المنشور

بيان المنبر التقدمي بمناسبة عيد العمال العالمي 2020

وضع العمالة الوطنية والحركة العمالية في أسوأ الحالات – المنبر التقدمي
آن أوان المراجعة وتعديل سياسات العمل ونرفض المساس بأموال وحقوق العمال
ننبذ حملة الكراهية والعنصرية ضد العمالة المهاجرة ومعالجة اختلالات سوق العمل ضرورة

أصدر المنبر التقدمي بياناً بمناسبة عيد العمال العالمي، الأول من مايو، وجه فيه التحية وعظيم التقدير لعمال البحرين والعالم، وقال أن هذا اليوم مناسبة أممية للتضامن مع الطبقة العاملة في كفاحها المشترك ضد صنوف الاستغلال وسعيها لتحقيق العدالة الاجتماعية.

وأشار التقدمي إلى أن وضع العمالة الوطنية في أسوأ حالاته، وكذلك الحال بالنسبة للحركة العمالية، كما أبدى رفضه القاطع من أي مساس بأموال وحقوق العمال، مشيراً إلى ملف التأمينات الاجتماعية مشدداً على أهمية وخطورة هذا الملف ومن مغبة تراكم العجز الاكتواري.

وأشار المنبر التقدمي إلى أن هذه المناسبة تأتي هذا العام في ظل تداعيات كارثة وبائية كشفت عن أوضاع بالغة السوء تمس آدمية الإنسان تعيشها العمالة المهاجرة، رافضاً بشدة حملة الكراهية والعنصرية من قبل البعض تجاه هذه العمالة.

وفيما يلي نص البيان:

بيان المنبر التقدمي بمناسبة عيد العمال العالمي 2020

بمناسبة الأول من مايو – عيد العمال العالمي نحيي الطبقة العاملة البحرينية وحول العالم ونحتفي بها في ظروف صعبة واستثنائية تمر بها البشرية جمعاء في ظل انتشار جائحة كورونا كوفيد 19 المستجد.

وفي هذا الظرف الصعب نعبر عن بالغ تقديرنا للقوى العاملة التي تقف في الصفوف الأمامية للتعامل مع هذه الجائحة من كوادر طبية وتمريضية والمهن المساندة إلى جانب العمال في المهن الأخرى التي توفر لبقية البشر ضروريات الحياة والذين يعرضون أنفسهم وعوائلهم للخطر المباشر مقدمين جُلَّى التضحيات.

وبات واضحاً أن النظم الرأسمالية / النيوليبرالية تقف عاجزة عن تقديم الحلول والخدمات للبشرية. فأولوياتها كانت دائما خدمة وتعظيم رأس المال لا بناء الإنسان والبنية التحتية التي تخدم الأغلبية الشعبية من كادحي العمل والفكر والفئات الضعيفة من شيخوخة وطفولة وعجزة وفقراء من خلال تقديم الدولة الخدمات الأساسية من تعليم وتطبيب ورعاية اجتماعية. إن فشل هذا النظام يتجلى بشكل واضح أمام البشرية، ولابد من العمل على تغيير هذا الواقع من خلال تكاتف العمال والفقراء للتأسيس لنظام اقتصادي اجتماعي عالمي يضعهم ومصالحهم على رأس الأولويات.

محلياً، نرى أن التعامل الحكومي مع أزمة كورونا كوفيد 19 المستجد بدأ مبكراً وهذا ما نثني عليه. وقد اتخذت قرارات جريئة أثبتت وجاهتها وتميزت مقارنة بالعديد من دول العالم، إلا أننا نرى العديد من النواقص بالأخص في حماية العمال في مواقع العمل والتعامل مع وضع سيئ ومتراكم لسنين كانت الجهات الرسمية تغض الطرف عنه.

فالعديد من الشركات الصناعية الكبيرة منها والصغيرة وشركات المقاولات وغيرها من المهن التي تتطلب تركزاً عالياً للعمالة – المحلية والمهاجرة – تتراوح بين أنظمة صحة وسلامة شكلية إلى عدم وجود أي منها. وما يدل على ذلك عدد الوفيات والإصابات السنوية من خلال حوادث العمل. إلا أن هذه الجائحة عرَّت الظروف السيئة التي يعيشها العمال داخل المنشأة. والأدهى ظروف السكن غير الآدمي والبشع الذي يوفره صاحب العمل للعمالة المهاجرة من خلال تكدس وكثافة عالية في الغرف تفقد الإنسان آدميته ناهيك، عن قلة المرافق الصحية نسبة إلى عدد العمال في السكن ونؤكد أن هذه ظروف غير مقبولة وصلنا إليها بسبب جشع أرباب العمل وغض الطرف من الجهات الرسمية وبالأخص وزارة العمل.

والواقع يثبت عدم تطبيق القرار رقم (40) لسنة 2014 بشأن اشتراطات ومواصفات مساكن العمال والذي نص على أن ألا تقل المساحة المخصصة لكل عامل عن أربعة أمتار مربعة من المساحة الخالية في الغرف المخصصة لمساكن العمال. إلا أن الواقع يقول العكس، فالعمال مكدسون ولا يمكن تطبيق التباعد الاجتماعي ولم يكن هناك أي تطبيق لهذا القرار. والشاهد فتح المدارس مؤقتاً لإيواء العمالة وفق مبدأ التباعد الاجتماعي حماية لهم وللمجتمع. ونؤكد هنا على أهمية فتح هذا الملف على مصراعية ووضع أصحاب العمل أمام مسئولياتهم في توفير بيئة عمل صحية وسليمة وسكن لائق للعمال بالإضافة إلى وضع الجهات الرسمية أمام مسئولياتها وخصوصاً وزارة العمل في الحرص على تطبيق القرارات ذات العلاقة والرقابة على استمرارية تنفيذها.

وظهرت للعلن حملة كراهية وعنصرية ضد العمالة المهاجرة تتهمها بالمسئولية عن انتشار فايروس كورونا وتوالت الاتهامات المختلفة بشكل مشابه لحملات الكراهية العنصرية اليمينية الغربية – والتي تمارس ضد العرب أيضاً هناك. هنا نؤكد رفضنا لهذه الحملات وأن السبب الأساسي الذي لا يعيه من هم وراء هذه الحملات أن كل ما يرون من مظاهر هي نتاج لسياسيات العمل المنتهجة من الحكومة وأصحاب الأعمال من خلال تفضيل العمالة المهاجرة على العمالة الوطنية وهذا ناتج عن عدم وجود حد أدنى للأجر يؤمن للعامل المهاجر حدا أدنى من الحياة الآدمية المقبولة مما ينتج عبودية حديثة يقبل بها العمال المهاجرون بدلاً من الفقر المدقع. وهذا مثال من جملة القوانين والقرارات أو عدم النظم (عدم وجود قانون للحد الأدنى للأجور مثلاً) والتي تشكل سياسة العمل وهي التي انتجت اختلالاً في سوق العمل وليس العمالة المهاجرة ذاتها.

وفي ذات السياق نرى أن وضع العمالة الوطنية في أسوأ حالاته وذلك نتاجاً لإلغاء برامج البحرنة وتصريح العمل المرن وتبعاته وسلبياته وغياب الضوابط لتحصيل الأجور وعشرات العناوين الأخرى.

وهنا نؤكد أن سياسة العمل المنتهجة منذ مشروع مكنزي وحتى اليوم والمبنية على تحرير السوق والسياسات النيوليبرالية هي المسئول الأكبر عن اختلال سوق العمل والبطالة وتردي الوضع الإقتصادي للمواطنين والعوائل وهذا ما يجب مجابهته ومحاربته وإصلاحه. وهذه الجائحة وما أنتجته لأكبر دليل على ما نقوله ودائما ما رددناه، لا مناكفة للحكومة بل بناء على فكر اقتصادي اجتماعي نحمله يؤكد لنا أن هذه هي النتيجة الحتمية لمشروع بهذا التوجه. نؤكد مجدداً على أوان الوقت للوقوف ومراجعة هذا النهج وتعديل سياسات العمل بما يصحح الميزان المائل لصالح أصحاب العمل على حساب العمال.

وتعليقاً على التعديل على قانون التأمين ضد التعطل لتمويل رواتب المواطنين لمدة ثلاثة أشهر فإننا من حيث المبدأ نقف ضد المساس بأموال العمال، إلا أن هذ التعديل يعتبر خطوة وقائية لحماية العمال من الفصل من العمل جراء تضرر الأعمال بسبب جائحة كورونا. وبذلك يخدم الهدف الأساسي من القانون ذاته وهو توفير الحماية الاجتماعية للعمال المتضررين من الفصل. إلا أننا نتسائل عن عدم تضمن القانون مواد لحماية العمال من الفصل بعد انقضاء مدة الدعم والفائدة من دعم بعض القطاعات غير المتضررة، بل أن بعضها منتفع وازدادت أعمالة نتيجة الحاجة إلى المنتجات الصحية والمواد الغذائية وغيرها. وغفل القانون أيضاً عن فئات متضررة بشكل كبير مثل غير المنضوين تحت مظلة التأمينات كسواق سيارات الأجرة وباصات نقل الركاب وأصحاب المهن، وغفل أيضاً أصحاب المهن الحرة المؤمنين اختيارياً كالمحامين والأطباء وغيرهم، ولم يلتفت القانون إلى البحرينيين العاملين في الدول الشقيقة كالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت من غير القادرين على الالتحاق بأعمالهم.

في ملف التأمينات الاجتماعية، نذكر بأن العجز الاكتواري يكبر ويتراكم يوماً بعد يوم دون أي جهود لإيقافه وتصحيح الوضع – وهذا ما طالبنا به منذ كشف الحكومة للعجز المتكون منذ أكثر من عقد – ولم نر أي تحرك باتجاه إصلاح العجز الاكتواري حتى بعد إرجاع عضوية العمال – ممثلين في الاتحادين العماليين وآخر تختاره الدولة – وكل ما يحصل أن كل عام تسرب الحكومة مقترحاً – وكل مقترح أسوأ من سابقه – فينتفض المجتمع في وجه هذه التعديلات حتى يتم التراجع عنها فبقي الملف معلقاً. نرى في المنبر التقدمي وجوب الإلتفات إلى هذا الملف المهم، فهو يشكل مستقبل العمال وهو أحد ضمانات السلم الأهلي والحافظ لكرامة المتقاعدين من العوز والحاجة وهو متكون من مدخراتهم وحقوقهم والمساس به له عواقب وخيمة.

نؤكد على عدم إغفال هذا الملف الحرج والحاجة إلى تشكيل لجنة مشتركة تشمل أطراف الإنتاج الثلاثة من عمال وأصحاب عمل والحكومة بالإضافة إلى المشرع ومتخصصين من أجل إيجاد صيغة إنقاذ للتأمينات الاجتماعية بما يحفظ للعمال حقوقهم.

وفي الجانب النقابي، نرى أن الحركة العمالية تعيش أسوأ أحوالها وفي تردي مستمر وتشظي أكبر وهذا أحد أهم أسباب تردي وضع العمل وسوء سياسات العمل دون مواجهة من طرف العمال ودون تقديم برامج حقيقية وانكفاء أشبه بمحاولة البقاء على وجه الحياة لا غير، والتخلي عن العديد من الملفات العمالية الأساسية مثل النقابات في القطاع الحكومي والنقابات القطاعية وغيرها من الملفات. إلا أن ما يبعث على التفائل ملاحظتنا لنشاط عدد من النقابات على مستوى منشآتها وقطاعاتها وأخذهم لدور على المستوى الوطني. وهذا هو المطلوب، خصوصاً في ظل انكفاء الاتحادين. ونؤكد هنا أيضاً أن الاتحادات العمالية وسيلة وليست غاية ويجب على المسئولين بها العمل على هذا الأساس.

ولا يفوتنا هنا الإشادة بدور كتلة تقدم النيابية التي تعمل بقامة اتحاد عمالي من خلال تقديم مصالح العمال في كل مناقشات القوانين المطروحة في البرلمان وتقديم عدد من المقترحات ومشاريع القوانين ولجان التحقيق والأسئلة البرلمانية التي تصب في مصلحة العمال والدفاع عن مكتسباتهم، كما أصبحت الكتلة ملاذاً للعمال المتضررين للدفاع عنهم والحفاظ على أرزاقهم وإرجاع حقوقهم، وهو دور نفتخر به وثقة من العمال والناخبين نعتز بها.

نؤكد مجدداً وبشكل واضح كما أكدنا دائماً؛ أننا ضد التوجه النيوليبرالي الذي تنتهجه الدولة المبني على الخصخصة وتحرير السوق وانكفاء الدولة إلى دور المراقب والمنظم لا غير، والذي أثبت ومستمر في إثبات فشله عالمياً ومحلياً. ولنا في القطاعات الحكومية التي تم خصخصتها خير مثال، فأغلبها انتقل من أغلبية مطلقة للعمالة البحرينية إلى عدم وجود للعمال البحرينين فيها. وفي ذات الوقت لم نجد الارتفاع في جودة الخدمات التي بشرنا بها المدافعون عن الخصخصة.

إن من المفيد الإلتفات إلى أن الدولة ذاتها – وأغلب دول العالم كذلك – عند مواجهة الجائحة إرتأت أن تأخذ بزمام الأمور والتحكم وأن لا تتركها للقطاع الخاص وتبقى في موقع المتفرج والمنظم والمراقب، فيما نعتبره درساً لدول العالم – ولا استثناء لنا – للتركيز مجدداً على أهمية قطاع الدولة وما يتمتع به من إمكانيات ضخمة في تعبئة الموارد المادية والبشرية في التنمية ومواجهة التحديات.

ختاماً؛ يؤسفنا أن نحتفي بعيد العمال العالمي عن بعد دون القدرة على التجمع بسبب هذا الظرف واستمرار منع المسيرات منذ 6 سنوات، كما نستذكر المناضيلن العماليين التاريخيين الباقيين والراحلين ونعدهم بمواصلة الدرب على مسارهم حتى تحقيق عالم أفضل للكادحين.

عاش الأول من مايو عيداً لعمال البحرين والطبقة العاملة في كل أرجاء العالم، ويوماً للتضامن مع العمال وكفاح الشعوب وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني في نضاله العادل ضد الاحتلال الصهيوني، وضد صفقة القرن من أجل تحرره وقيام دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

المنبر التقدمي
1 مايو 2020

اقرأ المزيد

التقدمي والقومي تدعوان إلى توفير الضمانات للحفاظ على المكتسبات الوطنية في ظل أزمة جائحة كورو

تعصف بالعالم في أيامنا هذه أزمة إنسانية أودت بحياة عشرات الألوف، كان غالبيتهم من الفقراء والطبقات المعدمة الذين حالت ظروفهم دون الحصول على العلاج والحماية الكافية والأمن الصحي المستدام، لتعكس واقع إنساني مرير غابت فيه قيم العدالة والكرامة وأصبح معه جلياً الحاجة الملحة للشعوب الفقيرة والطبقات المعدمة أن تتطلع إلى عالم خال من سيادة السياسات النيوليبرالية الباحثة عن المصالح الأنانية قبل كل شيء، عالم أكثر إنصاف ومساواة تكون فيه الفرص المتاحة قائمة على قدم المساواة أمام الجميع، عالم يعيد توجيه محركاته نحو خدمة الإنسان ورفاهيته والخدمات الأساسية المتصلة بجودة حياته، وإطلاق طاقاته المبدعة وحريته في إبداء رأيه ومشاركته في القرارات التي تتعلق بمصيره، حيث باتت هذه المعايير تحدد مدى صلاحية الحكومات والأنظمة الحاكمة في كافة أرجاء العالم.

وإذ تقف اليوم جمعيتي المنبر التقدمي والتجمع القومي بكل تقدير واعتزاز أمام الإجراءات والخطوات التي اتخذتها مملكة البحرين، وتبارك الجهود الجبارة التي يبذلها طاقم فريق البحرين لمحاربة الجائحة وفي مقدمتهم الكادر الطبي، إلا أنها تستشعر الخطر المحدق الذي بدأ يطال الفئات الأكثر تضرراً من تبعات هذه الأزمة، داعية الحكومة والجهات ذات القرار حماية هذه الفئات من الوقوع فريسة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة لتفشي المرض، وهي دون شك أشد فتكاً من الوباء نفسه لمثل هذه الفئات الضعيفة.

وإذ تقدر الجمعيتان وتثمنان عالياً حزمة الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي أطلقتها الدولة بكافة أجهزتها للمساهمة في حماية الفرد والمجتمع والاقتصاد في مملكة البحرين، وإذ تقدر الجمعيتين أن هذه الإجراءات طالت بنتائجها الإيجابية والمطلوبة شرائح واسعة من المجتمع وأثارت الارتياح البالغ لديهم، فلقد بقت هناك شرائح وفئات واسعة أيضاً لا تزال تبحث عن دعم ومساندة وغطاء تأميني، وخاصة أصحاب المهن خارج العمل المهيكل الذين يقتاتون علي عيش يومهم كأصحاب المهن الحرة والمزارعين والصيادين وبائعي الأسماك والخضروات والبرادات وسواق الأجرة وسوق النقل والأسر المنتجة وأصحاب المؤسسات متناهية الصغر وغيرهم العديد، حيث تشير الإحصائيات أن السكان البحرينيين من هم في سن العمل (15 – 60 سنة) يبلغون 483 ألف، في حين أن العاملين في القطاعين العام والخاص 153 ألف، وإذا ما تم استبعاد أيضاً ربات البيوت والطلبة والمتقاعدين ما دون الـ60، فإن التقديرات تشير إلى وجود نحو 100 ألف بحريني من العاملين ممن لم تطالهم إجراءات الدولة بالتخفيف عن تداعيات تفشي وباء كورونا، وهو ما يشي بتراكم أزمة اقتصادية اجتماعية خطيرة في صفوف هذه الفئات ندعو بكل إخلاص للتعامل معها ومعالجتها بروح من المسئولية.

كذلك، فإن الجمعيتين تلاحظان، وبالرغم من الدعم المقدم للشركات لدفع أجور البحرينيين، فقد بدأت عدد من الشركات في تسريح العمالة الوطنية ولو بأشكال مختلفة، مثل إجبارهم على إجازات غير مدفوعة الأجر أو تقليص الامتيازات التي حظو بها كنتاج لجهدهم وإنتاجهم في حقلهم الوظيفي، مما يكشف عن جانب من الجشع واللامسئولية الوطنية لعدد من التجار وأصحاب الأعمال الذين يسعون لاستغلال هذه الأزمة الإنسانية لتحقيق بعض المكاسب الضيقة والأنانية كتقليص امتيازات العمال، والمضاربات في الأسعار وإحجام العديد منهم عن إظهار مسئوليته الوطنية في التبرعات النقدية والعينية للجهود الوطنية لمكافحة الجائحة.

ويبقى موضوع العمالة الوافدة وهم الحلقة الأضعف في هذه الجائحة، فاليوم تتكشف وأكثر من أي وقت مضى جشع شرائح عديدة من أصحاب الأعمال الذي استغلوا هذه الفئة أبشع استغلال في قوت يومهم وأجورهم المتدنية لتحقيق الأرباح الفاحشة، ووضعهم في مساكن خالية من أدنى الاشتراطات الصحية والإنسانية، كما يتكشف الخطأ الشنيع والفاحش لسياسات الفيزا المرنة والعمالة السائبة التي تقدر بنحو 60 ألف عامل، بعد أن إزدادت الإصابات في صفوفها، مهددة بذلك القدرة التحملية لنظام الرعاية الصحية. وإذ تشيد الجمعيتين بالتعامل الإنساني للدولة مع هذه الفئات، فإنهما تدعوان بقوة إلى محاسبة كافة أصحاب المهن المقصرين في رعاية عمالتهم، وكذلك أولئك الذين سارعوا لتنفيذ سياسات الفيزا المرنة وأيضاً المتهاونين مع العمالة السائبة وعدم التهاون في تحميل هؤلاء كافة المسئولية القانونية والجزائية لأوزار ونتائج هذه الممارسات والسياسات التي ألحقت أضراراً بالغة بمصالح البلد الاقتصادية والاجتماعية.

إن الجمعيتين إذ تجددان إشادتهما البالغة بكل الإجراءات التي اتخذتها الدولة للتصدي لتفشي وباء كورونا، والجهود الوطنية العالية التي تبذلها كافة الكوادر المعنية وخاصة الكوادر الطبية والصحية، وإذ تحييان بكل إكبار واعتزاز الروح الوطنية الجامعة لكافة فئات المجتمع في الالتفاف حول تلك الإجراءات ودعمها، وروح التضامن الاجتماعي التي تجلت في الكثير من الصور والمواقف الرائعة والمبدعة والمسئولة، فإنهما تجددان دعوتهما لتطبيق معايير العدالة الاجتماعية التي ارتضت بها مملكة البحرين، وفي مقدمتها توسيع شبكة الدعم المالي والعيني المباشر وغير المباشر لفئات العاملين البحرينيين الذين لم تطالهم إجراءات الدعم، خاصة الواقعين خارج العمل المهيكل بكافة فئاتهم، مع تحميل جزء من أعباء ذلك على شركات القطاع الخاص المقتدرة أو تمكين أو توجيه جزء من حصيلة تبرعات الحملة الوطنية لتحقيق ذلك، كذلك توفير الضمانات القانونية التي تحول دون انتقاص الحقوق المكتسبة للمواطنين، وفي طليعتها الحق في الأمن الاجتماعي وعلى رأسها الحق في العمل والضمانات التي تؤدي لاستقراره واستدامته.

كذلك، وإذ يتزامن إصدار هذا البيان مع دخول شهر رمضان المبارك الذي نتمنى فيه أن يحل بخيره وبركاته على شعبنا الكريم، فإن مما شك فيه أنه وبما يجسده من قيم ومعاني سامية يشكل فرصة كبيرة لتوطيد روح التراحم والعفو والإخاء والإنسانية في المجتمع، ومن هذا المنطلق تجدد الجمعيتين دعوتهما لإطلاق سراح كافة سجناء الرأي المعتقلين، كذلك إطلاق حرية الرأي والتعبير المسئولة بوصفها الحرية الأصل والأبلغ أثراً في مجال اتصالها بالشئون العامة والتعبير الصادق عن الموقف المسئول خاصة في هذه الفترة التي تقتضي التكاتف والتكامل الاجتماعي والسلام والاستقرار المجتمعي.

المنبر التقدمي
التجمع القومي
المنامة في 25 أبريل 2020

اقرأ المزيد

مثل أية رواية حزينة

ومثل أية رواية حزينة..
ببداية مرهفة
ونهاية تراجيدية
ستترك حبيبتك وتقترن بامرأة عادية
تهذب أظافرها على صوت نشرة الأخبار
تشرب الحليب المحلى بالعسل
وتنتعل صندلاً منخفضاً
كي لا تفوقك طولاً..
امرأة لا تقرأ عليها الشعر
ولا يكتب شوقك إليها مطلع قصيدة
لا تميّز ابتسامتك المندهشة من المنهزمة
تنهار آخر النهار على ذراع أريكة
ولا تختار
أن تأوي إلى كتفك
امرأة لا تتلوى على شالِ أغنية
ولا ينام على صدرها ديوان أثير
لا يجافيها نوم
ولا يسكنها حلم..
تكتفي بقبلة باردة
بغواية عجلى
وعناق موارب..
تهندم جسدك أمام مرآتها
بوقار بدلة كلاسيكية
يبكي داخلها
جنون مراهق..

اقرأ المزيد

مدائن ما بعد الكارثة

عن النص: شاعرٌ في تأملاته يزورُ مدينة المستقبل، بعد حلول كارثةٍ كونيّة. ويتحاورُ مع ساكنيها.

1

في الهدوءِ المُتْقن، في الهدوءِ الصّافنِ كالجسدِ النشوانِ قُبيلَ توهُّج الفكرة، إِزميلٌ ذو إيقاعٍ فريدٍ. يدوِّن في الأوقيانوس المتجمِّد شمساً كُبْرى، وكانتْ للشّمسِ غايةُ واحدة، أن تسْطع على المدائن التي أراها:
يا لآلافِ الجُسورِ المعلّقةِ كإشراقاتٍ صوفيّة .
يا للتماثيلِ تُسَامقُ التآويلَ كأنَّها التّرانيمُ مُحنّطةً ..
أو هيَ الأزليةُ إِنْ نَطقتْ في الحجر .
يا للمعارف المُستقاةِ من كينونةِ النبْعِ: (تكنولوجيا الروحِ ـ لاوعيُ الأفلاكِ والمجرات ـ تاريخُ النبيذ ـ قوانينُ النُّعاس الإلهيِّ ـ ترجمات الكُمثرى ـ هندسة الفراغ (
مُدنٌ.. تنتعظُ كألحانٍ سَكْرى في نوتاتِ بتهوفن. مدنٌ حرّةٌ من تعاليمِ العُمرانِ كأنَّ أصابعِ الكَمالِ طَـيَّعتْ حدْس القَصْدير، أو أَنَّ منقارَ الخُرافة إعتشَّ في هملايا المعنى. مدنٌ تتـغنّجُ بالريفِ قلائدَ في جِيد الرُّخَامِ وتَنْتعل الغابة. مدنٌ صَمتٌ يَلعقُ فروةَ الأبدِ الكَسولِ ويهزُّ المَجازَ ذيلاً، مدنٌ لغاتٌ تهرولُ في العُروقِ فلا معاجمَ أو أَعاجِم. لاغريبٌ يحنُّ إلى حنينِ هناك. وأما الغريبةُ فهي آثارُ أقدام الصّدى في مَرْمر الرِّئتينِ.

2

لَمْ يكونوا بوذييّنَ، كانوا “بوذا” بأصابعَ مِطْواعةٍ للّعبِ بأزْرارِ الأَجْرام، ولَهُم في الفُكاهةِ تَصانيفُ شتّى لَمْ تمُرَّ ببالِ أرسطو: فُكاهةُ الشّك واليقينِ، فكاهةُ العَدمِ يَلْعب الغُمْيضةَ مع الذّكاءِ الاصطناعيِّ في حديقةِ الغموض، فكاهةٌ تُنَـبِّذ الزّمنَ، وتَرْشفُ المُفآجآتِ بأقداحِ الأقدارِ، فكاهةٌ توازنُ أَدْرينالينِ الكون وتَحلُّ معادلاتِ الدّهشة.
رأيتُهم أفرادًا كأنَّهم دُوَلٌ، ملوكاً بلا ممالكَ، أَشْياعاً في العُزلةِ الرهبانيةِ يُؤْمِنون بحكْمة النّمل، ويَكْتُبون قصائدَ في فلاحةِ الإنسانِ. أَعْمَالُهمُ الفُنونُ الجَميلة إِنْ عَمِلوا. رأَيْتُهم أجْساداً من سِيلكون العِرْفان وفي وجوههم.. ظِلُّ ابْتساماتٍ خالدةٍ .. كتلك التي تَرْسُمها دَغْدغات المَعرفة .
سَألْتُهم عن سِرِّ الكارثة، وعن إِنساننا الّذي كُنْتُ وكَانُوهُ ، فأَلْقوا في قَلبي كلماتٍ كالأُحْجِيةِ، كلماتٍ كأنّي في العَمَاءِ الأوّلِ قد لمستها تَتمَاوجُ في مَاء الرَّحِمِ المالح .فقالوا:
” عندما تُفتقَد السّعادة، تَسْتعدُّ الكارثة للعرس “
” أَنْ تشعر بالذّنب، وأَنْ تسقي وردة الكراهية “
” كنتم لا تسألونَ الشّجرةَ “ما اسمكِ؟”، بل تمنحونها اسمًا”
” انْحِرافٌ بسيطٌ في عجلات القطار “
” بوصلة لا تُشير إلى الجَمَال “
” الرّجل الذي يُمْسك مهْماز الوقت وآلامَ البطن “
” مَنْ يرى الفراشة ويقول: يالهُ من استثمار جميل”
” كان هناك أَحْمقٌ لا يَعْرف كيفَ يَضع الضّمائر في جملةٍ مفيدة، مثلاً : كان يضع “أنا” مكان “ه ” ولكَ أن تتخيلَ طَرائفه العجيبة “

3

أللمدائنِ أبوابٌ لأطرقها ؟. سألتُهم. ضحكوا، ثم أشاروا للذّاكرة فانبثقتْ في الماء الأملسِ فَسِيلةٌ خَضْراءُ تطَاولتْ، حتى تدلَّتْ من سَعفاتها صُورٌ شتّى: تلكَ أبوابكم التي قدستموها، وظننتُمْ أنّكم العَارفون ما أنتم وما الآخرون ،
بابُ المتاحف: سوّاحٌ يغتصبون الموناليزا. ممالكُ تبحث في البُراز عن تاج وصولجان .حتفٌ سكّيرٌ بمعطفه المرقعِ ولحيتهِ الرثة يُرْشد الزوار للحكمة!
باب صناديق الاقتراع: نفرٌ من المُكبّلين يبحثون عن الحُريةِ في صندوق أبكم!، أفلا يتأمّلون مُغَازلاتِ الطّير أو يدْرُسون بجديّةٍ أركولوجيا الأرصفة .
بابُ الإحصائيات: أديانٌ تتـنزَّل في البورصة، بشرٌ يَمْشون على أربع تشبُّهاً بالمُنْحنى الجَرسي، أرقامٌ تـسِمُ القفا وتُسَعّر المَحبّة ، أرقامٌ أراقِمُ تتلوّى في أرض السحرة .
وإذْ ذُهلتُ لفرْطِ ما وجدْتُّ من أبوابٍ عدُّوها ألفاً أو يزيدُ، كلُّ بابٍ يفضي لبابٍ، حدَّثْتُ نفسي: ما خلقنا الأبواب إلّا لنخدع قلبنا حين يشمُّ رائحة البحرِ، فيما صنعنا متاهاتٍ كاملة الإبداع، متاهاتٍ لا تكشف عن شيءٍ من نفسها، إلا لتدُسّنا في فخِّ أَكْمل .
4

كائنٌ منهم، نكادُ نُشْبههُ لولا أنَّه خِيميائيُّ الحِواراتِ وحَافظُ أسْرارِ التّحولات.
أوقفني في الحِيرة وقال: لا تُطْرق الأبوابُ ولكن تُطرق الألباب.
أوقفني في المحبة وقال: بالذي يَجْمع ما بين العناصر، هكذا بذرة المدائنِ تُسْقى.
أوقفني في اللاوعي وقال: شاعرٌ يَكتبنا ويكتُبك،.
فإذا صرختَ الآنَ يستيقظُ من حُلْمهِ الغَائِرِ في الآتي فتختفي، ونختفي .
ولا أمل سوى انتظارها، سوى انتظارِ الكارثة تأتي
معطّرةً باليورانيوم.
وإن تأخرتْ تَغنُجاً…
ينتظرونها، يأساً من اللاشيء
ينتظرونها، مُخَلّصاً لكل شيء
لَمْ تَكُن حُنْجرتي معي. وأَسْمعُ الهذرَ يسري في رُخَامِ المدائنِ. لغةٌ تَسيلُ فتذوي تماثيلٌ وجسورٌ ونوتاتُ. أرى صوتي يَدْخُلُ في حلقي .أصرخُ .أسْتيقظُ . ألهثُ . أرى نفسي في البياضِ. بلا أَبْعادَ أو نقطة ارتكاز. أرى إزميلاً ذا ايقاعٍ فريد يدوّن في الأوقيانوس المتجمّد…
شمساً كُبْرى.

اقرأ المزيد

كيف عرّت “كورونا” الرأسمالية المتوحشة

منذ زوال نظام القطبية الثنائية قبل 30 عاماً، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، بانهيار الأول وتفرّد الثانية تقريبا بالهيمنة الدولية، وعلى مدى مائة يوم ونيف خلت منذ أن اُكتشف فيروس ” كورونا” المعروف ب “كوفيد – 19″ في مدينة ووهان الصينية أواسط ديسمبر الماضي لم تُمتحن أخلاق الرأسمالية في طورها المتوحش المتعولم خلال الثلاثة عقود الماضية وتتعرى أنانيتها؛ ناهيك عن جشعها النهم للأرباح، كما اُمتحنت وتعرت أمام العالم أجمع؛ فقد بات واضحاً للأسرة الدولية بأسرها عدم توّرعها عن توظيف الأزمة الصحية التي ما برحت البشرية تعاني منها لخدمة مصالحها الأنانية الضيقة، وذلك بعد أن أخذ الوباء في التفشي سريعاً في معظم أرجاء كوكبنا الأزرق. والمؤسف أن ذلك يحدث في عالمٍ بتنا نصطلح على تسميته ” القرية الكونية” بفضل التطور الهائل في وسائل المواصلات والاتصالات.

لسنا بطبيعة الحال مع أصحاب “نظرية المؤامرة ” الذين أعتادوا على توجيه أصابع الاتهام أتوماتيكياً أو جزافاً إلى إلولايات المتحدة المتحدة باعتبارها بؤرة الشر المطلق في العالم، وبأنها من تقف وراء زرع الفيروس في الإقليم الصيني المنكوب، لا سيما وأن القيادة الصينية نفسها كانت وفي أوج محنة شعبها منصرفة عن الرّد على الحملة النفسية التشمتية الشعواء التي كانت تقودها واشنطن بصفة خاصة وحلفاؤها الغربيون عامة تجاه بكين، بينما كانت هذه الأخيرة مشغولةً بقيادة شعبها في معركة وجوده المصيرية لمكافحة الفيروس القاتل ذي القدرة على الإبادة الجماعية البطيئة؛ وفقط بعد ما لاحت بوادر ملموسة بتكلل حربها على الوباء بالانتصار في أواسط شهر آذار/ مارس الماضي لمّح المتحدث بإسم الخارجية الصينية تشاو ليجيان – بشكل غير قاطع – بأن الجيش الأميركي قد يكون وراء زراعة الفيروس في “ووهان” .

وفي الوقت الذي كانت فيه ماكينة الحرب النفسية الغربية على الصين منفلتة من عقالها، فيما هذه الأخيرة تواجهه الوباء القاتل وحدها، كان من اللافت والمثير للدهشة والاستغراب مواقف تلك الدول الرأسمالية الغربية التي بدت مطمئنة تماماً بأنها ستظل بمنأى عن الوباء إلى الأبد حتى وهي تعيش في عالم تقلصت فيه أطول المسافات من أقصى المعمورة إلى أدناها، وباتت تٌعرف – كما ذكرنا – بالقرية الكونية.

ومع أن وسائلها الإعلامية، وعلى رأسها الاميركية، أخذت تتنافس في التباهى بأسبقيتها في تذكير العالم بتنبؤها المسبق بظهور فيروس كورونا في الصين، سواء عبر صحفها أو من خلال أفلام هوليودية اُنتجت بهذا الخصوص مطلع العقد، بينما أنفرد بعدئذ الرئيس الاميركي دونالد ترامب بنعته ب”الفيروس الصيني” وظل متمسكاً به رافضاً التراجع عنه، غير آبه باحتجاج الصين، ولا باعتراض منظمتي اليونسكو والصحة العالمية على هذا الوصف لما ينطوي عليه من دلالة عنصرية، كانت ثمة أقلام معتدلة ومواقف شجاعة من داخل الدوائر الإعلامية والسياسية الغربية والاميركية اليمينية تمجُ ذلك الخطاب المهووس والهذيان المنفلت في تلك الحرب النفسية اللذان تجاوزا كل الحدود والمعايير الأخلاقية الإنسانية، وتحذّر أيضاً من وهم انحصار الكارثة في البر الصيني والاطمئنان الواهم بعدم تمددها إلى داخل الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، وهو ما حدث.

وعلى سبيل المثال فإن الكاتبين الأميركيين ديلان بوشير وليزا كريغر دحضا بقوة في تقرير لهما معززاً بالأسانيد العلمية نشرته “تربيون ميديا” الخرافات التي رُوجت إبان تلك الحرب النفسية المستعرة على الشعب الصيني والرامية لاحتقاره والحطّ من حضارته وثقافته الغذائية بأن حساء الخفافييش الذي يقبلون عليه في وجباتهم هو المسؤول الأول عن نقل الفيروس التاجي الجديد، لا سيما إذا ما عُلم بأن أكثر من 200 من الفيروسات التاجية الأخرى بإمكانها نقل العدوى إلى مختلف الحيوانات، لا الخفافيش وحدها، أو الثعابين والقطط والكلاب كما قيل، علماً بأن مثل تلك العادات الغذائية مستوطنة ومعروفة ليس لدى الصينيين وشعوب شرقية مجاورة منذ مئات أو آلاف السنين فحسب، بل ولدى شعوب عديدة في إفريقيا وآسيا وحوض المحيط الهادئ.

وإذا كان من السابق لأوانه القطع بوجود أيادٍ خفية في زرع الفيروس في مدينة “ووهان” فإنه من الثابت، حتى الآن على الأقل، بأن تلك المواقف للدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ظلّت طوال الأزمة الصحية التي مرّت بها الصين والعالم تتسم باللامبالاة والتفرج المثيرين للريبة؛ لا بل لم تتورع شركاتها عن استغلال الأزمة بعد أن طاولت بلدانها لتوظيفها في ترويج سلعها الدوائية والعلاجية، والمضاربة في أسعارها جراء شحّها من الأسواق الناجم عن تداعيات الأزمة، ناهيك عن تسابقها المحموم للتفرد بالوصول إلى اللقاح الناجع الذي يعطيها حق احتكاره.

والحال فمن الثابت والموثق تاريخياً أن ذلك السلوك المريب الذي مارسته وتمارسه الدول الرأسمالية المتقدمة حيال تفشي وباء كورونا، كما تابعنا، غير مقطوع الصلة تاريخياً بدورها الاستعماري الإجرامي في نشر الأوبئة بين شعوب بلدان مستعمراتها السابقة قبل تحررها ونيلها استقلالها، وذلك بغية تكريس هيمنتها عليها، وهي ما انفكت إلى اليوم تواصل لعب هذا الدور القذر في مرحلة مابات يُعرف ب “الاستعمار الجديد” وعلى رأسها الولايات المتحدة، وإن استبدلت (أي الدول الاستعمارية السابقة والولايات المتحدة) الأساليب والأشكال والطرق القديمة بأساليب وأشكال وطرق جديدة أكثر خبثاً ومكراً.

وفي كتابه “رأسمالية الكوارث” يكشف لنا الباحث الاسترالي أنتوني لوينشتاين جوانب من تلك الطرق والأساليب التي مارستها وتمارسها الرأسمالية المتوحشة والتي تكشف وجهها القبيح ودورها الإجرامي في تلويث الكوكب الأزرق مما أفضى إلى تحوّله إلى بيئة كونية خصبة لتفشي الأوبئة العالمية من على أي بقعة من العالم قد تكون بؤرة لهذا الوباء أو ذاك الوباء ليتحول إلى جائحة عالمية على نحو ما نتابع فصوله المؤلمة الراهنة لفيروس كورونا (كوفيد – 19).

ولا يعني ذلك بأننا نعفي الصين من أي مسؤولية في هذا التلوث العالمي، إلا أن حجم نصيبها لا يُقارن البتة بأي حال من الأحوال بأحجام الدول الرأسمالية مجتمعةً. بيد أن الرأسمالية المتوحشة لم تتوانَ عن توظيف الكوارث الطبيعية التي تبتلي بها الشعوب المستضعفة، فضلاً عما تُبلى به من حروب وصراعات تسببت هي – الرأسمالية – في خلقها للتربح منها ومواصلة نهبها الممنهج لخيراتها ومواردها واستنزافها على أيدي شركاتها الكبرى والمتعددة الجنسية.

وبالرغم من أنه لم ينقضِ من عامنا الجاري الجديد سوى ربعه؛ إلا أن كل المؤشرات تقطع بأننا نعيش عاماً مفصلياً تاريخياً بمعنى الكلمة، ستكون له آثار وتداعيات بعيدة المدى والأثر فور انقشاع الكارثة كما هو مؤمل مع نهاية العام كأقصى حد، وذلك لما فعلته جائحة “كورونا” من هزة عالمية طاولت شتى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في معظم دول العالم، أقواها وأضعفها على السواء، وعرّت خلالها الدور الإجرامي القذر للرأسمالية المتوحشة والأنظمة التابعة لها خلال ثلاثة شهور فقط من اكتشاف الفيروس كما لم تعرِها من قبل على مدى ثلاثة عقود خلت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي والتسويق لمقولة “نهاية التاريخ” بتسيّد النظام الرأسمالي لفوكو ياما أو نهاية الفكر الإشتراكي !

اقرأ المزيد

مصلحة الوطن في وحدة أبنائه

عبّر المنبر التقدمي، في البيان الصادر عن مكتبه السياسي، عن تقديره للخطوات الجادة والمسؤولة التي قام بها الفريق الوطني بقيادة صاحب السمو الملكي ولي العهد في محاربة وباء “كورونا”، بما ترجمته من حرص على سلامة المواطنين والمقيمين، ومن تمسكٍ بالتلاحم الوطني، الذي عبّر عن نفسه في صور شتى من التضامن والتآزر بين البحرينيين جميعاً، في مواجهة خطر كبير وجامح، عابر للحدود.
في البيان نفسه، عبّر “التقدمي” عن نبذه لكل أشكال التسييس والتفرقة العنصرية والنعرات الطائفية التي حاول البعض استثمارها من مرضى النفوس وأصحاب الأصوات النشاز الذين يطلوّن برؤوسهم في كل ظرف، والذين ساءهم ما بلغه مجتمعنا من تعافٍ من آثار الأزمة الكبيرة التي مرّت بالوطن في العام 2011، محاولين، من جديد، شقّ وحدة الصف الوطني.
وكانت وقفة أبناء البحرين المخلصين وتلاحمهم كافية لإخراس صوت هؤلاء، وإظهار مدى عزلة دعواتهم، وخروجها عن السياق السوي الذي ينشده شعبنا، والذي يستجيب لمصالحنا الوطنية العليا في مواجهة أية مخاطر تحدق بنا.
كما كان أمراً مثلجًا لصدور الناس قرار العفو الذي أصدره جلالة الملك عن قرابة ألف سجين، فضلًا عن الإعلان عن دفعة جديدة من المشمولين بالعقوبات البديلة، مع ما يعنيه ذلك من عودتهم إلى بيوتهم وأهلهم، وحياتهم الطبيعية، وهي خطوة استقبلت بما هي أهل له من ترحيب وبهجة، وكذلك من تمنيات من أن تليها خطوات مشابهة في المستقبل، وتهيئة مناخ جديد من الحيوية السياسية في البلاد، التي عهدناها عند إنطلاقة المشروع الإصلاحي لجلالة الملك الذي استقبله شعبنا بالتأييد والدعم الكبيرين.
في هذا الظرف الصعب الذي تمرّ به البحرين والمنطقة والعالم كله، جراء تفشي جائحة “كورونا” التي تودي يومياً بحيوات المئات من البشر في مختلف البلدان والقارات، أظهرنا من مواقعنا المختلفة، حرصنا على وحدة جهودنا في مواجهة هذا الخطر، وما زال متعينًا بذل المزيد من العمل المسؤول لمحاصرة الوباء وتقليل ضحاياه عند أدنى حد ممكن، وأن تتوالى وتتضاعف الجهود المبذولة من أجل تحقيق ذلك، شاملة إعادة المواطنين العالقين في إيران باسرع وقت، وتوفير ما يلزمهم من رعاية طبية هم في أمسّ الحاجة إليها.
علينا جميعاً أن نظهر في هذا الوقت أنبل ما في نفوسنا من أخوّة وتضامن ومحبة ومسؤولية، فالمسألة تعني سلامة شعبنا واستقرار وطننا ومستقبله.

اقرأ المزيد

خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي

بريطانيا جزيرة كبيرة تقع في الشمال الغربي للمحيط الاطلسي، لا تربطها بأوروبا، عبر فرنسا، سوى قناة المانش المحفورة تحت أعماق بحر الشمال. تتكوّن بريطانيا من اربع ولايات، هي انجلترا، اسكوتلاندا، ويلز، وايرلندا الشمالية. وكل واحدة من هذه الولايات الأربع تتمتع باستقلال ذاتي، وتنضوي في دولة اتحادية، نظام الحكم فيها ملكي دستوري ديمقراطي.

تسمى بريطانيا رسميا المملكة المتحدة، (UK). يبلغ عدد السكان فيها 66.44 مليون – 2018. عدد سكان انجلترا 55.98، بينما يبلغ سكان سكوتلندا 5.438 مليون، أما عدد سكان ويلز فيبلغ 3.139 مليون. وسكان إيرلندا 1.882مليون. وعاصمة المملكة المتحدة هي لندن التي تعد مركزًا ماليًا عالميًا. هذا التوزيع السكاني يبين أن انجلترا واسكتلندا تمثلان الركيزة الأساسية في المملكة المتحدة.

كان يطلق على بريطانيا الدولة التي لا تغيب عنها الشمس، نتيجة بسط نفودها الاستعماري سابقًا على العديد من دول آسيا وإفريقيا وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية. وهي تتولي زعامة رابطة الشعوب البريطانية التي تعرف بالكومنولث، وتشمل العديد من الدول التي نالت استقلالها من بريطانيا، مثل استراليا والهند وبنغلادش وماليزيا وباكستان ونيوزلندا وكينيا والكميرون الخ.

تعدّ بريطانيا الدولة الصناعية الأولى في أوروبا، ولغتها الإنجليزية هي الأكثر استعمالًا، فهي لغة العلوم والأبحاث العلمية. ومن بريطانيا انطلقت الثورة الصناعية الأولى عام 1784 التي وصلت إلى فرنسا وألمانيا وروسيا وأمريكا، ومن ثم إلى باقي الدول الأوروبية واليابان، نتيجة لاكتشاف الآلة البخارية التي استخدمت في تسيير شبكة القطارات التي ساهمت في التطوير وبناء شبكة مواصلات سريعة تربط بين المدن البريطانية . كما ساهمت الآلة البخارية في تطوير آلات الصهر وصبّ قوالب الحديد الصلب الذي أدى الى تطور الانتاج الصناعي في بريطانيا والدول الاوروبية، وإحداث نقلة نوعية في تحوّل هذه الدول لتصبح دولاً صناعية كبرى، ودولاً استعمارية ذات قوة عسكرية ضاربة على المستوى العالمي، مما دفع بها إلى القيام بغزو بلدان القارات الأربع واحتلالها.

شاركت بريطانيا في الحربين العالمية الاولى والثانية مع قوات الحلفاء، وعانت من الخسائر البشرية والمادية بسبب مشاركتها في الحربين، خاصة في الحرب الثانية التي اندلعت في 1 سبتمبر1939 وتوقفت في 2 سبتمبر 1945، حيث كانت أكثر دموية وضحاياها من البشر أكثر من ستين مليوناً، أي ما يعادل 2.5% من تعداد سكان العالم في ذلك الوقت. وفي نهاية هذه الحرب اتفق قادة الدول الكبرى المنتصرة على النازية والفاشية، على تقاسم النفوذ على المستعمرات التي كانت خاضعة لدول حلف المحور.

اتفقت بريطانيا بقيادة تشرشل، والاتحاد السوفيتي بقيادة جوزيف ستالين، والولايات المتحدة الامريكية بقيادة روزفلت،على صياغة العالم الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، في مؤتمرطهران عام 1943 ومؤتمر يالطا عام 1945، حيث اتفقوا على تقسيم المانيا ومحاكمة أعضاء الحزب النازي وتحرير الشعوب وتنظيم حالة السلم العالمي ما بعد الحرب. وبذلك فإن بريطانيا اليوم هي إحدى الدول الخمس التي تتمتع بالعضوية الدائمة وبحق الفيتو في مجلس الامن، كما أنها عضو في مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى وتمتلك اقتصادًا صناعيًا متطورًا، ويبلغ إجمالي دخلها القومي 1.52 ترليون دولار، ومتوسط صافي دخل الفرد سنويا 17940 جنيها استرليني، بعد الضريبة التي تمثل 40%.
بالإضافة إلى خسائرها، البشرية والاقتصادية، في الحرب العالمية الثانية، واجهت بريطانيا بعد ذلك خسائرها الأخرى التي تتمثل في انتهاء سيطرتها على مستعمراتها نتيجة لثورات شعوب هذه المستعمرات من أجل الحرية والاستقلال الوطني.

قررت بريطانيا بهذه المكانة العالمية والاقتصادية والعسكرية والعلمية أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي في الأول من يناير عام 1973، على أمل الاستفادة من الامكانات الاقتصادية والسياسية التي يتمتع بها هذا الاتحاد؛ فهي ترى أن انضمامها إليه امرًا طبيعيًا بحكم انتمائها الانغلوساكسوني مع الشعوب الأوروبية، وأن النظام السياسي الديمقراطي، والاقتصاد الحر الراسمالي في بريطانيا، هما نفسهما القائمان في دول الاتحاد الأوروبي الأساسية مثل المانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبرغ وإيرلندا والدانمارك وباقي دول الاتحاد الأخرى. وهي عضو مع هذه الدول في حلف شمال الاطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

لكن تبيّن من التجربة أن الانضمام للاتحاد أدى الى تقزيم مكانة بريطانيا الدولية، واكتشفت أن عضويتها فيه وضعتها في معضلة كلّفتها تبعات مؤذية، مثل قيامها أولاً باجراءات التوافق (الهارمونايزاشين) للأنظمة والقوانين البريطانية مع الأنظمة والتشريعات المطبقة في دول الاتحاد الأوروبي، واستغرقت مسيرة التوافق هذه عدة سنوات.

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارسو انضمت العديد من دول البلقان الفقيرة مثل بلغاريا ورومانيا واليونان إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الاطلسي، وقد بلغ عدد دول الاتحاد الأوروبي حتى الآن 28 دولة. وهناك دول أخرى مرشحة للإنضمام إليه مثل تركيا ومقدونيا والبانيا وصربيا والجبل الأسود، لكن بريطانيا رأت أن بقاءها في الاتحاد يتعارض مع مصالحها الوطنية، اذ تصاعدت أصوات تذمّر المواطنين نتيجة لتدفق الأيدي العاملة من دول البلقان التي انضمت إلى الاتحاد حديثاً للعمل في بريطانيا، حيث فرض على بريطانيا تشغيل آلاف العمال من هذه الدول حسب ال”كوتا” التي اقرها البرلمان الاوروبي ويشرف على تنفيدها من قبل المفوضية الأوروبية.

وقد أثرّ ذلك سلباً على سوق قوة العمل الوطنية، وأدى إلى ارتفاع الايجارات وأسعار السلع وازدياد البطالة بين المواطنين البريطانيين، واصبحت عملة اليورو الأوروبي منافسة للجنيه الاسترليني. ونتيجة لذلك رفضت بريطانيا التخلي عن عملتها الوطنية رمزالعرش الملكي البريطاني وعملة مركزها المالي العالمي.

الساسة البريطانيون وسائر المواطنين هناك يرون أن قرارات مؤسسات الاتحاد الأوروبي مثل رئاسة المجلس الأوروبي، ومجلس الاتحاد الأوروبي، والمفوضية الأوروبية، والبرلمان الأوربي، يسلبون القرار السيادي الوطني البريطاني، ومن هيبة ومكانة التاج الملكي في المملكة المتحدة، وهي التي تتزعم تكتل دول الكومنولث تحت مظلة هذا التاج، وهو تكتل يضمّ 54 دولة. بريطانيا التي ترى نفسها أمًا للنظام الراسمالي مشاركة مع الولايات المتحدة الامريكية، أصبحت أقلّ ندية لفرنسا والمانيا اقتصاديا في داخل الاتحاد.

أضف إلى كل ذلك، الآثارالسلبية المتمثلة في الالتزامات المالية الكبيرة التي تدفعها بريطانيا للاتحاد الأوروبي سنويا مقابل عضويتها، وما تدفعه أيضًا لدعم الدول التي انضمت حديثا إليه لغرض تطوير بنيتها التحتية وتحسين أداءها الاقتصادي. هذه الفاتورة المالية السنوية هي أكثر بكثير مما يعود عليها اقتصاديا وسياسيا من عضويتها في الاتحاد الأوروبي، إذ يمكن توظيف هذه المليارات في الاقتصاد البريطاني سنويا.

بعد تلك المسيرة الاتحادية التي دامت 46 عاما، أدرك النظام السياسي البريطاني مدى الأضرار التي لحقت ببريطانيا، وبسببها تصاعد السخط الشعبي وتذمرت القوى السياسية والنقابات العمالية مما استدعى إجراء استفتاء شعبي حول الخروج من الاتحاد (Brexit)في 23 ينيو 2016، وكانت النتيجة 51.9% لصالح الخروج، وتلى ذلك مسيرة اجراءات الخروج المعقدة وتحمّلها دفع فاتورة مالية قد تصل إلى 60 مليار يورو، كما يطالب الاتحاد الأوروبي، بينما تريد هي التفاوض على دفع 20 مليار يورو.

ورغم ذلك فإن اسكوتلندا وإيرلندا تفضلان البقاء في الاتحاد الأوروبي؛ وتطالب اسكوتلندا بإجراء استفتاء آخر من أجل الاستقلال والبقاء في الاتحاد الأوروبي، ورغم الآثار السلبية التي واجهتها بريطانيا بسبب انتمائها إلى الاتحاد الاوروبي، إلا أن خروجها منه سيكلف اقتصادها آثارا سلبية أخرى، أولها حرمانها من مزايا الإعفاء الضريبي على صادراتها إلى دول الاتحاد الأوروبي، وهي المزايا التي كانت تتمتع بها بحكم عضويته فيه، وينعكس ذلك على أسعارالسلع المصدرة إلى دول الاتحاد وعلى السلع المستوردة منه، بسبب فرض الضرائب من كلا الطرفين على تلك السلع. وهذا يدفع بشركات الاستيراد والتصدير البريطانية أن تبحث عن بدائل من السلع بأسعار تنافسية من خارج السوق الأوروبية، وستواجه الشركات البريطانية العاملة في أسواق دول الاتحاد فرض الضريبة عليها مما يقلص أرباحها وبذلك قد يدفع بعضها للخروج من أسواق دول الاتحاد، كما ستواجه بريطانيا خروج العديد من الشركات الأوروبية من السوق البريطاني بسبب فرض الضريبة عليها.

أضف الى ذلك تعاني بريطانيا حالياً من مطالبات لندن بالانفصال لتصبح دولة مدينية (city stated). وهذا أيضًا يضعف مكانتها على المستوى الدولي. كان مسار الخروج من الاتحاد الاوروبي لبريطانيا شاقًا ومؤذيًا، وسبّب تجاذبات بين القوى السياسية، بين حزب المحافظين وحزب العمال والنقابات العمالية وسائر مؤسسات المجتمع المدني. ولهذا انشغلت الصحافة البريطانية وصحف دول الكومنولث والصحف الأوروبية والعربية ومحطات التلفزيون والاذاعة العالمية بمتابعة كيفية الوصول إلى تحقيق اتفاق وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي تمّ انجازه رسميا في 31 يناير 2020. ولم تنته معارك بريطانيا بعد، فهي تواجه معركتها الأخرى الجديدة التي تتمثل في مواجهة وباء كورونا العالمي الذي يهدد الحياة البشرية. كما تواجه نتائج انهيارأسواق البورصة العالمية والعملات وأسعار النفط وتراجع عام في الاقتصاد العالمي الذي ستتضررمنه جميع اقتصادات دول العالم بما فيها الاقتصاد البريطاني.

اقرأ المزيد

ماركس والسُكّان الأصليين في المُستعمرات (1 -2)

بقلم: John Bellamy Foster
الترجمة: غريب عوض

جون بلامي فوستر هو محرر مجلة Monthly Review واستاذ عِلم الاجتماع في جامعة أوريغون Oregon بالولايات المتحدة. و Brett Clark مساعد رئيس التحرير في المجلة السابق ذكرها واستاذ عِلم الاجتماع في جامعة يوتا Utah. و Hanna Holleman هي مديرة مؤسسة مجلة Monthly Review وأُستاذ مُساعد لعِلم الاجتماع في كُلية أمهيرست Amherst.
“إن الاهتمام بالشعوب الأصلية” في النظرية الاجتماعية على مدى العقدين الأخيرين، المُرتبط بنقد الاستعمار الإستيطاني الأبيض، لهُ موضوعات موجودة مُنذُ زمن طويل في النظرية الماركسية، ولكن بأساليب غالباً ما تكون مُنفصِلة عن نقد كارل ماركس للرأسمالية، والاستعمار، والإمبريالية. وجزء من سبب هذا الانفصال هو أن المُناقشات الراهِنة لاستعمار المُستوطنين قد تطوّرت من التقاليد في النظرية الثقافية لِما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار الإستيطاني والتي هي بعيدة عن المادية التاريخية. إلا أن هناك شرح أعمق لسبب الفجوة بين العمل البحثي الراهن حول الاستعمار الإستيطاني والماركسية يتعلق بمزاعم بعض النُقاد اليساريين بأن عمل ماركس يتسم بالتالي: (1) عملية توسعية صِرفة وحتمية اقتصادية؛ (2) موقف استعماري مؤيد؛ (3) المفهوم إلغائي للتقدم؛ و (4) جُرأة أو فرط الإنتاج بالنسبة للبيئة. غالباً ما يتم توظيف مثل هذهِ التُهم للتدليل على أن المادية التاريخية غير مُلائمة أو حتى مُعادية لنضالات وتطلُعات الشعوب الأصلية.
يُقدم الكاتب Glen Sean Coulthard في كِتابهِ Red Skins, White Masks “جلود حمراء، أقنعة بيضاء” وجهة نظر أكثر دقة عن ماركس والشعوب الأصلية، يُشارك في نقد الأخيرة لما يُسمى “التراكُم البدائي”. ويؤكد Coulthard على أن “الإطار النظري لماركس” في هذا الصدد يمكن النظر إليه “بأنهُ ذي صِلة بالفهم الشامل للإستعمار الإستيطاني ومُقاومة الشعوب الأصلية،” ولكن ذلك يتطلب أن تتحوّل المادية التاريخية الكلاسيكية في الحديث مع التفكير والمُمارسات النقدية للشعوب الأصلية نفسها. “تحديداً، هو يسعى إلى تجاوز ما يعتبرهُ وجهات نظر ماركس الخاطئة (1) إن مثل مُصادرة المُلكية هذهِ تقتصر على المراحل التكوينية للرأسمالية، بدلاً من كونها عملية مُستمرة؛ (2) أن هناك منطقاً تطورياً غير مُنصِف يُعادل التقدُم؛ و (3) يجب مُعاملة البيئة على أنها تُشكّل هدية مجانية، حيثُ أن الأرض لا تُعتَبر مُستغَلة، الشعوب فقط هي المُستَغَلة.
وإذا أخذنا هذهِ الانتقادات على محمل الجد، نعود إلى الأُسُس الكلاسيكية للنظرية الماركسية لكي نتأكد من أين-أخطأت التحليلات إذا كان ذلك صحيحاً، وما الذي يمكن استخلاصه من ذلك الخطأ بشكل مُفيد، وكيفية بِناء (أو إعادة بِناء) نقداً ماركسياً للإستعمار ذي الصِلة بالنِضالات المُعاصِرة. ومن خلال هذا التقييم، نحنُ نعتقد، أن قوة وصلابة مُحاجة المادية التاريخية الكلاسيكية سوف تُصبح واضِحة.
إن العودة إلى ماركس كنقطة بداية هو أمرٌ مُهم من أجل وضع نقداً مادياً للرأسمالية والإستعمار. ومع ذلك، في المادية التاريخية ليس هناك شيء يُسمى رأي ثابت لا يتزحزح. بالأحرى، الماركسية مُنذُ البداية قد تشكلت من خلال التقاليد الثورية المحلية. وهي كفلسفة التطبيق العملي لا تهدف إلى مُجرد فهم العالَم بل وإلى تغييرهِ أيضاً، فالمادية التاريخية على الأقل يمكنها أن تكون فوق السُلطة، أو أن تُهمِل دروس النِضالات الوطنية والشعبية. تُشير كلمة “الأرثودكسية” “ثبات الرأي” في الماركسية، كما قال الكاتب Georg Lukᾴcs على نحوٍ واضح، “إلى الأسلوب حصرياً”. وهكذا، فإن الأسلوب المادي التاريخي الجدلي للماركسية الكلاسيكية هو الذي يًشكل نقطة الانطلاق الضرورية للإنخراط في نقد الاستعمار، بما في ذلك الاستعمار الإستيطاني، اليوم.

الاستعمار ونزع المُلكية
يؤكد الكاتب Coulthard في كتابهِ “الجلد الأحمر، الأقنعة البيضاء” أن نظرية نزع المُلكية التي وضعها ماركس كحالة تاريخية للتنمية الرأسمالية تتعلق أساساً “بالفصل الدائم للعمال عن وسائل الإنتاج” وليس بالعلاقة الإستعمارية في حد ذاتها. وبالمثل، قيل لنا أن مُناقشة ماركس حول “نظرية الاستعمار الحديثة” في الفصل الأخير من المُجلد (1) من كتاب “رأس المال”، كانت مُكرسة لمجرد وضع نظريتهِ في العمل المأجور ورأس المال من خلال الإشارة إلى ضرورة إزالة رأس المال للعُمال من الأرض، مما يُشير إلى عدم وجود اهتمام عام بالاستعمار. وإضافة على هذهِ الانتقادات، يقترح Coulthard أن النقد ينبغي أن ينتقل من التركيز بشكل رئيسي على علاقة رأس المال إلى نقداً يوضح أيضاً العلاقة الإستعمارية، وبالتالي مُتجاوزاً أحادية ماركس في هذا الصدد.
ومع ذلك، في الفصل 31 من كتاب رأس المال، “نشأة الرأسمالية الصناعية”، يُشير ماركس بالفعل إلى الحاجة إلى اعتبار العلاقة الأستعمارية أساساً لعلاقة رأس المال. في الواقع، إنهُ واضح تمام الوضوح بشأن هذهِ المسألة:
إكتشاف الذهب والفضة في أميركا، الإبادة، الإستعباد، ودفن مناجم السكان الأصليين في تلك القارة، وبدايات الغزو ونهب الهند، وتحويل أفريقيا إلى محمية للصيد التجاري من الجلود السوداء، كلُ هذهِ الأشياء تُميّز فجر عصر الإنتاج الرأسمالي. هذهِ الإجراءات المِثالية هي أهم لحظات التراكم البدائي.
لذلك، بالنسبة لماركس، لم تكن الحظائر المُختلِفة للمشاعات في أنجلترا، والتي تمت مُناقشتها في الفصول المُبكِرة من الجزء الثامن من كتاب رأس المال حول ما يُسمى “التراكم البدائي”، التي شكلت أهم لحظات المُصادرة الأولية ونشؤ رأس المال الصناعي، لكن بالأحرى نهب العالم بِأسره خارج أوروبا، مع التركيز على “الإبادة والإستعباد والإستيلاء على مناجم السكان الأصليين”، بما في ذلك سرِقة المعادن الثمينة والأراضي وأجساد السكان الأصليين. علاوة على ذلك، تتلقى مستعمرات المستوطنين البيض الإنجليز انتقاداً مُحدداً للأهوال التي ارتكبوها:
وبطبيعة الحال، كانت مُعاملة السكان الأصليين في أشدها خوفاً في مستعمرات المزارع التي أُقيمت حصرياً لتجارة التصدير، مثل جزر الهند الغربية، وفي البلدان الغنية والمكتظة بالسكان، مثل المكسيك والهند، والتي أُعطيت للنهب. ولكن حتى في المستعمرات الحقيقية [أو، المستعمرات الإستيطانية التي تُسمى في اللغة الأسبانية المستوطنات] الطابع المسيحي للتراكم البدائي لم يكُن مؤكداً. في عام 1703 قام هؤلاء المُتشددون من البروتستانت، المتشددون في New England، بموجب مراسيم لتجميعهم، بتخصيص 40 جنيهاً استرليني على كل فروة رأس هندية وكل جلد أحمر تم التقاطه؛ وفي عام 1720، تم تعيين 100 جنيه على كل فروة رأس. وفي عام 1744، بعد إعلان خليج ماساتشوستس عن قبيلة مُعيّنة كمُتمرِدة، تم تحديد الأسعار التالية: 100 جنيه لفروة الرأس من الذكور التي تبلغ 12 عاماً فما فوق، 100 جنيه من العُملة الجديدة، و 105 جنيه مُقابل سجين ذكر، و 50 جنيهاً مقابل السجناء الأطفال والنساء، و 50 مقابل فروة رأس النساء والأطفال. وبعد عدة عقود من الزمن، انتقم النظام الاستعماري من نسل آباء الحجاج الأتقياء، الذين أصبحوا مثيري الفتنة آن ذاك. وعند التحريض الإنجليزي، ومن أجل المال الإنجليزي، لقد تعرضت للسقوط على يد الهنود الحُمر. وأعلن البرلمان البريطاني عن اصطياد كلاب الدم وفروات الرأس “كوسيلة بأن الله والطبيعة قد وضعوهم في يدهم”، أي في يد المستعمرين الإنجليز.
لم يفوت مُلاحظة ماركس أن سعر فروة الرأس يُعادل سعر السُجناء، مما يعني أن الإبادة الجماعية وليس العبودية هي الهدف. وبهذهِ الطريقة يؤكد ماركس على أن الهدف الرئيس في المستعمرات الإستيطانية الإنجليزية في أمريكا الشمالية كان الإبادة “المُطلَقة” للسكان الأصليين. وبالفعل كما وضح الكاتب الإنجليزي ويليم هويت William Howitt في كتابهِ “الاستعمار والمسيحية: تاريخ شهير حول معاملة الأوروبيون للسكان الأصليين في جميع مستعمراتهم (1838)، والذي قام ماركس بدراستهِ لأول مرة في عام 1851، كان الاستعمار الإستيطاني للأمريكيين البيض الناشئين يهدف إلى استأصال وإزالة تجمعات القبائل الأمريكية الأصلية. هُنا يقتبس Howitt عبارة الكاتب والمُروج الفرنسي Abbé Raynal بأن هدف المستعمرين الإنجليز والفرنسيين هو “إبادة” السكان الأمريكيين الأصليين. ووصف Howitt أيضاً “حملات الإبادة للجنرال أندرو جاكسون”، مُقتبساً إعلان الجنرال جاكسون في 27 مارس/أيار 1814، أثناء حملتهِ العسكرية ضد قبائل الجنوب، بأنهُ “مُصمم على إبادتهم”. ولاحظ Howitt أن الشعوب الأمريكية الأصلية، تم دفعها إلى الهلاك أو الإبادة”. وهو يكتب في فترة درب الدموع الإبعاد القسري الكبير للسكان الأمريكيين الأصليين من الجنوب الشرقي، حيث لخص Howitt العملية بهذهِ الكلمات:
سوف لن يكون هناك أي شيء يستطيع منع الترحيل النهائي لهذِ القبائل الجنوبية: يجب أن يعبروا نهر الميسسبي إلى أن يتضخم عدد السكان البيض بما فيه الكفاية ليطالبوهم بعبور نهر ميسوري؛ ولن يبقى هناك بعد ذلك سوى عائقين بينهما وإبادة – جبال روكي والمحيط الهادئ. عندما نسمع الآن عن هذهِ القبائل، يكون ذلك بمثابة عمل عدائي جديد ضدهم، شيء من الطرد الطازج لقسم منهم، وعن الهنود المُكتأبين وهم يتجهون نحو البراري الغربية.
في الوقت الذي كان يكتبُ فيهِ رأس المال، كان كتاب Howitt هو المصدر الرئيس لماركس حول المُعاملة الإستعمارية ليس للسكان الأمريكيين الأصليين فحسب بل للسكان الأصليين في جميع أنحاء العالَم. ومع ذلك، في نفس الوقت الذي كان ماركس يتصدى ل Howitt درس ماركس أيضاً كتابي William Prescott تاريخ غزو المكسيك (1843) و تاريخ غزو البيرو (1847)، وكتاب Thomas Fowell Buxton تجارة الرقيق الأفريقية وعلاجها (1840)، مع أعمال مُتعددة حول الهند.
في خمسينيات القرن التاسع عشر، تفحص عن كثب مُحاضرات Herman Merivale بشأن الاستعمار والمستعمرات (1841). وفي عام 1853، قرأ كتاب Thomas Raffles تاريخ جاوة (1817)، الذي اعتمد أيضاً عليه في معالجتهِ لموضوع جاوة. وتبع ذلك دراسة أعمال إيضافية عديدة حول الرِق، المُشارُ إليه في رأس المال.

اقرأ المزيد

ڤايروس كورونا والموبوؤن بالطائفية

طاعون القرن الواحد والعشرين، هكذا وصف ڤايروس كورونا. انطلق من مدينة ووهان الصينية، وانتشر في أغلب بلدان العالم، حاصداً الآلاف من الأرواح والمصابين. ووجّه ضربة موجعة للاقتصاد العالمي، وأوقف الكثير من الأنشطة البشرية اليومية.

لم يميز هذا الڤايروس في عداوته للناس وانتشاره، بين الدول الغنية أو الفقيرة، بين دين وآخر، بين عرق وآخر، فالكل سواء في المعاناة ومواجهة الڤايروس للتغلّب عليه.

غير أن النفوس المريضة بالحقد والكراهية من أفراد وجماعات ومؤسسات ودول لم تتوانَ للحظة في استثمار هذا الڤايروس القاتل لأجندتها العدوانية وغير الإنسانية. فلا غرابة من أمثال هؤلاء أن يرفعوا صوتهم عالياً بأن يطلبوا من دولتهم ترك مواطنيها العالقين في الدول الموبوءة بڤايروس كورونا مواجهة القدر المجهول المتمثل بعناء الغربة وخطورة الإصابة بالداء الخطير .

بل أكثر من ذلك يتم اتهام من كان عالقاً في دولة ما ومن ثم عاد إلى أراضي وطنه، بأنه عميلٌ لتلك الدولة من خلال نشر ڤايروس كورونا؟! هكذا يتم بكل وقاحة تحويل قضية إنسانية إلى قضية سياسية وطائفية وتآمر على الوطن.

وفي الواقع فإن أمثال هؤلاء الموبوئين بالحقد الديني والطائفي هم أخطر من ڤايروس كورونا، لأن الأخير لن يستمر طويلاً، بينما العقلية الطائفية لهؤلاء ستستمر لسنوات عديدة، وربما يتأثر منها البعض، فتشكّل خطورة على مساحة التسامح والتعايش السلمي بين مكونات الشعب.

وحين تتسع دائرة الخطاب الطائفي في دولة ما فتصدّر من مؤسسات المجتمع المدني أو المؤسسات الرسمية، حتماً ستكون النتيجة أكثر سوءًا، لأن حجم انتشار سموم هذا الخطاب – الذي يتصف بالتعصب والتقسيم والتمييز البعيد عن المواطنة المتساوية – ستكون سلبية على الجميع وخصوصاً المتضررين منهم.

أما على مستوى الدول، لم يثبت إلى الآن صحة التهم الموجهة للدولة العظمى الأولى عالمياً بأنها خلف ظهور ڤايروس كورونا، وهو ما لمّحت إليه روسيا والصين. وهو اتهام خطير بلا شك ويحتاج إلى أدلة قطعية لا ظنيّة. ومن المؤسف أن بعض الدول قد مارست التشفي في حق دول أخرى انتشر فيها وباء كورونا بصورة واسعة، وبالتالي حصد المئات من الأرواح والآلاف من المصابين، فضلاً عن شبه الشلل الاقتصادي فيها. في حين برزت على السطح تسريبات نشرتها بعض الصحف العالمية تشير إلى توصل شركة ألمانية طبية من اكتشاف دواء للقضاء على كورونا، وسعي الأمريكان الحثيث بقيادة ترامب في شراء هذا الدواء واحتكار بيعه عالمياً.

الدرس البليغ الذي أعطاه ڤايروس كورونا لكل دول العالم وشعوبها وحكامها، أن قدرنا ومصيرنا واستمرارنا كبشر على كوكب الأرض بأمان وسلام، يكمن في تقبلّنا لبعضنا البعض وفي ترابطنا وتكاتفنا في مواجهة الصعاب والمخاطر بشتى أشكالها. فڤايروس كورونا ضرب الجميع ولم يستثنِ أحداً بسبب لونه أو عرقه أو دينه، فالكل سواء، ومع ذلك يصر الموبوؤون بالحقد الديني والطائفي أو الرأسمالي المتوحش، على تقسيم البشر من حيث القيمة والحقوق الأساسية والطبيعية لكل إنسان على هذه الأرض.

اقرأ المزيد

“أنثى السراب”: معاناة تُعاش في الظّل

“هل سبق وأن قرأت رواية عشت وقائعها بالتمام والكمال؟” – سألني أحد الأصدقاء، مضيفًا: هل لك أن تتصور حالك وأنت تقرأ روايتك طولًا وعرضًا أحداثًا مرّت بك كالطيف الهارب منك تلك السنيين وأنت ترى هشاشتك النفسية في عدم مقدرتك على أن تواجه تلك الحالة المستعصية وكأنك رجل من ورق؟

تلك الأحداث الواردة في الرواية تعيدك إلى حالتك التي يجب أن تعيشها واقعيًا قبل تلك السنين فجروحا قد استقيقظت لم تكن في الحسبان، ولكن للحياة أحكام. قد تكون الأنانية هي ما تجعلنا نودّ ألا يفلت منا من نحب، حتى ولو كان لغيرنا ولا يود أن يستمر في علاقة معنا قد انكسرت، ولكن أن تستيقظ فيك تلك الهواجس بعد تلك السنين الطوال أمر لا ينم إلا عن أن تلك الأحداث ظلت مخبأة في داخلك ولا تريد أن تقّر بواقع الحماقات التي مارستها خارج مدارك الحياة الواقعية بحكم الموروث الاجتماعي والتقاليد البالية التي لا تجعل من كل الأطراف في حلٍ منها.

بقى لهذه الذاكرة أن تشيخ إلا من أحداث مثل هذه تستدعيك يومًا في البوح بما هو مكبوت في دواخلك خلال تلك السنيين، وقد ذهب من ذهب إلى الحياة الأخرى وأنت متربع في وسط هذا الضجيج الداخلي المؤرق الذي يسرق منك بقية ملذاتك في الحياة رغم وجودك الواقعي مع من تُحبّ ووجود ذريتك ونسلك، إلا أنك تعيش حالة انفصام لا إرادي.

هل نتج كل ذلك عن قراءتك لرواية؟ – سألته – أم أنك كنت فعلاً مهيأ لذلك؟ أمر محيرفعلاً، هل لهذا الشعورشيء من الواقعية؟ وما هي تلك الرواية التي جعلتك تبوح بأسراريفترض أن تظلّ مطمورة في بيتك، قال أقترح عليك قراءة رواية واسيني الأعرج (أنثى السراب).

ثم عاد، وقال لا أدري ولكن هذا الإحساس لازمني واستمرّ، وليس بالإمكان التخلص منه وأنا في مصيدة تلك الرواية المعذّبة التي أخذت مني فرحي وتركت بصماتها على كل مسام جسدي المنهك أصلًا!. لا شك أن الحياة صعبة ومعقدة شئ ما، ولكن أن تظهر لك كل تلك التعقيدات من خلال رواية، فهذا قد يعني أنك إنسان من ورق فعلًا.

كيف لهذا القلب أن يتعافى من تلك الجراح ولا أقصد بهذا أحدًا منا، فكلانا منهكين ومخدوعين قال، فللمرأة أن تحب وتختار من تُحب، وتلك هي الأقدارغير المنصفة لكلا الطرفين، مما ولّد هذه الحالة الشاذة في إقتسام الحياة، فكيف لنا أن نفسر اقتسام الحياة الزوجية في سرير تفكر فيه زوجتك في رجل آخر – تساءل – وهي في أرقّ اللحظات الحميمة وفِي فتنة الفراش المشترك؟

يقول واسيني الأعرج في روايته (أنثى السراب): “نظلّ له وحده حتى في أدق اللحظات حميمية. تصوّر حتى عندما أنام معه، أجدني في الفراش معك ولست معه، ظللت وفيّة لرجل واحد، حتى وأنا في فراش غيره”.

أسئلة نكش جروحها واسيني الأعرج في روايته هذه، لتعيد حالة إنكار نعيشها نحن البشر في مجتمعات لا تؤمن بحرية المرأة في الاختيار، ونتجرع مرارتها لاحقًا بعد تلك السنين لنموت ونحن نعتقد بأننا اجتزنا تلك المحن والخيبات والنكبات ولكن كل ذلك يتضح بأنه حمل كاذب. نكأ واسيني الأعرج جراحًا لم تندمل بعد، وفتق جروحا كنا قد اعتقدنا بأنها قد تعافت ولكن كل تلك الجروح فتحت على مصاريعها منذ أول سطر من تلك الرواية.

كيف لنا أن نفسر تلك الولادات القسرية بين تلك الأزواج؟ هل هي بحكم العلاقة الخالية من أية عاطفة، وبالتالي العلاقة البيولوجية البعيدة عن الحميمية؟ وهل هي بحكم الواقع المفروض على الطرف الضعيف، وهو بالتأكيد المرأة في مجتمعاتنا؟

لا شك في ذلك، وعليه تصبح تلك العلاقة في أرجوحة الوفاء بالتزامات المجتمع لا غير، بعيدًا عن العواطف الجياشة والحب الصادق البعيد عن الرياء.

هل يعني ذلك بأننا كنا مخدوعين طوال هذه السنيين أم كنا نعيش في ظل سرابٍ يغطي عواطفنا الحقيقية من أجل مجتمع لا يفهم معنى للعواطف ولا يقيم وزنًا لسلطان الحب؟ وهل هناك من مرارة شبيهة بالموت أكثر من أن تعيش مخدوعًا مع شخص يحب غيرك وأنت معه تحت سقف واحد؟ وأسوأ خيانة للرجل والمرأة على حد سواء، وأقساها وأكثرها ظلمًا هي أن تعيش امرأة معك وهي تحلم بغيرك، “فالهزائم الروحية التي لا قوّة في الدنيا تستطيع ترميمها، مدمرة عندما تتوغل بين العظم واللحم”، كما يقول واسيني الأعرج .

الجرأة التي تحلّت بها تلك الزوجة في رفض زوجها المفروض عليها قسرًا قوبلت بقسوة من أهلها وذلك الزوج المخدوع ظل وفيًا لأحساسيه المشيدة على كذبةٍ أراد لها أن تكون غير ذلك من إقناع نفسه بأن كل تلك العلاقة مع من تحب كانت نزوة عابرة، واقتنع بهذا اليقين المبني على تلك الكذبة زاعما أن العواطف تجاه الحبيب تزول مع الأيام وتخبو وإذا بها تعود في كل محطة من محطات الحياة .

أبدع واسيني الأعرج في تصوير تلك الحالة من خلال الرسائل المتبادلة بين الحبيب (سينو) وحبيبته ( ليلى)، وسرّب للقارئ وقائع مسكوتًا عنها ومخبؤة في دهاليز أسرة الأزواج. أوليست أغلب بيوت مجتمعاتنا تعرف مثل هذه الحالات، نراها تتعذب وتنوء تحت ثقل هذا الوضع الملتبس المؤذي للشعور، والمنهك للنفس وللقلب؟ أم أن كل ذلك من نسج خيال الراوي؟ أوليس الراوي من لحم ودم وهواجس وكوابيس يعيش الرواية كما هي في الواقع؟

ترك واسيني للقارئ الحصيف أسئلة غير قادر على فهمها ولا هضمها ولا حتى رتقها. قلت له مودعًا كما قال واسيني في روايته (أصابع لوليتا): “تعلّم كيف تنسى آلامك أو تكتبها لتستمر في الحياة بأقل الكوابيس ضرر”.

رواية جديرة بالقراءة وهي محصلة لمعاناة يعيشها الكثير، ولكن في الظل بعيدًا عن أعين المجتمع لتترك لمصيرها تتألم وترتعد وتقفز من نومها جزعًا وخوفًا كما يقول الكاتب، فالحياة نعيشها بأشكال مختلفة، لكن الألم واحد في النهاية، فأي ألم قاتل أكثر من ذلك وأي سراب يعيشه المخدوعين؟.

اقرأ المزيد