المنشور

بديلٌ للرصاص

فاطمة محسن

تربطني بك علاقة قدرية، كان الألم صغيراً كسني عمري، لكني كنت أفزع منه والتجئ لأحضانك، أنهل من كلماتك فتهدأ روحي وكلما كبرت كلما ازداد ألمي مما جعلني لا أفارق حضنك، أعانق كلماتك، صورك، لوحاتك الجميلة، أنهل من علم الجمال، قدرتك التعبيرية تفوق كل الفنون لطالما كنت معجبة بكل الفنون.

التصوير، الموسيقى، المسرح والتشكيل كانت هذه الفنون تطوف بي عوالم الإبداع فتترك في القلب مياهاً صافية تتفجر على صخور القسوة المسيطرة على عالمي، لكنك كنت دائماً هاجسي ومصدر قلقي وكانت لغتك المتناسقة في سياق فني وروحي تقربني منك أكثر وتنسيني الكثير من ألمي كنت أقبل حروفك، موتيفاتك الفنية البحتة.

وحين يضج صدري بالألم كنت تدخلني عالما غريبا من الرمزية والفلسفة تلون كل ذلك بسمات تعبيرية، وجدانية، انطباعية تصور عالم روحي المتهالكة معاناتي، تأملاتي، مزاجيتي كنت تنساق لداخلي بجمال حواسك وأصواتك وحين يستبد بي القلق والمرض تداوي نفسي بلعبة المخيلة تشغفني بسحر اللون والصورة تسافر بي لعوالم الرومانسية فتجعل جسدي وروحي في حالة توازن حتى حين تتكلم بشكل كلاسيكي وأكاديمي كنت تأسرني وتبدد ضباب الفراغ والضياع ترقى بإنسانيتي وتبرزها.

كنت ملاذاً يشبه البياض لروحي المتآكلة من صدأ الظلم والقهر والعنف تحارب بداخلي الحقد وتهطل مطر شفافيتك على صمتي فتغريني بفتنة البوح على بياض قلبك بما يثقل ذاكرتي من عمق الخسارات. جنونك عاقل وعقلك مجنون كنت حريتي وشهقة الحب الأولى.

أيها الشعر.. كنت دائماً قادراً على نشر الضوء في ليل الروح فهل تصبح اليوم بديلاً للرصاص.

اقرأ المزيد

هنريك غروسمان وقانون الإنهيار الرأسمالي

في دراسته (قانون التراكم والانهيار)، عمد غروسمان إلى نقد توجهين نظريين في الاقتصاد الماركسي: النظرية التناغمية (التي تتمثل بهيلفردنغ وبوخارين، إلخ) ونظرية شح- الاستهلاك (كاوتسكي، روزا لكسمبورغ، هوبسن، إلخ)، ولهذين التوجهين مصادرهما المباشرة من الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، حيث الأول يمثل امتداداً لريكاردو وساي بينما الثاني لسيسموندي.

في نقده يتوصل غروسمان إلى صيغة يجد فيها بأن قانون التراكم والانهيار هو في الحقيقة واحد، ايّ كون التراكم الرأسمالي دائماً يؤدي إلى الانهيار الرأسمالي. من الواضح بأن هذا الهمّ مشترك بالمحاولة النظرية التي تقدمت بها روزا لكسمبورغ في مؤلفها (تراكم رأس المال)، ولكن لا ينطلق غروسمان من مثل المنطلق النظري إذ محاولته تتضمن التحليل التجريدي لقانون التراكم والانهيار؛ بينما روزا لكسمبورغ افترضت حضور عوامل أخرى في إعادة الإنتاج المتوسعة (نموذجها لم ينحصر بطبقتين، وافترضت وجود مناطق لا-رأسمالية، وأدخلت التجارة الخارجية ضمن التحليل).

بمَ يتألف التحليل التجريدي هذا؟ يلبي غروسمان كل المتطلبات العلمية لتحليل إعادة الإنتاج المتوسعة: وجود طبقتين فقط، غياب التجارة الخارجية، الإنتاج والتبادل ما بين قطاعين فقط، غياب الريع الزراعي، ثبات معدل القيمة الزائدة، ثبات رأس المال المتحرك، ثبات دوران رأس المال مرة واحدة في السنة. ولأنه انطلق من نموذج باور لإعادة الإنتاج المتوسعة فإنه بالتالي أبقى على ثبات معدل التراكم ليتطور رأس المال الثابت ضعف رأس المال المتحرك، وذلك ايضاً تلبية للمتطلبات الأساسية للاقتصاد الماركسي.

يحصل بأن مع البقاء على هذه المتطلبات لا بد للتراكم أن يؤدي في لحظة من اللحظات إلى عدم القابلية على الاستمرار، وفي نموذج غروسمان يحصل ذلك بعد 34 سنة من استمرارية التراكم. وفقاً لذلك، توصل غروسمان إلى استنتاجين: الأول، لا يُمكن أن نفسر فائض- الإنتاج، وبالتالي فائض- التراكم، إلا على أساس فهم حقيقي لقانون القيمة. هذا يعني بأن الميل نحو هبوط معدل الربح يتحدد مباشرة بقانون القيمة، ومن غير هذا الفهم سنجد أنفسنا في التناقض الذي وضعت لكسمبورغ نفسها فيه ما بين نموذج التراكم وهبوط معدل الربح. ولأن هذا الميل يتحدد بقانون القيمة، فإن قضية فائض-الإنتاج تصبح، إذن، قضية التناسب ما بين القيمة الزائدة والتركيب العضوي لرأس المال من حيث يكون هبوط معدل الربح مؤشراً للانخفاض النسبي للقيمة الزائدة من حيث لم تعد بحالها قادرة على تغطية مدى تضخم التركيب العضوي.

أما الاستنتاج الثاني فهو يرتبط بفرضية غروسمان الأساسية: لما كان قانون القيمة يفرض هذه العلاقة، فإن هذا يعني بأن الانهيار الرأسمالي متضمن في التحليل التجريدي للرأسمالية.

إن الاستنتاج الأول هو صحيح لا ريب في ذلك، ولكن النزعة الخاطئة في فكر غروسمان موجودة عند الثاني. إنه أدرج الانهيار الرأسمالي، ايّ أدرج عملية انقطاع إعادة الإنتاج المتوسعة، في عملية إعادة الإنتاج المتوسعة بالتحديد كشكلها النظري المحض، أو كقدرها النظري في سبيل إثبات ثورية فكر ماركس. ولكن ثورية هذا الفكر تكمن بالتحديد في تحليل إعادة الإنتاج المتوسعة من دون انهياره إذ النظام الرأسمالي، مثل جهاز اللاوعي، لا يتخيل ابداً زواله.

على العكس من التناغميين الذين يفترضون بأن في ”أرض الواقع“ من الممكن أن يستمر معدل الربح في الهبوط بشكل مطلق، نقول بإن ذلك ممكن فقط في النظرية. إن الوقوع في ما وقع به غروسمان تعني الموازاة المباشرة ما بين مفهوم الأزمة الرأسمالية والميل نحو هبوط معدل الربح، ايّ كما لو كان هذين المفهومين مرادفان لبعضهما الآخر. بينما يصرح علم التاريخ بأن الرأسمالية لا بد أن تؤدي إلى الأزمة، ولكن هذا التصريح لا يمكن أن يتوازى مع: الرأسمالية هي هي الأزمة. إنه كما لو كان هناك من يقول: “وجود الإنسان لا بد أن ينتهي في وقت ما إذن الإنسان هو كائن ميت”، حيث مصير وظائف القلب والعقل وحركة الدم كلها هو التوقف عن الحركة. ولكن تحليل التكوين العضوي البشري لا يفترض موت هذا التكوين رغم أنه لا ينكر إمكانية موته، لا وبل يؤكد حتمية ذلك، إذ إن غرضه تحليل عمل هذا التكوين العضوي الجسماني بالتحديد، ايّ تحليل هذه الأعضاء في عملها.

اقرأ المزيد

متاهات حيدر

النفس البشرية معقدة بما يكفي للخوض في تفاصيلها، وتفسير منعطفاتها المتعددة حتى نهاية الحياة. وتحتل هذه العقد مجمل التصرفات اليومية الناجمة عن مركبات أفكار غالباً ما تتكون في مراحل الطفولة الأولى، وحين لا تحسن رعايتها والعمل على إصلاحها مبكراً، تتمادى في الكبر، وتبدو في البناء الأساسي للشخص في تفكيره، وردود فعله، ومخزونه اللا واعي الذي يمول به الجزء الأكبر من سلوكه. لن يبدو هذا الأمر مخيفاً إذا ما فكرنا أن لدى الجميع هذه العقد التي نشأت للظروف المحيطة بالفرد، أو للحساسية الشديدة التي تجعل العقدة علامة فارقة يتصرف بناء عليها الشخص، أو أن يضمها في خزنة التناسي ليستطيع إكمال حياته، ويبدو سليماً، معافى، ويمثل صورة السوي المثالي.
يغوص عرض “حيدر”، منذ وقته الأول، في نفس بطله المسمى بعنوان النص والعرض أيضاً، “حيدر”، دون إضافة ترادفها في اللغة العربية “أسد”، في حين أن مصدر الكلمة يأتي من “حدر”، ويعني ما انحدر من الأرض. وعلى نقيض المعنيين، تبين الهيئة التي ظهر عليها الممثل إرهاقه الذهني، حيث يهذي بـ”أبي الذي.. أبي الذي”، ثم يردفها بجمل غير معلوم إن كانت موجهة إلى الأب، أم إلى الخالق، وباعتبار أن الشخصية غير سوية حين يعاتب “لماذا تركتني هنا؟ لماذا نسيتني؟ ألا يكفيك كل هذا الوجع، وكل هذا الأنين؟ لماذا اخترتني إذاً؟ أي هدف ترمي إليه؟ إذا كان دمي يكفّر عن خطايا وذنوب البشر، فقد جف دمي..”. وأياً كان الموجَّه إليه العتب، فإن هذه البداية تكشف عن شخصية مضطربة، مرتبكة، تتعالج في مستشفى لهذه الحالات، فلا يطول المقام في التمهيد كثيراً بين نثر بصوت مؤدَّى بطريقة تمثيلية لـ”جمانة القصاب”، جاء مثل الراوي الشارح للحدث، والمعبر عن مكنون النفس، بغير تداخل مادي على الخشبة مع باقي الممثلين، مع موسيقى حية مشحونة بالشجن المرتبط بالعاطفة وتداعياتها لآلة التشيلو، مع العازف “حامد سيف”، وقد جاء هذان العنصران إضافة مهمة وحيوية للعرض في مصاحبة الممثل طوال الوقت، والدخول في الأداء، دون مبالغة، وبدقة هائلة تحسب للمخرج وللعمل.
وحين تتردد سيرة الأب بين حيدر وطبيبه والممرضة، تستدعي الذاكرة -تلقائياً- عقدة الأب، التي تنحو صوب الاعتمادية الكلية على الأب، وعلى طريقة إدارة حياة أسرته في القسوة والعنف، الأمر الذي يترك أثره بلا شك في أولاده، وقد عبر عنها الممثل في وصف أبيه بأنه “كان طويل الساقين والذراعين، ولم أكن أعرف أنه يملك وجهاً..” في معرض نقاشه مع الطبيب الذي لا يبدو هو الآخر خالياً من ذات العقدة، ولكن بقدر أخف من “حيدر”، أو ربما قال جملته “كنت أمسك يد أبي حينما أسقط في المستنقع وراء البستان.. كانت هذه اللمسة الوحيدة”، وقد تكون جملة تخفف عن عبء مريضه، وتحفزه لمزيد من الحديث عن ذاته، وبالتالي علاجها، لكنها لا تخلو من إشارة إلى قسوة متباينة بين أب وآخر، تضع آثارها على حياة ابنيهما؛ حيدر والطبيب، في جودة الحياة التي يمر وقتها بناء على ما حصل للفرد في ماضيه رغماً عن إرادته، وبين ما يختاره حتى تلتئم جروحه سريعاً، فيمر على محطات التوجه الديني، أو نقيضه الفكري، أو الخلط بينهما بتطرف، أو حتى كتابة “مقال عن المحرمات”، عن أشياء لا يفهمها، ولكنه يضطهد من قبل الجميع لأسباب لم يفهمها! عدا العنف الجسدي الذي يبدو أنه أخذ من ذاكرة الممثل الحسية جزءاً لا يستهان به، انعكس على مجمل تصرفاته المرتبكة في أن يخاف الأذية الجسدية والضرب من قبل أي أحد، وبلا سبب، متقمصاً شخصية المهزوز، عديم الثقة بنفسه وبالآخرين أيضاً.
لكن، هل كان حيدر يعاني من عقدة الأب فقط؟ إن بعض الإشارات التي ذهب إليها العرض هي ملامح لعقدة الأم أيضاً، والتي تحيل إلى عقدة أوديب الشهيرة، والمتعلقة بالابن تجاه أبيه، بسبب القيود التي يفرضها الأب على الطفل الذكر؛ من أن يستحوذ الابن على أمه بالكامل، ويستبعد الطفل أباه -لا شعورياً- من مشاركته في حب أمه. تبيّن هذا في أكثر من ملمح، منها ما جاء على لسان البطل، حين وصف والده بأنه كان يكره أمه، ويستمتع في التحكم بها، وازداد هذه الكره حينما ولدت حيدر، ورآه والده في مرة وهو يرضع من ثدي أمه، فرغب في قطع الثدي بشدة! لأنه شعر أنها تحررت، ولم تعد تكترث. ويكبر حيدر ليدرك أن “خط سيره عفن؛ ذلك أن الأطفال لا يكبرون دون أمهاتهم” كما تردد الراوية.
وانعكس كذلك على تجاربه مع الأنثى في حياته “المرأة ضرورية”، كما يردد، ونرى تجاربه في تلك الفتاة المعجب بها، والتي واعدته بلطف المحبين، وأثناء حديثهما يلمس وجهها بالتدريج ليحتفظ بجزء من جلد وجهها تحت ظفره، حتى يكشف عن القناع الذي تتغطى به، أو تلك الجارة العجوز التي حاولت انتهاك طفولته بتحرش لم يدرك معناه بالكامل، لكن أدرك بفطرة الطفل الخائف المشوش أنه فخ للوقوع في خطأ لا يدركه، ولكنه يعي أنه أمر مشين، وعلاقته بالممرضة التي تحوطه طول الوقت، وغيرها. أما علاقته الغريبة بعمته التي أرسِل لها -قسراً- بعد وفاة أمه، فهي التي تحمل علامات الاستفهام الكبرى، إذ أظهر العرض العمّة “إيمان قمبر” -التي قامت بمجموع كل الأدوار النسائية في العرض-، وعلاقة لا تبدو سوية، من خلال نبرة الصوت، وطريقة اللمس من العمة التي تأتي في مقام ولي الأمر هنا، لابن أخيها الذي لا يتعدى الثماني سنوات، وتعنيفه حين طلبت منه تقبيلها، واستخدام الحليب لاستحمامه، في مغزى قد يؤوَّل بعيداً جداً عن العلاقة السوية الخالية من النزعة المادية النفعية بين ذكر وأنثى، دون تصريح مباشر، أو علامة أخرى تعزز هذا الرأي، مما يجعل المسألة معلقة؛ هل هي حقيقة بينة موجودة، ومرّ بها حيدر، أم أنها محض تهيؤات تتداخل فيما بينها، تدور في ذهنه، ويشركنا معه فيها؟
ولأن الحياة تخضع كل إنسان لهذه الاختبارات العصية على النسيان، والممتحنة للصبر، والوعي، والقدرة على الإدارة، يضع العرض أسئلته فيما يخص تجربة بطله؛ فيما إن تعرض أيّ “حيدر” في الحياة لتجربة مماثلة عن ماهية ردة الفعل المثالية للعيش بشكل سوي وأنيس -حتى ولو بشكل سطحي- مع باقي البشر، عن مدارة تقرحات الطفولة والكبر، والانسجام معها، أو اخفائها، أو أن تبدو كعقل حيدر المتجسد في لون ملابسه الرمادية المشتقة من الحيرة، والوقوف في منطقة النصف؛ بين الأبيض الواضح، والأسود الصريح الغامض، ومجسمه على خشبة المسرح على هيئة مخ مثقوب من كل مكان، خطوط دقيقة، لكنها كثيرة متقاربة، وتسمح بتسرب الأفكار وفضحها، حتى وإن لم يكن هذا مناسباً للإعلان أمام الآخرين.
ورغم ارتكاز الأداء التمثيلي على “حيدر” (صالح الدرازي)، في أداء لافت، ممتنع، سهل، معقد، بسيط، مريض، مرتبك، وحريص على أن يبدو مكتملاً في التعبير عن الحالة النفسية التي مرّ بها منذ الطفولة وحتى وقته، إلا أن إدخال الشخصيات الأخرى المتمثلة في الأب/ الطبيب/ مدير المستشفى وكذلك الأم/ العمة / الممرضة والحبيبة، في عبدالله السعداوي وقمبر، كانت تقنية موفقة، تمنع المونولوج الطويل الذي قد يشيع جواً من الأسى، وأيضاً لكسر حاجز السرد المتواصل للثيمة الواحدة “معاناة مريض نفسي”، وإحساسه الدائم أن الآخرين هم المرضى الذين يجب إحضارهم للمستشفى ومعالجتهم بدل أن يتم حبسه هو وتعذيبه بجلسات كهربائية لا يستحقها، وتوجسه المبرر مع كل مراحل حياته؛ في طفولته مع والدته/ النشأة، يتيم ومحروم من حنان الأم، مع قسوة غير مبررة من الأب/ العيش مع الجدة التي ذهبت بصحبة الموت سريعاً، ثم العمة التي أربكته طريقتها غير السوية، وموتها لاحقاً.
وإذا كانت التفاحة هي الرمز المألوف في الإغواء وخروج آدم من جنته، يستخدم العرض البرتقالة لسبب مقارب، ولكنه مختلف، عن أن هذه الفاكهة وسيلة إخصاء، تهدد بفناء البشرية الذين سيتبقى منهم جزء قليل سيتولاهم الله فيما بعد ليلحقهم بمن ذهبوا. واستخدمت البرتقالة أيضاً كمخايلة عن تعبير جنسي موازٍ عند حيدر، ثبتت حركته بعد أن ضبطه والده في هذا الفعل الذي يقتضي منه “التطهر” مما لا يفهمه. وقام المخرج بإلغاء السيمفونية الخامسة لبيتهوفن التي دعا لها النص المكتوب، مع أنها تعزز المعنى في الرغبة بالتحرر من القيد، ونيل حياة جديدة، كما كان للموسيقار الألماني، رغم كل الصعوبات التي واجهها في حياته؛ من قسوة الأب، وظروف عائلية عصيبة، وأمراض مستعصية في وقت لاحق، أن يفتح باباً جديداً للحياة، ويعطي الأمل لكثيرين مثل حيدر، الذي يبتهل صادقاً في آخر العرض “خذني أو كن دليلي”.

لمشاهدة العرض كاملاً:

طاقم العمل: تأليف: أمين صالح/ إخراج: محمد شاهين/ تمثيل: صالح الدرازي/عبدالله السعداوي/ إيمان قمبر/ سينوغرافيا: علي حسين/ تأليف موسيقي: حامد سيف

اقرأ المزيد

الأخلاق والطغيان الأخلاقي

في رواية “موت صغير” الحائزة على جائزة البوكر لسنة 2017 والتي تتحدث عن سيرة الشيخ محيي الدين ابن عربي، تُخبره شيخته فاطمة بنت المثنى حين كان سالكاً في طريق الاستقطاب بأنه لبلوغ وتده – والوتد هنا هو المرشد الروحي – عليه أن يُطهر قلبه، فيعمل ابن عربي على تطهيره من جميع المفاسد إلا أن الوتد لا يجيء ولا يفصح عن نفسه. تسأله الشيخة: كيف طهرّت قلبك؟ فيجيب: “حمَّلته على مكارم الأخلاق وصفاء السريرة وحسن النية حتى صيرته رافضاً كل صورة”. فردت عليه الشيخة بأن تلك نصف الطهارة، ولكي تتم نصفها الآخر عليك أن تصير قلبك قابلاً كل صورة.
قدّمت لنا تجربة ابن عربي في تاريخنا الإسلامي نموذجا سامياً للإسلام الروحاني الذي يتخطى الاختلافات ويرى الواحد في الكثرة، حيث صار قلبه وصيّر قلوب الكثيرين قابلة لكل صورة. علاوة على وحدة الوجود عند ابن عربي، أسس شيخ آخر يدعى حمدون القصّار طريقةً أخرى في تهذيب النفس، إنه يقول: “إذا رأيت سكراناً فتمايل لألا تبغى ويبغى الناس عليه”. أي تمايل مع السكران لكي لا تجعله وحيداً في الساحة وتحرض الخلق كما تحرض نفسك على الطغيان والظن بأنَّك ومن معك أفضل منه. عرفت الطريقة القصّارية بالملامتية أيضا، لأنها تقوم على لوم النفس والانشغال بتهذيبها للوصول إلى السمو الروحي: “من انشغل بذكر عيوب الناس شغلته عن ذكر عيوبه”.
هذه هي القاعدة التي جاءت منها أيضا نصيحة اخوان الصفا في تهذيب العلماء حين قالوا في رسالتهم الموسوعية التي ضمَّت من كل علم شيئا: “ولا تشتغلن بذكر عيوب مذاهب الناس، ولكن انظر هل لك مذهب بلا عيب!”. ولما سألوا الحسن البصري: من شر الناس. أجاب: “من ظن أنه خيرهم”. وصدقاً ما قال، يوجد الكثير من الشر حين نرى الخير الذي فينا.
إن القيم الأخلاقية تشكل عُصابا عند الكثير من الناس يدفعهم نحو الطغيان الأخلاقي مع من هم دونهم، إلا أنهم امام التعامل مع غيرهم يسقطون سريعاً في المستنقع ليبينوا لنا كيف أن هذه القيم تحمل في طياتها ذاتاً متضخمة تسقط بها للأسفل. إن هذا العُصاب يجعل بيننا وبين الفهم حجاباً لأننا دائما في حال محاكمة للآخر.
في حياتي كان للطغيان الأخلاقي حضوراً منذ الطفولة، كان لنا في القرية جار مدمن على شرب الكحول، رحمه الله، توفي وحيداً قبل سنوات، ولم تكن له زوجة تعينه على مشاق الحياة، أما جنازته فكانت صغيرة على قدر التابوت. عرفناه رجلاً في حاله، لم يؤذِ أحد لكن الكثير كانوا يؤذونه إن لم يكن بالفعل فبالقول، وإن لم يكن أمامه فمن خلفه. يوم كنا صغاراً لعبنا بمحاذاة منزله، كان يجيء إلينا من مقرّ عمله بالمطار محملاً بأشياء تُسعدنا، ألعاب ومأكولات، وعرفت منه لأول مرة طعم سندويتشات المارتديلاً، أما حين كان يعطيني شيبس الفونزيس كانوا يأخذونه مني ليغسلوه سبعاً بغية تطهيره من النجاسة! كبرت وأدركت أكثر كم أن القلوب الطاهرة لا تنجسها النجاسات الخارجية، بينما نجاسة القلوب لا يمكن تطهيرها بالأردية والاغتسال، فأخطر النجاسات لا تأتينا من الخارج بل ما ينبعث من الداخل.
في إحدى السنوات قبل وفاته حدث جدال بين اثنين من أقاربي على إثر دخول جارنا هذا مأتماً. كان أحدهما أكثر تشدداً من الآخر فقال بأنه لا يمكن “للخمار” ان يدخل المأتم لأنه ينجسه، ويسيء للمأتم وسمعته أيضا. بينما قال الآخر: لِم لا، عسى أن يكون دخوله باب هداية له. أما أنا فكنت أرى المأتم باب الله المفتوح الذي يسع العالم كله، سواءً اهتدى الداخل إليه أو لم يهتدِ، فمن ذا الذي يخلو من المعاصي. ومن ذا يعرف من هو الأكثر مقربة إلى الله. أشيخ المنبر أكثر طهراً أم هذا الخمار. من يدري؟!
في واحدة من أبرز الحوادث التي شهدت فيها طغيانا أخلاقيا فاقعاً كان حين استيقظت في صباح الخامس عشر من يونيو الماضي على خبر انتحار الناشطة المصرية المدافعة عن حقوق المثليين سارة حجازي، أخذت اتصفح التعليقات على خبر الوفاة فكانت معظمها تتمنى لها جهنم وبئس المصير، وأخرى تكيل على قبرها سيل لعنات لا نهاية لها. كانت التعليقات بعد مماتها كافية لمعرفة السبب الذي قادها للانتحار. قلت: نحن أيضا شركاء في الجريمة. نحن من قتلنا سارة، لم تقتل سارة نفسها.
في معرض حديثنا عن سارة حجازي وتهكمي من تنمر الناس عليها وهي جثة تحت التراب، قال لي أحد الأصحاب في محاولة لاستفزازي: “لا تأخذ الموضوع من ناحية شخصية، ولكن لو كان ابنك أو ابنتك لديهما هذه الميول هل ستقبل بذلك؟”.
البعض لا يدرك لحد الآن أن هذه معاناة جسدية حقيقية، لا يستطيع البعض تحديد جنسه حتى في أبسط الأشياء مثل دخول الحمامات العامة: هل علينا دخول حمامات الإناث أم الذكور؟ فإذا كان هذا يحدث على المستوى الجسدي فكيف بالمستوى الذهني الذي لا ينفصل عن الحالة الجسدية؟!
إن كل هذا الخوف من الهوية الجنسية والميول المثلية يتعلق بالنظر إليها كمرض معدٍ سينتشر سريعا بين الناس، وبأنها مسألة منافية للأخلاق لأنها خارجة عن القانون الطبيعي، ولكن هل هناك قدسية للقانون الطبيعي؟ وهل هو بهذا الجمال والحدية؟ ألا تخرج من هذا القانون الطبيعي اعاقات جسدية ظاهرة وتشوهات وطفرات جينية يصعب علاجها أو يؤدي علاجها بالخطر على حياة الإنسان؟ لن أطيل هنا لأشرح درسا في الجندر، بل لمن يريد ذلك عليه أن يرجع للأبحاث العلمية التي تفسر العشوائية في الطبيعة وتعدد الهويات الجنسية التي فيها، ليس في عالم الإنسان فقط بل في عالم الحيوان أيضا.
لأردّ على سؤال صاحبي الذي أراد به استفزازي كان علي أن أقارب مقاربةً قد تبدو للبعض ساذجة، إلا أنها تجيء بفائدة خصوصا مع أولئك الذين ينظرون للمثلية كتشوه في الصورة التي يجب أن يكون عليها الرجل والمرأة. أردت من صاحبي أن يتخيل ابنته وهي تعاني من تشوه خلقي ظاهر على بدنها، ويصعب علاجه او تجميله، أعتقد أن كل أب سيصاب بحرقة وسيبحث عن حل عند الأطباء في محاولة لجعل ابنته كغالبية الناس، ولو أن هذه الابنة تعرضت للتنمر الاجتماعي ألن تكون حرقة كل أب أكبر، ليس بسبب مظهرها بل بسبب ما تتعرض له، سيحاول كل أب الوصول لأي من أولئك المعتدين وتلقينهم درسا؟!
ما أضيقنا نحن الذين نستيقظ صباحا لنقرأ خبرا عن شخص ميت لا ندرك عن معاناة أهله وموته وحياته شيئا، ولا ندرك ما الذي كان يحدث حقاً داخل جسده فقط لنشتمه ونكيل على قبره سيل لعنات بينما نستمتع بشرب كوب قهوتنا الصباحي. كم مرة علينا أن نسقط أخلاقياً بحجة أننا ندافع عن الأخلاق. من يدافع عن الأخلاق حقاً عليه أن يتحلى بصفة الرحمة فيرأف بالخلق. وحين يبرز جيش الرب عليك الا ترفع سيفاً بل قدّم قربة ماء واسقي العطاشى في الطريق من المساكين والمعدمين الذين لا يلتفت إليهم أحد، لأن الله ليس بحاجة إلى جنود كالسلطان، إنما إلى القلوب الرحيمة التي تهوّن على الإنسان مشاق الرحلة الدنيوية.

اقرأ المزيد

التحرر من التعب

يخبرنا نيتشه: “لقد سئمنا من الإنسان …”. هل يمكن أن تكون الحداثة خلقت مجموعة من البشر المنهكين؟ هل فرط نشاط حداثتنا يخفي التعب الشديد تحت بريق مظاهره؟ إذا كنا متعبين جدًا، فأين يمكن أن نجد الإيمان لاستئناف الطريق ؟ أين نستيقظ؟

نتحدث كثيراً عن الملل الذي خلفه الوباء الحالي، ونحن نعني في حقيقة الأمر “التعب”. الكلمة المتكررة على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي هي “الملل”، إلا إننا ينبغي علينا في الحقيقة استبدالها بكلمة “التعب”، كدلالة على تدهور الوضع الإنساني، وتعب الإنسان من مواجهة الحياة بكل تعقيداتها وكوارثها. التعب، ما هو إلا دليل على فرط نشاط سابق، فضل المرء أن يستنفذه في ما يلهيه بدل تكريسه في مواجهة ما عليه انجازه. بكلمات أخرى، نحن نضيع حياتنا في عمل أشياء مغايرة عن ما فوضتنا الحياة لعمله، وهذا ما يؤدي بنا الى التعب. نحن منهكون من الاستجابة بشكل دوري لما يلهينا عن مواجهة حقيقة الحياة، التي نفضل أن ننساها ونحن نفعل أشياء ذات منافع قليلة علينا وعلى البشرية. الشخص الجالس عن الأريكة ليس بالضرورة مرتاحًا، بل هو على الأغلب منهك من الخوف، الخوف من أن كل هذا ماضٍ وهو كذلك.

تحدّث نيتشه مطولاً عن هذا التعب وهو يعني تراكم التعب الفيزيولوجي والسيكولوجي، الذي ينتج عنه جبن أو عدم قدرة على مواجهة الصعوبات. الابتعاد عن هذه الصعوبات يزيد من التعب لأنه لا يحله، وإنما يؤجله ويسهم في تراكمه. هناك في التعب ما فيه فائدة وحثّ على الانتاج، تعب يشبه ذلك الخاص بنيتشه وهو يمشي مسافات للظفر بالقدرة على التفكير:

“أعلّم الآخرين على قول “لا”. لأي شيء يجعلنا ضعفاء وعلى قول “نعم” في مواجهة ما يقوينا، و يبرر الشعور بالنشاط و الحيوية. حتى الآن، لم ندرس أيًا من هذه القواعد واكتفينا بالفضيلة، نكران الذات، الشفقة، إنكار الحياة… كل هذه القيم أجبرتني على سؤال نفسي هذا السؤال: (إلى أي مدى دخلت أحكام المنهكين إلى عالم القيم؟). كانت النتيجة التي توصلت إليها مفاجئة إلى حدٍ بعيد، حتى بالنسبة لي، أنا الذي شعرت بالألفة حتى في العوالم الأكثر غرابة: لقد عرفت بأنه بالإمكان تحويل الأحكام العليا إلى أحكام مستنفدة”

في “إرادة القدرة”، يبرز نيتشه امتعاضه من طريقة الإنسان في التعامل مع الأمور التي يريد تجنبها. وضع الإنسان أمام أعينه سلسلة قيم، كالفضيلة والصدق والشفقة …الخ، لاستئصال كل شعور سيء إلا أن هذا الشعور مهم لإنسانيتنا، وتجاهله يجلب المزيد من الشر. الاختباء تحت عباءة الحلم بما بعد الحياة يحرمنا من عيش الحاضر الذي ينبغي علينا مواجهته بحلوه ومرّه. مشهد الإنسان المتعب أصبح عبئًا على الفيلسوف الذي تعب من رؤية الإنسان في هذه الحالة، حتى حمل على نفسه واجب تغيير هذا الحال.

عندما يصل الإنسان إلى أعلى مستويات التعب، يولد فيه الحماس لتغيير هذه الحال والعمل على التخلص من هذا الإنهاك. هذا في رأي نيتشه هو الإنسان المتفوق القادر على إعادة مشاهد التعب وتخطيها، كمن يعيد الحياة والموت أكثر من مرة ولا يسأم من ذلك. الإنسان المتفوق، ليس هو الإنسان المنطقي، ولكن هو الإنسان الذي لا يستسلم، هو الإنسان المتحمس ومتمالك النفس في آن.

لا يتحرر الإنسان من تعبه إلا إذا أطلق حماسه للعمل والإنتاج، وكما قال نيتشه على لسان زرادشت: “الإنتاج والعمل يحرران من المعاناة، وهذا ما يجعل الحياة خفيفة”. فلنعمل إذاً على تخفيفها.

اقرأ المزيد

كيف يموت العصفور؟

1.
إن كانت الأرواح لا تفنى، وإن كان الكون لا يضيع ذرة واحدة، وإن كان الـ DNA، هو شريط ذاكرة فوق الوعي للكائنات، فإني أظن التناسخ هو الحقيقة، وهو يأتي بمعنى الارتقاء، فكل روح تفنى، تعود لتعطي رأيا في الحياة، لتصنع الحياة على إثر مليارات التقارير جينات جديدة، مختلفة بدرجات شديدة البساطة في الأجيال اللاحقة، التناسخ إذن هو طفرة معرفية، سبق لها اختبار الحياة وتكوين فكرة عن نواقصها، لكن ليس بالشكل العقلي الواعي، إنما بالشكل الجيني المتكون في شفرات الـ DNA، تناسخ يحدث في أجيال، وأجيال، آلاف وملايين السنوات، لكي يحدث تغييرا بسيطا، وهذا يعني أن فهمي للحياة، وتجاربي، وخبراتي، سيتم اختزالها بشكل لا أفهمه، وكأنه تقرير مشفر، ليستفيد منه الكون في صنع كائنات أفضل، أو حياة أفضل، لا يهم إن حدث هذا بعد ملايين السنوات، لكن، هذا يعني أن حياتي لها فائدة! إنني هنا لأرسل تقريرا للكون عن كيفية العيش؟ إنني بشكل ما مبعوث السماء؟ رسول أو نبي؟ كائن فضائي إنما من الأرض، وللأرض؟ والستون عاما التي سأقضيها هنا، لها معنى! علي إذن أن أجتهد لأفهم الحياة جيدا، ولأعرف بشكل جزئي ما الذي ينقصنا نحن البشر لنكون كائنات أفضل، ولأرسل بعد أن أموت تقريرا مميزا، عن حياتي على الأرض.
المشكلة فقط، أني لا أظن أن تقريري سيلقى صدى، فأنا مؤمن أننا الأجيال الأخيرة على الأرض، وبالتالي لا مجال للاستفادة من تقاريرنا في تطوير نوعنا، لكن ربما يكون هذا هو تقريري.. (أنصحك أيها الكون بإفناء البشرية، واستبدالها بكائنات أحادية الخلية)، ربما نكون الأجيال الأخيرة التي ترسل مثل هذا التقرير، وبالتالي سيقترب موعد التحول القادم.
ياه.. كم أشتاق للحياة في أرض ليس فيها بشر، أرض خالية من هذا الكائن، تعيش فيها خلاياي بذاكرة أخرى وهوية أخرى، فما أنا متيقن منه، أن الارواح لا تفنى، والكون لا يضيع ذرة واحدة، والتقارير التي نرسلها بعد موتنا، هي ديمقراطية الكون.

2.
مثل الجسد، تتشتت الروح باعتبارها طاقة في أرواح أخرى، تذوب فيما سواها بعد أن تنتقل من جسدها في الذي ندعوه اليوم (الموت)، وهي ليست متحكمة ولا واعية في ذاتها، إنما حكمها ووعيها مرهونان بالجسد الذي تملأ، وبصفاته، أي بالخلايا التي تتحد معها، وتشّكل معها الكائن في وقت ما محدد، ونحن باعتبارنا بشراً متكونين، لا نملك الخيار إلا في ظل التكوّن الذي نحن عليه الآن، لكن حين نموت، حين نقدّم تقاريرنا، فإن كل جزء منا خلية أو ذرة أو شيفرة، تكون له حياة أخرى يعيشها، حياة ليست لها صلة بالحياة والذاكرة والتجربة المعاشة سابقاً، لكن مع ذلك، فإنما تكون مبنية على كل هذا، هي جزء منه، ونتيجة له.
إنما الكلام الذي نقوله اليوم، في جزء كبير منه، تجارب لخلايا عاشت قبلنا، عاشت قبل مليارات أو ملايين السنين، جزء منه هو شعورها بالثقل الوجودي، وجزء منه توقها لما هو أفضل، كأنما الكون كله، ليس إلا مجموعة من الأحلام والرغبات والأفكار غير الواعية، تنتقل عبر ملايين السنين، تتضافر، تجتمع، تلتئم حتى تشكل فكرة في رغبة، أو جزءاً بسيطاً من رغبة أو أمنية.
فلنتخيل لو الإنسان كنوع، ظل كل فرد منه، يحلم بالطيران، لملايين من السنوات، فإن هذه الرغبات والأحلام ستجتمع، حتى تشكّل خلية، أو مجموعة خلايا، لتلتئم هي الأخرى، وتكون وقتها قادرة على صنع جناحين للإنسان بعد كل هذا، ولأجل ذلك فإن الأحلام مهمة، ولأجل ذلك فإن المقاومة مهمة، ولأجل ذلك فإن الأفكار مهمة، لأنها ليست أحلامك وحدك، ولا مقاومتك وحدك، ولا أفكارك وحدك، إنما أنت تحمل عبء مئات الآلاف، ملايين الأجيال، من الخلايا، ومن البشر.

3
هل تظن أيها الإنسان أنك وحدك الذي تسجّل لتتعلم؟ باكتشافك الكتابة، والتدوين، حللت جزءاً من اللغز، لكن انظر، ها هو الكون يسجّل فيك منذ ملايين السنوات، أنا جزء من دفتر الكون، أنا كتابة قديمة لا تهمل، في روحي أجزاء من أرواح لم أعرفها، في هذا الجسد بالذات الذي يحملني، هنالك ملايين البشر، الذين عاشوا سابقاً، ملايين الحيوانات والنباتات والأحجار والطين والطمي والماء والتراب والكائنات متناهية الصغر، في رأسي هذا أفكار وأسئلة وأحلام ملايين الناس، ماذا لو تكلم كل ما يشكّلني؟ إنني كلام الآخرين.. لستُ إلا ذلك.. ومع هذا فأنا نفسي فقط، ولا أحد غيري.
***
قرأت اليوم نصاً عن بطريق يتحسر على الطيران، وقلت للشاعر في نفسي: من قال لك أيها الشاعر إن البطريق يرغب في الطيران؟ لماذا تسقط عليه رغباتك؟ أعتقد أن البطريق كان طائراً وتخلّى عن الطيران، ولأنه تخلّى عن ذلك فقد تقلّص جناحه، وتحوّل ريشه إلى مادة شبه دهنية، لقد أعجب البطريق بحياة الجليد، إني أتخيّل أن مجموعة من الطيور حطّت في تلك البقعة، بعضها رغب في البقاء هناك، ولملايين السنوات، أخذت أجسادها تتحوّل، لهذا فإن البطريق إن شاء الطيران مرة أخرى، فما عليه إلا المحاولة، لملايين السنوات الأخرى، وبالتأكيد سيتمكن من ذلك.
***
في الموروث الديني والشعبي، يقال إن الله جمعنا قبل أن يخلق العالم المادي، وخيّرنا في طريقة حياتنا، وأن كل واحد منا قد اختار فعلاً ما يريد أن يكون عليه، فالطائر اختار أن يكون طائراً، والحشرة اختارت أن تكون حشرة، والإنسان اختار أن يكون إنساناً، بل أكثر من ذلك، ذلك الطائر اختار كيف سيعيش، وكيف سيموت، وتلك الحشرة كذلك، الإنسان أيضاً، كل ما حدث ويحدث في الكون يحدث بمحض إرادة هذه الكائنات، ولا إجبار لأي كائن على أي شيء.
أظن أن هذه طريقة رمزية للقول بفكرة التناسخ/ التطوّر والارتقاء.. إننا نحيا ما اختارته لنا خلايانا، وذراتنا، وأجزاء أرواحنا المتعددة، إنه قانون ديمقراطي لكنه مختلف قليلاً، المسألة هنا لا تتعلق بجيل، بل بأجيال، ملايين الأجيال، من الخلايا والذرات، تختار لشكلها اللاحق كيف سيكون، كيف سيعيش، وكيف سيموت.
***
ماذا لو كانت هنالك ديمقراطية تحترم خيارات الموتى؟ توضع مشاريع القوانين وتصوّت عليها الأجيال، أعوام بعد أعوام، وتحتفظ بهذه الأصوات، أصوات الأجيال الميتة. هكذا انتخاب طبيعي، لطريقة الحياة. ديمقراطية ليست للأحياء فقط، إنما للموتى كذلك. ربما يكون في الكتابة شيء من تلك الديمقراطية!

4
يوصف الإنسان الذي لا يستطيع كبح شهواته بأنه بلا إرادة، لكن هذا يثير ارتباكي، ففي حين أن الإنسان الموصوف بالإرادة هو نفسه الذي يكبح شهواته ورغباته المتمثلة في هذه الإرادة، إنه حين يشتهي يشتهي بملء إرادته، وحين يمتنع عن اتباع رغبة أو شهوة ما، فإنه يغالب إرادته هذه، يقمعها، ويسجنها، ليستطيع التوقف عما يريده حقا، علينا أن نصفه إذن بأنه من ليست لديه سلطة على إرادته، أو بأنه صاحب الإرادة الحرة، هذا لا يعني طبعا أن كل من لا يرغب، هو صاحب إرادة خاضعة، الأمر عائد لما يريد كل فرد حقا، وما يرغب في فعله، وما يعيقه عن فعل ما يريد.

5
إنني لا أعرف كيف يموت العصفور، هل يشيخ، يعجز عن الطيران، ثم يموت جوعاً بسبب ذلك؟ لكني أعرف أننا ككائنات بشرية ذات إرادة كما نصف أنفسنا، أطول أعمارا منه ومن كثير من الكائنات، ليس بسبب إرادتنا، وانعدام الإرادة لدى تلك الأخرى، إنما لأننا ببساطة نخضع لإرادة الطبيعة، فيما الكائنات الأخرى، لا تخضع سوى لإرادتها الحرة، طالما لا يعيق هذه الإرادة عائق مادي..
إنني الآن أريد الخروج من العمل، لكن يمنعني خوفي من المستقبل، أن أطرد منه، أن تخصم عليّ يوميتي، هل هذه إرادة حرة؟ أم خضوع لإرادة أعلى! فيما الطائر ذو العمر القصير، يتبع إرادته، ولا يهمه أنها ستقصر من عمره، أو حتى تترك جنسه عرضة للانقراض!
الغريب أننا كجنس عرضة للانقراض، ليس بسبب ما يفعل أغلبنا، إنما بسبب ما تفعله أقلية ثرية، تلوث الكوكب، وتنقص مناعته، وتجعله مريضا.. إننا نبيع حريتنا وإرادتنا بأثمان بخسة، ثم ما نلبث أن نكتشف أننا نحن فقط من ندفع ثمن ما نبيع، يحصل المشتري على المال وعلى البضاعة، وعلى إرادتنا وحريتنا، ونحصل نحن على وهم الطمأنينة!
أعطونا زمنا طويلا بائسا ثابتا في بؤسه، نعطكم لحظات حبنا وسعادتنا وطيشنا ومتعتنا ومغامرتنا، وانعتاقنا.. ماذا نفعل بأنفسنا؟!
قيدونا بالأمان، إننا نقايض العيش بالزمن، الله يعدنا بحياة خالدة، آمنة من النار، في المستقبل، شرط أن نتخلى له عن ذواتنا اليوم، الحبيب يعد حبيبته بالاستقرار، شرط أن تتخلى له عن حريتها، صاحب العمل يعد الموظف بمرتب ثابت آخر كل شهر، شرط تخليه عن أحلامه، الدولة تعد المواطن بالأمان، شرط تخليه عن هويته، من يضمن استمرار الأشياء، ما نحبه اليوم، نعتاده غدا، ونمله بعد غد، الأمان الحقيقي هو أن تكون أنت، مقتنعاً بما تفعل، غير راجٍ منه إلا لذته الآنية، تعبد الله لأن للعبادة لذة الشعور بالذوبان في الكلي، تعشق حبيبتك لأنك الآن تشعر بالسعادة وأنت معها، تعمل لأنك تستمتع بالعمل، تلتزم لأنك مقتنع، لا من أجل شيء وهمي كالزمن، شيء كلما فكرت فيه رأيته حلماً، وكلما أغمضت عينك عنه، صار ماضياً.

اقرأ المزيد

اللغة بوصفها موضوعاً مفكراً فيه

أسماء متحورات كورونا نموذجاً

مدخل:
لطالما شُغل البشر بسؤال ما إذا كانت اللغة معطى أم موضوعاً مفكراً فيه. ذلك السؤال الذي قسم الباحثين في اللغة إلى فريقين، على الأقل، منذ عصر سُقراط وتلميذه أفلاطون إن لم يكن قبل ذلك، وهو هل اللغة ظاهرة طبيعية وأن الكلمات وأصواتها جزء لا يتجزأ من المعنى (أفلاطون، 427-347 ق.م)؟، أم أنها ظاهرة اجتماعية وأن أصواتها رموز اصطلاحية لا علاقة طبيعية أو مباشرة لها بالمعاني (أرسطو، 384-322 ق.م)؟
وفد سُميت النظرية الأولى بالنظرية التوقيفية، أي أن الألفاظ موقوفة على معانيها وهي منحة من الإله أو من الطبيعة. وسُميت النظرية الثانية بالنظرية الاصطلاحية أو التواضعية أو التوافقية وتعني أن المسميات نتيجة التوافق بين جماعات البشر أنفسهم. أي أنهم يتواضعون أو يتوافقون على معنى ما لملفوظٍ ما، وأن هذا التوافق اعتباطي، أي لا يلزم أن يكون ثمة رابط بين أصل اللفظ وبين المعنى.
وثمة من اتخذّ رأيا وسطا وهو أن منشأ الكلمات كان طبيعياً لكنها تغيرت فيما بعد بسبب الأعراف وتوافق البشر. (نشوء وتطور اللغة والللهجات العربية – فاروق أمين، 2019)
لقد شغل هذا السؤال جميع الأمم. ولدى العرب مثلاً نجد عالما مثل (ابن جني،941–1002)، يتمسك برأي جماعته المعتزلة في أن أصل اللغة مواضعة واصطلاح من صنع البشر، لا وحيٌ وتوقيف. ومن جهة أخرى نجد فريقاً ثانياً تمسّك بأن اللغة توقيفية، وعلى رأسهم أستاذ ابن جني وهو (أبو علي الفارسي، 900-987) مستنداً إلى آية “وعلم آدم الأسماء كلها – البقرة 31”. ولكن تلميذه ابن جني يردّ على ذلك بالقول إن تأويله هو أن الله منحَ الإنسان أي (آدم) القدرة على وضعها، فليست اللغة إلا مبنية على مواضعات واختراعات الصناع لصنائعهم، النجار لنجارته والتاجر لتجارته وكذا الصائغ والحائك والبناء والملاح وغيرهم. (الخصائص – ابن جني).
كان ابن جني عبقرياً ولو قُدرله أن يعود إلى زمن سُقراط، أي القرن السادس قبل الميلاد لكان من الفريق الخصم لسقراط في محاوراته حول اللغة وأصل التسمية.
أما من أبرز ممثلي الرأيين من اللغويين المعاصرين الفرنسي (دي سوسير، 1857–1913) الذي رفض توقيفية اللغة ورأى أن العلامة اللغوية تتصف بالاعتباطية المتواضع عليها بين أعضاء الجماعة البشرية في زمن ما، واللغة عند دي سوسير تقليد، والإشارة يتفق عليها المجتمع اتفاقا اعتباطيا غير مرتبط بمبرر ضروري للعلاقة بين المبنى والمعنى. (علم اللغة العام، فرديناند دي سوسير).
ويقابله الأميركي (ناعوم تشومسكي، 1928-….) الذي يرى أن شخصاً يتكلم لغةً ما، قد ثُـُقف بنظام معرفي معين، وأن اللغة خاصية فريدة للنوع الإنساني الذي يختلف بحسب تشومسكي عن أي شيء آخر في العالم المادي. (اللغة ومشكلات المعرفة، ناعوم تشومسكي).
لكننا لسنا هنا بصدد تجديد خوض هذا السجال المبدئي القديم الذي خاضه (سُقراط، 470-399 ق.م) مع خصومه في محاورات مطولة دونها تلميذه أفلاطون حول اعتباطية الأسماء أو كونها طيبيعة وذات دلالة مطابقة والذي استمرّ إلى اليوم مروراً بكل من سوسير وتشومسكي وتلاميذهما. وأياً يكن الفريق الذي نختاره، فلا مناص أبداً من الإقرار أننا اليوم تجاوزنا أصل هذا السؤال، فنحن نعيش أكثر عصور اللغة إرادية، بمعنى تحكم البشر في لغتهم.
ها إنّا ننام ونصحو على مصطلحات جديدة أو استعادة ما هو قديم بحسب الحاجة وبحسب ما تمليه مصلحة المرجعيات الثفافية الاجتماعية المتصارعة في عالمٍ لا يرحم، فسواء قال أرسطو مخالفاً أفلاطون أم لم يقل، فاللغة هي فعلاً ظاهرة اجتماعية وهي تزداد اجتماعية وتصنيعا كلما تقدّم بنا الزمن، وخاصةً مع دخولنا عصر الامبريالية الإعلامية والذكاء الاصطناعي.
نعيش اليوم إذا شئنا استخدام مصطلح (اعتباطية) لكن – ويا للمفارقة – بمعنى معاكس تماما وهو (اختيارية) و(إرادية)، حيث هذا العالم وأعني عالم القرن الواحد والعشرين، هو عالمٌ يُصنِّع لغته في المختبر اللغوي بوعي كامل لا ارتجال فيه وبتصميم مبالغ فيه، إلى درجة قد تصل إلى تسمية الأشياء قصداً بعكسها إذا لزم الأمر!!.
في روايته العبقرية (1984) ألمح جورج أورويل (1903 – 1950) إلى اللغة الجديدة في تلك الدولة المرعبة المتخيلة التي تحكمها سلطة شمولية فاشية وسمّى أورويل هذه اللغة في تلك الدولة بـ Newspeak والتي تقوم أساسا على تسمية المفاهيم بنقيضها: السلام = الحرب، الحرية = العبودية، المعرفة = الجهل.
أعلم أن هذا مثير للرعب، فهناك فعلاً ما ينبيء بالخطر كلما تخيلنا أنفسنا في عالم يصنعُ لغته بالماكنة كما يشاء، دون مرجعية من لغةٍ (قبْلية)، – بتسكين الباء – ملزمة. بل وها نحن نرى عياناً كيف تُستخدمُ الألفاظ نفسها، لمعانٍ متعاكسة في محطتين فضائيتين متنافستين سياسياً وإعلامياً في منطقة إقليمية واحدة، حيث يصبح ما هو حق هنا إرهاباً هناك وبالعكس!.
لكن عليَّ أن أسارع إلى القول ثمة إيجابية عظيمة، إذا قبلنا هذا العالم اللغوي الذي نحن فيه كما هو لكي نغيّره، ذلك أن القبول هو أول خطوات التغيير، فالقاعدة ببساطة هي: إنك لا يمكنك أبدا أن تغير وضعاً لا تعترفُ بوجوده.
هنا بالضبط وفي هذه المقدرة على صناعة لغتنا عبر المواضعة أو التوافق تكمنُ نعمة أيضاً وليست نقمة فقط، أو على حد تعبير ابن عربي “في كل محنة منحة”. إنها فرصة لنا لكي نصنع لغتنا أيضاً. إن كون صناعة اللغة حقل صراع بشري تتحكم فيه إرادات القائلين قد يكون أفضل من عالمٍ ينظر إلى اللغة كوحي مقدس أُلهم به الإنسان ولا فكاك له أبدا من سلطته.
صحيحٌ إن كون اللغة دنيوية صعبٌ ومخيفٌ حقا لأنه مسؤولية، ولكنه أيضا مؤشر على الحرية، ولا حرية بلا مسؤولية. وعلينا إذن أن نأخذ كأحرار قسطنا من هذه المعركة عن طريق سك مفاهيم ودلالات جديدة، وتصحيح مفاهيم ودلالات خاطئة.
أسماء فيروس كورونا المتحور نموذجا:
في هذا الشهر يونيو الجاري، أصدرت منظمة الصحة العالمية قرارا بتسمية أو إعادة تسمية متحورات فيروس كوفيد-19 المسبب لمرض كورونا بحسب الجدول التالي:
تسمية المنظمة التسمية المتداولة أولى العينات الموثقة
ألفا المتحور البريطاني المملكة المتحدة، سبتمبر 2020
بيتا المتحور الأفريقي جنوب إفريقيا، مايو 2020
غاما المتحور البرازيلي البرازيل، نوفمبر 2020
دلتا المتحور الهندي الهند، أكتوبر 2020

وإذا كانت ذاكرتنا جيدة سنتذكر أن المنظمة قامت في سبعينيات القرن العشرين بإعادة تسمية مرض (المنغولي) بــ (متلازمة داون)، نسبة إلى الطبيب البريطاني (جون لانغدون داون، 1828-1896) الذي كان أول من وضع وصفاً للمرض. وقد جاء هذا التغيير بعد احتجاج تقدمت به جمهورية منغوليا الشعبية، حيث كان وصف المصاب بالمرض بـ (المنغولي) ينطوي على إهانة أو تحقير لأحد الأعراق الإنسانية. وكان الطبيب داون هو نفسه الذي وضع للمرض اسم (المنغولي) اعتمادا على النظريات العرقية العنصرية السائدة وقتها في عام 1866 لحظة وضع الوصف الطبي للمرض.
إنّ من أهم أسباب ابتكار منظمة الصحة العالمية هذه التسميات الجديدة لمتحورات كوفيد-19 المأخوذة من الأبجدية اليونانية هي إيجاد مسميات غير مؤذية أو غير مسببة للشعور بالعار بحسب تعبير منظمة الصحة العالمية: Non stigmatizing labels لئلا يؤدي الإسم إلى التمييز أو الأذى بحق أي عرق أو شعب.
لقد ظللنا إلى عهد طويل نسمي مريض متلازمة داون منغوليا، ونسمي أحد الأمراض بالانفلونزا الأسبانية، وما زلنا إلى هذه اللحظة نقول: المتحور الهندي، وثمة شعور تأسس اليوم في منطقة الخليج على ذلك بتصاعد كراهية ما تجاه بعض الجاليات أو نفور أو تحميل مسؤولية نشر الوباء وحتى الوفيات، وهذا كله من فعل اللغة بوصفها الآلة الأكثر فعالية للثقافة.
إن أكثر ما نحتاجه في هذه اللحظة هو أن ننظر إلى كوكبنا بكل فئاته وألوانه بوصفه سجيناً في الصندوق ذاته الذي يحوي الجميع، وبدلاً من أن نتنابز بالألقاب ويُحمّل كل عرق منا العرق الآخر مسؤولية خلق هذا الشر العظيم، علينا أن نتضامن وأن نحرر لغتنا في المقام الأول من عفويتها وتلقائيتها التي تجعلنا نصنف الآخر عدوا أو شرا.
وهنا تتجلى فضيلة الأدب، والشعر منه على وجه أخص، في أنه باستخدامه للمجاز وباقتراحه تغييرات مستمرة في العلاقة بين الدال والمدلول يجعلنا ننظر إلى اللغة بوصفها موضوعاً مفكراً فيه، ونظاماً قابلاً للمراجعة وإعادة التصميم بما يجعلنا موجودات أكثر تضامناً وتحضراً.
وصية منظمة الصحة العالمية لك اليوم، إن كنت تقدّميا وإنسانيا، ألا تصف الوباء ومتحوراته بما ينبز أي فرد أو شعب بما يُشينه، فلئن كان علينا ولو لفترة من الزمن أن نخسر معركة الحياة فنفقد ما لا يُحصى من الأحبة، فلا أقل من ألا نفقد إنسانيتنا وتضامننا في معركة شئنا أم أبينا سنخوضها معاّ، كجنس بشري.

اقرأ المزيد

عشرون عاماً على الاجتماع التشاوري “التأسيسي” للمنبر التقدمي

حدثٌ لم يكون عادياً؛ قالها كاتبٌ في الصحافة المحلية في اليوم الثاني للاجتماع التشاوري لمناضلي وأصدقاء جبهة التحرير الوطني البحرانية، المنعقد في يوم الجمعة 13 يوليو 2001 في قاعة نادي طيران الخليج بمنطقة سلماباد بحضور حوالي 400 من مناضلي وأصدقاء الجبهة، لأول مرة في تاريخهم يجتمع مناضلو جبهة التحرير وأنصارهم في البحرين بشكل علني بعد 46 عاماً على تأسيس حزبهم في 15 فبراير 1955، حتى تاريخ (الاجتماع 13 / 7/ 2001 ).

جاء الاجتماع بعد عقود من النضالات والتضحيات قدّمها مناضلو “جتوب”، ودفعوا الثمن غالياً من استشهاد وسجن واعتقال ومنفى ومطاردة، فصل من العمل ومنع من السفر والبعض الحرمان من السكن، إجراءات تعسفية عديدة إبَّان مرحلة الاستعمار البريطاني وبعده و حقبة قانون أمن الدولة وتدابير محكمة أمن الدولة بعد حل المجلس الوطني المنتخب من الشعب في 26 أغسطس 1975.

حقبةٌ استمرت ربع قرن (1975/2001)، بالرغم من كل هذه الظروف والأوضاع الصعبة التي عاشتها “جتوب”، ظلّت راية النضال الوطني خفاقة في سماء البحرين يرفع الراية لمواصلة المسيرة النضالية جيل بعد جيل وصولاً إلى مرحلة الانفراج السياسي في فبراير 2001، عهد ميثاق العمل الوطني، بإطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين وعودة المنفيين وإلغاء قانون أمن الدولة السيِّئ الصيت، فطويت صفحة سوداء، وفتحت صفحة جديدة وعهد سياسي جديد، كان الأمل معقوداً عليه بأن تتطور التجربة نحو مزيدٍ من الحريات العامة والديمقراطية، ولكن جرت أحداث عديدة كان أكثرها تأثيراً أحداث 2011 التي انقسم فيها الشعب، وتداعياتها الكارثية التي لازالت مستمرة حتى في ظل وجود جائحة كورونا منذ عام ونصف لم نتعافَ من وباء الطائفية والكراهية وهو الأخطر من وباء كورونا .

كيف انعقد الاجتماع التشاوري “التأسيسي” للمنبر التقدمي ؟

هنا نسجل بعض الوقائع للتاريخ، ليس بالتفاصيل لأنه لا يتسع المقام هنا، لذا سنؤجله لوقت آخر لكي يساهم فيه الرفاق المشاركون منذ بداية الإعداد، ربما يقول قائلٌ بأن الحدث ليس قديماً مضى عليه فقط عشرون عاماً لازال الوقت مبكراً لتدوين أو تسجيل أحداثه، فنقول هذا مقال يذكر فيه بعض ماجرى وليس التفاصيل أو نشر بعض الوثائق أو المحاضر في مراحل الاعداد والتحضير، فهذا نتركه لوقتٍ آخر.

نحن بصدد حزبٍ سياسي، ماركسي، كان يعمل بشكل سري منذ تأسيسه في الخامس عشر من فبراير 1955، حتى 13 يوليو من عام 2001، يوم بروزه للعلنية لأول مرة في تاريخه، فجبهة التحرير الوطني البحرانية، حزب قام على المبادئ والأسس اللينينية في البناء الحزبي والفكري والتنظيمي، هذا ما عبَّر عنه نظرياً وممارسةً وتطبيقاً عندما تأسَّس على أسس التحالف مابين العمال والكادحين والمثقفين الثوريين وارتبط ارتباطاً وثيقاً بالجماهير، وصاغ برنامجه الأول الصادر في عام 1962 وفق مقتضيات تلك المرحلة، حيث كان يخوض نضالاً وطنياً ضد الاستعمار البريطاني والرجعية، مما يتطلب رؤية وطنية واضحة في مرحلة التحرر الوطني ضد الاستعمار وأعوانه، كان الرفاق الأوائل المؤسسون لجبهة التحرير الوطني البحرانية موفقين في اختيار اسم الجبهة تيمناً باسم جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي كانت تخوض نضالاً وطنياً ضد المستعمر الفرنسي تأسست في عام 1954 يعني بعام قبل “جتوب”، والجبهة الوطنية في إيران إبَّان حكومة مصدق الوطنية قبل إسقاطها في عام 1953 من قبل المخابرات البريطانية والأمريكية وإعادة الشاه إلى الحكم في إيران .

ثمة شيء آخر واجه جبهة التحرير ألا وهو العداء للفكر الشيوعي وبوصفها حزباً ماركسياً كان ذلك شائعاً وبارزاً إبَّان فترة المد القومي وتأثير ثورة 23 يوليو 1952، إلَّا أن هذا لم يمنع الجبهة من الانتشار في صفوف الجماهير ورفع مطالبها والدفاع عن حقوقها، منذ تأسيسها ركزّت الجبهة نشاطها في الداخل لأهميته وتأثيره في كيفية اتخاد القرارات السياسية والتنظيمية مع الواقع الملموس لبلادنا بأن تكون وطنياً، وعربياً وأممياً، تتفاعل مع القضايا الوطنية والعربية والعالمية ، وبالأخص في تلك الفترة كانت ثورة الجزائر وبعدها الثورة الفلسطينية التي انطلقت في الأول من يناير 1965، تشكل الثورات الأهم في البلدان العربية والتضامن مع نضال حركة التحرر الوطني العربية وفي العالم ضد الرجعية والاستعمار والإمبريالية ومن أجل الحرية والاستقلال الوطني والتقدم الاجتماعي والسلم، كان الانتصار الذي تحقق من قبل الاتحاد السوفييتي والحلفاء على النازية في الحرب العالمية الثانية “1939/ 1945” له تأثيرات كبيرة على العديد من البلدان والشعوب في العالم، بعد بروز دول المنظومة الاشتراكية، وساهم كل ذلك في نشر الأفكار الاشتراكية في شتَّى بقاع العالم.

لقد واجهت الجبهة صعوبات وتحدّيات كبيرة منذ تأسيسها وتعرضت للعديد من الضربات القمعية طوال تاريخ نضالها، وبشكل خاص ضربة عام 1986، التى استشهد فيها رفيقنا الدكتور هاشم العلوي وزُجَّ بالعشرات من مناضلي الجبهة في السجون والمعتقلات وصدرت أحكام قاسية على البعض منهم، وكان لهذه الضربة البوليسية أثر واضح في نشاط الجبهة في داخل البلاد وبعد خمس سنوات وتحديداً في عام 1991 جاء انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكيك دول المنظومة الاشتراكية وبانتهاء ما كان يعرف بالحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والإمبريالي ونشوة الانتصار الإمبريالي بدون حرب على الانظمة الاشتراكية، كما عبَّر عنه الكثير من منظري الفكر الرأسمالي، وعودة “الليبرالية” تحت عباءة حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية وغيرها من العناوين البرَّاقة.

انساق العديد من الماركسيين، عرباً وأجانب، لتلك الأفكار الليبرالية وأصبحت النظرية الماركسية وأحزابها بالنسبة لهم من الماضي، وهكذا بكل بساطة انكشفت حقيقة الانتهازية السياسية والخواء الفكري للعديد من المثقفين الماركسيين الذين تساقطوا الواحد تلو الآخر، ما شكَّل هذا صدمة كبيرة للعديد من المناضلين ولكن بقي من تمسَّكوا بالفكر والمبدأ في واقع صعب ومعقد للغاية رافضين تلك الارتدادات والتموضعات الجديدة، ومن جهة ازداد صعود التيارات الإسلامية بكل تنوعاتها في بلادنا والبلدان العربية وأصبحت تلتف حولها قطاعات واسعة من الشباب التواقين للتغيير والخلاص من الواقع الذي يعيشه، فلم تعد الأفكار الاشتراكية تستقطب الشباب مثلما كانت في سنوات صعود اليسار في بلادنا.

كان علينا أن نفكر هل نحن بصدد تجميع مناضلي وأنصار جبهة التحرير أو تشكيل إطار حزبي وسياسي جديد ، وهل لازال العديد من المناضلين والأنصار ومن عمل في الأطر الجماهيرية للحزب، العمالية والنسائية والشبابية والطلابية، قبل ضربة 1986، ملتزمين بخط الحزب وكان العديد منهم من النشطاء كلٌّ في موقعه، وإن ترك البعض منهم العمل السياسي والجماهيري، وانشغل آخرون في حياتهم الجديدة “العمل، الزواج، الدراسة وغيرها”، والبعض منهم لم يعد يؤمن بالأفكار الماركسية لتلك الأسباب المذكورة سلفاً، فنحن أمام واقع جديد كيف نتعاطى معه؟

كانت تلك التساؤلات ماثلة أمامنا، فماذا نفعل؟
بدأنا لقاءاتنا بعدد قليل حتى وصلنا إلى تسعة من الرفاق معظمهم من أجيال لاحقة سواء في الجبهة أو أشدب، “فرقة الكومندوز” مثلما كان يحلو لرفيقنا الصحافي الراحل أحمد البوسطة بأن يطلق عليها تلك التسمية، كانت الاجتماعات منتظمة بشكل أسبوعي على مدار أكثر من شهرين، طرحت فيها كل تلك الأسئلة ودارت حوارات واسعة، وبعد تلك الفترة الأولى من مرحلة الإعداد، طرحت فكرة توسيع لجنة الإعداد التي وصل أعضاؤها إلى حوالي 30 رفيقاً ورفيقة، ولكن عند حضور الاجتماعات كان العدد أقل، وآخرون من نفس قائمة الثلاثين رفضوا فكرة تأسيس المنبر التقدمي، وإن أصبح بعضهم فيما بعد أعضاء فيه.

في فترات لاحقة من تأسيسه وبعد إشهاره، و بعد مخاضٍ لم يكن سهلاً كان جيل الشباب هو الذي يقود العمل، في واقع سياسي جديد وتجربة حزبية علنية لم يتعود عليها من مارس العمل الحزبي بشكل سري، تصدر القرارات من القيادة على القواعد الحزبية تنفيذها وفق مبدأ المركزية الديمقراطية، غياب انعقاد المؤتمرات العامة وهي الأهم التي تناقش فيها القرارات الحزبية ويقرّ فيها البرنامج السياسي والنظام الأساسي للحزب وتنتخب الهيئات الحزبية، وتصدر القرارات والتوصيات، هذا نشاط حزبي جديد علينا تحدث فيه السلبيات والثغرات، وبالمقابل هناك ايجابيات منها إبراز الكفاءات والقدرات للعديد من الرفيقات و الرفاق .

في الاجتماع التشاوري طرحت العديد من الآراء والمقترحات، غير الذي قدمته لجنة الإعداد من مسودة لديباجة سياسية تحتوي على مقدمة وتصورات وأهداف سياسية بما في ذلك مقترح اسم التنظيم المنبر الديمقراطي التقدمي، وفي نهاية الاجتماع تمّ انتخاب لجنة تحضيرية من أحد عشر عضواً من الحضور مهمتها إعداد البرنامج العام وأهداف المنبر التقدمي، وفيما بعد تمّ عقد اجتماع آخر في فندق الدبلومات بتاريخ 14 سبتمبر 2001 لتسجيل الأسماء وجمع البطاقات الشخصية وإقرار النظام الاساسي والأهداف وهذا المتبع في حال تأسيس أي جمعية تابعة لوزارة العمل لتقديمها للوزارة من أجل إشهار أي جمعية التقدمي، حيث لم يكن هناك بعد قانون للأحزاب، وحصل المنبر التقدمي على الاشهار في 10 أكتوبر 2001، وبعد ذلك قامت اللجنة التحضيرية من خلال لجانها المتعددة بالإعداد والتحضير للمؤتمر التأسيسي الذي انعقد في 10نوفمبر 2001 في جمعية المهندسين لانتخاب أول مجلس إدارة للمنبر التقدمي.

مضى عشرون عاماً على ذلك الاجتماع التاريخي، وخلال تلك الفترة جرت أحداث ووقائع عديدة كان المنبر التقدمي حاضراً ومشاركاً في بعضها، أما أين أصاب في موافقه وآرائه وأين أخفق، فلا بدّ من التوقف عندها لاستخلاص الدروس والعبر، وتطوير الإيجابيات وتلافي السلبيات، لكي يواصل المسيرة النضالية التي بدأت في 15 فبراير من عام 1955 من أجل الوطن والشعب، وتحقيق المساواة والديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية.

اقرأ المزيد

الشملان وأيامُ الشدّة

نزلت عليّ فجأة كآبة الصمت التي لم أستطع مقاومتها إثر سماعي لخبر نقل أحمد الشملان للمستشفى بعد إصابته بالجلطة الدماغية، يوم أليم استقبله المواطنون المحبّون لأحمد والعارفون بدوره النضالي الجسور في الدفاع عنهم عند كل محطة من محطات مطالبهم المحقة. تقاطروا على المستشفى للوقوف على صحته وليطمئنوا عليه، عادوا بحزن صعب عليهم تخبئته أو تفاديه، داخَلهم الخوف ورسم ملامحه فوق وجوههم.

أبصر أحمد النور وقد تعمدت عائلته بالنضال، هي التي قدّمت الشيخ سعد الشملان ومن بعده عبد العزيز، فإذن لا مندوحة من أن يكون أحمد موضوع هذه المقالة التي نود لها أن تعطي لمحة لا غير عن سيرة مناضل واصَل وأبقي شعاع نضال عائلته مشتعلاً، متوهجاً نوراً لم يهدأ ، منحوه ما شاءوا من ضحكاتهم ودموعهم وحنينهم وحركوا فيه مشاعر الفتوة النابضة بالحياة في الدفاع عن المستضعفين والمحرومين والثكالى كمحام وقبل كل شي إنسان حرّ خبر معترك الحياة وذاق في سبيل ذلك عذابات التشرد والاعتقال لفترات طوال.

هل يجب أن أُذّكر مرة أخرى بما كتبته من سيرة عطرة عنه زوجته وشقيقة روحه فوزيه مطر: “سيرة مناضل وتاريخ وطن” ( 1024 صفحة)، ذلك المتن الذى احتفطت فيه بكل تفاصيل حياة أحمد حيّة ومشتعلة وبأسلوب شفاف وشيق وجميل؟

لا ضرورة لذلك، إذن، لا عبقرية لي فيما أرويه في زمن يركض بسرعة، وما علينا سوى استعادة ألق شخصيات حفرت في ذاكرتنا نبض حياة متجدد لنعيرها اهتماما ووفاءاً لما قدمته لوطننا من تضحيات جسام على حساب الصحة والعائلة والعمل، كان بودي أن أتعرف إلى أكثر الكلمات رقّة وإنسانية وأعظمها معان لكي أصف الشجاعة والثقة التين تخفقان في قلبك يا أبا خالد .

فقد أقسم أحمد على أن يكون في مقدّمة المدافعين ضد الظلم والطغيان الذي استشرى وضبط ساعته النضالية على مواقيت واقعية من أجل تحقيق حلم التحوّلات الاجتماعية والسياسية منذ ستينيات القرن الماضي، وفي سبيل ذلك عمل المستحيل وخاض غمار الحياة بشجاعة نادرة، وعمد إلى تكثيف قرءاته لينتقل من تنظيم إلى آخر يلائم قناعاته بعد أن أعاد النظر بطريقته القديمة في التفكير وأخذ يفتش عن دروب أُخرى ليصبح أحد قيادات جبهة التحرير الوطني البحرانية.

مشى في طريق صعب ووعر وأخذ يردد بئسا لمجد ينشىء الموت والقتل، فلنحيا بشرف ورجولة أو لا مبرر لوجودنا، فالحرية تتطلب أن يهبها الإنسان كل لحظاته، كل قواه، هكذا هم المناضلون أرواحهم على أكفهم لايهابون الصعاب ولا الملمات. لم يرتجف له قلب في وطيس المعارك الحامية من أجل الحرية ولم ينل منه الخوف في أصعب المواقف وأشدّها قسوة.

في سفن الخوف والمنفى والترحال من بلد لآخر القلق والحزن الملازم لكل ذلك عاش أحمد، كانت تنتظره هناك بعينين مليئتين بالحيرة والشوق والخوف زوجته. يصعب عليهما ذلك، ولكن للنضال أكلافه يتحملها المناضلون وأصحاب المبادىء الانقياء والقديسون والأبطال. وبالهمة التي لايدركها الكلل وبحب الحياة وبشروطه الصارمة وضع نصب عينيه مفتاح التغيير المنشود لوطنه ليصبح شخصية من ألمع وأقوى الشخصيات في وطننا، فقد كان أمامي إنسان قوي ذو إرادة ومراس، فبإرادته التي لا تلين أعانت كيانه المتداعي على مغالبة المرض الذي تسببت فيه السلطات أثر الاعتقالات المتتالية والتعذيب والمنع من السفر، ليصاب بجلطة في القلب وجلطة دماغية عنيفة أعاقته عن الكلام والكتابة وكان ذلك في يوليو 1997 ومازال يقاومها ببسالة مما أفقد البحرين قلماً نابضاً بالحس الوطني الإنساني، مثقفاً عضوياً، شاعراً وأديباً مبدعاً، مقدرة فذه في الكتابة والتحليل والتنظير.

حاملة ذاكرتها وقلبها وحنينها والنور الذي يملأ عينيها، بقت زوجته ملازمة له كالظلّ في كل خطوة، فكونوا مطمئنيين عليه، فوزية هي القلب والذاكرة والحنين والحضن الرؤوم وملاذه، إنها لحظة السهرعلى صحته التي تكلف العمر والذاكرة.

صارم وحازم وجاد وعلى قدر بالغ من الحنو والرهافة واللباقة والكياسة والسمو والنبالة. طيب القلب مليئ بعزة النفس والكبرياء صبورعلى الرغم من العذابات وهوالذي نال منها ما لايقاس، فكان له نصيب وافر حيث بدأت عذاباته منذ الستينات حينما تمّ اعتقاله إثر انتفاضة مارس 1965 فلم ينحنِ. تعرّف إلى كل الآلام، وظل ثابتاً ليبقي سجيناً لمدة عامين بعدها تمّ نفيه ليبقى ثلاث سنوات ليعتقل ويسجن في سجن نايف بدبي ولتتوالى الاعتقالات بعد ذلك، لمدة سنتين من 1972حتى 1974 ليعاد اعتقاله مرة أخرى في نفس العام ويطلق سراحه في العام 1975، وبعد تخرّجه من موسكو في العام 1981 ومن المطار يعتقل مرة أخرى ويبقى في المعتقل خمس سنوات ليعاد اعتقاله مرة أخرى في فبراير 1996 لدوره البارز في المطالبة بإعادة الحياة البرلمانية ودوره الفاعل في حراك العريضة النخبوية والشعبية ليطلق سراحه بعد ذلك بثلاثة أشهر وهي أقصر مدة قضاها أحمد في المعتقلات.

فهل لنا أن نتصور حال هذا الانسان الصلب وحال عائلته التي كابدت هذه العذابات، فقد سرقوا منها الاستقرار والفرحة والاطمئنان على مستقبلها ومستقبل طفليهما. وكأن لسان حال أم خالد يقول: أحاول أن أتذكر كل ما فات وما تبقى من المأساة التي جرحت القلب وما تزال حتى اللحظة تعذبني واصطلي بنارها لحظة سقوط أحمد في الحمام فاقد القدرة على فتحه إثر الجلطة الحادة في الدماغ وما أعقبها من معاناة حتى هذا اليوم ،شيء ما يغلي في قلبي بقوة. هل كان حلماً؟ هل كان حزناً؟ هل كانت عاصفةً ؟ شيء من كل ذلك. إنها المأساة بفعل حماقاتهم وقسوة أنظمتهم وأفعالهم غير المبررة في التعامل مع شعوبهم المسالمة التواقة للحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية .

الأيام والليالي مرّت طويلة على أم خالد كانت تعد الساعات والدقائق والثواني بعد تلك الحادثة في ذلك اليوم الذي طال كثيرا من شهر يوليو للعام 1979 حتى عاد أحمد من دون أمل في استعادة النطق فهل من قسوة تضاهي هذه القسوة؟

تقول كنت أهجس أن شيئاً حدث لأحمد في الحمام، قرقعة مسموعة ولكن لا صوت له سوى إنه يجر جسده جراً وبصعوبة كبيرة محاولا فتح الباب، وبقى فترة طويلة دون ان يتمكن من ذلك، الا بمحاولات عديدة وبعد أن تمكنا مع جار لنا من نقله للمستشفى بعدها وضعت رأسي بين يدي لاخبئ دموع فائضة انزلقت من عيني في غفلة مني وبقلب مكسور بقيت ملازمة له .. آه من وجع القلب.

هل عرفتم آلآم هذا الرجل وعائلته الذي ناضل من أجل غدٍ أفضل لبلدنا وهو في عزّ عشقه للحياة؟ فلا عجب أن يُهدى كتاب بسيرة عطرة من زوجته لتقول في هذا الإهداء إليه:

“في صمته المهيب
إجلالاً لأيام عمره التي وهبها للوطن
وحباً له سكن الفؤاد وألهمني القوة
لأرفع رأسي بعد كل عاصف
فأضع يدي بيده وقلبي مع قلبه”

أنت يا أحمد وبعض من رفاقك ما تبقى من صدق الزمن الغابر وهذا الوقت الصعب، في عينيك صدق لايخطئ وحنين لايموت، تُفضل الصمت وكأنك تقاومهم بصمتك المهيب فهم يهابونك حتى في صمتك ويخشون صوتك الصادح المطالب بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات جميعها غير منقوصة.

تركت لقلبك وعينيك لغة الوهج التي لا تعرف الكذب أو النفاق أو المهادنة والإنحناء، فكان شرف المبادئ والعمل بالنسبة إليك شرطاً للحياة، ولذلك حاربوك ليسكتوا صوتك، ها أنت تعود محملا بحقيقتنا جميعاً، كنت الحق وكنت النور الذي أخترق الخوف والظلمة، عدت بصفائك وعنفوانك رغماً عنهم. فالخسارات التي تتالت إثر الاعتقالات المتتالية والشهداء الذين قدّموا أرواحهم فداء للوطن لن تثنينا عن مواصلة المسير والدرب الذي اخطيته أصبح مُعّبداً للكثيرين من أبناء شعبك، فمواقفك المبدأية لن يستطع أحد محوّها من الذاكرة.

رسالتك يا أحمد ألهمت الكثيرين وألهبت المشاعر وأوضحت لنا طريق المسير وفتحت أبواباً للأجيال القادمة للتزوّد بما غرسته من حبات البذار. فكما يقول الشاعر المصري نجيب سرور: “نحن حبات البذار/ نحن نعلم أن أطلال القبورستُغطى ذات يوم بالسنابل/ وسينسى الناس أحزان القرون/ وسينسون السلاسل/ والمقاصل والمنافي والسجون/ وسنكسو الأرض يوماً بالزهور/ وستأسوا الفرحة الكبرى جراحاً في الصدور/ فرحة النصر إذا جاء الربيع/ وإذا متنا فمن أجل الربيع”.

فالربيع الذي بشرّتم به قادم لامحالة، فما ضاع حق وراءه مطالب، وها أنت سخرّت وكرّست حياتك كلها من أجل مطالب الناس واسترداد حقوقهم الإنسانية، ونحن نعلم بأن رماد الشهداء حياة لايدخلها الموت أبداً وتضحيات المناضلين لن تذهب هباء، فأبواب جديدة للامل فُتحت مع أن الظلام لم يتوقف لكن شعلة النور قد طلت على وطننا بفضل صمودكم البطولي وتضحياتكم اللامحدودة حيث كان شعارك الذي تردده دوماً على مسامع أم خالد: مسيرة النضال لاترتهن لأفراد ولاتنتهي بتوقف مجموعات، ومادام الظلم والحق مصادراً والإنسان يعاني، فالمسيرة النضالية من أجل غد إنساني أفضل لابد أن تمضي قدما بمن لديه الاستعداد والعزم على المواصلة.

فالحياة لامعنى لها عندما تُباد الأشواق، وتنحر الأحلام، وتقتل المدن، فكانت مهمتك شاقة وعملت بكد وجد لايقاظ العقول لتطالب بأن يكون لوطننا مكان تحت الشمس، فكنت فارساً للأمل وللحرية، فليس بمقدورهم بعد الان أن يجعلوا اليأس يستولي على قلوبنا مهما بلغت كثافة الظلم الذي حاربته بهمة وبجدارة واقتدار.

المصدر: فوزيه مطر – “أحمد الشملان: سيرة مناضل وتاريخ وطن”

اقرأ المزيد

خطأ الدمج بين اليهودية والصهيونية

الصورة النمطية لليهود من جانب العرب والمسلمين لا تنفصل عن دولة إسرائيل والحركة الصهيونية. هذه الصورة تُدمج اليهودية في الصهيونية كمفهوم واحد لا ينفصلان عن بعضهما البعض. بل تعود إلى التاريخ البعيد فتماثل بين يهود بني إسرائيل أو يهود خيبر مع اليهود في دولة الكيان الصهيوني.

اليهودية هي ديانة الشعب اليهودي، وهي ديانة توحيدية قديمة، وأقدم الديانات الإبراهيمية، وتستند في تعاليمها على التوراة. أما الصهيونية فهي حركة سياسية يهودية، ظهرت في وسط وشرق قارة أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر ودعت اليهود للهجرة إلى أرض فلسطين بدعوى أنها أرض الآباء والأجداد ورفض اندماج اليهود في المجتمعات الأخرى للتحرر من معاداة السامية والاضطهاد الذي وقع عليهم في الشتات، وبعد فترة طالب قادة الحركة الصهيونية بإنشاء دولة منشودة في فلسطين والتي كانت ضمن أراضي الدولة العثمانية. وقد ارتبطت الحركة الصهيونية الحديثة بشخصية اليهودي النمساوي هرتزل الذي يُعدّ الداعية الأول للفكر الصهيوني الحديث والذي تقوم على آرائه الحركة الصهيونية في العالم. وبعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948م أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها توفير الدعم المالي والمعنوي لدولة إسرائيل.

لهذا توجد العديد من المنظمات اليهودية المعادية لإسرائيل والصهيونية، من ضمنها منظمة ناطوري كارتا اليهودية التي تكونت في عام 1938 من يهود محافظين سكنوا فلسطين قبل قيام إسرائيل. وهم من اليهود الأرثوذكس المعادون للصهيونية وينادون بضرورة إزالة دولة إسرائيل، ويعتبرون أن الله عاقب اليهود بإزالة دولتهم في العهد القديم وأن محاولتهم الآن معارضة لمشيئة الرب وستعرضهم للعقاب الإلهي. وغيرها من المنظمات اليهودية المعارضة للصهيونية، مثل صوت يهودي للسلام وهعيدا هحريديت و فوضويون ضد الجدار وزوخروت.

في حين يقدم كتاب “الصراع مع الصهيونية: أصوات معارضة يهودية” الصادر عام 2020 مواقف وتحولات لواحد وعشرين مفكرًا يهوديًا، بينهم علماء وباحثون وصحفيون ونشطاء عارضوا الصهيونية منذ نشأتها سياسيًا ودينيًا، على أسس ثقافية أو أخلاقية أو فلسفية، ومنهم ألبرت أينشتاين، ومارتن بوبر، وحنة أرنت، ونعوم تشومسكي، وإسرائيليون معارضون مثل يشعياهو ليبوفيتش، وزييف ستيرنهيل، وشلومو ساند، وإيلان بابيه وغيرهم.

ومؤلفة الكتاب دافنا ليفيت هي إسرائيلية تعيش حاليًا في كندا، خدمت في الجيش الإسرائيلي، وأدركت ببطء أن الرواية الإسرائيلية للأحداث تتعارض مع منطق التاريخ، ورأت بنفسها سوء المعاملة اليومية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة؛ لتكتب “بدأت خطواتي الطويلة من خيبة الأمل في الرواية الصهيونية، والبحث عن أصوات معارضة أخرى بعد حرب الأيام الستة عام 1967 بفترة وجيزة، عندما خدمت كضابط اتصال صحفي في جسر اللنبي، وشاهدت اللاجئين الفلسطينيين يحاولون الفرار عبر الحدود. كان الانفصال عن بلدي تدريجيًا واستغرق عدة عقود. في عام 2002، غادرت إسرائيل متوجهة إلى كندا، في وقت أصبحت فيه الأجندة الصهيونية أكثر تشددًا وأقل تسامحًا مع المعارضة”.

ووفقًا للباحث في شؤون التاريخ بالجامعة الإسلامية في غزة “يونس عبد الحميد” فإن كثيرًا من اليهود المتدينين رفضوا الفكر الصهيوني منذ بدايته، بل وحاربوه واعتبروه ضارًا بمصالحهم في العالم، وأدرك زعماؤهم أن الصهيونية حركة علمانية، ليس فقط لعلمانية مؤسسيها، وإنما لمعارضتها الصريحة لاعتقادهم في مملكة إسرائيل التي سيُقيمها لهم “الماشيح” – المسيح – المنتظر .

من الملاحظ أن عداء اليهود للصهيونية يصدر من منطلقين، الأول من تلك الرؤية التي رأت في الحركة الصهيونية كفرًا وانحرافًا عن موروث الآباء نجدها في تصريح الحاخام “موشيه هيرش”، المولود بفلسطين وأحد زعماء حركة ناطوري كارتا المناهضة للصهيونية، وكذلك في تصريح حاخام آخر هو “إلمر برجر”، الرئيس الأسبق للمجلس الأميركي اليهودي، حين أعلن عام 1968 في جامعة “ليدن” الأميركية أن “أرض صهيون ليست مقدسة إلا إذا سيطرت عليها شريعة الرب”.

المنطلق الثاني – الأرفع – يكمن في رفض الشخصيات الحرّة البعيدة عن العقيدة الدينية اليهودية والمنفتحة على الثقافة الحديثة والروح الإنسانية الحرة العادلة برفض الظلم والإرهاب اتجاه فلسطين أرضًا وشعبًا.

إذًا عدم التمييز بين اليهودية والصهيونية يجعل كل يهودي بالضرورة صهيوني ومؤيد لها ولإحتلالها لفلسطين ولكل ما تقوم به من انتهاكات صارخة بحق الفلسطينيين من قمع وسلب وقتل. بينما في الواقع يوجد آلاف اليهود الرافضين والمعارضين لدولة إسرائيل وللحركة الصهيونية.

اقرأ المزيد