوية» ساذج وجاهل وعاجز عن فهم الضرورة، وبالتالي عاجز عن اقتحامها. والضحك، والحال كذلك، نوعان فإما إنه ضحك الغباء وإما ضحك التواطؤ الذاتي وسوء النية الذي يعفي المرء من مسؤولية الانخراط في تحمل المسؤولية.

كم مرة في اليوم يضحك الإنسان، وهل يحدث أن تمر أيام لا نضحك فيها، وإذا حدث ذلك فما السبب؟ هل لأن بواعث الضحك انتفت، أم لأننا في مزاج سيئ لا يجعلنا قادرين على الضحك أو راغبين فيه؟

يقود هذا إلى أسئلة أخرى من نوع: هل أن أمراً من الأمور يمكن أن يكون في ظرفٍ ما مُضحكاً، لكنه في ظرف آخر لا يكون كذلك تبعاً للمزاج الذي نحن فيه؟

والأغلب أن لدى كل إنسان أجوبة مختلفة على هذا النوع من الأسئلة، ولكنها تشكل مداخل للاقتراب من عالم الضحك الذي من مظاهره أن لدى الناس أشكالاً أو طرقاً مختلفة للضحك. بعض الضحك أشبه بالقهقهة الطويلة، وبعضه الآخر له صوت مُدوٍ، وبعضه الثالث أشبه بالابتسامة العريضة أو الضحكة المكتومة.

ثم إن القابلية للضحك تتفاوت بين شخص وآخر. بعض الناس دائمو الضحك، وبعضهم الآخر لا يضحكون إلا لماماً. والدراسات لا تجزم بأن الشخص الميال للضحك هو بالضرورة أكثر سعادة من الذين يضحكون بشكل أقل. قد يكون الشخص في داخله أميل إلى الحزن، ولكنه في مسعى ربما يكون غير واع يتغلب على ذلك بالمبالغة في الضحك.

من وجهة نظر علمية صرفة فإن الضحك يظهر لدى الإنسان متأخراً بالقياس إلى البكاء. أول ما يفعله الطفل بعد ولادته هو البكاء ولكنه بعد حين يتدرب على الضحك. ويقال إن ضحك الطفل ليس سوى بكاء معكوس. “الضحك في أصله بكاء” يقول أحد علماء النفس. فحين يرى الطفل شيئاً أو شخصاً غريباً، تثير لديه المفاجأة نوعاً من الفزع يعبر عنه بالبكاء، لكن ما أن يألف المشهد أو يتكيف معه حتى يشعر بحال من الاسترخاء يعبر عنه بالضحك.

يذهب باحث اسمه برغسون للقول، إننا نضحك على أنفسنا في المقام الأول، فلا شيء هزلياً خارج ما هو بشري. إننا لو ضحكنا على حيوان نكون قد استحضرنا في سلوكه الباعث على الضحك سلوكاً للبشر أنفسهم.

وحين نضحك على قبعة غريبة فإننا لا نضحك إلا على الفعل البشري الذي صنعها بهذا الشكل، ونضحك من الشخص الذي يرتديها لأنه برأينا غريب أو باعث على الضحك. ويقترح صاحبنا اقتراحاً طريفاً: «جربوا أن تسدوا آذانكم بوجه صوت الموسيقى في قاعة رقص، سيظهر لكم الراقصون سخفاء في الحال».

يمكن تطبيق هذا الاختبار على أمرٍ آخر يخصنا: جربوا أن تكتموا صوت التلفاز وأنتم تشاهدون حلقة من برامج الحوارات السياسية في بعض فضائياتنا، وركزوا جيداً في تعابير وحركات أيدي المتحاورين والمذيع الذي يتظاهر بتهدئتهم بعد أن يكون قد أشعل العراك بينهم، وساعتها ستدركون مقدار السخف الذي يحيط بنا، معبراً عنه في أداء من اختاروا أن يُصنفوا أنفسهم في خانة النخبة، التي تقدم، ويا للمرارة، نماذج في منتهى البؤس.

قلنا إن الضحك بكاء معكوس. وان الضحك في أصله بكاء. لهذا السبب على ما يبدو قالت العرب: شر البلية ما يضحك. وفي حالة التعبير عن تفاقم حالة ما قالوا: المضحك المبكي. والعرب القدماء كانوا حكماء حين صاغوا هذه الأقوال، كأنهم كانوا يجهزون لأحفادهم اليوم، الذين هم نحن، التعبير الملائم لوصف الواقع الذي سيؤولون إليه. شكرا لأسلافنا فقد وفروا علينا مشقة البحث عن العبارة المناسبة في وصف حالتنا.
 
31 يوليو 2015

اقرأ المزيد

شفرة «تعليق» تُُعنون أزمات منطقتنا


لماذا يتعين على أزماتنا أن تمتد إلى الأمد الذي تقرر خاتمته مشيئة القوى الدولية الممسكة بمفاتيح حلها؟
سؤال سيتبادر إلى ذهنك لحظة تأملك التفكّري في روتينية صحوك ومنامك على نفس الأخبار ووقائعها التي تقدم وكالات الأنباء وجباتها اليومية لك عبر محطات البث الإذاعي والتلفزيوني ووسائط الإعلام المقروء.
 
أسماء مدن، وأسماء بلدات، وأسماء شوارع، وأسماء جسور، وأسماء منشآت بنى تحتية، من مدارس، ومستشفيات، ومطارات، وموانئ، ومصافٍ، وحفارات نفطية، وسدود، وخزانات مياه، ومخازن غلال، ومحطات تزويد وقود، ومحطات توليد طاقة وغيرها.

وبالموازاة يجري تدوير أسماء أحزاب وأسماء ميليشيات وأسماء شخوص، سرعان ما تذوب وتذوي وتختفي من التداول الإعلامي اليومي الرتيب، تماماً كما تختفي العملات الورقية من التداول العام ما أن تهترئ، فيعمد البنك المركزي إلى سحبها تدريجياً من التداول وإحلال عملة نسخة جديدة مطابقة لها في القيمة محلها. وهو ما ينطبق، على ما يبدو، على تلك الأسماء الدوارة التي يستنسخ الجديد قديمها، أيضاً بعقل فاعل كما هي حال البنك المركزي.

وكي لا يسرح بك الخيال وتشطح بك التوقعات، نسارع للقول بأن ذيوع صيت تلك المدن وتلك البلدات وتلك الحواري والنواحي، وأسماء تلك الأحزاب والميليشيات والأعلام، ليس بسبب مآثر أبدعتها أو فرادة أعمال وإنجازات آسرة للألباب والقلوب، سطَّرتها. كلا، فمأثرتها وفرادتها الوحيدتان أضحت أمكنة للخراب والدمار وسفك الدماء والأعمال الوحشية التي تشكل العنوان الرئيس للحروب الأهلية المندلعة في عديد البقاع العربية، من مصر والسودان والجزائر وتونس والصومال وليبيا في القارة الإفريقية، إلى سوريا والعراق ولبنان واليمن في القارة الآسيوية، إضافة إلى فلسطين (مشروع صدام مؤجل بين حماس وفتح ، وبين حماس وخلايا التنظيمات السلفية التي قويت شوكتها) ، بالإضافة إلى المغرب (الصراع المسلح المعلق مؤقتاً مع جبهة البوليساريو على الصحراء الغربية).

تمر الأيام والأسابيع والشهور وتمضي السنون، ولا شيء يتغير!.. مؤتمرات أصدقاء ومؤتمرات مانحين ومؤتمرات تعقد في الإقليم وفي عواصم ومدن الغرب والشرق، ويتم تعيين مبعوثين خاصين للأمم المتحدة لمتابعة ملف هذه الحروب، ويفشلون أو يتم إفشال مهمّاتهم من قبل أطراف النزاع المسلح المباشرين أو الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة بصورة غير مباشرة في معمعان هذه الحروب، ثم يجري استبدالهم بآخرين يستهلكون جل مدة تكليفهم في إعادة إنتاج ما كان بدأه أسلافهم، في التنقلات بين أطراف ومناطق النزاعات التي تتبادل، بدورها، السيطرة عليها، والتنقلات الخارجية على محاور الفرقاء الإقليميين والدوليين المؤثرين في هذه الأزمات الحربية الأهلية، وإطلاق رشقات من حين لآخر في صورة مبادرات يتكفل الإعلام «المعني» بترويجها لإشاعة أجواء طمأنة تستوعب احتمالات تنبه الرأي العام إلى كارثة تعمد إطالة أمد هذه الحروب على المستوى الإنساني.

ومع ذلك تستمر هذه الحروب والأزمات المرادفة لها تراوح مكانها، بل ويتصاعد زخمها، في مغالبة من أطرافها للإشارة إلى أنه ما زال في جعبتها من خزين الطاقة ما يسعفها على مواصلة مغامرة التدمير الذاتي، غير مكترثة، حتى اللحظة على ما هو بائن، بقانون الطاقة القصوى للتحمل التي ستؤول في نهاية المطاف إلى الاضمحلال بعد أن يهدها التعب وخوار القوى.

لقد أخذ اللبنانيون كل وقتهم الذي استغرقوه في حربهم الأهلية قبل أن تضع أوزارها عقب خمسة عشر عاماً من التطاحن البشع. واحتاج الجزائريون لنفس الفترة الزمنية، أي 15 سنة، لكي يضعوا رسمياً حداً لحربهم الأهلية وإن كان بعض شذراتها ما زال يطفو على السطح من آنٍ لآخر، بسبب استمرار رهان «التحالف المقدس» لمراكز القوى المالية، على إضعاف ومن ثم كسر شوكة الوجهة الاستقلالية للجزائر من حيث سيطرتها على عملية التراكم الأوّلي لرأس المال وإدارتها لمواردها وأصولها الوطنية. واستمرت الحرب الأهلية في السودان بين قوات الحكومة المركزية في الخرطوم وقوات الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهي حرب بين شمال السودان وجنوبه، زهاء 20 عاماً (من 1985 إلى 2005)، انتهت بقبول الخرطوم مطالب الجنوبيين بالانفصال وإنشاء دولتهم المستقلة.

العراق دشن عملياً حربه الأهلية في إبريل/ نيسان عام 2003 مع بداية حرب الاحتلال الأمريكي للعراق ودخول القوات الأمريكية بغداد في 20 إبريل/ نيسان 2003. وما زالت الحرب تتوفر على مقومات استمرارها وتصاعد وتيرتها. وقد تضرب رقماً قياسياً في طول الفترة التي ستبلغها قبل أن تصل إلى خواتيمها. و«تحتفل» أطراف الحرب الأهلية في سوريا بذكراها الخامسة، وهي لا تزال في «عنفوان شبابها». وهذه، كما الحرب الأهلية في العراق، أمامها مشوار طويل لتقطعه قبل أن تضع أوزارها (آلاتها وأثقالها).

لو ترجمنا هذه الحروب المدمرة إلى أرقام فقط للضحايا من البشر، والممتلكات العامة والخاصة، فضلاً عن تكلفة المعاناة الإنسانية للسكان التي تعجز الأرقام عن رصدها، لأصابنا الدوار. فمن الاستحالة بمكان للعقول السليمة أن تستوعب صدمة هذه الأكلاف المفزعة، التي هي في ذات الوقت، لا قيمة لها بالمطلق لدى الأطراف المتطاحنة. وبالطبع لدى الأطراف الدولية ذات التأثير المباشر في مسار هذه الحروب.

الأطراف الدولية هذه هي بالذات التي أعطت إشارة البدء لاندلاع شرارة هذه الحروب، وهي بالذات من يملك إعطاء إشارة نهايتها، متى ما ضعفت أو زالت عوامل الاستفادة من استمرارها، وذلك وفقاً لحسابات العائد والتكاليف.

أما الآن فهي موضوعة ضمن الملفات المصنفة لدى وزارات خارجية تلك القوى العظمى النافذة، تحت عنوان «ملفات أزمات معلقة» (Pending Crises folders). وحتى لو بادرت قوى إقليمية أو دولية لمحاولة فك عقد استمرار هذه الحروب وحلحلتها بغية وضع نهاية للأضرار الجسيمة التي تتكبدها قطاعات المال والأعمال في البلدان المرتبطة خصوصاً بعلاقات أسواق مع هذه البلدان المنكوبة، فإن محاولاتها ستبوء بالفشل لا محالة إذا لم تنل موافقة القوى الدولية الممسكة «بمفاتيح» هذه الحروب. طبعاً المأساة الإنسانية، لا أحد يتحدث عنها هنا، فهي لا قيمة لها في عرف أباطرة الحروب وسماسرتها.


31/07/2015

اقرأ المزيد

انحسار الفضاء العمومي


يقصد بالفضاء العمومي تلك المساحة الوسيطة بين الدولة والمجتمع، التي تتيح حرية الأفراد والجماعات، للإدلاء برأيهم، بما يؤمن مناخاً حوارياً تشاورياً بين الطرفين.

ومفردة «انحسار» في عنوان هذا المقال، أتت بديلاً لمفردة أخرى أشد وقعاً هي «غياب»، فلكي لا نقع في آفة التعميم أو الحكم المطلق، آثرنا الحديث عن انحسار الفضاء العمومي في العالم العربي، لا عن غيابه الكلي، مع ما يحمله ذلك من سؤال عما إذا كان هذا الفضاء متاحاً فيما مضى، كي نقول عنه إنه انحسر.

الحق أنه تيسر لهذا الفضاء أن يتوفر في مراحل من تطور الحياة السياسية والثقافية العربية، ولكن ذلك جاء على صورة جزر صغيرة مبعثرة هنا أو هناك، لعبت على صغرها، دوراً في الرقابة على أداء الحكومات، من خلال المؤسسات المستقلة للمجتمع المدني، الناشطة في بعض الحقول كالثقافة والنقابات والحركات النسوية واتحادات الطلبة وما إليها.

توفرت للعالم العربي فرصتان ثمينتان لتوسيع الفضاء العمومي، لكنه أضاعهما، الأولى تمثلت في الثورة العارمة لوسائل الاتصال الحديثة، بما وفرته من مجالات غير مسبوقة لحرية التعبير وتداول المعلومات والأفكار، وإشاعة ثقافة الحقوق المدنية، بكسر احتكار أجهزة الإعلام التقليدية لمهمة الناقل للرسائل المختلفة، بما يلائم أمزجة النخب الماسكة بالثروة والسلطة. لكن سرعان ما تحول توظيف الميزات التي توفرها هذه الوسائل، لخدمة أغراض هي على النقيض تماماً من الفكرة التي يُراد للفضاء العمومي الحديث أن يلعبها كوسيط بين الدولة وبين المجتمع المدني، فحدث أن صارت محفزاً على إثارة النزعات المذهبية والعرقية والطائفية، لا بل وإشاعة منهج التكفير وتحبيذ الإرهاب، وتمزيق المجتمعات وتقويض بنية الدول، بدلاً من دمقرطتها.

أما الفرصة الثانية فكانت مع بداية هذا العقد، حين أزفت لحظة للتغيير في العالم العربي، كان يمكن لها لو سارت في مسارات سلمية، وجاءت على حوامل اجتماعية حديثة من الحركات السياسية الوطنية وقوى المجتمع المدني المستنيرة، التي تستلهم تراث التنوير العربي وتطوره، أن توسع من الفضاء العمومي وتنشط دوره.

وفي هذه المرة أيضاً، حدث العكس تماماً، بحيث باتت تطلعاتنا اليوم أكثر تواضعاً بكثير، حين تنحصر في استعادة ما فقدناه من مكتسبات كانت في متناول أيدينا، أهدرناها وفرطنا فيها، بدل البناء عليها وتطويرها.
 
30/07/2015
 

اقرأ المزيد

لمجرد البداية.. متى النهاية..؟!!


لعلنا في حاجة الى اصحاب اختصاص في التحليل المعتبر لبحث ودراسة ما ينشر في شبكات التواصل الاجتماعي، وبعض القنوات الفضائية، وبعض المنابر الدينية والإعلامية، كل الاتجاهات والتوجهات السياسية، والدينية، والطائفية والذهنية المتطرفة بكل تجلياتها، وبكل أسمائها الطارئة او المارقة التي تشكل فسيفساء واقع مأساوي بكل ما لهذه الكلمة من معنى، كل هذه الاتجاهات والتوجهات مطلوب تحليلها، لعلنا نصل الى سبب كل هذا التشويه الفج فى واقعنا الراهن، وكيف قفزت عندنا مواهب من كل اتجاه ومجال استطاعت ان تحول الشئ الجيد الى شيء رديء جداً، يعادي العقل والمنطق ويخاصم الحياة والإنسانية ويعقم اذهان الناس ضد الاصابة بالذكاء والتفكير، بل ويجعلنا اذا لم نأذن لغيرنا بالتفكير لنا وعنا في حالة معاداة للدين، وخروج عن ملة الإسلام، أليس هذا الوضع هو الذى خلق لنا آلاماً وأزمات وهموماً مستعصية وصنع عداوات وتعصب وأحقاد..!!

ليس مطلوباً من هكذا خطوة ان نعدد الآفات التي باتت معروفة بقدر ما هي معروفة الأهداف والغايات، وقبلها البدايات والنهايات والمخططين الذين يصوغونها ويخرجونها، ليس مطلوباً ايضاً ان نصل الى مناصحة او طبطبة او توجيه لوم لهؤلاء العابدين لأخطائهم لان ذلك لن يجدي، وسنكتشف بأننا نعيش حالة من المراوغة والمراوحة المستدامة، حالة تفرز أشكالاً من التطرف والتعصب وكل ما بات ملتبساً بالتدين والدين، وكأن محاولة فهم الدين لا يتم الا بإظهار مخزون من الكراهية والجلافة وكل ما هو ضاج بالألم والأحقاد والخصومات والعداوات والتفاهات الصغيرة والبذاءات العريقة فى المقام والمجد والنسب..!! 

ليس ذلك مطلوباً، بل المطلوب قبل ذلك ان لا نفقد احساسنا بخطورة ما نحن فيه، وان لا نكون عاجزين عن فعل يخلصنا من كل العيوب والعاهات المذهبية والطائفية والعقلية والدينية والأخلاقية السائدة، هذه العاهات والدمامات المرئية والمسموعة من الداخل والخارج، آن الأوان ان نحسن استخدام عقولنا حيالها، أليست العقلانية حسن استخدام العقل، كما وصفها ديكارت، يكفي ان نمعن في هذا الذي يتم تداوله فى الفيسبوك وبعض شبكات التواصل الاجتماعي سنجد الى اي مدى يغيب العقل، وكيف يطأفن كل شأن وطني، وكيف يبث ما يراد ان يوصلنا الى عالم من الأوهام والمغامرات باسم الطائفة تارة وباسم الوطنية تارة اخرى، وكيف يبذل البعض جل جهدهم من اجل ان نعيش ونتعايش مع الأخطاء، نتكيف معها، أخطاء تبعث على القلق من كل شيء، من بعضنا بعضاً، يخاف الواحد من الآخر، بدلاً من ان يخاف عليه، والذين تسلقوا وحولوا هذا الواقع المأزوم الى فرصة بل فرص وكل كفاءتهم هي تحويل الخسارة الى ربح عبر تعميق حالة الانشطار والإيقاع بين الناس وإشاعة التوتر بينهم، هؤلاء ليس علينا فقط ان نحذر منهم، بل ان نوقفهم عند حدهم، علينا أيضاً ان نكون مساندين لكل خطوة تدفع باتجاه التصدي لمن يستهدف التلاعب بالنسيج الوطني وكل قيم التسامح والتعايش.

مؤسف وباعث على أسى بالغ ان تواجه الجهود التى انصبت فى ذلك الاتجاه بالإساءة، والتشكيك في مقاصدها، بعض التعليقات قالت بما معناه وبوقاحة كاملة بانها لا تقبل بتلك القيم، واستهزؤوا بالنيات الطيبة وبكل جهد وطني مخلص، اعتبروا ذلك عبثاً في عبث، ووهماً في سلسلة طويلة من الأوهام والممارسات التي تلامس القعر وتسعى الى ما تحته، وبات واضحاً ان جل هم هؤلاء الذين تتجلى كفاءة كثير منهم فى الشتائم التى يتقنون فن توجيهها فى كل اتجاه، هو صناعة التطرف والتعصب ونشر ثقافة الكراهية، والغريب حقاً ان هؤلاء يتحدثون عن حبهم للبحرين، فيما أقوالهم وربما أفعالهم تعطي مثالاً سيئاً عن حب البحرين..!

بات علينا لزاماً ان ندعم ونساند كل المبادرات والخطوات والأنشطة التي تدفع الى لم الشمل وتنبذ كل أشكال الفرقة والانقسام والتطرف، وعلينا ان نرفض كل ما يخلق ولاءات غير الولاء للوطن، وربما آن الأوان ضمن ما بات يتوجب القيام به اصدار قانون يقضي على الأفعال والأقوال المرتبطة بازدراء الاديان ويضع حداً لاستغلال الدين او العقيدة او الملة او المذهب، ويجرم بث خطابات الكراهية المتوحشة عبر مختلف وسائل وطرق التعبير، ويصون العيش الوطني المشترك، على غرار ما فعلته الشقيقة «دولة الامارات»، التي أصدرت مؤخراً قانوناً رائداً هدفه حماية الوحدة والاعتدال والاستقرار وثوابت الدين، ويقطع الطريق على أفكار التمييز والكراهية التى تبث من الداخل، او ترد من الخارج، ويمنع الانشطار المجتمعي تعنتاً او تطرفاً او اجراماً. 

علينا ان نقدم على مثل هذه الخطوة، وان نفعل ذلك واكثر، وان نضع فى صدارة اولوياتنا واهتماماتنا اصلاح الداخل، واعادة الاعتبار الى العمل الوطني الحقيقي وعدم الهروب من المشاكل الحقيقية التي يعاني منها المواطن، وان نفتح الأبواب التي تعزز من المواطنة الحقة وتظهرها بكل تجلياتها، وان نتصدى بحزم وحسم وبشكل لا لبس فيه او غموض او مراوغة او تردد او مناصحات عقيمة، حيال من يريد تجويف الإطار الوطنى الجامع، وان نعمل بجد على خلق ثقافة جامعة ووطنية، مضادة للطوائفيات ونابذة لكل ما يغرس الأحقاد والكراهيات من جانب مقاولين ومستثمرين ينتجون «النفايات الطائفية ويرمونها في الشارع» ويستثمرون صدى الحروب الاهلية في بعض دول المنطقة العربية.. يساندون من يديرون الصراعات ويخلقون المنزلقات والفخاخ ويزيدونها سعيراً، ومعهم من يتعطشون بجشع الى الغذاء الطائفي ولا يجدون لهم مهمة او وظيفة غيرها..!!

علينا ان نفعل الكثير، فعلا مطلوب منا ومن من كل قوى المجتمع التى لم تتلوث، مطلوب الكثير، ذلك لمجرد البداية، قلنا ذلك مراراً ولن نمل من تأكيد هذه الحقيقة، مع قناعتنا بانه ليس من المصلحة انتظار غودو طويلاً..!!!



28
 
يوليو 2015

اقرأ المزيد

بين الماء والتأمل


ذات زيارة إلى بانكوك، عاصمة تايلاند، قبل سنوات خلت، تيسّرت لي رحلة فوق نهر بلغت نحو الساعتين. يشطر النهر المدينة إلى شطرين تصل بينهما الجسور المعلقة، ثم يتفرع إلى قنوات وفروع نهرية، تتوغل عميقاً في ثنايا المدينة.
على ضفتي النهر وقنواته بُنيت الأكواخ الخشبية القائمة على كتف النهر مباشرة. لا مبالغة هنا ولا مجاز، القول إن الساكنين يقفون على حوافّ بيوتهم، فيصبح بوسعهم أن يمدوا أيديهم وأرجلهم إلى النهر، أو يلقوا بصناراتهم وهم في البيوت، فيصطادوا الأسماك منه.

إنهم أصدقاء النهر وأهله، يُذكرون برجلٍ في إحدى روايات هيرمان هيسّه قال إنه صادق نهراً.
إنهم مثله يصغون للنهر ويعرفون لغته. إنهم بمعنى من المعاني كائنات نهرية.

بدت لي فكرة مبهجة أو عظيمة، أن يصادق المرء النهر، منذ طفولته، وينشأ حوله، كيف يصبح بوسعه، بعد ذاك أن يتحرر من ذلك الحبل السري الذي يشدّه إليه، من سطحه الرمادي الرائق ومن زهرات النيلوفر البيضاء الطافية على سطحه، ومن مشهد القوارب الصغيرة التي يعبر بها سكنة الأكواخ بين ضفتي النهر، أو ضفاف قنواته.

لقد خطر في ذهني أن بين هؤلاء من يمكن أن نعدهم شخصيات روائية، شخصيات تحكي وترصد وتراقب وتتأمل.
بين الماء والتأمل صلات قربى. والنهر كون من الماء مفتوح على السماء وعلى الغابات التي تشعّ بالخضرة التي تروي حدقات العين. لذا لم يكن مدهشاً أن المعابد كانت منتشرة إلى جوار البيوت على ضفاف النهر، حيث يأتيها أولئك الذين وهبوا حياتهم للحكمة والبحث في سرّ الكون ومغزاه.

ها هنا يتوحّد المرء مع الفكرة المجردة الأولى، باحثاً عن المطلق الذي لا يبلغه سوى القلة، على نحو ذلك الرجل الذي أحب النهر وصار يسمع حديثه ويتقن لغته.

سيكتسي المشهد ذروة جلاله، حين يهطل المطر، فيما الرحلة النهرية مستمرة، بعد أن تتوارى الشمس خجلاً، وتركن وراء الغيوم التي تحجب بظلالها الرمادية السماء، فيغدو العالم ضاجاً بالفرح والأمل.

على هذه الأرض ما يستحق أن يُرى؛ كلما أوغلت بعيداً اكتشفت مكامن سرية للسحر وللعذوبة وفتنة الطبيعة. وسنتعلم كيف للإنسان أن يقيم علاقاته مع هذه الفتنة بأشكال وطرائق مدهشة.

إن عالمنا عوالم، وفي كل عالم حكايات ترتقي في بعض حالاتها إلى مقام الخرافة أو الأسطورة، لفرط ما فيها من دهشة وجلال.
 
29/07/2015

اقرأ المزيد

قصة موت معلن


خلاف على أولوية المرور بوسط العاصمة اللبنانية، بيروت، حمل رجلاً على أن يطعن رجلاً آخر بالسكين حتى الموت. الأمر بشع لشدة تفاهة السبب الذي أدى إليه، لكن هناك أوجه بشاعة أخرى، لا تقل عن بشاعة الجريمة، ذلك أنها تمت على مرأى ومسمع من المارة الذين راحوا، بلا مبالاة، يتفرجون على القاتل وهو يسدد الطعنات من مدية يحملها إلى رأس الضحية، كأنهم يشاهدون فيلماً في عتمة صالة العرض.

وأكثر من ذلك وجد من قام بتصوير الجريمة على الهواء مباشرة بالفيديو، قيل إن ذلك تمَّ من أحد الطوابق العليا في عمارة تطل على مكان الجريمة، الفيديو انتشر، كالنار في الهشيم كما يقال، حيث ظهر الجاني وهو ينهال بالضرب والركل على الضحية قبل أن يسدد له طعنات قاتلة بالسكين، فيما كانت زوجة الضحية تحاول، من دون جدوى، إبعاد الجاني عن زوجها أمام أعين المارة من دون أن يتقدم أحد لمساعدتها ونجدة الضحية.

في التعليقات على هذا قال البعض: إن جرائم كثيرة مشابهة تحدث كثيراً، من دون أن تتوفر كاميرات فيديو لتسجيلها، لذلك لا يجري تداول أمرها كما حدث مع هذه الجريمة، التي نظر إلى لا مبالاة الناس إزاءها كدليل على ما أصاب سلم القيم لدى الناس من تدهور شنيع، بحيث أصبح حتى القتل، على بشاعته، مادة للفرجة لا للاحتجاج أو الاستهجان أوالغضب.

في روايته المعروفة «قصة موت معلن» يحكي غارثيا ماركيز قصة أخوين يقومان بجريمة قتل، ضمن ما يعرف بجرائم غسل الشرف. وكان القاتلان وهما يتوجهان في الصباح الباكر لتنفيذ الجريمة يقولان لكل من يصادفانه في طريقهما من أهالي البلدة إنهما ذاهبان لقتل الشخص المستهدف، كأنهما كانا يرغبان في قرارة نفسيهما أن يحول أحد بينهما وارتكاب الجريمة، فلا يبدوان قد تقاعسا عن أداء ما تفرضه منظومة القيم المتبعة، لكنهما لم يتمكنا من ذلك لأن لا أحد منعهما.
لم يكن ماركيز يرمي فقط لإدانة الجريمة، ولكن، أساساً، إدانة التواطؤ المجتمعي معها، بالسماح بوقوعها في الوقت الذي كان ذلك ممكناً، ولم يفعل القاتل في بيروت ما فعله الرجلان في رواية ماركيز بالإنباء عن نيتهما في القتل، ولكنه، وباطمئنان شديد، اختار قتل ضحيته أمام الناس واثقاً من أن أحداً لن يثنيه، وأن متنفذاً ما، ضمن منظومة الفساد القائمة، سيحميه من العقاب.
 
28/07/2015

اقرأ المزيد

عبدعلي الخباز منارة للأجيال


إبن المنامة البار وذو القامة الشامخة والسنديانة الحمراء.. وهو من مواليد المنامة ولد في عام 1948م، درس في مدارس البحرين، ولأنه مشغول باستحصال رزقه لم تتسنى له الظروف أن يدرس في الخارج. عمل أول ما عمل في قهوة أبيه. ثم في مصنع للثلج الذي يملكه حبيب عواجي. انخرط في النضال الوطني منذ نعومة أظافره وتمسك بنظرية الماركسية اللينينية التي تنتصر إلى حقوق العمال والفلاحين والكسبة. وقارع السلطات والمستغلين بكل ما أوتي من قوة وإرادة فولادية بأدوات نضالية تعرف عليها بنفسه في خضم الصراع السياسي الاجتماعي. وتعلم الكثير من الرفاق من صفاته النضالية.

آمن الرفيق الخباز أن السياسة هي فن الممكن والإبداع في آن واحد، لهذا سطر ملاحم تسجل في خانة الأبطال. وضع من نفسه مشروع شهادة في أي لحظة.  ولكي يمسك بدفة السفينة عليه أن يتعلم كيف يمسك بها. على هذا الاساس تعلم في سنوات عمره القصيره أن يمسك بدفة الثبات على المبادئ، وهي سمة اساسية من سمات المناضلين الأشداء. ولكي يحافظ على موقعه أيضا عليه أن يتسلح بالمعرفة وبالقدرة على الإقناع. وهذا الدور هو من أصعب الأدوار التي يحتاج لها المناضل الجسور لأنه يعتمد على الجرأة والشجاعة في الطرح وإبداء الرأي وألا يخاف لومة لائم. ومن أهم الاساليب النضالية هي القدرة على التفكيك والربط. يحتاج هذا الدور إلى إلمام بمعرفة علم المجتمع كما يسميه ماركس والإلمام بمفاصل التاريخ.

ولكي نعطي رفيقنا أبا أنس حقه علينا أن نذكر أن الثقافة والعلم والحفظ هي من المواهب التي حظي بها. وهي مواهب نادرة لا يمتلكها الكثيرون.  له علاقة حميمة بالكتاب. لهذا فهو يمتلك مكتبه تفوق في عدد كتبها أي واحد فينا ومنظمة على أحسن ما يرام. وهي أعز ما يمتلك في الحياة. إذا دخلت منزله ترى الكتب تستطع من بعيد. عدا عن ذلك فقد انكب على الكتب ينهل منها ما يشاء.

ونتيجة لنشاطه المفرط تعرض لجميع صنوف العذاب من اعتقال وتسفير وحرمان ومطاردات وسجون انفرادية وتحقيقات ومداهمات، لكنه أبدع في المواجهة. كان عبد علي هادئ الطباع إذا نظرت إليه لا تستطيع أن تبصم بالقول بأنه رجل مثقف ومناضل في آن واحد لشدة بساطته. حتى تستطيع أن تصف بساطته كأنه تراب الأرض لكنك إذا حدقت في عينيه وجلست تخاطبه تتفاجأ من منطقه وتتمنى أن لو تكون في مستواه.  وتبصم على أنه رجل مثقف من الطراز الأول ومع كل هذه المواصفات فرفيقنا بحسن الطباع والسجايا الجميلة والعفية التي تغلبه في بعض الاحيان. رغم هذه الصفات فهو رجل لا يحب الظهور. تعود على العمل في الخفاء والسرية. لكنك إذا سألته عن أي واقعة سياسية يسرد لك بسخاء وكأنه يسرد عليك محاضرة شيقة.
 
 انغمس عبد علي في حزب الكادحين إلى أخمص قدميه. عايش لذة النضال كما عايش مرها. لدرجة أنه صار سورا لهذا الحزب. أما إذا جالسته فسوف تراه واضحا كالحقيقة. لهذا فهو في حرب شعواء على الانتهازية والانتهازيين. ويكره التباهي بعمله.

امتاز عبد علي بالصبر وكتمان الاسرار. لكن مع ذلك لم يسلم من المطاردات وهذا الأمر طبيعي لشخص يهوى النضال والتغيير وكسب الوقت لضمان حقوق الطبقة العاملة وتسجيل مواقف مشرفة لهم. تكررت مرات اعتقاله ونفيه لعدة مرات من عام 1968م إلى أعوام 1976م، 1986م. أي ما مجموعه حوالي 5 سنوات سجن. بالإضافة إلى محكوميته التي بلغت سنة ونصف في المنفى.

يقول عنه أصدقاؤه بأنه صلب كالفولاذ لا ينحني أمام الجلاد. ولا يستطيع المحقق معه أن ينتزع منه أي اعتراف. وهذا راجع إلى أن قضية الكادحين والعمال تنتصب أمام عينيه في كل دقيقة. وتمنحه قوة في الصمود. بالإضافة إلى أنه يقبل بالكفاف وتنعدم لديه الطموحات والتطلعات الشخصية التي هي أكثر الأسباب لانحناء الإنسان للسلطة. بمعنى أن المناضل إذا توصل إلى نكران الذات يصل إلى هذه المرتبة العالية.

كل ما في الأمر أن بساطة الحياة والقناعة هما ما يؤهلان المناضل لأي مواجهة تفاجأه. فمستوى التحمل والصمود لديه مرتفعه، فالتجرد من الأنا ونكران الذات وحب الإيثار هي عوامل قوية لحماية المناضل من الابتزاز والرشوة.

في المراحل الأخيرة من حياته أصيب بمرض السرطان. لكن أبو أنس تحمل هذا المرض بسعة صدر أكثر من أربع سنوات إلى أن وافاه الأجل في شهر جون سنة 2010. وبوفاته انطوت صفحة من صفحات نضال جبهة التحرير الوطني البحرانية حيث أصبح رمزا خالدا ومنارة للأجيال.

سيبقى عبدعلي نجما ساطعا في سماء البحرين وتاريخ التقدميين.
 


الكاتب: نجاة الموسوي
من نشرة التقدمي
 العدد 92
يونيو 2015

اقرأ المزيد

حكايات من ذاكرة الزمن الجميل




الحلقة الاولى

 
عندما يستعيد المرء بعض من شريط ذكرياته مع بعض رفاقه يتذكر الحلو منها والمر كلٍ حسب وفائه وذوقه وكذلك ما يتحلى به الرفاق من دماثة خلق وأدب جم خصوصاً في الأيام العصيبة في (أقبية السجون والمعتقلات).
 
في العام 1974 أبان المجلس الوطني السابق كنت نزيلاً في جزيرة جدا في زنزانة رقم 4 وكان معي بعض الرفاق: عباس عواجي، يوسف عجاجي، والمرحوم أحمد الذوادي، الذين  جمعتني معهم الصدفة والسَجان، أي كنت لا أعرفهم  تماماً  آنذاك مثل عباس عواجي الذي تعرفت عليه عن بعد أيام تأسيس النقابات عام 1974، فهؤلاء المناضلون كانوا سبقوني في ساحات النزال الكفاحي ولكن كما قلت شاءت الظروف وحصل لي شرف التعرف عليهم عن قرب في المعتقل بالذات، ومن حسنات مدير السجن السابق مستر سميث التي يتصف بها أن جعلهم معي في زنزانة واحدة ضمن سياج معتقل السياسيين فكان ذلك السجن بمثابة خلود إلى الراحة والهدوء بعد زنازن القسم الخاص وكانت محطة كبيرة أثرت على حياتي وأعطتني دافعاً قوياً للإمام بعد ما عانيته من سجن إنفرادي في سجن القسم الخاص بالقلعة، فقد كنت في أحدى تلك الزنازن حيث كان بجواري المحامي عبد الوهاب أمين الذي تعرفت عليه أيضاً هناك.
 
كنا في سجن “جدا” مع الرفاق بعيدين عن جو الكآبة والإزعاج وما يحدثه الشرطة من فتح وإغلاق لقفول أبواب الزنازن ناهيك عن روتين دوام الشرطة الرسمي. فكنا نتسامر ونقرأ ونغني ونتبادل النكات وخصوصاً عندما يأتينا المرحوم الفنان مجيد مرهون من خلف السياج عند حلول الظلام ويهدأ الجميع.
 
مجيد مرهون عازف الساكسفون، يأتينا من خلف ذلك السياج ويتحادث معنا وفي بعض الأحيان يعزف بعض المقطوعات السريعة، كنا نُمضي الوقت في القراءة والمناقشة ومتابعة أخبار الوطن وننتظر حلول موعد المقابلات مع الأهل والأقارب في لهفة وشغف كبيرين وكل واحد منا يقابل أهله ويحصل على بعض الحاجيات التي قدمها لهم في الرسالة من خلال مكتب السجن، وفي أكثر الحالات تمنع إدارة السجن دخول بعض الحاجيات والمعلبات والقناني وفي بعض الأحيان تسمح أو حسب مزاج إدارة السجن.
 
ذات يوم من شهر إبريل 1974، قابل عباس عواجي أسرته وسمح له بدخول بعض الحاجيات ومنها (قنينة عصير بيدان) فلما عاد إلى الزنزانة كانت على وجهه ابتسامة عريضة فسأله الأصدقاء عن المقابلة وعن الإجراءات فيها وعن الأغراض التي سمح له بها فقال: لقد سمح لي بقنينة عصير بيدان أو كما يسميها عباس (سويق اللوز)  فالكل طار من الفرح واستبشر خيراً وغنى بهذه المناسبة السعيدة، البعض أمر بالاحتفاظ  بها ليوم الاحتفال بذكرى تأسيس الجبهة وآخر قال: ذكرى تأسيس الجبهة بعيد وسوف تنتهي صلاحيتها ولكن لنحتفل بها يوم عيد الفطر أما عباس فقال لنجربها الآن وليس غداً، حاول عباس أن يفك غطائها المحكم تماماً فلم يفلح في ذلك فقلت له أعطني سوف أحاول فتحها فقال مازحاً “اتحمل تسقط من يديك وتنكسر فهي صيد ثمين والشيص في الغبة حلو”، وكان متردداً جداً لا يريدني حتى ألمسها وبعد ذلك رضخ للأمر الواقع وسلمني إياها ولكن بيد مرتعشة فحاولت بدوري الإمساك بها وفتحها وفي نفس الوقت أقرأ الملصق عليها وفي هذه الأثناء وبسبب السهو وعدم التركيز سقطت القنينة أرضاً على سطح الغرفة وانشطرت وتناثر زجاجها على ارضية الغرفة فصرخ عباس من قمة رأسه “ما قلت لك ما قلت لك شوف ما عندنا غيرها ومن أين نأتي بغيرها ونحن هنا في جدا؟”، فحاول عباس لملمة العصير المنسكب على الأرض لكن دون جدوى أما أنا فأحسست بالذنب كما لو أنني عملت جريمة نكراء أما هو فلم ينسى هذه الحادثة وأخذ يكررها عليّ “قول لأهلك أن يرسلوا لك قنينة غيرها”، وجعل من هذه مادة يكررها على كل المعتقلين السابقين واللاحقين في جزيرة جدا ومن يومها ابتعدت عن فتح القناني الصعبة لتفادى الحرج والشعور بعدم الارتياح.
 
 
في العام 1975 وبينما كنا نعد التحضيرات للاحتفال بالأول من مايو عيد العمال وبشكل سري جداً شنت السلطات حملة اعتقالات واسعة شملت صفوف جبهة التحرير الوطني البحرانية وكنت أنا أحد الذين شملهم الاعتقال كوني أنا ونصر معيوف من ممثلي العمال والموظفين في وزارة الصحة التي قادت أول إضراب من نوعه في القطاع العام سنة 1972.
 
كان الجو حاراً وكان الاعتقال وقت الظهيرة الساعة الواحدة والنصف فلما ألقى علي القبض من قبل رجال المخابرات أودعت أحدى زنازن القسم الخاص بالقلعة ففتح الشرطي باب الزنزانة بسرعة فائقة ودفعني بقوة إلى الداخل وأقفل الباب وإذا بشخص ممدد وسط الزنزانة بملابس داخلية فقط واستعمل ملابسه الخارجية كوسادة فلما غادر الشرطي الزنزانة التفت إلىَ ذلك الشخص وسألني من أنت؟ فأوجست خيفةً وترددت في الجواب وشككت في الأمر وقلت في نفسي أتكون الزنزانة مأهولة برجل أمن أو ملغمة؟ ويمكن ان يأكل بعقلي حلاوة حسب المثل المصري! وإذا بذلك الشخص يكشف عن اسمه ويبتسم ويطمئنني بعد أن عرف اسمي ويقول أنا فلان حياك استرح، كلنا سوف نخرج في يوم ما ولن يبقى هنا إلا السجان وكأنه نزيل دائم يستضيفني في منزله.
 
بهذه المناسبة تعرفت عليه عن قرب لأول مرة وحيث كنت أتابع أخبار الحركة العمالية في البحرين وفي أيام الإعداد للإضراب العام الذي بدأناه آنذاك كان اسمه يتردد على كل لسان كنت اسمع عن شجاعته وإقدامه وإخلاصه للعمل الوطني وبفضل وجودي معه في السجن أكثر من مرة فكانت شخصيته واضحة أمامي ودائماً مستعد للبذل والتضحية والعطاء. 
 
توثقت العلاقة بيني وبينه أكثر في الثمانينات والتسعينات وخصوصاً أيام حضور المجالس التي اقترحناها لتمرير مناشير وبيانات جبهة التحرير والحركة الوطنية المطالبة بإعادة الحياة النيابية وإلغاء قانون تدابير أمن الدولة المقبور فكان دائماً شعلة وحماسة يلهب الجلسة ولا يفوته أي خبر أو معلومة ولا يتردد في أي عمل يسند إليه للدفاع عن العاملين والمطالبة بحقوق المستضعفين. 
 
وفي العام 1992 ومن داخل مجالسنا المعتادة مجلس علي ربيعة ومجلس محمد جابر ومجلس سعيد العسبول ومجلس أحمد منصور ومجلس عبدالله العباسي ومجلس حسن بديوي عملنا على تدشين العريضة النخبوية ثم العريضة الشعبية فكان له دور بارز لم يتراجع ولم يَخف على قوت يومه، وكان حينها يعمل في بتلكو فعمل بجد وحماس في جمع التواقيع من العمال وعموم المواطنين رغم حالته الصحية التي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، نعم ذاك هو العامل البروليتاري الكادح جليل عمران الحوري، حقيقةً سيبقى جليلاً مخلداً في ذاكرة وقلوب رفاقه ومحبيه  وأصدقائه لأنه إنسان وفي وصادق مع مبادئه وناضل حتى الرمق الأخير ومات واقفاً، وقد صدق فيه قول الشاعر الذي يقول: أو موتته بين الصفوف أحبها، هي دين معشري الذين تقدموا.
 
 
يتبــــــع
 
 
 
الكاتب: أحمد منصور – من نشرة التقدمي
 العدد 92
يونيو 2015
 

اقرأ المزيد

هل سنشهد نهاية الرأسمالية؟ .. أحمد الزبيدي – قراءة فـي كتاب (ما بعد الرأسمالية)


 
تزداد أزمات النظام الرأسمالي اتساعا وحدة،والازمة الاخيرة في اليونان خير دليل على ذلك،ومع تنامي واتساع التأثير الهائل لثورة المعلومات على اقتصادات العالم،يتغير نمط إنتاج السلع والخدمات ،ويحل مبدأ (الوفرة ) محل مبدأ (الندرة) في إنتاج السلع والخدمات وحيث ان اقتصاد السوق يقوم أساساً على مبدأ (الندرة) فلم يعد ميكانيزم اقتصاد السوق بقادر على استيعاب التطورات المتلاحقة في النظام الاقتصادي العالمي،هذه الافكار وغيرها هي التي يتناولها كتاب (ما بعد الرأسمالية) من تأليف (بول مايسون)المحرر الاقتصادي لصحيفة الغارديان ،وهذه ترجمة لجزء من مقالة مطولة كتبها المؤلف في ذات الصحيفة يتناول فيها اهم الافكار الواردة في الكتاب الذي يشير فيه الى ان العالم بدأ يدخل عصر ما بعد الرأسمالية وانه سيشهد المزيد من التغييرات في تكنولوجيا المعلومات:
 
خلال التظاهرات الاخيرة في اليونان ارتفعت الأعلام الحمراء وصدحت الاناشيد الثورية للائتلاف اليساري الحاكم ، زد على ذلك التوقعات بأن البنوك سوف يتم تأميمها، كل ذلك جعل حلم القرن العشرين ينبعث من جديد: قيام الدولة بالقضاء على نظام السوق. هذا الحلم الذي ظل لفترة طويلة من القرن العشرين هو ما يتصوره اليسار العالمي للمرحلة الأولى من اقتصاد ما بعد الرأسمالية. حيث ستقوم الطبقة العاملة بهذه المهمة، سواءعن طريق صناديق الاقتراع أو من خلال الاحتجاجات. وستجبر الدولة على القيام بذلك. وإن الفرصة ستسنح لذلك بعد حدوث عدد من الانهيارات الاقتصادية المتعاقبة.

ولكن الذي حدث بدلا من ذلك على مدى السنوات الـ 25 الماضية هو انهيار مشروع اليسار. دمرنظام السوق نظام التخطيط؛ وحلت الروح الفردية محل الروح الجماعية والتضامن بين الافراد. ورغم ان القوى العاملة توسعت بشكل كبير في العالم لتبدو مشابهة لـ”بروليتاريا”الماضي، ولكن هذه البروليتاريا لا تفكر أو تتصرف كما كانت تفعل من قبل.

إذا كنت ،تكره الرأسمالية، فسوف تشعر بالصدمة. ولكن هناك أفق جديد فتحته التكنولوجيا ، وعلى بقايا اليسار القديم – وكل القوى الأخرى المتأثرة به – إما ان تستوعبه أو ان مصيرها سيكون الموت. فالرأسمالية، كما اظهرت التجربة ، لن يتم تحطيمها بواسطة الاساليب القسرية الفوقية من قبل الحكومات ومن خارج نظامها الاقتصادي.بل سيتم إلغاؤها من خلال نشوء ديناميكية داخلية، تكون في البداية، غير واضحة تماما داخل النظام القديم، ولكنها سوف تخترق النظام الرأسمالي، وتعيد تشكيل النظام الاقتصادي من خلال معايير وسلوكيات جديدة.وأنا أسمي هذا بمرحلة ما بعد الرأسمالية.

وكما كان الحال عند نهاية مرحلة الإقطاع قبل 500 سنة، سيتم تسريع استبدال الرأسمالية بمرحلة ما بعد الرأسمالية عن طريق الصدمات الخارجية و يظهر أفراد ذوو خصائص جديدة يشكلون بنية النظام الاقتصادي لمرحلة ما بعد الرأسمالية . وهذا ما يحدث الآن.

إن ظهور مرحلة ما بعد الرأسمالية ممكن الحدوث بسبب ثلاثة تغير ات رئيسية شهدتها تكنولوجيا المعلومات في السنوات ال 25 الماضية.

أولا، لقد انخفضت الحاجة للعمل، ولم تعد الحدود واضحة بين وقت العمل ووقت الفراغ وخففت العلاقة بين العمل والأجور. فالموجة القادمة من التشغيل الآلي(إحلال الآلة محل الأفراد – م)، والمتوقفة حاليا- بسبب ان البنية التحتية الاجتماعية لدينا لا يمكنها أن تتحمل عواقب تلك العملية- ستقلل بشكل كبير من كمية العمل المطلوب ، ليس فقط للعيش ولكن لتوفير حياة كريمة للجميع.

ثانيا، ان ثروة المعلومات تؤدي الى تآكل قدرة نظام السوق على تشكيل الأسعار بشكل صحيح. بسبب ان نظام السوق يقوم على الندرة في حين ان المعلومات تمتاز بوفرتها. ان آلية دفاع النظام الرأسمالي هي تشكيل احتكارات – كاحتكارات شركات التكنولوجيا العملاقة – على نطاق غير مسبوق في السنوات الـ 200 الماضية، إلا أن تلك العملية لا يمكن أن تستمر. فمن خلال بناء نماذج الأعمال وتقاسم المنافع بناء على السيطرة وخصخصة كل المعلومات المنتجة اجتماعيا، تقوم هذه الشركات ببناء نماذج لشركات هشة تتناقض مع الحاجة الأساسية للإنسانية، وهو استخدام الأفكار بحرية.

ثالثا، نحن نشهد ارتفاعا عفويا في الإنتاج التعاوني: ولم تعد السلع والخدمات والمشاريع تظهر استجابة لإملاءات السوق والتسلسل الهرمي الإداري. فالمنتج المعلوماتي الاكبر في العالم (موسوعة الويكيبيديا)الذي يتم انتاجه من قبل متطوعين ومجانا، ألغى العمل في صناعة الموسوعات وحرم صناعة الإعلان بما يقدر بنحو 3 مليارات دولار سنويا من الإيرادات. ومن دون أن يلاحظها أحد تقريبا، فان هناك في مسارب وتجاويف نظام السوق، مساحات كاملة من الحياة الاقتصادية بدأت تتحرك على إيقاع مختلف. فانتشرت العملات الموازية، والبنوك المؤقتة وازدادت التعاونيات والمساحات الزراعية المدارة ذاتيا، والتي تلاحظ بالكاد من قبل علماء الاقتصاد، وغالبا ما يكون ذلك نتيجة مباشرة لتحطيم الهياكل القديمة في أزمة ما بعد عام 2008.

نشأت على مدى السنوات العشر الاخيرة أشكال جديدة من الملكية، وأشكال جديدة من القروض وعقود قانونية جديدة: و ينشأ اسلوب جديد لإدارة الاعمال والمشاريع ، وهو ما تطلق عليه وسائل الإعلام اسم “اقتصاد التقاسم”. وتم التخلي عن العبارات الطنانة مثل “المشاعيات” و “الانتاج المماثل ” ، ولكن القليلين قد ازعجوا انفسهم و سألوا ماذا تعني هذه التطورات للرأسمالية نفسها؟

تسبب الانهيار الاقتصادي عام 2008 في القضاء على 13٪ من الإنتاج العالمي و 20٪ من التجارة العالمية.و أصبح النمو العالمي سلبيا – حيث يتم احتساب أي شيء أقل من + 3٪ من قيمته وذلك بسبب الركود. ونتج ، عن ذلك،حدوث موجة ركود في العالم الغربي أطول من تلك التي حدثت اعوام 1929-1933، وحتى الآن، وسط انتعاش باهت، فان الاقتصاديين التقليديين يشعرون بالرعب إزاء احتمال ركود طويل الأمد. والهزات الارتدادية له في أوروبا سوف تمزق القارة إربا.

وكانت الحلول هي التقشف بالإضافة إلى زيادة المعروض النقدي. ولكنها لم تنجح. ففي البلدان الأكثر تضررا، تم تدمير نظام التقاعد، ويجري رفع سن التقاعد إلى 70 عاما، وتتم خصخصة التعليم بحيث يواجه الخريجون الآن الديون المرتفعة طول حياتهم. ويجري تفكيك الخدمات ومشاريع البنية التحتية وضعت على لائحة الانتظار. حتى الآن العديد من الناس يخفقون في فهم المعنى الحقيقي لكلمة “التقشف”. التقشف ليس ثماني سنوات من خفض الانفاق، كما هو الحال في المملكة المتحدة، أو حتى كارثة اجتماعية كالتي لحقت باليونان. بل هو يعني ان تنخفض معدلات الأجور، الأجور الاجتماعية ومستويات المعيشة في الغرب باستمرار حتى تصبح مساوية لتلك التي تحصل عليها الطبقة الوسطى في الصين والهند.

وفي الوقت نفسه وفي غياب أي نموذج بديل، يجري خلق الظروف لأزمة أخرى. فقد انخفضت الأجور الحقيقية أو بقيت ثابتة في اليابان، وجنوب منطقة اليورو والولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ويتم استعادة نظام الظل المصرفي(قيام مؤسسات وشركات غير مصرفية بالاعمال المصرفية-م)، وهوالآن أكبر مما كان عليه في عام 2008. والقوانين الجديدة التي تطالب البنوك بان يكون لديها المزيد من الاحتياطيات يتم التغاضي عنها أو يتم تأجيلها.

والنتيجة هي أننا نشهد مع كل تقدم علمي جديد، توليفة من تشغيل آلي زائد اجور اعلى زائد استهلاك أعلى قيمة. اليوم ليس هناك ضغوط من القوى العاملة، والتكنولوجيا في وسط هذه الموجة من الابتكارات لا تطلب خلق انفاقا استهلاكيا مرتفعا، أو إعادة توظيف القوى العاملة القديمة في وظائف جديدة. ثورة المعلومات المتدفقة هي آلة لطحن اسعار المواد الى أقل ما يمكن وخفض وقت العمل اللازم لدعم الحياة والعيش على كوكب الأرض.
ونتيجة لذلك، أصبحت أجزاء كبيرة من طبقة رجال الأعمال الجدد تعارض التطور العلمي . وبدلا من إنشاء مختبرات تعقب الخريطة الجينية للانسان، فانها تنشئ المقاهي وصالونات الحلاقة النسائية.

إن التقدم التكنولوجي الهائل الذي شهده مطلع القرن 21 لا يتألف فقط من سلع او تقنيات جديدة ، ولكن من جعل السلع المصنوعة قديما تصبح سلعا بمواصفات ذكية. واصبح المحتوى المعرفي للمنتجات أكثر قيمة من الأشياء المادية التي تستخدم في إنتاجها. ويتم الحصول على المنفعة من القيمة بحد ذاتها ، وليست عملية تبادلها أو اكتنازها فقط. في تسعينات القرن الماضي اصبح الاقتصاديون وخبراء التكنولوجيا يحملون نفس الفكرة في آن واحد: إن هذا الدور الجديد للمعلومات سيؤدي الى خلق نوع جديد، النوع “الثالث” من الرأسمالية – نوع مختلف عن الرأسمالية الصناعية والرأسمالية التجارية في القرن 17 والقرن 18. ولكنهم حاولوا بشق الانفس وصف دينامية عمل الرأسمالية الجديدة “التجريبية”. وبسبب هذا. فان ديناميات عملها بعيدة جدا عن ديناميات عمل الرأسمالية.

المعلومات تتوفر بغزارة. سلع المعلومات قابلة للتكرار بحرية. وحالما يتم ابتكار شيء، فإنه يمكن نسخه / وتكراره الى ما لا نهاية من المرات.انتاج مقطوعة موسيقية أو قاعدة البيانات العملاقة التي تستخدم لبناء طائرة لها تكلفة انتاج؛ ولكن تكلفة اعادة استخدامها تكاد تقترب من الصفر. لذلك، فإذا استمرت آلية الأسعار العادية في النظام الرأسمالي هي السائدة فمع مرور الوقت، سوف تنخفض الاسعار نحو الصفر، أيضا.

على مدى السنوات الـ 25 الماضية واجه الاقتصاديون هذه المشكلة: جميع الاقتصادات السائدة نشأت من حالة الندرة، ولكن القوة الأكثر ديناميكية في عالمنا المعاصر هي حالة الوفرة، وكما لخصها العبقري ستيوارت براند (كاتب امريكي – م) “،الحاجة الى التحرر من الحاجة “.
 
 
ترجمة وتقديم:أحمد الزبيدي 
صحيفة المدى الألكترونية
26/07/2015

اقرأ المزيد