المنشور

مسافة أمان

(مسافة الأمان هي المسافة الكافية الواجب تركها بين عربتك والعربة التي تسير أمامك، حتى تتمكن من تفادي الاصطدام بها عند التخفيف الفجائي للسرعة، أو الوقوف المفاجئ لهذه الأخيرة)
هل يجب أن نضع هذه المسافة بيننا وبين الناس؟
هل القرب من الناس بدرجة كبيرة يعرضنا للاصطدام بهم؟
وماهي المسافة الكافية لذلك؟
وهل لاصطدامنا بهم نتائج كارثية قد تؤدي لفقد الحياة كما في اصطدام العربات؟
التوقف المفاجئ في علاقتنا بالآخرين، والذي يؤدي لاصطدامنا معهم، قد يكون اصطداما خفيفا لا يتعدى القشرة الخارجية، فيحدث من جراء ذلك بعض الأضرار الخفيفة والقابلة للإصلاح،بحيث نستطيع أن نخفي العيوب التي حدثت بكلام بسيط وطيب.
وقد يكسرهذا الاصطدام القشرة الخارجية ويصل لأكثر من ذلك، فتبرز لنا الصورة الحقيقية للشخص ببشاعتها، فتنكسر نفوسنا لأننا نرى حينها مالا نريد أن نراه، ونسمع ما لا نرغب في سماعه، لذا علينا أن نستخدم بعض قوانين المرور، فعلينا أن نجعل بيننا وبين الناس مسافة أمان تقينا الاصطدام بهم، وما يترتب على هذا الاصطدام من ألم نفسي قد نعجز عن علاجه، علينا أن نكبح جماح تعلقنا بهم، وبوحنا بما يوجعنا ويؤلمنا وما يدور في قلوبنا وعقولنا، كي لا يتناثر كل ذلك وقت الاصطدام، يجب علينا أن نضع إشارة حمراء تكبح جماح تهورنا في الثقة بهم، ووضع سقف لتوقعاتنا منهم وعلينا أن نلتزم بحزام الأمان، كي لانُقْذف من حقل سعادتنا إلى جحيم كلامهم المشتعل بزيت الغضب، علينا أن نستخدم جل مهاراتنا في فن الحوار، كي نتجنب هذه الاصطدامات المهلكة علينا أن نختبر الصديق في ثلاث كما أكد الإمام الصادق وذلك في وقت غضبه، وعند الدرهم والدينار، وعند السفر معه، حينها فقط نستطيع أن نسميه صديق بعد أن يمر بفلتر الصداقة والإنسانية.

لا يمكننا أن نقيس المسافة بيننا وبين الآخرين، بعملية حسابية كما يفعل المرور بالنسبة للعربات، كي نتحاشى ردة الفعل الناتجة عن اختلافنا معهم بفكر أو رأي، في زمن يُصر فيه الجميع بتعصب مكشوف على أن نتبعهم في أفكارهم وتوجهاتهم، وإلا فعلينا أن نسمع منهم حين يحلون عقال لسانهم، ما يؤدي لنتائج تمس الروح فتصرعها، لذا استعد للسير في درب الحياة بمسافة أمان تقيك عثرات ضربة الاصطدام الموجعة.

اقرأ المزيد

ما على الضيف إلا الرحيل

هي رواية معادة وقد لا تكون ذات أهمية، تلك الخاصة بالرحيل والتي كتب عنها الكثيرون، إذ أننا أصبحنا معتادين على الرحيل، ومجبورين عليه في لحظة من لحظات حياتنا. قد نرحل عن الأمكنة، إن كان منزلاً أو وطناً، وقد نرحل عن من نحب، إن كان أباً، أو أماً، أو حبيباً، أو حتى صديق. ليس لنا قرار في ذلك أحياناً. يحدثنا كتاب ترميم الذاكرة للدكتور حسن مدن عن هذا الألم: “ما أكثر ما تضيق الأوطان بأهلها! فتقذف بهم الحياة الى مصائر تصنعهم أكثر مما يصنعونها”.

رحت أسأل أناساً كثر أجبروا على الرحيل عن أوطانهم و منازلهم: ما هو شعور الغربة؟ أجابتني إحداهن بأن بلد الغربة يصبح بلد الخروج من الوطن. أن تكون بعيداً، هو أن تكون غير قادر على الاستمتاع بالوطن. أجابني شخص آخر بأنه أشبه بالانفصال عن الحبيبة، مبرراً بأنه ألم داخلي قبل كل شيء. قد تحبه وقد تظن أنه سيلازمك طوال حياتك، لكنه سرعان ما ينفصل عنك، مجبراً إياك على الرحيل.

يأتي هذا الانفصال كالسوط القاذف على القلب فيثقل النفس، ثقل كاذي عناه محمود درويش “قلْبي ثقيلْ فاتْرُكيهِ هُنا حوْل بيْتك يعوى وَيَبْكي الزَّمان الْجميلْ ليْس لي وَطنٌ غَيْرُهُ، في الرَّحيل أُحبُّك أُكْثَرْ”. و في الرحيل، نحب ما تركناه أكثر وأكثر ليصبح هوساً، و تصبح غربة الروح أصعب غربة.

قد نتعود على المكان مع الوقت، فتصبح العودة أصعب، وهذا شعور آخر. وقد نعود ولا نستقر أبداً لتعودنا على الرحيل المستمر.

لكن ماذا عن الغربة الاختيارية ؟ تلك التي لا تتضمن قرارً مصيرياً، ويستطيع المرء فيها العودة لموطنه بسهولة. صورها أحدهم بمثابة العلاقة بين امرأتين، اذ يعتبر الوطن زوجته وبلد الغربة عشيقته.

قد يحار المرء أين يعيش لكثرة الخيارات. الأهم في ذلك كله، هو وجود سبب نعيش من أجله في البلد الذي نحن فيه. حين يتوقف المعنى يذهب كل شيء، ولا يعود للوجود سبباً. لا يمكن للمال أن يكون سبباً للوجود في مكان معين، لأن لا معنى له. على العكس من ذلك، قد يكون الحب سبباً، حب الناس الموجودين في المكان، حب المهمة الموكلة إلينا في هذا المكان، وقدرتنا على صنع شيء فيه.

كل الذي علينا هو انشاء جسر بيننا وبين المكان الذي نعيش فيه، جسر نستطيع من خلاله السفر الى وجهات أخرى، وإنجاز المشاريع التي نصبو اليها. ليست هنالك وجهة نهائية يستلقي فيها المرء الى الأبد فنحن في سفر مستمر، ومثلما قال الامام علي عليه السلام: “كن في الحياة كعابر سبيل، واترك وراءك كل أثر جميل، فما نحن في الدنيا الا ضيوف، وما على الضيف إلا الرحيل”

اقرأ المزيد

حدث في 65

قصة قصيرة: عبدالحميد القائد

في بداية المسافة
وارتعاشة الطرق تحت رجليه وكأنه ينطلق لأول مرةٍ
في مهمة كان يعتبرها بطولية
غير آبهًا بوحوش الطريق والفضاء والأماكن الظامئة للحرية مثل قلبه.
في المسافة شبه القصيرة التي اصبحت بلا نهاية، ربما بسبب التوتر والقلق الجاثم على الصدر مثل ليل كابوسي.
كأنه طريق اللايقين، وكأن جانبي الطريق يحملان موتًا فجائيًا. بدأ عبدالله يلهث والعرق يتصبب منه والخوف يسكن كل مساماته، متجهًا الى دكان والده في سوق المنامة، الى مرفأ الأمان بعيدًا عن الخوذات والضجيج او هكذا كان يعتقد.

لم يكن يعلم كيف يبدو شكله ولا حالة ملابسه بعد الواقعة الخطيرة التي مرّ بها. لذلك قبل ان يمضي الى دكان والده عرج على المقهى الشعبي القريب “مقهى يوسف” ليزيل التراب والغبار العالق بقميصه. حين نظر في المرآة شعر بالذهول عندما اكتشف وجود آثار دم على كفيه وساعديه وعلى قميصه الأزرق السماوي الذي كان ممزقًا في عدة اماكن فتساءل كيف سار في الطريق بهذا الشكل . تخلص من آثار الدم بسرعة وغسل وجهه وقميصه ويديه ومشّط شعره وتصرف كأن شيئًا لم يكن. جلس في دكان والده الذي كان ينتظره ليخرج ليقضي حاجاته.

تنفّس الصعداء وهو جالس في الدكان، اصبح الآن على الأقل بعيدًا عن موقع الحدث، المكان الذي تراءى له أنه ملىء بالفخاخ. عاد بريئًا مما حدث او هكذا اقنع نفسه، غير مصدّقًا كيف استطاع ان يفلت من قوات مكافحة الشغب التي تحيط بمدرسته الثانوية بعد أن قفز من السور قفزة غريبة وخطيرة لم يكن بوسعه ان يفعلها في الظروف العادية ولكن لحظات الخطر تجعل المرء يفعل المعجزات..

كان بعض الطلبة قد خططوا للهجوم على المدرسة وتخريب امتحانات الأول ثانوي نظرًا لوجود عدد كبير من الطلبة خلف الشمس وبسبب إضراب الكثير من الطلبة عن تقديم الإمتحانات احتجاجًا على ما حدث وكل ما حدث في إنتفاضة مارس، لكنهم عندما قفزوا الى داخل المدرسة، ودخلوا الصفوف ليخلقوا فوضى عارمة حسب خطتهم، لم يستجب الطلبة الممتحنون واصيبوا بإحباط كبير. اضطروا الى المغادرة بسرعة لكن عددًا من المدرسين بدأوا بملاحقتهم للإمساك بهم، ولم يكن امامه سوى أن يتسلق سور الغرفة المجاورة للمقصف وكانت بدون سقف وكانوا يستخدمونها كمخزن يرمون فيه ادراج وكراسي الطلبة المكسورة، نظر الى الأسفل ولم يجد اية مسافة خالية. قفز على تلك الأدراج غير آبهاً بالمسامير الناتئة وقطع الأخشاب الحادة. انها حلاة الروح! تسلق السور الثاني المؤدي الى الخارج. عندما قفز الى الخارج فوجىء بجيب شرطة قادمًا فإختبأ خلف شجرة كبيرة خلف السور، ولحسن حظه لم يروه.
جلس في الدكان ساهمًا او ربما نادمًا على تصرفه الصبياني الذي لم يكن له معنى منطقي حين يفكر بعقلية هذه الأيام ولكن لأيام الصبا معطياتها ودوافعها وأمزجتها. وبينما كان غارقًا في التفكير، شاهد احد الطلبة وكان يكبره سنًا اسمه “نورس ” الذي توجُه اليه حيث يجلس:

-انت جالس هنا والمدرسة الثانوية مقلوبة رأسًا على عقب.
– ماذا حدث؟
-الطلبة افسدوا الإمتحان وهم يسيطرون على المدرسة الآن.
-لا علم لي يا نورس ولا شان لي بذلك.

في الحقيقة شعر عبدالله بإرتياح كبير وتنفس الصعداء عندما ابلغه هذا الطالب المشبوه المشكوك فيه دائمًا بما حدث وتأكد ان حركتهم نجحت في تخريب الإمتحانات.

حالما مضى ذاك المشبوه، غادر عبدالله الدكان مسرعًا الى مدرسته ليرى مالم يحب أن يراه. مئات الطلبة محتشدين في الساحة مع وجود عدد منهم في الطابق العلوي بقسم الإدارة وهم يرمون ملفات الطلبة من البلكونة والطلبة المحتشدبن في الأسفل يمزقون الأوراق ويطعمون الملفات للهواء وكانت تتساقط ويدوسونها بالأقدام. شعر بعدم ارتياح بل بغصة عميقة وإحباط قوي مما يرى وتنهد بحسرة “آهٍ يا وطني! “، ومضى خارجًا من بوابة المدرسة التي كانت مفتوحة ليشاهد والدته خلف الباب تسال عنه وهي في حالة من الهلع. أمسك بيدها وصمتٌ غريب يلفه وهما في طريقهما مشيًا الى البيت!!

بعد عدة ايام بلغه نبأ فصله من المدرسة!

اقرأ المزيد

من سالييري لموتسارت.. لقد تجاوزتك..لكنه كان انتصارا حزينا للغاية*

يحدث أن تلمع شرارة الموهبة في أي وقت من حياة الإنسان؛ إن كان محظوظاً استشعرها وطورها، وإن لم يكن كذلك ستكتم، ولن تظهر إلا على شكل ومضات لا تُرى. الأسوأ أن تكون الموهبة فريدة وأصيلة، لكن صاحبها غير مكتفٍ بنفسه، ويتطلع إلى ند حقيقي، أو وهمي، ليستصغر ما بيده، حتى تعطب آلة الإبداع، أو تتوقف، لأن كل التركيز متجه لشيء آخر، غير الذي عنده! وهذه هي حكاية مستمرة مدى الحياة. فالإنسان يستسهل أن يلقي باللوم -في هذه الحالة- على “الآخر”، في حين أنه لا يتمعن في أسباب النضوب الذي يحصل لموهبته.
إن في قراءة السير التاريخية للمبدعين، الذين يستلهم من سيرهم التميز والنجاح وكثير من الكفاح والعمل، دروس إنسانية، وعبر. وتقديم السير الإبداعية يحتاج إلى ضبط كثيرمن التفاصيل المهمة، لأنها تكون مِلكاً للناس وللتاريخ. والشاعر الروسي بوشكين التقط هذه الثيمة، وكتب نصاً من فصل واحد (موتسارت وساليري)، عن العلاقة التي جمعت بين ولفجانج أماديوس موتسارت (1756-1791م)، وأنطونيو سالييري (1750-1825م)، اللذين تزاملا في القصر الملكي في فيينا، كموسيقييْن بارعيْن في العصر الكلاسيكي.
ورغم أن سماع الموسيقى الكلاسيكية قد يبدو للبعض في الوقت الحالي فعلاً شاقاً، كونها غير مقترنة بغناء يضفي معنى “مادياً” لامتزاج آلات موسيقية، إلا أن الذائقة في العصور التي سبقت وتلت العصر الكلاسيكي، مثل الباروكي والرومانسي، قد أظهرت أسماء أعلام موسيقية -على التوالي- مثل باخ وفيفالدي/ شوبان تشايكوفسكي وفاغنر/ بالإضافة إلى بيتهوفن وهايدن، بنفس فترة موتسارت وسالييري الذي تمكن الحسد منه لما شاهد تفوق زميله “المستجد” بالقصر، فتخلص منه بطريقة أو بأخرى، أفضت للموت.
تتعدد المصادر التي تؤيد أو توثق هذا الحدث، بتجميع أدلة مع أو ضد، إلا أنها كانت إشارة للكاتب المسرحي البريطاني بيتر شافر لإعادة كتابة هذا المحتوى على هيئة نص مسرحي في عام 1979م، وليقدم مرة أخرى في فيلم (AMADUES) أنتج عام 1984م، حصد ضجة أخرى غير تلك التي بدأت ببوشكن، عبر تكوين فكرة رئيسية معنية برؤية المبدع لذاته وخلقه؛ هل يعجب الفنان بصنيعته، أم يعجبه الإبهار الذي يراه في عيون الآخرين؟ هل تؤثر المنافسة فيه، أم أنه منافس نفسه؟؟
لا تتوقف هذه الأسئلة عن طرح نفسها في كل الأجواء؛ المهنية منها تحديداً. لكن تظل مؤطرة في حدودها النظرية، تماماً كما يتحدث معظم الناس بمثالية في كل الأمور، حتى وقت تعرضهم لها! يحدث هذا الاختبار الحقيقي للجميع، والنفس، لو لم يتم تشذيبها ستتصرف بـ”سالييرية” غالباً. فالإيثار، وتقديم الآخر الأجدر والأكفأ عن رضا وقناعة، فعل ليس بالهين على الإطلاق، خاصة في مجال الإبداع الذي لا يحده سقف ولا معيار.
ومن المنطقي أن يقدم النص المسرحي سرداً تاريخياً لحياة موتسارت، باعتباره الأكثر شهرة ورواجاً في سماع موسيقاه. لكن الحاصل أن شافر اختار أن يقدم ثيمة رئيسية في شعور ساليري تجاه موتسارت، وبناء عليه تفهم تركيب الشخصيتيْن الرئيسيتيْن: موتسارت حضر بسمعته التي عرفت أنه عبقري منذ صغره، وقدم أول مؤلف موسيقي في الخامسة من عمره، لوالده الذي كان موسيقياً أيضاً، واهتم بتعليم ابنه الموسيقى، رغم سوء الظروف الاقتصادية لديهم، وشخصية أماديوس -محبوب الله باللغة اللاتينية- برزت في المسرحية وفي الفيلم بأنها الشخصية المرحة/ العابثة/ البسيطة، والعبقرية في مجالها، المأخوذة طول الوقت بسحر الموسيقى، والحياة، والحب، والحياة الاجتماعية.
وبينما يبدو أن المسرحية/ الفيلم يسلط الضوء على حياته، يتم استخدام موتسارت من أجل إبراز شخصية سالييري، الموسيقار المعتمد في البلاط، ذي الصيت المحترم جداً، والرصين/ الموهوب/ المتدين والحاسد أيضاً! وقد يبدو آخر وصفين له متناقضين، حيث تدعو الأديان في العموم إلى تجنب الخطايا، وقد صنف الحسد في الدين المسيحي على أنه أحد الخطايا “السبع المميتة”، والمقرونة باللعنة الأبدية، ما لم يندم صاحب الخطيئة، ليأتي سالييري ضمن الموسيقيين الذين يذكرهم التاريخ، ليس بالمؤلفات الموسيقية التي خلفوها، بقدر العداوة المضمرة لموتسارت!
ويشير بيتر شافر -منذ البداية- إلى سالييري، الذي ينتقل إلى مستشفى الأمراض العقلية لمحاولته الانتحار، بعد ثقل همه وعظم مصيبته في كل ما فعله بموتسارت، وبعد سنوات طويلة من وفاة الأخير، ووجود سالييري على رأس عمله وموهبته أيضاً، لازالت موسيقى موتسارت تصدح وتُطلب، ولازال فنه خالداً، واسمه مذكوراً، ولازال سالييري نفسه يسمع موسيقى غريمه في الأجواء، وليست موسيقاه. لذلك لجأ الفيلم إلى خاصية “الفلاش باك”، حتى تنفض كل الاعترافات بشكلها المجرد للقسيس الذي جاء خصيصاً لهذا الغرض. ولما كانت حكاية فاوست الشهيرة تقوم على المعاهدة مع الشيطان مقابل المعرفة الكاملة، قامت نفس هذه المعاهدة في AMADUES حين عقد سالييري اتفاقاً مع الرب، المتمثل رمزياً في التمثال الخشبي، لكي يمنحه الموهبة والتوهج في الموسيقى، وقد مُنح ذلك بالفعل، إلى الوقت الذي قابل فيه موتسارت، وأدرك أن لديه الهبة الحقيقية التي تنزل كوحي متدفق لا يتعثر، حينها فقط صغر ما في يديه، وبات كل تركيزه –حسب شافر- في القضاء على غريمه، وتقليص حجمه بأي ثمن.
ولم يصل سالييري لمنصبه في البلاط، إلا لأنه يملك الكفاءة المهنية اللازمة، أي أنه ليس بمعدوم الموهبة، أو اسماً غير معروف قدم على غير تخصصه عبر وساطة ما، لكن علاقته مع نفسه مرتبكة –أو ارتبكت لاحقاً- في ظهور موتسارت في القصر بغير إرادته، علاقته مع الرب التي اعتبرها “توكلاً”، فيما أن “السعي” هو المطلوب للاستمرار، وأخيراً علاقته مع غريمه “الوهمي”، والذي بين شافر أن موتسارت لم يميز كل الألاعيب التي مارسها سالييري عليه، لأنه ببساطة كان يمضي في حياته وشغفه دون الالتفات إلى أي منها، حتى مات مجهداً من التكليف الذي أوكله إليه سالييري –حسب شافر-، أو حسب مصادر أخرى مسموماً في شرابه/ أو حتى متأثراً بآلام الكلى التي عانى منها منذ طفولته وحتى بلغ الخامسة والثلاثين.
في الواقع، إن شافر قدّم في نصه المسرحي جانباً مظلماً من سيرة سالييري، في مقابل أن يظهر صورة محبوبة لموتسارت، الذي يبدو أنه منحاز لشخصه أو فنه، ونجح في بناء النقيضين جنباً إلى جنب، حتى أن الحوار لم يخرج عن هذا النهج. ومن المهم الإشارة إلى المشهد الذي أدرك فيه ساليري أن منافسه -الذي لا ينافسه أصلاً- يكتب نوته الموسيقية بدون تصحيح كما يفعل جل الموسيقيين في عملهم، تعابيره التي دلت على غرقه في بحر غيرته لا عودة منها! وصفه إياه بأنه يتلقى “وحياً ما” يجعله يسطر النوتة كاملة بدون تصحيح أو مراجعة، هو اعتراف ضمني مهزوم، يبين حجم الغيرة الحارقة التي نهشت من روح سالييري الكثير، وأظهرته بشكل الشر المطلق تجاه غريمه الذي يتعاطف معه المتلقي ويحب شخصية موتسارت؛ بكل عفويتها، وفجاجتها المفتقرة إلى اللباقة الاجتماعية، والبذاءة في السلوك مع العامة، دون أن يستطيع نفس المتلقي كره سالييري، الذي افتقد كثيراً من سمو الفنان، ورجع إلى كينونته كإنسان طبيعي؛ تغلبه نفسه إلى ما تدعو الأخلاق إلى تهذيبه.
وما يثير الانتباه والتنبُّه أيضاً في فكرة بيتر شافر -نصاً أو عرضاً- أنه عرَّى صفة بشرية موجودة مختبئة، ذلك أن الشبه بيننا وبين سالييري في هذا الجانب متفاوت؛ كل تصرفاته كانت من منطلق ألا يفقد مكانته، ويحافظ على توهجه، ونحن نفعل مثله بطريقة أو بأخرى؛ ننتقد أي جديد يطرأ ويفاجئنا إن حظي بقبول ما، بينما يتطلب الإيمان بالنفس مجهوداً مضاعفاً في تمييز قدراتنا، وأشواطاً كثيرة من التدريب، والمعرفة، والتسلح، حتى الوصول إلى قناعة “امتلاك الموهبة”، ستبدو واضحة وقابلة للنمو والتطور، تشاغل صاحبها في الصحو والنوم، وتملأ أوقاته حول المضي قدماً لتحقيق تقدم ما، أو ستقضي عليه، حتى لو انتصر ظاهرياً، ستهزمه جثة متورمة ماتت في يوم بائس، بجنازة لم يمشِ فيها إلا خمسة أشخاص، لكنها خلفت كنزاً إبداعيا للبشرية جمعاء.

المصادر:
1. AMADUES, A Play by patter Shaffer
2. مسرحية AMADUES ، بيتر شافر، https://www.youtube.com/watch?v=nepWR0SUrPU
3. فيلم AMADUES https://www.youtube.com/watch?v=HL_AS2PKtlw
• عبارة مقتبسة ومتخيلة من انطونيو سالييري لولفجانج أماديوس موتسارت.

كلام الصور بالترتيب:
1. Tom Hulci في دور موتسارت بفيلم Amadues
2. Murray Abraham في دور انطونيو سالييري بنفس الفيلم
3. انطونيو ساليري
4. ولفجانج أماديوس موتسارت

اقرأ المزيد

بروفة الكلام المتخيّل

التجربة تبدأ في النهاية، من كثافة الصمت، من الفزع اللإرادي وهشاشة أول الصباح، من صرير الاحتمالات وإنغلاقها بشدّة على أطراف الروح، من الدمع المفاجىء والضحك المفاجىء والصمت المفاجىء، التجربة تبدأ في النهاية من طحالب الحنين والأظافر الحادة للكلام الأخير.
التجربة تبدأ في النهاية من السيناريو الطويل للتفاصيل، من بروفة الكلام المتخيّل، من الالتباس والخوف واللامعنى، من مكتب البريد والكتب المتبادلة، التجربة تبدأ في النهاية من عطر زهرة الكرز اليابانية و(تعالي نحكي)، التجربة تبدأ في النهاية وأنت تمعن في غناء مفتعل بينما الروح بكامل نشيجها وارتجافها، وأنت تسند روحك على الكتف النيئة للحقيقة أو تتركها تحت أقدام المعنى.
الآن كل شيء بخير، كل ما يتوجب في تجربة كهذه: سحق الصلصال الآدمي المشبّع بتجارب الوهم والشِعر والتفاصيل، المشي في الأرض المترعة بتاريخ من الضحك والدموع من الخرس والكلام، من الوصل والهجر وما بينهما..كل ما يلزم الآن الصمت الطويل الذي لا يقصد سوى ذاته.
يمكنني الآن النظر لروحي أكثر، معرفة ما أحبّ وما أكره، يمكنني تجربة أمور لا تهم أحداً مثل: ثقب إضافي في أذني كي تصلح لأكثر من قرط، تدريب أصابعي على الأورغ، تربية حيوان أليف، الالتفات لكل ما يشغلني لذاته دون ظلال الآخر.

يمكنني الآن الالتفات لمفضلاتي العريقة:
عطر جينفر لوبس، (لوليتا) فيلمي الأثير عن موضوعي الأثير، عيون أحمد زكي في فيلم (الراعي والنساء)،الاكسلفون، والتاتو وأصباغ الشعر، الشاي بالهيل وأغنيات حليم، والشمس والخرزة الزرقاء، والقطط وريش الطاووس وزهرة عباد الشمس والأقراط والأسماك الملونة
والسماء في لوحة فان كوخ (ليلة النجوم)، قصائد نزار والماغوط وابن زيدون.
أعرفني جيداً..أحب من السفر الطائرة وغرف الفنادق، من السينما الصورة الموازية للحياة، من القطط محبتها للحنان، من المراهقين أرواحهم المتهورة، من المرايا احتفاظها بنسخة طبق الأصل من أي شيء بصرف النظر عن مدى قبحه أو جماله، من الموسيقى الكلام الذي يقوله الصمت، من البحر الزرقة والمحار، من السماء الامتداد والرحابة، من الشمس لعبة الضوء والظل. أحب من الأسرة الامتداد الذي قد لا يعني شيئاً وفي لحظة قد يعني كل شيء. أحب من الأسئلة احتمالات الإجابة، ومن المرض هاوية الزُهد والخفة.

أنا بخير…كانت محاولة، إنعطاف، صدفة، احتمال، وهم، دائرة، كانت كلاماً، زمن، هاوية، حنين، ضربة فرشاة..وكانت عمى. في صحتك، في صحتكم..في صحة عشاقنا.

اقرأ المزيد

درويش يُجرّد بركات من بريقه

إنّها الفرصة لتقرأ سليم بركات إن لم تقرأه سابقا، فالرجل روّج لنفسه بطريقة جعلته أكثر شهرة مما كان عليه، لكن الغرابة أن نفس الشخص جعله مشهورًا مرتين، ولا أدري على أي نوع من الشهرة حصل هذه المرة.
سليم بركات على طريقة “شاهد ما شافش حاجة” يسرد بلغة بليغة تشبه لغة عادل إمام المسرحية، علاقته بمحمود درويش، وكما لو أننا نرى ولا نرى المشهد جيدا، تتدفق لغته الرمزية فتؤذي عيوننا قبل أن نستقرّ على شيء يُفهم، فنعرف أن الرجل يُحضِّر أطباقا معينة في مطبخه، وأنّه ربما يقوم بطهي اللحم بطريقة جيدة، وأنه في بداية حياته كان كابن لدرويش، ثم تحوّل لصديق، ولعلّه تحوّل لشيء آخر في مرحلة ثالثة.
درويش نفسه في موضع ما من هذه الثرثرات التي ملأت مواقع التواصل الإجتماعي هذه الأيام يردُّ على سؤال قديم سأله إياه الكاتب الجزائري عبد العزيز غرمول: “وكيف حال الجندب الحديدي؟ (عنوان ديوان سليم) فيجيبه: آه، ذلك الطفل أصبح يكتب روايات” …
ولأني أعرف الرجل جيدًا وأعرف حدّة صدقه، فإني توقفت عندما كتبه متأملة سخرية درويش في إجابته، وأستطيع أن أضيف باحساس الأنثى أن ما حدث بين درويش وبركات ليلة أسرَّ هذا الأخير بسره العظيم، لم كن من باب الإطمئنان إلى صديق، بل من باب اختبار تلك الصداقة، إذ يحدث أن نفعل ذلك، حين تنطلق ألسنتنا ببوح استثنائي مع أناس قد نتعرّف إليهم في نفس اللحظة، دون أن نفهم أبدًا لماذا فعلنا ذلك.
في موضعٍ آخر، أقرأ أقسى ما يمكن أن يكتبه كاتب عن كاتب آخر “طبعا كل من التقى ببركات هذا يعرف بأن الرّجل مجرّد إنسان بذيء ابن شارع لا يؤتمن على سرّ أو أي شيء ذي قيمة” ويضيف “ليس سرًا بأن كان لدرويش في أي وقت من الأوقات حبيبة أو صديقة أو عشيقة، ولا بدّ أن إحداهن لم تلتزم بتناول حبوب منع الحمل، ومن ثم رفضت أن تجهض، على الأرجح حبًا منها بأن تكون عندها إبنة من محمود درويش، فلماذا إذا أبقى محمود درويش الأمر سرًا؟ على الأرجح لأنّه لم يشأ أن يخرب بيت المرأة التي أحب، أمر حدث وكثيرا ما يحدث”. هذا الكلام للكاتب الفلسطيني سمير اليوسف، وهو بقدر قسوته، بقدر تقاربه من المنطق بأعلى درجاته، خاصة أنه واضح جدا أنه نابع من معرفة شخصيتي كل من بركات ودرويش معا.
على مدى أسبوعين إذن، ونار درويش تلتهم ما تبقى من بركات، منذ اللحظة التي نشر فيها مقالته “الرياضية” الغريبة، تصاعدت مقالات من هنا وهناك، ونسفت بالسر العظيم الذي حرص صاحب اللغة المبهمة على إخفائه منذ أكثر من عشرين عام.
اشتغلت محركات غوغل عربيا للبحث عن “الكوردي الذي ليس له غير الريح”، ذاك الذي ألهم درويش قصيدة تشبه التعاويذ المباركة، فإذا به بين ليلة وضحاها يصبح اسمًا كبيرًا بتزكية لا نقاش فيها من أشهر شاعر في العالم العربي. كان سهلا أن يرفع درويش أي شاعر من وزن الريشة ويبلغ به عرش السماء السابعة، فمن بإمكانه منذ أصبح سيد المنابر كلها أن يخالفه رأيه؟
أمّا قصيدته تلك فقد كانت الهدية الثمينة التي منحها لشاعر في أول حياته، وبها نال أهميته، كما يحدث دائما، في لحظة لا تفسير لها، يُخرِج كاتب كبير كلماته السحرية ويغطي بها كاتبًا في بداية الطريق دون أن يختاره بعناية، فيصاب هذا الأخير بعدوى الإنتشار، والشعور بالعظمة، ومشاعر أخرى تتشابك وفق حياته الجديدة التي قد لن تناسب حقيقته.
هل هذا ما حدث مع بركات؟
قد تكون هذه هذايانات مخيلة تحت الصدمة، وقد تكون قراءة أخرى بين هذا الكمّ الهائل من القراءات لما حدث، لكن حتما لن تبلغ أي مستوى من مستويات الإساءة لدرويش ومن يجالسهم، كتلك التي وردت في مقالة مليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية غير المقبولة لشخص ثالث هو أسعد سليم – والذي لا أعرف عنه شيئا – إدعى أنّه كان حاضرا خلال تلك السهرة المشؤومة التي تلفّظ فيها درويش بسره، على أن الأمر كله كان مجرد إفصاح عن مشروع روائي لم يكتمل، تشارك فيه ثلاثة “سكارى” على حدّ قوله، فمن يصدّق السكران فيما يقول؟
في مقولة ألمانية نجد نصيحة ثمينة تنبهنا ألاّ نصغي للسكارى إلا إذا كان الحديث حول المشروب، مع أن مقولة أخرى تناقضها تماما تؤكّد بشدة أنّ “السكران لا يفرق بين نبيذ جيد ونبيذ سيء”.
فما الذي نفعله نحن اليوم من قلبٍ لحياة درويش ومحاكمات لم تنته لبركات؟ هل من العقل أن يُفتح هذا السجال ولا ينتهي لأن قصة غير واضحة الملامح حدثت في التسعين من القرن الماضي أراد صاحبها اليوم أن يعطيها بُعدا تدميريا لشاعر نعتبره رمزا للوفاء ليس للقضية الفلسطينية فقط، بل للوطن، وطنه هو، بعد أن تهاوت من تحت هذا “الوطن” كل القواعد العربية الداعمة له.
وكأن “ما يحدث منذ زمن يدل على أن الأمّة وهي تنحدر إلى حضيضها الأخير، تحاول أن تنتقم من نفسها عبر وأد كل نأمة ضوء تتجرأ على إفساد ظلامها المتسبب وشخيرها المتعالي” كما ورد في مقالة للشاعر شوقي بزيع حول الموضوع، وهو يذكرنا ببعض الشائعات التي استعجلت موت نزار قباني، وحنا مينا، والجواهري، ومظفر النواب ومؤخرا فيروز، مستسخفا كل ما يحدث من أشياء مشابهة لزلّة بركات المقصودة.
على أن ما حدث بالإمكان قراءته من وجهة نظر مغايرة تماما، إذا ما اعتبرنا الأمر برمته تراجعًا من درويش عمّا قاله عن “الكوردي” الذي أبعد غدَه بمكنسة الغبار، وهو يشرب الفودكا، بين الكراكي الشقية، وينفض عن هويته ظلال درويش، وهوية اللغة التي عاش منفيا فيها. وهي نهاية غير متوقعة لعلاقة دامت أكثر من ثلاثين سنة، بحلوها ومرها، بمكبوتاتها ومعلناتها، وخباياها التي لن نعرفها أبدًا لأنها ظلّت طيّ الكتمان خارج الإطار الأدبي ونحن هنا لم يعد يهمنا غير ما تركه الإثنان من آثار أدبية لا غير.
يصعب أن نقرأ هذه الواقعة الغريبة بغير حجمها، إذ كأنّها عودة حاسمة لدرويش لتصفية حساب قديم مع الطفل الذي كتب الرواية، وتعاطف معه جمهور واسع من القراء والكتاب والمشتغلين في حقل الإعلام الثقافي مؤخرا لأنّه لم ينل جائزة البوكر ونالها كاتب شاب من الجزائر اجتهد بعيدا عن الأضواء، ودخل السباق دون رعاية شاعر كبير يزكيه.
خسر بركات ذلك الكم الهائل من التعاطف دفعة واحدة وفي فترة زمنية قياسية أضحى واقفًا لوحده، يتأمل “حسنته الوحيدة” في ساحة مكتملة الفوضى.
لكن، ثمة سرٌّ ثانٍ دومًا خلف كل سرٍّ يُفصَحُ عنه، وهو ما عجز بركات عن الإفصاح عنه، سواء كان كراهية مبطنة، أو خلافًا قديمًا، أوغيرة غير مفهومة، أو غيرها، إلاّ أن هذه الحركة اللامدروسة منه، فضحت تماما، كما فضحت كورونا أنظمة بأكملها أن نظامنا الأخلاقي في أزمة كبيرة، وتحديدا النخبة، التي فقدت عقلانيتها للتعامل مع ما تمّ طرحه.
هل صحّحَ درويش خطأ وقع فيه؟ أم خلع بركات تلك العباءة التي أتعبته؟ لا أدري في الحقيقة ما الذي حدث بالضبط، لكني أكيدة أنّ الأشياء كلها لم تعد كما كانت من قبل.

اقرأ المزيد

بمناسبة مئوية رواية “نحن” ليفجيني زمياتين ال”أنتي طوباوية” التي تصبح واقعا

بقلم: فالنتين كاتاسونوف
ترجمة : عبد الجليل النعيمي
الأدب المضاد للطوباوية حديث جدا. وقد ولد قبل قرن من الزمان بالضبط، في عام 1920، عندما ألف الكاتب الروسي يفجيني زمياتين روايته “نحن”. فيما بعد ظهرت كتابات معروفة مضادة للطوباوية: “المرجل” (1930) لأندرية بلوتونوف، “يا له من عالم جديد مذهل” (1932) لأولدوس هاكسلي، “حرب مع السحالي” (1936) لكاريل تشابيك، “ساحة الحيوانات” (1945) و “1984” (1948) لجورج أورويل، “451 درجة فهرنهايت” (1953) لريي بريادبيري وغيرهم.
من وجهة نظري كقارئ، يمكن تقسيم كل النتاج الأدبي إلى نوعين: الأول – ذلك الذي يشيخ معنويا، كالنبيذ الذي يتحول مع الوقت إلى خل. الثاني – الذي يصبح أكثر حيوية مع الزمن. افتراضا، يمكن القول أن النوع الأول يشكل 99%، والثاني 1%. وعليه، فرواية زمياتين “نحن” تنتمي إلى الطائفة الثانية.
لم يوفق زمياتبن في نشر روايته في الوطن. نظرت السلطات إلى مؤلفه كنقد خفي للنظام القائم. وفي نهاية المطاف تم نشر رواية “نحن” في نيويورك باللغة الإنجليزية عام 1925، ثم بالتشيكية (1927)، فالفرنسية (1929). باللغة الروسية نشر النص الكامل لرواية “نحن” عام 1952 من قبل دار تشيخوف للنشر (نيويورك)، أما في روسيا فتم نشرها عام 1988 فقط.
تتحدث الرواية عن أحداث في المستقبل البعيد – في القرن 32 تقريبا. تتكون من 40 قصاصة مذكرات يومية للبطل – اختصاصي رياضيات ومهندس، وهو أحد أهم بناة السفينة الفضائية “انتجرال”. من مذكراته سنعرف أنه في القرن العشرين بدأت حرب السنتين العظمى. بنتيجتها “بقي على قيد الحياة 0.2 فقط من سكان الكرة الأرضية”. لكنه، مع ذلك، كم أصبح لامعا وجه الأرض المنقاة من أوساخ خلفتها آلاف السنين. ومن ثم تذوَّق هؤلاء الـ 0.2 النعمة في ظلال “الدولة الموحدة”. القائد الرئيسي للدولة الموحدة بطل يحمل إسم “الخيِّر”. مؤسسات الدولة الموحدة تتكون من مكتب الحراس (الشرطة والاستخبارات) والمكتب الطبي (الذي يتابع الصحة الطبيعية للمواطنين وحالتهم العقلية – النفسية).
بالنسبة للإنسان المعاصر قد تبدو الدولة الموحدة دكتاتورية، تضيق ذرعا بالتجارب الثورية. إلا أنه من وجهة نظر قادة الدولة الموحدة ومواطنيها العاديين هي مجتمع عالي التنظيم بنظام وانضباط صارمين. الجميع هنا يعيش كما النمل في مجتمعه أو النحل في خليته. وكما أن النملة لا تستطيع العيش خارج منظومة النمل، كذلك مواطن الدولة الموحدة لا يمكن أن يكون خارج الجماعة. العقيدة الرئيسية لكل من مواطني الدولة الموحدة هي :
“أنا” – من الشيطان، “نحن” – من الآلهة”
من هنا جاء إسم الرواية “نحن”. الدولة الموحدة – هي نموذج الدولة الشمولية التي تسيطر فيها فئة فوقية صغيرة على القطيع المطيع، وكل عضو فيه يرى نفسه سعيدا، ممتنا لرؤسائه. وعلى الرغم من أنها شمولية، إلا أن الدولة الموحدة، من وجهة نظر قادتها، ليست قاسية. بل أنها إنسانية. فهي تضع هدفها الرئيسي – سعادة كل المواطنين. بنجاح يتم تلبية حاجتين رئيسيتين للمواطن – الغذاء والجنس. كل المنتجات الغذائية يتم إنتاجها من النفط، أما الخبز فقد قرأ عنه مواطنو الدولة الموحدة في الكتب فقط. الحاجة الجنسية تلبَّى بصلات بين الجنسين المختلفين، تنظمها الدولة، على أن هذه الصلات لا يجب أن تُفضي إلى تكوين بناءٍ مؤسسي، كالعائلة، وإلى ولادة أطفال بشكل عفوي. الرجل الواحد لا يجب أن يكون خاصة إمرأة بعينها، والعكس أيضا. الجميع يجب أن ينتمي إلى المجتمع، الذي هو “نحن”. وكذلك الأطفال – يولدون بإذن من السلطات، ويجب أن تتبناهم الدولة الموحدة. تلبية الحاجات الأساسية يجب أن تكون على نحو فائض، وإذا أصبحت فائضة فإن الرغبات تجاهها تختفي، أو تصبح أقل أهمية. تُرى أليست هذه هي السعادة ؟ أحد أشكال الهيرويين تكمن في : “
“الرغبات مثيرة للعذابات، أليست كذلك؟ واضح إذن: السعادة – هي عندما لا تكون هناك أية رغبات، حتى ولا رغبة واحدة”.
صحيح أنه، عدا الحاجات الأساسية، تظهر لدى بعض المواطنين حاجات ورغبات ما، أخرى. وهي ليست حاجات فيزيولوجية. ولكي لا توجد مثل هذه الحاجات والرغبات الزائدة، يتعين “تصحيح صياغة” الإنسان، إزالة ما هو زائد فيه ويشاغبه في الحياة، من قبيل الضمير، الأحاسيس والخيال. يوجد في الدولة الموحدة المكتب الطبي الذي يساعد المواطنين على التخلص من زوائد الأسلاف البرية (المتوحشة). وهكذا يقومون في الدولة الموحدة بإجراء عملياتٍ لاستئصال مركز الخيال من مخ الإنسان.
لكون بطل الرواية الرئيسي اختصاصي رياضيات، فإنه يفهم جيدا كيف يُصعِّد السعادة إلى أقصاها. هو يرى السعادة ككسرٍ عددي في بسطه النعمة وفي مقامه الحسد. ولكي تُصعَّد السعادة إلى أقصاها على الدولة الموحدة أن تخفض الحسد إلى حده الأدنى. والطريقة الأبسط لهذا الخفض هي جعل الجميع موحدي الوضع، متساوين بشكل مطلق وبجميع المعاني – المادية، الاجتماعية وحتى الفيزيولوجية. المكتب الطبي هو الذي يعمل على أن يكون الجميع موحدي الوضع. ومن أجل هذا يُستخدم علم الوراثة لتنظيم عملية التكاثر.
الدولة الموحدة ستؤدي وظائفها بشكل لا يعتريه خلل. وكما يعتقد الناس القدماء فقد كانت لهم دولهم أيضا. لكن يا ترى هل يمكن الحديث عنها كدول، إذا كانت تظهر لديهم بشكل دوري أزمات وقلاقل وحروب أهلية وثورات ؟ هذا يُعدُّ مهزلة بالنسبة للدولة ! أما الدولة الموحدة فتعمل كآلة متقنة الصنع. أجل، الإسم الآخر بالنسبة للدولة الموحدة هو “الآلة”. عمل هذه الآلة يتحقق بفضل زنبرك الساعة – خطة حياة لكل عضو في الدولة الموحدة ولكل مجتمع النمل بشكل تام. بطل الرواية لا يكلُّ من التعجب من توحش الناس القدماء : لقد عاشوا كما اشتهت أنفسهم، كان ضبط الدولة للحياة بدائيا للغاية.
وفي الحقيقة يعترف البطل الرئيسي أنه حتى أكثر الآلات حداثة قد تتعرض لأعطال طفيفة : “لحسن الحظ هذا يحدث نادرا. لحسن الحظ هذه أعطال طفيفة في قطع الغيار : من السهل إصلاحها دون أن يتوقف الدوران الأبدي العظيم لمجمل الآلة. ولكي نتخلص من البرغي التالف توجد لدينا عيون الحراس …” “يد الخيِّر الماهرة الثقيلة” تضغط أحيانا على زر آلة الرحمة – الوسيلة التقنية الخاصة للإعدام.. لن يتبق ممن أُعدِم سوى بقعة ماء مُقَطَّر. وتتم إعادة تدوير فقط أولئك الذين يتميزون بشدة قياسا بمعايير الدولة الموحدة.
لحد الآن لم يتحقق توحيد نموذج أعضاء الدولة الموحدة بالكامل. لكنه لا يُسمح بانحرافات قوية عن “المتوسط الحسابي”. ونقرأ في مذكرات البطل الرئيسي : “نحن – المتوسط الحسابي الأسعد…”. في كل مكان نموذج موحد – الجميع يلبس زيا موحدا، الكل يحلق شعر رأسه بسوية (بحيث يصعب أحيانا معرفة من هذا – رجل أم إمرأة). ظروف معيشة جميع أعضاء مجتمع النمل موحدة. فكل الشقق تبدو متطابقة الشبه بجدرانها الزجاجية وزهد مجموعة أثاثها. لا توجد لأعضاء مجتمع النمل في الدولة الموحدة أسماؤهم الخاصة. بدلا من ذلك تُعطى لهم رموز رقمية. بطل روايتنا (الذي يكتب مذكراته) يحمل الرمز د- 503. صديقتاه الأساسيتان تحملان الرمزين : و – 90 و إ – 330. في الرواية يُدعى الشخص رقما. والحرف الذي يسبق الرقم يشير إلى الجنس، ذكرا أم أنثى، اعتمادا على نوع الحرف (ثابت أو متحرك) .
التطور التقني في الدولة الموحدة على مستويات عليا تضاهي الخيال. ها هو يتم إنشاء سفينة الفضاء “انتجرال”، التي ستُطلق في جولة للكواكب الواقعة في البعد اللامتناه. لغايات التنقل في أراضي الدولة الموحدة تُستخدم المركبات الطائرة (“إيرو”). يَستخدم الناس أجهزة الراديوتلفون. في المدارس يعلمون الأطفال العمل. الموسيقى تكتبها الآلات. الطعام مُصَنَّع من منتجات تكرير النفط (كل نملة تُعطى كمية معيارية موحدة في شكل عدة مكعبات من هذا “الغذاء”). التقنية تسمح بالتحكم في البشر. تجري مراقبة الناس عبر ميكروفونات – مجسات غشائية. توجد في ترسانة المكتب الطبي أحدث التكنولوجيات لتشخيص وتصحيح الحالة الذهنية للأرقام (الناس).
نلاحظ أن كل هذه الخصائص التقنية “للحضارة” كانت غائبة أو هي من أشكال الترف في ذلك الوقت الذي كتب فيه زمياتين روايته. التايلورية ، كما يعترف البطل الرئيسي، واحد من العلوم القليلة التي أخذتها الدولة الموحدة من السلف المتوحش. لكن يبدو أن الناس القدامى لم يُقدِّروا هذا العلم حق قدره : ” … كيف تسنى لهم أن يسطروا كتبا ومكتبات بأكملها عن شخصيات مثل كانط، بينما بالكاد لحظوا تايلور – هذا “المتنبئ” الذي استطاع أن يخترق بنظرته عشرة قرون إلى الأمام”. لكن البطل الرئيسي هنا يتحدث مستصغرا بأن تايلور لم يستخدم نظامه بكامل قدراته : “نعم، كان تايلور بلا شك الأكثر عبقرية في زمانه. الحقيقة، أنه لم يصل بتفكيره حد أن يعمم طريقته على كل الحياة، لتعمل في كل خطوة، طوال الليل وآناءَ النهار – لم يستطع أن يُكامِل نظامه من الساعة حتى أربع وعشرين ساعة”.
في الدولة الموحدة يصدح البطل الرئيسي رياضياتٍ ورقما: “جدول الضرب أكثر حكمة، أكثر إطلاقا من الآلهة العريقة : إنه لا يخطئ أبدا – أتفهمون : أبدا. وليس هناك أسعد من الأرقام التي تعيش نسق القوانين الأبدية الصحيحة لجدول الضرب. لا تقلبات ولا ضياع. الحقيقة – واحدة، والطريق الحق – واحد. وهذه الحقيقة – إثنان مكرر إثنين، وهذا الطريق الحق – أربعة. تُرى، ألن يكون من ضرب اللامعقول لو أن هذين (الإثنين والإثنين، المكررين) السعيدين راحا يفكران في حرية ما، أي من الواضح أنهما يفكران خطأً ؟” ويبدو لبطلنا الرئيسي أن حرمان مواطني الدولة الموحدة منذ زمن من أسمائهم واستبدالها بالأرقام عمل صحيح تماما.
اعتاد البطل الرئيسي أن يحشر كل ما يقع في مجال ناظريه في صيغ رياضية معروفة لديه – “ترقيم”. وعندما التقى لأول مرة بصديقته إ – 330 اصطدم مع نفسه حول فكرة أنه لا يستطيع “ترقيم” صديقته : ” لست أدري – أفي عينيها أم الحاجبين – هناك حرف ما ” X” غريب ومثير للإزعاج، ولا أستطيع الإمساك به بأي حال، لأعطيه تعبيرا رقميا”. ومع ذلك، فإن القدرة الكاملة على الاستيعاب الرقمي للعالم المحيط تعود إلى البطل فقط بعد أن تُجرى له عملية كبرى لنزع الزوائد الروحية منه. د – 503 يعود من جديد عضوا كامل القيمة – إنسانا آليا بيولوجيا – في مجتمع النمل.
السلطات السوفياتية منعت نشر رواية “نحن”، حيث رأت فيها تصويرا كاريكاتوريا للنظام البلشفي. هناك أحد ما رأى في صورة الخيِّر شخص لينين. بعد مرور عشر سنوات على ذلك بدأ الخيِّر يتراءى للبعض على أنه ستالين. فلاديمير ماياكوفسكي التفط على الفور بأن الصورة الكاريكاتورية لشاعر الدولة (ر – 13)، إنما تعنيه هو – ماياكوفسكي.
أما جورج أورويل في مراجعته لرواية “نحن” (1946) فقد أشار إلى أن زمياتين “لم يفكر البتة في تناول النظام السوفياتي هدفا في مؤلفه”. بعض القراء والنقاد اعتقدوا أن الرواية تعكس إلى حد كبير واقع بريطانيا ذلك الزمان. وبالفعل كان زمياتين قد عاش وقتا غير قصير في الألب الضبابي، وتعرَّف عن قرب على حياة العمال الإنجليز (كان يزور بريطانيا على ظهر البواخر كمهندس من روسيا، التي قدمت طلبا لبناء سفن لصالحها هناك). في عام 1917 كتب يفجيني زمياتين عن الإنجليز قصة “أهل الجزر”. وفي هذه القصة كانت تلوح ملامح الرواية القادمة “نحن”. بطل قصة “أهل الجزر” فيكاري ديولي يؤلف كتاب “عهد الخلاص القسري”، الذي يشكل محاكاة لنموذج زنبرك الساعة في رواية “نحن”. وقد رأى الإنجليز في القصة أنفسَهم، فمنعوا صدورها.
بعد عدة سنوات على صدور الطبعة الأولى من الرواية في الولايات المتحدة الأميركية عام 1925، كتب زمياتين : ” كثير من الأميركيين، الذين كتبوا قبل عدة سنوات عن الطبعة النيويوركية لروايتي “نحن” رأوا فيها نقدا للفوردية. ولم يكن ذلك بلا أساس”.
وبكلمة، فقد غدت هذه الرواية تعميمية (شاملة). كل دولة، ومنذ ذلك الوقت، قبل مائة عام، استطاعت أن ترى في الرواية شيئا ما، معهودا لديها، لكن الحديث عنه غير مريح بالنسبة إليها. أما يفجيني زمياتين نفسه فقال عن رواية “نحن” : “المراجعون قصيرو النظر رأوا في هذا الشيئ ليس أكثر من كتيب سياسي. وهذا بالطبع ليس صحيحا : هذه الرواية عبارة عن إنذار يدق ناقوس خطر يهدد الإنسان والإنسانية من فرط هيمنة سلطة الآلات وسلطة الدولة – أيا كانت” (مقابلة أجراها معه المؤرخ الفرنسي جورج ليفيرت في إبريل 1932).
مرة أخرى أقول : رواية “نحن” تنتمي إلى ذلك النوع من النتاج الأدبي الذي يكتسب مع الزمن حيوية أكثر فاكثر. كثير من معاصري زمياتين نسبوا هذه الرواية إلى فئة الكاريكاتور أو المبالغات، مُدَّعين أن المستقبل اللامتناهي البعد استُخدم من قبل الكاتب كتورية للحاضر المثير للسخط (السوفياتي، البريطاني، الأميركي أو أي نظام آخر). إلا أنني الآن أرى أن الرواية أكثر تعميمية، أو ما يمكن تسميته بـ “الإستعارة”، التورية، الغمز. وعن ماذا ؟ عن تقهقر الإنسان والإنسانية. لكن يبقى السؤال : هل ستُقدِّر الأجيال القادمة هذا النتاج الأدبي ؟ أم أنها، كحال البطل الرئيسي، د – 503، ستفترض باحتقارٍ وتعالٍ، أن رواية “نحن” – ثمرة الناس المتوحشين من غابر الزمان ؟

اقرأ المزيد

ماركس والسُكان الأصليون في المُستعمرات – 4

بقلم: John Bellamy Foster
ترجمة: غريب عوض

الماركسية والسُكان الأصليون
إن مُعظم النقد الموجه للماركسية لعدم تقديرها ثقافات ونِضال السُكان الأصليين غير مُحدد، مُجرد الإسناد إلى المادية التاريخية والحتمية الإقتصادية والتكنولوجية، والإلتزام غير النقدي بالتنمية، والترويج المُتطرف لإنتاج أكبر من أي زمنٍ مضى (أي الإنتاجية) والتأكيد على البروليتاريا على حِساب الفلاحين والسُكان الأصليين. وبينما هذهِ بالتأكيد بعض سِمات تقاليد ماركسية مُعيّنة، حتى أن البعض منها لعِب أدواراً مُهيمنة، إلا أنها بالكاد تُمثل فكر ماركس أو أنجلز، أو التقاليد النقدية الثورية لماركس بشكل أكثر عمومية.
ومن المؤكد أن أنجلز اتخذ موقفاً مأساوياً نوعاً ما تجاه مجتمعات السُكان الأصليين، وأشاد بها إلى حد أكبر من ماركس، بينما يكتب أحياناً كما لو كان أمراً لا مفر منه بسبب نقاط الضُعف في الشكل القَبَلي للمجتمع الذي كان مُحاصراً داخل حدوده الخاصة وإضطر إلى إفساح المجال لأشكال أُخرى من التنظيم الثقافي، كما يتجلى بالفعل في شكل مُتناقض في كونفدرالية عشيرة أيروغوس. وعلى النقيض، كانت مُقاربة ماركس الأكثر دقة أكثر تساؤلاً حول ثقافات السكان الأصليين – على سبيل المِثال، تكشفُ عن تحفظات حول ما يتعلق بمزاعم تخص المُساواة الكاملة بين الجنسين في عشيرة الأيروغوس Iroquois – وفي نفس الوقت أكثر إنفتاحاً على الفكرة التي تقول إن ثقافات السُكان الأصليين بإمكانها الاستمرار وإعادة تكوين نفسها من خلال الصِراعات التاريخية.
ومع ذلك، فإن مُعظم كتابات ماركس في هذا الصدد، بما في ذلك دفاترهُ الإثنولوجية، ظلت غير معروفة، وكان نهج أنجلز المأساوي هو الذي ساد في الأُممية الثانية في عمل بعض من ورثة ماركس مثل بول لافارغيو Paul Lafargue وكارل كاوتسكي Karl Kautsky وجورجي بليخانوف Georgi Plekhanov، ولكن في شكل حتمية تقنية وأكثر تطوراً بشكل صارم مما يُمكن أن يُنسب إلى أنجلز (وأقل إلى ماركس). ومع ذلك، لايُعتبر أي من هذهِ الملحمات اليوم نموذجاً للفكر الماركسي الكلاسيكي. والشيء الأكثر أهمية بكثير الدِفاعات القوية لروزا لوكسمبورغ حول الإقتصادات الطبيعية للسكان الأصليين، وإصرار فلادمير لينين على تقرير المصير الوطني لجميع الشعوب، والنسج الثري لخوسيه كارلوس مارياتيغي مع الماركسية والسكان الأصليين، جميعها تُشيرُ إلى نقد أعمق لتطور الرأسمالية المركزية الأوروبية.
لم تُلهِم الماركسية حركات التحرر الوطني في جميع أنحاء محيط الإقتصاد الرأسمالي العالمي فحسب، بل بدءاً من خمسينيات القرن الماضي وامتداداً حتى سبعينيات القرن الماضي، كانت هناك مُحاولات كبيرة لدمج النظرية الماركسية بنظالات السكان الأمريكيين الأصاليين في عمل أشخاص مثل Eleanor Burke Leacock، وPatricia Albers وBruce Johansen، وRoberto Maestas، وLawrence David Weiss، وHoward Adams، وغيرهم. وكما أكد جونسين هاورد أدمز، إن الماركسية نفسها وفقاً لدراسة ماركس وأنجلز حول عشيرة إروغوس من خلال لويس مورغن، تُدين بالكثير لِثقافات السُكان الأصليين. ومُنذُ عهدٌ قريب، استمدت الحركة نحو الإشتراكية في الثورة البوليفية الكثير من حيويتها من التقليد الثوري العام المُتجذر في كُلٍ من الماركسية والسُكان الأصليين.
في الوقت الراهن، هناك تفرع جديد للعمل نابع من كُلٍ من التقاليد الماركسية والتقاليد الثورية للسكان الأصليين. إن عمل Coulthard الخارق بعنوان “البَشرة الحمراء، والأقنعة البيضاء” يخلقُ توليفاُ غنياً بين ماركس، وفرانز فانون، ومنظور السكان الأصليين في رفضهِ المُتطرِف لسياسة الإعتراف عند المُستعمر. ويرتبط تصوير Allan Greer الرئع لأشكال المُلكية عند السكان الأصليين في أميركا واستيلاء المستعمر على الأرض في أمريكا الشمالية الحديثة المُبكِرة في كِتابه بعنوان “المُلكية ونزع المُلكية” إرتباطاً عضوياً بأبحاث لِشخوص مثل Morgan و Marx و Engels. إن الكاتبة الأمريكية Roxanne Dunbar-Ortiz تُقدم تحليلاً ماركسياً حول السُكان الأمريكيين الأصليين، كيف أن تأسيس الولايات المتحدة وتوسعها المُستمر مُتجذّر في “ايديولوجيا تفوق العِرق الأبيض، والمُمارسة المُنتشِرة للرِق الأفريقي، وسياسة الإبادة الجماعية ونهب الأراضي.
في كِتابهِ بعنوان “نهاية عالم الإستعمار الإستيطاني”، يوضح الكاتب Gerald Horne كيفية تَداخُل الإبادة الجماعية للشعوب الأصلية مع ظهور رقيق العبيد والذي لايقل فضاعة أثناء صعود نظام الرأسمالية للسيطرة على العالم. وُقدم الكاتب Nick Estes تاريخاً لافتاً للنظر لقرون من مقاومة السكان الأصليين وصمودهم الثوري، ”جحور” مثل حيوان الخُلد لدى ماركس كجزء من ”الحركة الأطول في التاريخ.“ ينبغي مُلاحظة أن النقد الواسع اليوم للإستعمار الإستيطاني سبقهُ مُعالجات ماركس للموضوع ضمن النظرية الإمبريالية في عمل مفكرين كماركس وأنجلز و روزا لوكسيمبورغ و أرغيري إمانويل وهري مغدوف و دونبار أُورتيز و موشيه ماتشوفر.
في جميع هذهِ الأعمال، المُنبثقة من المادية التاريخية، هُناك تأكيد على نزع مُلكية الثقافات الأصلية كعملية مُستمرة – تلك التي بدلاً من أن يكون فيها الاستعمار الإستيطاني مُجرد عُنصر من الماضي، يستمر في أن يكون جزء من هيمنة الرأسماليين على الشعوب وعلى الأراضي. ومن هذا تتدفق مقاومة لا يمكن قمعها تأخذُ أشكالاً مُختلِفة، ولكنها مع ذلك ترفض أن تستكين.

الخُلاصة: الثورة المُضادة للإستعمار/ والرأسمالية
يُجادل كولتهارد Coulthard في كِتابهِ “البشرة الحمراء، الأقنعة البيضاء” فيما يتعلق بماركس بأنه يجب يتم تناول المواضيع الثلاثة ضمن عمله لكي نجعل كتاباتهِ حول الاستعمار الإستيطاني مُلائمة لتحليل العلاقة بين الشعوب الأصلية وسياسات المستوطنين الليبراليين. أولاً، ينبغي “تجريد اطروح ماركس حول التراكم البدائي من طابعها الزمني، الذي يقتصر على المراحل االمُبكِرة من التكوين الرأسمالي. ثانياً، “يجب تجريد مُحاجة ماركس من سمتها التنموية المعيارية.” ثالثاً، يجب تخليص النهج الماركسي تجاه الرأسمالية الإستعمارية من ارتباطها بالقوة والعُنف فقط وأن يُنظر إليها بالأحرى من حيثُ قدرتها كنظام على إنتاج إشكال من الحياة تجعل التسلسل الهرمي التأسيسي للإستعمار يبدو طبيعياً.” إن قضايا كولتهارد الثلاث هي في الواقع شروط لأي نوع من التحليل المادي التاريخي القابل لتطبيق خبرات الشعوب الأصلية في السياقات الإستعمارية الإستيطانية (أو على نطاق أوسع من الاستعمار وما بعد الاستعمار). يجب أن تُشير الحجة السابقة إلى أن الدعوة لإعادة بناء وإستعادة النظرية الماركسية الكلاسيكية قد بدأت بالفعل.
وبهذا الشأن، من المهم مُلاحظة، كما أوضحت آخر الدراسات، أنه لم يكُن لدى ماركس “اطروحة حول التراكم البدائي” على هذا النحو، بل كان لديه نقداً لما أسماه “قصة الحضانة” للتراكم الأساسي على أساس الإمتناع عن التمييز الذي ميّز الإقتصاد البرجوازي، والذي استبدله بمفهوم المُصادرة. كما لم يتم تحديد نهج ماركس في نزع المُلكية زمنياً. بدلاً من ذلك، كان يُنظر إلى المُصادرة على أنها تنتج بإستمرار وتُعيد إنتاج الشروط الأساسية التي كان يعمل من خلالها رأس المال. وبالتالي، عند مُناقشة عملية المُصادرة في الجزء الثاني من المُجلد 1 من كتاب رأس المال حول “ما يُسمى التراكم البدائي”، أشار ماركس ليس إلى الماضي البعيد فقط بل وإلى ما كان بالنسبة لهُ الحاضر كتاريخ: فالمُرفقات في اسكتلندا في 1814-48 التي بدأتها دوقة ساذرلند، وتحويل ممشى الخِراف إلى غابات الغزلان (بدون أشجار) في ستينيات القرن التاسع عشر في إنجلترا، والمجاعة في مُقاطعة أوريسا Orissa في الهند، في عام 1866، الناتجة عن الحكم الإنجليزي. ولا يُنظَر إلى هذهِ المُصادرة بأي حال من الأحوال على أنها مُقتصَرة على عصر ما قبل التصنيع أو على بداية العصر الصناعي.
والأهم من ذلك كان رفض ماركس لمنظور “تنموي معياري” بسيط وخطير فيما يتعلق بالإستعمار. في تحليله للسكان الأصليين في الأمريكتين وفي أفريقيا وفي آسيا، خاصةً من نهاية خمسينيات القرن التاسع عشر وصاعداً، لقد بحث بإستمرار في أشكال المُلكية المجتمعية والأُسُس الثقافية واللُغوية لهذهِ المجتمعات، مع فكرة أن التاريخ لم يكن خطياً. كان الإستعمار نفسهُ بالنسبة لهُ شيء ثانوي نوعاً ما بسبب أن الثقافة وأشكال المُلكية عند السكان الأصليين بقيت تاريخياً حية. وكان على هذا الأساس إنحاز ماركس وأنجلز من أواخر ثلاثيناتهما فصاعداً إلى جانب الحركات الثورية المُختلِفة للشعوب الأصلية في جميع أنحاء العالم، مُدافِعان عن ثوراتها ومُدركِان أنها كانت تُمثّلُ شيءً مُهماً من الناحية الثقافية وفيما يتعلق بالمجتمع البشري وأشكال المُلكية التي تتعارض مع إقتصاد السلعة للرأسمالية. وعلى الرغم من ميل ماركس وإنجلز نحو “التطور التنموي المعياري” في العشرينات من عمرهما، إلا أن الأمور قد تحولت لِصالِحِهُما بشكل واضح قبل أن يُغادِرا الثلاثين من عمرهما.
وكما كتب إنجلز في عام 1890، تم توسيع المفهوم المادي الأصلي للتاريخ في كتابات ماركس وكِتابتهِ هو اللاحِقة، حيثُ تم الإعتراف بأن “يجب دراسة التاريخ كلهُ من جديد”. وشمل ذلك تاريخ العالم غير الأوروبي. وعلى حد تعبير عالِم الإجتماع مايكل أر كراتك Michael R Krätke،
لم يمنح ماركس مساحةً للوسطية الأوروبية؛ لم يعتبر تاريخ العالم مُرادفاً لـ “التاريخ الأوروبي” … دَرَسَ تاريخ آسيا الصغرى والشرق الأدنى والشرق الأوسط والعالم الإسلامي والأمريكتين وآسيا (مع ثلاثة مراكز للتركيز: الهند، الصين، وآسيا الوسطى) … دَرَسَ التاريخ الاستعماري لأهم القوى الإستعمارية، وكذلك تاريخ الدول التي استعمرها الأوروبيون (أمريكا الشمالية، وأمريكا اللاتينية، وإندونيسيا، وشمال أفريقيا).
في كل هذا العمل، ابتعد ماركس عن عدسات المركزية الأوروبية والتنموية. وصل اهتمامهِ بالإستعمار الإستيطاني إلى عُمق تاريخ وثقافة مجتمعات الشعوب الأصلية، مُتحداً وجدانياً مع مقاومتها وثوراتها، مُبصِراً في ماضيها (وحاضِرُها) إمكانية مستقبل عالمي أوسع.
إن مسألة كيف تُعزز العلاقة الاستعمارية، بمجرد زراعتها، من الناحية الأيديولوجية نفسها من خلال “قدرتها على إنتاج أشكال من الحياة تجعل التسلسل الهرمي التأسيسي للإستعمار الإستيطاني يبدو طبيعياً” هو عَالمٌ يكون فيه الكاتب Frantz Fanon، كما يقول Coulthard، مُرشِداً أكثر فائدة من ماركس. ومع ذلك، يمكن القول إنهُ لا يوجد سوى مسافة قصيرة من استنكار ماركس الغاضب عبر كوفاليفسكي من التلاعب المُشين من قِبل الإستعمار الفرنسي الإستيطاني والإعتراف بالقانون الإسلامي لتبرير مُصادرة الأراضي الجماعية العشائرية من الشعب الجزائري، لإصرار الكاتب الفرنسي الأسمر Fanon الحاد مع القوة الكاملة لنضال التحرر الوطني الجزائري في خمسينيات القرن الماضي أمامه (ومع هيغل وماركس على شفتيه) على تغيير ثوري للإعتراف:
أطلُبُ أن تؤخذ بعين الإعتبار على أساس رغبتي. أنا لستُ هُنا الآن فقط، عالقٌ في شيء. أرغب في مكان آخر وشيءٌ آخر. أطلب أن يؤخذ في الإعتبار نشاطي المُتناقض بقدر ما أتابع شئاً آخر غير الحياة، بقدر ما أُقاتل من أجل ولادة عالم بشري، وبعبارة أُخرى، عالَم الاعتراف المُتبادَل.
ومن يتردد في الإعتراف بي هو ضدي. في النضال الشرِس أنا على استعداد لأن أشعر برعشة الموت، والإنقراض الذي لا رجعة فيه، ولكن أيضاً إمكانية غير المُمكن.

اقرأ المزيد

حركات الإسلام السياسي والتطفل على الديمقراطية

في ظل سيادة الاستبداد، لا يزال الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين مستمراً في المجتمعات العربية والإسلامية حول طبيعة نظام الحكم. تصر أغلب حركات الإسلام السياسي على رفض نموذج الدولة الديمقراطية أو المدنية، وتطرح نموذجاً بديلاً هو نظام الحكم الإسلامي، تحت ذريعة أن الحاكمية لله ووجوب تطبيق شريعة الإسلام.

من الملاحظ على حركات الإسلام السياسي أنها حين تطرح شعار نظام الحكم الإسلامي تتباين فيما بينها، فالإخوان المسلمين لهم نموذجهم الذي يختلف عن نموذج السلفية الوهابية والتي بدورها تختلف عن حكم ولاية الفقيه القائم في إيران. هذا التباين ليس شكلياً ومحدوداً، بل هو جوهرياً واسعاً. لذلك لا يوجد نموذج واحد لنظام الحكم وفق الشريعة الإسلامية، بل نماذج متعددة كل منها يدعي صحته ويخطىء غيره.

أغلب حركات الإسلام السياسي لا تؤمن بفكرة الدولة المدنية الديمقراطية وتعدها نقيضة لمبادئ الإسلام. بل يعتبرها البعض أنها كفر بالله، لأنه إلغاء لشريعة الإسلام واستبدالها بقوانين وضعية من عند البشر . مثلاً يرى أحد رجال الدين الكبار في البحرين أن نظام الحكم الديمقراطي يؤدي إلى ” استبعاد حقِّ الله (عزَّ وجلَّ) الذي له الحكم كلُّه، وبأمره تأتي سُلطة كلِّ مَن له سُلطة من بعده، وبسبب هذا يكون الحكم الدِّيمقراطيِّ مباينًا للحكم الإسلاميِّ من حيث البعد المنهجيِّ، لأنَّ الحكم الإسلاميَّ قائم على أنَّ الأصل في الحكم إنَّما هو لله (عزَّ وجلَّ) وحدَه، بينما الحكم الدِّيمقراطي يرى سيادة وحاكميَّة البشر بالأصالة”.

ومن المآخذ التي يأخذ بها الإسلاميون أيضاً في رفضهم للنظام الديمقراطي أن ليس للشعب سيادة تشريعية استقلالية، لأن سيادة الشعب منبثقة من إيمانه بالله، وبالشريعة السمحاء. ولذلك يرددون دائماً بأن منهجهم هو منهج الله، لا منهج الديمقراطية. لكن أليس وإن كان القرآن إلهياً يبقى التفسير والاجتهاد فيه بشرياً أيضاً، وإن اختلاف هذه المذاهب وأنماط الحكم ناتج عن الوضع البشري وحكمه على الإلهي!

بالمقابل عندما تطرح الأحزاب السياسية العلمانية ضرورة الرضوخ للنظام الديمقراطي ودولة المواطنة والحريات واحترام الأقليات الدينية والعرقية، ترتفع أصوات حركات الإسلام السياسي برفض هذه العناوين والأطروحات ووصمها بأسوأ النعوت من قبيل: الكفر، الإلحاد، ضرب القيم الإسلامية، التشبه بالغرب، محاربة القيم، تجهيل المسلمين.

غير أن هناك تأصيل منهجي في تراثنا لفكرة الحق البشري في اختيار نظام الحكم، وهو رأي المعتزلة الذي يرى أن وظيفة الحاكم ترتبط بشؤون الناس اليومية وليس بشؤون الله، فكان شرطهم أن يكون عادلاً، فيختارونه على أساس الاقتناع العقلي بعدله، وليس الاقتناع الروحي بفقهه أو مواعظه، إذ أن تلك وظيفة رجل الدين وليس الحاكم، وبهذا يتهافت الرأي القائل بأن العلمانية مرتبطة بالغرب والإلحاد، ولو قدِّر لحركة المعتزلة الاستمرار لرأينها تسقط فكرة التنصيب الإلهي وتنتصر شيئاً فشيئاً لفكرة التنصيب الشعبي للحاكم. هذا ما كانت تقوله أوسع طائفة فكرية في الإسلام حتى عهد المتوكل.

لكن لماذا تتسابق أغلب حركات الإسلام السياسي لخوض غمار سباق الانتخابات بمختلف أشكالها؟ يُجيبون على هذا السؤال بأنهم لا يريدون أن يكونوا مهمشين وبعيدين عن المشاركة في صنع القرار أو فقدان نفوذهم في مؤسسات الدولة والمجتمع. وعلى أرض الواقع تكاد أغلب الأحزاب الإسلامية والعلمانية المعارضة خارج دائرة المشاركة في المؤسسات الرقابية والتشريعية والتنفيذية بسبب سيطرة الحكم الواحد المستبد.

المساهمة في تثبيت الواقع السياسي القائم على الاستفراد بالسلطة وسيطرة القبيلة أو الحزب الواحد على السلطة ومفاصل الدولة، ليس حكراً على حركات الإسلام السياسي، بل يشاركها في ذلك مجموعة كبيرة من الأحزاب القومية والماركسية والاشتراكية(العلمانية). لكن يوجد فارق في خروج هؤلاء جميعاً على قواعد الديمقراطية، يتمثل في الجانب النظري، حيث يوجد قسم كبير من الأحزاب الإسلامية لا تؤمن من الأساس بفكرة النظام الديمقراطي، بينما الأحزاب الأخرى غير الإسلامية لا تنفي إيمانها نظرياً بالديمقراطية غير أنها تتناقض عملياً في عملها وسلوكها السياسي.

من الملاحظ كذلك على حركات الإسلام السياسي المنادية بتطبيق النظام الديمقراطي في بلدانها، تناقض حاضرها في رؤيتها للقيم الديمقراطية من تراثنا العربي الإسلامي. بمعنى أنها تنظر بإيجابية لتجربة الشورى في عهد الخلفاء الراشدين لكنها تقف مع الحكم المستبد في الحاضر . وهناك حركات إسلامية ترفض الحكم المستبد حاضراً لكنها تقف ضد الشورى وشروطها في مقابل تأييد الحكم القائم على النص والتعيين من تاريخنا العربي الإسلامي.

ولابد من الإشارة إلى أن العديد من الأحزاب السياسية العلمانية العربية لم تلتزم بقواعد الديمقراطية في حال وصول أحزاب إسلامية للسلطة عبر صناديق الاقتراع، وفي ذلك إجهاض لأي تجربة ديمقراطية وليدة من أن تأخذ مداها الطبيعي في التطور والتقدم. مثال ذلك ما حدث في مصر من عزل الرئيس محمد مرسي وضرب الأخوان بمساعدة قوى إقليمية ودولية، أدَّت إلى عودة حكم العسكر من جديد وإنهاء الديمقراطية.

الواقع السياسي العربي القائم على القمع والاستبداد، وعلى التمييز الطائفي والعرقي في أغلب الدول العربية، يستدعي من جميع الأحزاب والحركات السياسية بمختلف أطيافها العمل نظرياً وعملياً على الاقتناع بالنظام الديمقراطي وتثبيت قواعده في المجتمع والدولة، كأداة وآلية واقعية تعمل تدريجياً على نشر ثقافة المواطنة والتعددية والقبول بالآخر، ومن ثم الضغط على سلطة الدولة في التغيير والتحول من حكم الفرد أو القبيلة أو الحزب إلى نظام حكم عصري تعددي يشارك فيه جميع مكونات الشعب ويوفر لهم الحرية والأمن والعيش الكريم .

أما أن تستمر حركات الإسلام السياسي في موقفها التقليدي من الديمقراطية بشيطنتها وتكفيرها، أو بالتعاطي الانتقائي معها بما يخدم مصالحها، فتكون متطفلة على الحقل الديمقراطي، فذلك يُزيد من تعقيد الواقع السياسي سوءاً في دولنا، ويساهم في تثبيته، بدلاً من العمل على تغييره من أجل نهضة وتقدم بلداننا العربية.

ولعلي الوردي عبارة مشهورة عن موقف العرب من الديمقراطية “لو خيروا العرب بين دولتين علمانية ودينية، لصوتوا للدولة الدينية وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية”. ويبدو أنه مصيب في ذلك

اقرأ المزيد

الزواج الشرعي والزواج المدني بين المؤيد والمعارض

دينا الأمير
في الآونة الأخيرة كثر الجدل في الدول العربية حول القبول بالزواج المدني، حيث أن جميع الدول العربية لا تعترف به، وفق اعتقاد سائد بأنه يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، باستثناء تونس الدولة العربية الوحيدة التي تقرّ هذا الزواج، عملاً بقاعدة فصل الدين عن القانون والأحوال الشخصية.
في شهر فبراير الماضي أعلنت وزيرة الداخلية اللبنانية ريا الحسن عن تأييدها للاعتراف بالزواج المدني، لإتاحة المجال للأشخاص الراغبين بالزواج دون عقد ديني، في بلد يعاني من طائفية شديدة، معلنة أنها “ستسعى لفتح الباب لحوار جدي وعميق حول هذه المسألة مع كل المرجعيات الدينية وغيرها، وبدعم من رئيس الحكومة، حتى يصبح هناك اعتراف بالزواج المدني”.

أثار إعلان الوزيرة نقاشاً حاداً بين مؤيدي ورافضي هذا العقد، حيث رفض مفتي لبنان، الشيخ عبد اللطيف دريان، تصريح وزيرة الداخلية، وقال المكتب الإعلامي لدار الإفتاء اللبنانية: “إن موقف المفتي دريان ودار الفتوى والمجلس الشرعي ومجلس المفتين معروف منذ سنوات في الرفض المطلق لمشروع الزواج المدني”. وأضاف: “أن هذا الزواج يخالف أحكام الشريعة الإسلامية السمحاء، ويخالف أيضا أحكام الدستور اللبناني في ما يتعلق بوجوب احترام الأحوال الشخصية”.

في البحرين لا يسمح القانون بالزواج المدني بالنسبة للمسلمين لنفس الاعتبار، حيث نصّ الدستور البحريني على أن: “دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع”، ويعتبره زنا وثمرة الزواج المدني من الأبناء أولاد سفاح ولا ينسبون إلى آبائهم ولايرثون، وفي حال إتمام الزواج المدني خارج البحرين، يتعين على الزوجين إعادة الزواج بعقد شرعي. كما يرفض المجتمع الزواج المدني كونه مجتمعاً إسلامياً محافظاً. ولكن يعطي القانون البحريني حق الزواج المدني لأصحاب الأديان الأخرى.
مؤخراً نظمت مجموعة رؤى بالتعاون مع مركز تفوق الاستشاري للتنمية مناظرة افتراضية إلكترونية بعنوان “عقد الزواج الشرعي والمدني، بين المؤيد والمعارض”، شارك في المناظرة عدد من الناشطات، حيث تمّ استعراض الفروقات والمميزات في كل من العقد الشرعي والعقد المدني، وطرحت الآراء المتباينة حول الموضوع من قبل المشاركات. وقبل أن نستعرض ما دار في المناظرة، دعونا نوضح الفرق بين الزواج الشرعي والزواج المدني:
الزواج الشرعي: هو الزواج الذي يُغلفه الإطار الديني، ويُوَثَّق على يد كاتب عدل من المحكمة، ولا يُعدّ الزواج شرعيًا وكاملًا إلا بوجود ولي أمر الزوجة وبحضور شاهدَين عاقلين بالغين، ويتم الإيجاب والقبول من الزوج والزوجة وبمهر يُكتب على الزوج للزوجة.

الزواج المدني: هو الزواج الذي يتم في المكتب المدني بوجود موظف متخصص يكتب عقد زواج بين الزوجين، دون أي مراسم دينية أو وجود أي من أهل الزوجين، ويُسجَّل في سجلات الدولة حتى يُصبح زواجًا رسميًا وقانونيًا ويحفظ لكل من الزوجين حقوقه وواجباته.

الآراء التي طرحت حول الزواج المدني والزواج الشرعي:

المؤيدون للزواج المدني:
يرى المؤيدون للزواج المدني أنه يواكب العصر والتطورات المجتمعية، ويحفظ حقوق المرأة والرجل ويحقق العدالة والمساواة بين الزوجين وينظمها، ويكون العقد بمثابة عقد شراكة بين الطرفين، ويساوي بين الزوجين في الكثيرمن الأمور. بالإضافة إلى أن العقد المدني لا يسمح بتزويج شخص متزوج (تعدد الزوجات)، وهذا يشكل، برأيهم، حماية للمرأة من ارتباط الزوج بأخرى دون علمها، ولا يوجد بيت الطاعة أو نشوز الزوجة، أو حرمانها من العمل. كما يعطي حق الطلاق للزوج والزوجة معاً، خلافاً لما عليه الزواج الشرعي والذي جعل الطلاق في يد الزوج ولأي سبب دون تحديد، وللزوجة حق طلب الفرقة (الخُلع). كما يرى مؤيدو الزواج المدني بأنه يرتكز أساساً على إلغاء الفروقات الدينية والمذهبية والعرقية بين طرفي الزواج. ويعتبر الزواج المدني زواجاً صحيحاً ومكتملاً لأنه مسجل وموثق رسمياُ.

إن الزواج مبني على الشراكة بين الطرفين، وهذا ما يعززه الزواج المدني حيث يساوي الزوجين في الإنفاق، في حين أن العقد الشرعي أوجب النفقة على الأسرة في الأصل على الزوج وحدده دون الزوجة. أما بالنسبة لحضانة الأطفال فيرى المؤيدون بأن الزواج المدني ينظر لمصلحة الطفل عند وقوع الطلاق ومع من يكون خلافاً للعقد الشرعي والذي يحرم الأم من حضانة أطفالها في حال زواجها بآخر أو بلوغهم السن لانتهاء الحضانة. بالإضافة إلى ذلك يقول المؤيدون إن الزواج المدني يخفف من سلطة رجال الدين الذين يضعون القوانين بعيداً عن الدين الإسلامي وينحازون لجنسهم.

لذا يرى المؤيدون بأنه آن الأوان لتطوير عقد الزواج بما يحفظ حقوق وكرامة المرأة، ومعاملتها كإنسان ومواطن ويساوي بينها وبين الرجل أمام القانون وفي الحقوق والتشريعات دون تمييز، ومنح المرأة الراشدة الحق في تزويج نفسها دون الحاجة إلى وصي عليها، ففي وقتنا الحاضر وصلت المرأة إلى مستوى عالٍ من الوعي والتعليم، ومن حقها اختيار ما تراه مناسباً. ووضع الشروط في عقد الزواج الشرعي لا يحمي المرأة، لأنه في أحيان كثيرة لا يتم تنفيذها، والسؤال الأهم من المسئول عن تنفيذ هذه الشروط في حال الاخلال بها؟ الزواج المدني هو الأفضل بالنسبة للمرأة.

المعارضون للزواج المدني:
يرى المعارضون أن عقد الزواج الشرعي هو عقد قديم ومعروف لدى الجميع، فهو لا ينظم علاقة الإنسان بالإنسان فقط كما يفعل الزواج المدني، بل يتعداه إلى تنظيم علاقة الإنسان بنفسه وبربه وبالمحيط الاجتماعي ككل، حيث لا يمكن الفصل بين ما يؤمن به الإنسان وبين ممارساته وسلوكياته داخل المجتمع الذي يعيشه.

عند طرح موضوع الزواج الشرعي واللغط الدائر حوله، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الفصل بين ما هوسائد عرفاً وما هو مُشرع دينياً، والحُكم البشري مهما تتطورفهو قاصر ونسبي حسب الزمان والمكان، كما يجب أن نفرق بين الأحكام القطعية والأحكام الجدلية في الإسلام.

هناك اختلاف كبير بين ما جاء في العقد الديني، وما جاء في العقد المدني تكمن في قضايا الطلاق، والنفقة، والقوامة، والإرث، والمهر، وجميع ما يتصل بالأحوال الشخصية، والزواج المدني مخالف للشريعة الإسلامية، وفيه بعض المخالفات التي تجعل هذا الزواج باطلاً، مثل القبول بزواج المرأة بغير المسلم، أو الزواج دون وجود ولي للزوجة، كما يمنع الزواج المدني من أي ارتباط آخر وقد يجرم عليه، وهذا مناقض لما أحله الله وجعل التعدد حلاً لكثير من المشاكل الاجتماعية.
ويقول معارضو الزواج المدني إن التطبيق الخاطئ وغير العادل للشرع من قبل بعض القضاة يقف وراء المشاكل في الكثير من الزيجات، وليس للزواج الشرعي دخل في ذلك، فمثلا من الممكن أن تضع المرأة شروطها في العقد الشرعي لتجنب ما تراه قد يسبب لها مشاكل مستقبلاً. أما الطلاق فلم يمانع الشرع أن تشترط المرأة أن تكون وكيلة نفسها في الطلاق في حال حدوث مشكلات محددة كعقم الزوج، جنونه، إدمانه، سجنه، غيابه، إصابته بمرض معدي أو نفسي حاد، إستخدامه للعنف ضدها وغيرها من الأسباب.
أما وجوب النفقة على الزوج فلم يمنع الشرع مشاركة المرأة في النفقة بل أثنى عليه، وعلى المرأة أن تحفظ حقها بمستندات ثبوتية، وفي العقد الشرعي تكون الذمة المالية للزوجين منفصلة، والقوامة مرتبطة بمن ينفق، وهذا ما لا نجده في العقد المدني. بالإضافة إلى أنه في حالة وفاة أحد المتعاقدين في الزواج المدني لا يوجب الإرث الشرعي ولا يضمن حق النفقة.
يرى المعارضون أنه قبل الاتجاه نحو إيجاد بدائل للزواج الشرعي كالزواج المدني أو غيره، من المفترض أن نتمهل وندرس العقد الشرعي جيداً لتجنب العديد من المشكلات التي قد تنجم لاحقاً، وأن أصل المشكلة ليست في عقد الزواج الشرعي، وإنما المشكلة في عدم تطبيق الشرع بشكله الصحيح من قبل البعض. وبإمكان المرأة حفظ حقوقها بتوثيق ما تريده في عقد الزواج الشرعي لأنه يحمي المرأة.
رأي آخر:
كان هناك رأي آخر حول الموضوع، حيث يرى البعض أن العقد الشرعي جيد وإيجابي في بعض النواحي وكذلك بالنسبة للعقد المدني، لذا يقترحون أن تكون هناك خيارات متعددة للراغبين في الزواج، بأن يكون الزواج الشرعي والزواج المدني متاحاً للجميع، وبالتالي فليختر كل شخص بحسب قناعته العقد الذي يراه مناسباً له، فمن أراد الديني فهذا خياره، ومن أراد المدني فهذا أيضاً خياره، على أن يكون الشخص واعي لما هو موجود في العقدين، وبالتالي يكون مسئولاً عن اختياره مستقبلاً.

الخلاصة:

وفي الختام ترى الناشطات أن الزواج المدني غير مقبول في مجتمعاتنا، وان الأصح هو التركيز على إصلاح ما لدينا من قوانين مثل قانون أحكام الأسرة الموحد في البحرين والذي صدر عام 2017، ليكون قانوناً عصرياً موحداً يرتقي لطموح المرأة البحرينية ويحميها. أما بالنسبة لعقد الزواج، ففي عام 2010 أطلقت جمعية البحرين النسائية بالتعاون مع الاتحاد النسائي البحريني مقترحاً نموذجياً لتطوير وثيقة عقد الزواج اشتمل على بنود تفصيلية للاتفاق بين طرفي العلاقة من شأنه أن يأخذها إلى بر الأمان، ويحمي حقوق المرأة، وعلى المهتمين العمل والدفع على اعتماد هذه الوثيقة كوثيقة زواج رسمية في المحاكم الشرعية بشقيها السني والجعفري.

اقرأ المزيد