المنشور

كيف يموت العصفور؟

1.
إن كانت الأرواح لا تفنى، وإن كان الكون لا يضيع ذرة واحدة، وإن كان الـ DNA، هو شريط ذاكرة فوق الوعي للكائنات، فإني أظن التناسخ هو الحقيقة، وهو يأتي بمعنى الارتقاء، فكل روح تفنى، تعود لتعطي رأيا في الحياة، لتصنع الحياة على إثر مليارات التقارير جينات جديدة، مختلفة بدرجات شديدة البساطة في الأجيال اللاحقة، التناسخ إذن هو طفرة معرفية، سبق لها اختبار الحياة وتكوين فكرة عن نواقصها، لكن ليس بالشكل العقلي الواعي، إنما بالشكل الجيني المتكون في شفرات الـ DNA، تناسخ يحدث في أجيال، وأجيال، آلاف وملايين السنوات، لكي يحدث تغييرا بسيطا، وهذا يعني أن فهمي للحياة، وتجاربي، وخبراتي، سيتم اختزالها بشكل لا أفهمه، وكأنه تقرير مشفر، ليستفيد منه الكون في صنع كائنات أفضل، أو حياة أفضل، لا يهم إن حدث هذا بعد ملايين السنوات، لكن، هذا يعني أن حياتي لها فائدة! إنني هنا لأرسل تقريرا للكون عن كيفية العيش؟ إنني بشكل ما مبعوث السماء؟ رسول أو نبي؟ كائن فضائي إنما من الأرض، وللأرض؟ والستون عاما التي سأقضيها هنا، لها معنى! علي إذن أن أجتهد لأفهم الحياة جيدا، ولأعرف بشكل جزئي ما الذي ينقصنا نحن البشر لنكون كائنات أفضل، ولأرسل بعد أن أموت تقريرا مميزا، عن حياتي على الأرض.
المشكلة فقط، أني لا أظن أن تقريري سيلقى صدى، فأنا مؤمن أننا الأجيال الأخيرة على الأرض، وبالتالي لا مجال للاستفادة من تقاريرنا في تطوير نوعنا، لكن ربما يكون هذا هو تقريري.. (أنصحك أيها الكون بإفناء البشرية، واستبدالها بكائنات أحادية الخلية)، ربما نكون الأجيال الأخيرة التي ترسل مثل هذا التقرير، وبالتالي سيقترب موعد التحول القادم.
ياه.. كم أشتاق للحياة في أرض ليس فيها بشر، أرض خالية من هذا الكائن، تعيش فيها خلاياي بذاكرة أخرى وهوية أخرى، فما أنا متيقن منه، أن الارواح لا تفنى، والكون لا يضيع ذرة واحدة، والتقارير التي نرسلها بعد موتنا، هي ديمقراطية الكون.

2.
مثل الجسد، تتشتت الروح باعتبارها طاقة في أرواح أخرى، تذوب فيما سواها بعد أن تنتقل من جسدها في الذي ندعوه اليوم (الموت)، وهي ليست متحكمة ولا واعية في ذاتها، إنما حكمها ووعيها مرهونان بالجسد الذي تملأ، وبصفاته، أي بالخلايا التي تتحد معها، وتشّكل معها الكائن في وقت ما محدد، ونحن باعتبارنا بشراً متكونين، لا نملك الخيار إلا في ظل التكوّن الذي نحن عليه الآن، لكن حين نموت، حين نقدّم تقاريرنا، فإن كل جزء منا خلية أو ذرة أو شيفرة، تكون له حياة أخرى يعيشها، حياة ليست لها صلة بالحياة والذاكرة والتجربة المعاشة سابقاً، لكن مع ذلك، فإنما تكون مبنية على كل هذا، هي جزء منه، ونتيجة له.
إنما الكلام الذي نقوله اليوم، في جزء كبير منه، تجارب لخلايا عاشت قبلنا، عاشت قبل مليارات أو ملايين السنين، جزء منه هو شعورها بالثقل الوجودي، وجزء منه توقها لما هو أفضل، كأنما الكون كله، ليس إلا مجموعة من الأحلام والرغبات والأفكار غير الواعية، تنتقل عبر ملايين السنين، تتضافر، تجتمع، تلتئم حتى تشكل فكرة في رغبة، أو جزءاً بسيطاً من رغبة أو أمنية.
فلنتخيل لو الإنسان كنوع، ظل كل فرد منه، يحلم بالطيران، لملايين من السنوات، فإن هذه الرغبات والأحلام ستجتمع، حتى تشكّل خلية، أو مجموعة خلايا، لتلتئم هي الأخرى، وتكون وقتها قادرة على صنع جناحين للإنسان بعد كل هذا، ولأجل ذلك فإن الأحلام مهمة، ولأجل ذلك فإن المقاومة مهمة، ولأجل ذلك فإن الأفكار مهمة، لأنها ليست أحلامك وحدك، ولا مقاومتك وحدك، ولا أفكارك وحدك، إنما أنت تحمل عبء مئات الآلاف، ملايين الأجيال، من الخلايا، ومن البشر.

3
هل تظن أيها الإنسان أنك وحدك الذي تسجّل لتتعلم؟ باكتشافك الكتابة، والتدوين، حللت جزءاً من اللغز، لكن انظر، ها هو الكون يسجّل فيك منذ ملايين السنوات، أنا جزء من دفتر الكون، أنا كتابة قديمة لا تهمل، في روحي أجزاء من أرواح لم أعرفها، في هذا الجسد بالذات الذي يحملني، هنالك ملايين البشر، الذين عاشوا سابقاً، ملايين الحيوانات والنباتات والأحجار والطين والطمي والماء والتراب والكائنات متناهية الصغر، في رأسي هذا أفكار وأسئلة وأحلام ملايين الناس، ماذا لو تكلم كل ما يشكّلني؟ إنني كلام الآخرين.. لستُ إلا ذلك.. ومع هذا فأنا نفسي فقط، ولا أحد غيري.
***
قرأت اليوم نصاً عن بطريق يتحسر على الطيران، وقلت للشاعر في نفسي: من قال لك أيها الشاعر إن البطريق يرغب في الطيران؟ لماذا تسقط عليه رغباتك؟ أعتقد أن البطريق كان طائراً وتخلّى عن الطيران، ولأنه تخلّى عن ذلك فقد تقلّص جناحه، وتحوّل ريشه إلى مادة شبه دهنية، لقد أعجب البطريق بحياة الجليد، إني أتخيّل أن مجموعة من الطيور حطّت في تلك البقعة، بعضها رغب في البقاء هناك، ولملايين السنوات، أخذت أجسادها تتحوّل، لهذا فإن البطريق إن شاء الطيران مرة أخرى، فما عليه إلا المحاولة، لملايين السنوات الأخرى، وبالتأكيد سيتمكن من ذلك.
***
في الموروث الديني والشعبي، يقال إن الله جمعنا قبل أن يخلق العالم المادي، وخيّرنا في طريقة حياتنا، وأن كل واحد منا قد اختار فعلاً ما يريد أن يكون عليه، فالطائر اختار أن يكون طائراً، والحشرة اختارت أن تكون حشرة، والإنسان اختار أن يكون إنساناً، بل أكثر من ذلك، ذلك الطائر اختار كيف سيعيش، وكيف سيموت، وتلك الحشرة كذلك، الإنسان أيضاً، كل ما حدث ويحدث في الكون يحدث بمحض إرادة هذه الكائنات، ولا إجبار لأي كائن على أي شيء.
أظن أن هذه طريقة رمزية للقول بفكرة التناسخ/ التطوّر والارتقاء.. إننا نحيا ما اختارته لنا خلايانا، وذراتنا، وأجزاء أرواحنا المتعددة، إنه قانون ديمقراطي لكنه مختلف قليلاً، المسألة هنا لا تتعلق بجيل، بل بأجيال، ملايين الأجيال، من الخلايا والذرات، تختار لشكلها اللاحق كيف سيكون، كيف سيعيش، وكيف سيموت.
***
ماذا لو كانت هنالك ديمقراطية تحترم خيارات الموتى؟ توضع مشاريع القوانين وتصوّت عليها الأجيال، أعوام بعد أعوام، وتحتفظ بهذه الأصوات، أصوات الأجيال الميتة. هكذا انتخاب طبيعي، لطريقة الحياة. ديمقراطية ليست للأحياء فقط، إنما للموتى كذلك. ربما يكون في الكتابة شيء من تلك الديمقراطية!

4
يوصف الإنسان الذي لا يستطيع كبح شهواته بأنه بلا إرادة، لكن هذا يثير ارتباكي، ففي حين أن الإنسان الموصوف بالإرادة هو نفسه الذي يكبح شهواته ورغباته المتمثلة في هذه الإرادة، إنه حين يشتهي يشتهي بملء إرادته، وحين يمتنع عن اتباع رغبة أو شهوة ما، فإنه يغالب إرادته هذه، يقمعها، ويسجنها، ليستطيع التوقف عما يريده حقا، علينا أن نصفه إذن بأنه من ليست لديه سلطة على إرادته، أو بأنه صاحب الإرادة الحرة، هذا لا يعني طبعا أن كل من لا يرغب، هو صاحب إرادة خاضعة، الأمر عائد لما يريد كل فرد حقا، وما يرغب في فعله، وما يعيقه عن فعل ما يريد.

5
إنني لا أعرف كيف يموت العصفور، هل يشيخ، يعجز عن الطيران، ثم يموت جوعاً بسبب ذلك؟ لكني أعرف أننا ككائنات بشرية ذات إرادة كما نصف أنفسنا، أطول أعمارا منه ومن كثير من الكائنات، ليس بسبب إرادتنا، وانعدام الإرادة لدى تلك الأخرى، إنما لأننا ببساطة نخضع لإرادة الطبيعة، فيما الكائنات الأخرى، لا تخضع سوى لإرادتها الحرة، طالما لا يعيق هذه الإرادة عائق مادي..
إنني الآن أريد الخروج من العمل، لكن يمنعني خوفي من المستقبل، أن أطرد منه، أن تخصم عليّ يوميتي، هل هذه إرادة حرة؟ أم خضوع لإرادة أعلى! فيما الطائر ذو العمر القصير، يتبع إرادته، ولا يهمه أنها ستقصر من عمره، أو حتى تترك جنسه عرضة للانقراض!
الغريب أننا كجنس عرضة للانقراض، ليس بسبب ما يفعل أغلبنا، إنما بسبب ما تفعله أقلية ثرية، تلوث الكوكب، وتنقص مناعته، وتجعله مريضا.. إننا نبيع حريتنا وإرادتنا بأثمان بخسة، ثم ما نلبث أن نكتشف أننا نحن فقط من ندفع ثمن ما نبيع، يحصل المشتري على المال وعلى البضاعة، وعلى إرادتنا وحريتنا، ونحصل نحن على وهم الطمأنينة!
أعطونا زمنا طويلا بائسا ثابتا في بؤسه، نعطكم لحظات حبنا وسعادتنا وطيشنا ومتعتنا ومغامرتنا، وانعتاقنا.. ماذا نفعل بأنفسنا؟!
قيدونا بالأمان، إننا نقايض العيش بالزمن، الله يعدنا بحياة خالدة، آمنة من النار، في المستقبل، شرط أن نتخلى له عن ذواتنا اليوم، الحبيب يعد حبيبته بالاستقرار، شرط أن تتخلى له عن حريتها، صاحب العمل يعد الموظف بمرتب ثابت آخر كل شهر، شرط تخليه عن أحلامه، الدولة تعد المواطن بالأمان، شرط تخليه عن هويته، من يضمن استمرار الأشياء، ما نحبه اليوم، نعتاده غدا، ونمله بعد غد، الأمان الحقيقي هو أن تكون أنت، مقتنعاً بما تفعل، غير راجٍ منه إلا لذته الآنية، تعبد الله لأن للعبادة لذة الشعور بالذوبان في الكلي، تعشق حبيبتك لأنك الآن تشعر بالسعادة وأنت معها، تعمل لأنك تستمتع بالعمل، تلتزم لأنك مقتنع، لا من أجل شيء وهمي كالزمن، شيء كلما فكرت فيه رأيته حلماً، وكلما أغمضت عينك عنه، صار ماضياً.

اقرأ المزيد

ذكريات مع امرأة استثنائية

في وداع حصة الخميري
ذكريات مع امرأة استثنائية
في لحظةٍ زمنية جائرة استُلت من بين أيدينا الصديقة الغالية الأستاذة حصة الخميري. غادرتنا إلى دار الآخرة في ظرفٍ نسَجته تراجيديا مخاتلة. غادرت بعيدة عن يدٍ حانية تربت على كفها أو كتفها، أو نظرة حب كالذي كان يملأ قلبها، أو دمعة تخر بقرب جثمانها من عيون محبيها وأحبابها وما أكثرهم.
تنثال الذكريات عودةً لمرحلة دراستي الثانوية حين كنتُ مبهورةً حد الشغف بحصة، أو بالأحرى بمعلمتين شابتين حديثتي التخرج هما منيرة فخرو أطال الله عمرها وحصة الخميري رحمها الله. كانت حصة معلمتي في مادة الفلسفة والمنطق.
من خلال حصة الخميري تعرفت على معنى الفلسفة والمقصود بعلم ونظريات المنطق. وفي دروسها سمعت لأول مرة أسماء عظماء الفلسفة ومفكريها وواضعي أسس علم المنطق. تعرفت على أرسطو وافلاطون وسقراط وكانت وهيجل وماركس وسارتر والفلاسفة العرب ابن سينا والفارابي وابن رشد وغيرهم كثيرين.
كنت أشعر أن المادتين غريبتان، صعبتان حد الجمود، إلا أن جِدتهما في عالمي الدراسي والمعرفي شدتني، شحذت تفكيري، قررتُ ولوج المادتين بما أملك من رغبة وإرادة. جرني لذلك انبهاري بتمكن حصة الخميري وعلمها الواسع في المجال، كنتُ أراها فيلسوفة، كنتُ أعتبرها ذات شجاعة كبيرة أن أقدمت على التخصص في ذلك المجال المعرفي الصعب.
أقبلتُ على قراءة المادة صفحة بصفحة وإعادة القراءة مراتٍ ومرات محاولة فهمها والتمعن في مفاهيمها ومعانيها، بل وسعيت لحفظ أقوال بعض الفلاسفة عن ظهر قلب. تشربتُ المادة واخترتها لاحقاً تخصصاً في دراستي الجامعية.
شدتني كذلك الثقافة الواسعة التي تتمتع بها المعلمتان الشابتان وامكانياتهما في مناقشة الطالبات وتمكنهما من الرد عن أي سؤال يُطرح. أُخذتُ كذلك بتفتحهما الاجتماعي وأناقتهما وجمالهما. تضاعف انبهاري بمنيرة وحصة في خضم انتفاضة 1965 حين انتزعتا مكبرَ الصوت من يد مشرفة طابور الصباح في مدرسة المنامة الثانوية للبنات، وراحتا تخطبان في الطالبات خطاباً سياسياً مؤيداً لأهداف الانتفاضة ومطالبها. وفي خضم المد القومي(قوميون عرب وبعث) الذي كان يجتاح البحرين حينها، بُهرنا نحن الطالبات بإقدام وشجاعة معلماتنا وتجاوبنا مع ما طرحنه.
أن تغدو معلمة صديقة لطالباتها، تتجاوز صداقتها جدران الصفوف وأسوار المدرسة الى الحياة العامة، وأن تستمر تلك الصداقة وطيدةً لسنوات وسنوات، فذلك قليل وربما نادر. حصة الخميري احتفظت بعلاقات وشيجة مع عدد من طالباتها وتحولت تلك العلاقات إلى صداقات قوية جداً مدى الحياة بكل ما تحمله في معناها الإنساني من القرب الروحي والتماهي في العواطف والاهتمامات والرؤى كالذي بين أقرب الأقربين.
لست أزعم أني صرتُ إحدى طالبات/صديقات حصة المقربات، فخلال السبعينيات والثمانينيات الفائتة باعدت بيني وبينها مسافات الجغرافيا وظروف الحياة وانشغالاتها. في حينها اقتربت المسافات أكثر وأكثر بينها وبين عددٍ من طالبات أخريات غدون بعد عودتهن من دراستهن الجامعية زميلات عملٍ معها في مدارس البنات أو في طواقمها الإدارية. وبينها وبين أولئك تواصلت العلاقات الوطيدة شبه اليومية وتعمقت، ولم تلبث أن تجاوزت علاقة معلمة بطالباتها وأذهبت بها حد التلاشي.
ظلت حصة الخميري تتنقل وترتقي في الوظائف التربوية بوزارة التربية والتعليم حتى تبوأت رئاسة قسم التعليم المستمر بإدارة تعليم الكبار، وعلى مدى مشوارها الوظيفي ظلت وفية لمبادئها وقناعاتها وثبات حسها الوطني.
في يونيو 1995 تسلمت حصة الخميري رسالة فصلٍ من عملها بعد أن رفضت سحب توقيعها على عريضة نسائية تطالب بإعادة العمل بالدستور، ورفضت الاعتذار. قالت حصة عن موقفها المذكور:” اتخذتُ قراراً شخصياً بالتوقيع ثم بعدم سحب التوقيع دون تأثير من أحد لأنه كان نابعاً عن قناعة مني. وقلت للمسئول الذي اتصل بي عبارة لا أنساها: الانسان يخسر وظيفته ولا يخسر نفسه، لن أسحب توقيعي ولن أعتذر”.
بدأ تقاربي الحميم مع الصديقة حصة الخميري حين اختارت زوجي المحامي أحمد الشملان ليتابع قضية فصلها. صاغ الشملان رسالة تظلم باسم حصة الخميري موجهة لوزارة التربية والتعليم. بعد فترة جاءها ردٌ برفض الوزارة لتظلمها، فاتفقتْ مع الشملان على رفع دعوى قضائية ضد الوزارة ووقعت توكيلاً رسمياً لهيئة المحامين التي تشكلت للدفاع عنها.
كنت خلال الفترة المذكورة أتواصل مع حصة للاطمئنان عليها، رافقتُ في زيارتها بعض الصديقات المشتركات الأكثر التصاقاً بها. كنتُ ألمس كم كانت تحوز من ثقة بالنفس وسلام داخلي تشفه ملامح وجهها السمحة ونبراتها الناعمة الهادئة وتحنانها الدافق العميق، ذلك رغم ما كابدته من خذلان وما طالها من تشفٍ.
في مايو 1997 صدر حكم المحكمة لصالح قرار وزارة التربية والتعليم. سافرت حصة إلى لندن وظلت مقيمة بها لفترة. في صيف العام ذاته أوقع مرض عضال بأحمد الشملان، فتواصلت حصة معي من لندن أكثر من مرة للاطمئنان عليه.
في يناير 1998 سافرنا إلى لندن في رحلة علاج الشملان. كانت حصة الخميري هناك ظهراً استندنا عليه وقلباً يسع الدنيا احتضننا بكل حب وحنان، استقبلتنا، رتبت مواعيد الأطباء، دلتنا، رافقتنا، نلنا من انسانيتها ووفائها الكثير.
استمرت علاقة الصداقة والتواصل مع حصة الخميري خلال زياراتها للبحرين ثم بعد أن عادت لتستقر من جديد في وطنها. رافقتُ الصديقات ورافقتُ الشملان في زيارتها، ظلت وشائج الصداقة والود تجمع بيننا واستمرت.
عادت حصة للوطن وقد شطَبت أوجاع ما مسها، فلم تبتعد، ولم تنكفئ أو تتوغل في عزلة، بل أقدمت بكل همة وإخلاص على الانخراط في حراك الدفاع عن حقوق الانسان.
في شهادة لها عن أحمد الشملان قالت:” إلى جانب نضاله ووقفته في قضيتي، إلى الآن ورغم مشكلته الصحية، إلى الآن تشعر أن حتى نظرته تحتويك، فيه محبة وهو إنسان حقيقي والانسان الحقيقي الآن عملة نادرة، أقصد الانسان الذي عنده مصداقية مع نفسه ومع قيمه ومع أفكاره ويعيش مبدأه، يعيش ما يؤمن به”.
لا يخالجني شخصياً أدنى شك أن حصة الخميري بذلك القول كانت تعبر تعبيراً صادقاً عن ذاتها وخصالها، وعما تؤمن به من مبادئ وقيم تعيشها في حياتها كإنسانة حقيقية وامرأة استثنائية.
ستظل حصة الخميري رغم عتمة الموت تنعم بسكينة الخلود في قلوب محبيها ما امتد بهم العمر.

اقرأ المزيد

جولة بايدن الأوروبية

تبدو جولة بايدن الأوروبية ليست مجرد محاولة لإعادة الدفء إلى العلاقات الأمريكية الأوروبية، بل هي محاولة لإقناع الأوروبيين وغيرهم من الحلفاء بالإنضمام بشكل فعال للولايات المتحدة في الحرب الباردة الجديدة التي تنوي خوضها.
وإذا كانت الحرب الباردة القديمة كانت ضد عدو واحد هو الاتحاد السوفيتي فإن الحرب الباردة الجديدة التي يستعد لها الرئيس الأمريكي ستكون مع عدويين: الصين وبصورة أقل روسيا.
الغرض المعلن من جولة بايدن الأوروبية هو تعزيز هذا الأمر. في مقالٍ نُشر في صحيفة “واشنطن بوست” عشيّة رحلته، تحدث الرئيس عن التزام “متجدد” و”ثابت” بالعلاقة عبر الأطلسي، تقوم على “القيم الديمقراطية المشتركة”.
في الواقع، ترى واشنطن أن موسكو قوة متراجعة تعوض عن نفوذها للتقلص من خلال توجيه الضربات حيثما أمكن، والتسبب في الأذى وبث الفتنة، يُنظر إلى بوتين على أنه مصدر ازعاج وليس منافساً، هذا ما ذكره موقع “Arabic post” ولكن لا ينظر الأوربيون إلى الصين باعتبارها المنافس الند مثلما تُنظر إليها واشنطن، ولا يزالون أكثر اعتماداً على الصين وروسيا في التجارة والطاقة، مقارنة بالولايات.
ويشعر البعض بالقلق من أن مسعي بايدن لتعريف العالم باعتبارها منافسة بين الديمقراطية والسلطوية، هو نظرة ترى العالم من منظور أبيض وأسود أكثر من اللازم حسبما ورد في تقرير صحيفة The New York Times. تعلق صحيفة “الغاردين” البريطانية قائلة “لا ينبغي للدول الأوربية أن تتوقف فترة طويلة إذا كان الخيار هو الإنحياز إلى واشنطن أو بكين، من السهل حشد الاستياء من التبجح العالمي للولايات المتحدة والإشارة إلى النفاق في ادعائها بأنها منارة للحرية السياسية لكن البديل هو دولة ضد الديمقراطية”.
لو كانت الصين دولة فقيرة لكانت مهمة بايدن أسهل، لكن الفجوة الاقتصادية بين القوة العظمى القائمة والمنافس تتضاءل بالنسبة للفرد لايزال الأمريكيون في وضع أفضل ، لكن الصين يمكن أن تتفوق على الولايات المتحدة في الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية هذا العقد.
مع هذا الثقل الاقتصادي تأتي القدرة التكنولوجية الرائدة عالمياً عبر التطبيقات العسكرية المتقاطعة مع الحياة المدنية التي تجعل البنتاغون لا ينام.
عندما تمّ إنشاء مجموعة السبع في السبعينيات كانت عضويتها مجتمعة – الولايات المتحدة – كندا – بريطانيا – وفرنسا – المانيا – إيطاليا – واليابان- تمثل بشكل مريح حصة كبيرة من الثروة العالمية، كان هناك ارتباط طبيعي للمؤسسات الديمقراطية الليبرالية والنجاح الاقتصادي، اليوم انخفض الناتج الإجمالي المحلي. لايزال الغرب ثرياً لكنه لم يكن القائد الوحيد.
تمنح الأموال الصينية أوروبا حوافز تجارية، الصين هي أكبر سوق تصدير لألمانيا، رحب أعضاء الاتحاد الأوربي بالاستثمار الصيني في البنية التحتية والشركات على الرغم من أن المخاوف تتزايد بشأن الخيوط السياسية الداخلية والأبواب الأمنية. تمّ تجميد اتفاق تجاري ضخم بين يروكسل وبكين تمّ توقيعه العام الماضي (الأمر الذي اثار استياء واشنطن)، في الوقت الحالي كجزء من نزاع متبادل بشأن الانتقادات الأوروبية لحقوق الإنسان في الصين.
لكن حكومات الاتحاد الأوروبي ببساطة لا تشعر بأن الولايات المتحدة مُلحّة لاحتواء الصين، هناك اختلاف مفاهيمي ايضاً على حد تعبير أحد الدبلوماسيين، فإن أوروبا لا تحب ما تفعله الصين، لكن الولايات المتحدة لا تحب ما أصبحت عليه الصين، ففكرة استبدال الولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى في القرن الحالي هي فكرة مروعة ممن الناحية الوجودية لواشنطن.
تضاعف ظاهرة دونالد ترامب القلق في الغرب، وتلقى بضلالها على جولة بايدن الأوروبية حتى بعد خروج ترامب من البيت الأبيض، لقد كانت تجربة ترامب قريبة من الموت للنظام الدستوري في أمريكا، وتلميح لنموذج سياسي واقتصادي بدأ وكأنه لا يقهر في فجر القرن الحادي والعشرين.
يقول توماس كلاين نائب رئيس مركز “صندق مارشال الألماني” انهم يخشون من إمكانية تكرار الأمر، ومن أنّ أمريكا تغيرت، ومن أن بايدن هو مجرد “فاصل بين رئيسين أكثر شعبوية وقومية، ويضيف: “إنهم يعلمون أن سياسات بايدن ستكون مرفقة سراً بفواتير التزامه ب “سياسة خارجية لأجل الطبقة الوسطى”. وأشار مختصون في السياسة الخارجية إلى أنّ عقيدة بايدن عن وضع حدّ “للحروب اللانهائية” وحماية العمال الأمريكين من المنافسة ستتطلب التزامات اقتصادية وعسكرية جماعية من دول الاتحاد الأوروبي.
في جولته الأوروبية حثّ بايدن الاتحاد الأوروبي على اظهار القوة في التضامن، لأن احتمالية الإنقسام والتراجع وتشوية سمعة الديمقراطية أصبحت أكثر واقعية مما كانت عليه في أي وقت في حياته المهنية التي استمرت خمسة عقود في واشنطن.
نجح بايدن بالصبر والدبلوماسية والحديث اللطيف في أن يكسب جمهوراً ممتناً في أوروبا، ولكن هذا لا يعني أنه نجح في تحقيق هدفه. إنه لا يطير عبر المحيط الأطلسي لينغمس في الحنين إلى التحالفات التي انتصرت في الحرب الباردة الأولى، وأنه يقوم بتجنيد المجندين للحرب الباردة الجديدة من خلال تأسيس تحالف ضد الصين وروسيا.

اقرأ المزيد

كسر جدار الصمت! (1 – 2)

بقلم: Cinzia Sciuto
ترجمة: غريب عوض

تستفيد الإسلاموية المُتطرِفة من صمت المسلمين المُعتدلين الذين لا يرون سبباً يجعل عقيدتهم تنطوي على مسؤولية إدانة عُنفُها. ولكن الإسلاموية ستستفيد أيضاً من عدم وضوح الحدود بين الإسلاموفوبيا الحقيقية (الرهاب الإسلامي) وإنتقاد الإسلام حيثُ يخرج عن الأعراف الديمقراطية.
بعد الأعمال الإرهابية الإسلامية في فرنسا والنمسا في العام الماضي، يمكن مُلاحظة تكرار نفس النص القديم مرة أُخرى. من ناحية، كان هُناك أولئك الذين اتهموا الإسلام بأنهُ دين عُنف في جوهره؛ ومن ناحية أُخرى، هُناك هؤلاء الذين جادلوا بأن العُنف الإسلامي لا علاقةَ لهُ بالعقيدة الإسلامية. وهذا يشبه إلى حد ما الرد على الإعتداء الجنسي على الأطفال في الكنيسة الكاثوليكية إما بالصراخ “الأوغاد الكاثوليك” أو بالإصرار على أن تعاليم المسيح لا علاقة لها بإساءة مُعاملة الأطفال. كِلاهما لا يؤدي إلى أي مكان. ما قد يكون جوهر الدين هو موضع اهتمام عُلماء الدين، ومؤرخي الدين والأفراد المؤمنين. لكن من وجهة النظر العلمانية، هذا غير ذي صِلة.
لكن المُهم هو ما إذا كانت الأديان والتسلسُلات الهرمية الدينية تستجيب للعُنف المُرتَكَبْ بإسمها، وكيف تستجيب، ليس لأن هذا يُشير إلى ما إذا كانت تحترم أسُس عقيدتها، ولكن لأنها تُحدد ما إذا كانت تعترف بالمبادئ الأساسية للتعايش الحضاري.إن ما يُغلق العلمانيين ليس الجانب الديني من الإعترافات، إنما دورها العام، تأثيراتها الإجتماعية والسياسية واستخدام أتباعهم ومُمثليهم لها.
من المهم أن يبذل اللاهوتيون والمؤمنون جُهداً للتوفيق بين إيمانهم ومبادئ التعايش الديمقراطي؛ هذا يؤدي إلى ظهور تفسيرات مُتعدِدة للنصوص الدينية، وبالتالي توليد التعدُدية. ولكن محاولات تبرير حقوق الإنسان على أساس سُلطة خارجية يجب التعامل معها بحذر. لماذا يجب أن تتوافق الحقوق الأساسية مع النصوص المُقدسة قبل أن تعترف بها الأديان؟ ومثل أي ظاهرة ثقافية أُخرى، تؤثر الأديان في المجتمع وتتأثر بهِ. وفي لعبة الأخذ والعطاء هذهِ، يجب على الأشخاص العاديين (المؤمنين وغير المؤمنين) أن يقفوا على أرض الواقع. وإلا فإن الأصوليين سوف يستغلون الميزة.
إن تصوّر الأديان كفاعلين اجتماعيين يعني فهمها على أنها مُكونات حية في المجتمع في تطوّر مُستمر، وليس كمُكونات مُتجانسة ذاتية، كما يعتقد الأُصوليون. هذهِ هي رؤية الأديان على حقيقتها، والحُكم عليها على أساس المُساهمة التي تُقدمها للديمقراطية في الوقت الحاضر. إذا كان الدين في لحظة تاريخية مُعيّنة وفي سياق اجتماعي مُعيّن، يلعبُ دوراً مُحافظاً ورجعياً، فهذا لا يعني أنهُ لا يمكنهُ القيام بذلك إلا على الإطلاق. كما أن حقيقة أن الدين كان لهُ دور تحرُري في مرحلة مُعيّنة في الماضي لا يمنحهُ مؤهلات ديمُقراطية أبدية.
والشيء المؤكد هو أنهُ ليس هُناك ديناً مُحصناً ضد التعصُب. واليوم، نحنُ نشهد انتشاراً للتعصُب الديني في جميع أنحاء العالم. في أوروبا، أكبر تحدي للعلمانية هو الإسلام السياسي. لقد كتب مؤرخ التاريخ الإسلامي Olivier Roy أنهُ، بالنظر إلى الهجرة والوضع السياسي في الشرق الأوسط، يحتوي الإسلام على بُعدٌ سياسي أكثر أهمية بكثير من الأديان الأُخرى. إلا أنهُ، في نفس الوقت، يُجادل Roy أن العلمانية الفرنسية تُعبرُ عن خِشية مُحددة من الإسلام. ولكي يدعم هذا الرأي، يضرب Roy مثلاً بالحاخامات المُحافظين في المجتمع اليهودي الذين يشغلون أيضاً مواقف مُعادية للمرأة ومُعادية للمثليين، لكنهم لا يُثيرون نفس درجة القلق مثل الأئمة المحافظين في الإسلام.
ولكن هذا مفهومٌ تماماً. إن التأثير الإجتماعي والسياسي للحاخامات المُحافظين في فرنسا من الواضح أنهُ أضعف من تأثير الأئمة المحافظين في الإسلام. وكقوة سياسية، فإن اليهودية الأرثودُكسية المُتطرِفة التي لا تقل أصولية عن الإسلاموية ليست ذات أهمية خاصة في أوروبا اليوم. وبينما يجب خوض معارك المبادئ والثقافة على جميع الجبهات، فمن المشروع تماماً أن تُركّز على القوى الإجتماعية التي لها وزن حقيقي. وهذا هو سبب عدم تبرير انتقاد الإسلام السياسي فحسب، بل من الضروري أيضاً.

ثلاث أنواع من الإسلام
كُلما أصبحت المجتمعات أكثر تعقيداً من الناحية الدينية، كُلما أصبحت العلاقة بين الدين والدولة أكثر تعقيداً. تاريخياً، ترتبط العلمانية الأوروبية ارتباطاً وثقيقاً بالمواجهة بين الكنيسة وخاصةً الكنيسة الكاثوليكية والدولة. لكن يجب أن يُسأل ما إذا كانت الأنظمة التي طورتها المُجتمعات الأوروبية لإدارة العلاقات بين الدولة والدين (وإن كانت بشكل غير كامل) لا تزال تعمل عند تطبيقها على الديانات الأُخرى، ولاسيما الإسلام الأوروبي.
الإسلام الأوروبي جديد نسبياً. إن تطورهُ المستمر يتبع طُرُقٌ مُعقّدة وهي غالباً تكون مُتناقضة وأبعد من أن تكون مُوحّدة. هُناك أشكال عديدة من الإسلام في أوروبا. البعض منها مُتوافق تماماً مع المجتمع العلماني الليبرالي الديمقراطي، والبعض الآخر أقل من ذلك – تماماً كما هو مع أي دين آخر.
يكتبُ عالِم الإجتماع فرهاد خسروخافار Farhad Khosrokhavar عن طريق كونك مُسلماً في فرنسا اليوم، ويُميّز بين “إسلام الإندماج” و “إسلام الإستبعاد” و “الإسلام الراديكالي”. يتم تجربة الأول ليس كعضوية مجموعة ولكن كـ “بناء هوية فردية في حُضن المجتمع الفرنسي”.هذا هو النوع الأكثر انتشاراً، لكنهُ أيضاً أقل أنواع الإسلام وضوحاً، لأنهُ الأقل تشدُداً. من ناحية أُخرى، فإن إسلام الإقصاء هو ’شكل من أشكال التشاركية الجديدة القائمة على المُقدس، حيثُ يُحاول الأفراد … إعطاء معنى لوجودهم من خلال استبعاد انفسهم من مجتمع لم يعودوا يرون فيهِ فرصة ليكونوا أحد “المدرجين فيه”.
وبسبب غموضه، بإمكان إسلام الإقصاء تمهيد الطريق نحو النوع الثالث، تحديداً الإسلام الراديكالي المُتطرف. ولكن حتى عندما يبقى إسلام الإقصاء غير عنيف، يخلق الإنقسامات، دون أن يُساهم في التماسك الإجتماعي. فبالنسبة للنظام الليبرالي الديمقراطي، هذا في حدِ ذاتهِ مشكلة.
إن الشعور بالإقصاء تُحدِدهُ مشاكل إجتماعية وإقتصادية، والتي لأسباب تاريخية، تؤثر كثيراً في قسم كبير من السُكان المسلمين. ورغم أن هذهِ الحقيقة لا جدال فيها، إلا أنهُ لا يمكن استخدامها كذريعة لرفض المعايير الديمقراطية. في النهاية، يمكن أن يكون للدين وظيفة تقدمية أو رجعية في أي سياق، بما في ذلك الصعوبات الإجتماعية والإقتصادية. لا يمكن للمرء دائماً التذرع بالشروط “الهيكلية” من أجل الحصول على الحل.
ربما يعترض المرء على إن النوع الثاني من المُسلمين – ناهيك عن النوع الثالث – هُما أقلية، في حين أن الغالبية العُظمى من المسلمين في أوروبا مُندمجة تماماً في المجتمع الديمقراطي. إلا أن، من وجهة النظر الإجتماعية والسياسية، إن مدى قدرة الظاهرة على التأثير في الخطاب العام لا يقل أهمية عن كميته العددية. ولسوء الحظ، فإن الغالبية الصامتة من المسلمين هي كذلك. صمتهُم يُمكّن الأصوليين من السيطرة على الفضاء العام والخيال الجماعي؛ أو ما يُشير إليه غرامشي Gramsci، للحصول على هيمنة ثقافية.
أن يرفض المرء المبدأ الجوهري معناه الإعتراف بالطبيعة التعدُدية للإسلام الأوروبي. لا يوجد ’إسلام‘ واحد، ولكن العديد من الإسلام. هُناك إسلام بالحجاب وآخر دونه؛ وهُناك إسلام باللحية وآخر بدونها. هُناك إسلام حميمي يستبعد السياسة، وهُناك الإسلام السياسي الذي يسعى إلى أسلمت الفضاء العام. والمسيحية ليست أقل تنوعاً. ولكن بينما تعودنا على الاعتراف بالفروق في العقيدة المسيحية، نميل إلى الاعتقاد بأن الإسلام كتلةٌ واحدة. وهذا بسبب الهيمنة الثقافية اليوم من قِبل أكثر أتباع الإسلام تحفُظاً. إنهم من “يفرضون الأجندة”، ليس أقلها من خلال أعمال العُنف؛ وقد أصبح سردهم هو السائد.

اقرأ المزيد

محاصرة الفساد

لا يرقى عمل دون مراجعة ورقابة، ولا يٌصوّب خطأ دون مساءلة ومحاسبة. أمر إيجابي ومهم إحالة رئاسة الوزراء نتائج تدقيق استقصائي، صادر عن ديوان الرقابة المالية والإدارية، إلى النيابة العامة، والإدارة العامة لمكافحة الفساد والأمن الاقتصادي والإلكتروني بوزارة الداخلية، بعدما أظهر التدقيق مخالفات تستوجب اتخاذ الإجراءات القانونية، وبصورة أخف اللجنة الوزارية للشؤون القانونية والتشريعية، التابعة لمجلس الوزراء، حسبما جاء في الخبر الرسمي.
دارت مخالفات التدقيق الاستقصائي لديوان الرقابة المالية والإدارية حول ثلاث وزارات أسمتها وكالة أنباء البحرين، هي: وزارة التربية والتعليم، وزارة الأشغال وشؤون البلديات والتخطيط العمراني، بالإضافة إلى وزارة العمل والتنمية الاجتماعية. فيما لم يحدد الخبر طبيعة تلك المخالفات وحجم جسامتها، واكتفى بتوزيع المخالفات إلى ثلاث درجات وزعها حسب اخصاص الجهات المحالة إليها والمشار إليه آنفاً. اللافت في الخبر هو تأكيد رئاسة الوزراء على استمرارية مثل هذه التقارير الاستقصائية، بالإضافة إلى تأصيل المحاسبة والرقابة في العمل الحكومي.
تلك الخطوات والإجراءات لا يمكن القفز عليها والتغافل عنها بلا شك، بل وإنها من صلب الحكم الرشيد والعمل الحكومي الذي يرنو إلى التخلص مما دُأب على وصفه “ترهل الجهاز الحكومي”، خطوات المساءلة والمراجعة والرقابة حينما تنبع ذاتياً وداخلياً من داخل مؤسسات العمل الحكومي الرسمي انما هي خطوة حسنة ولكنها غير كاملة.
مراقبة الجهاز الحكومي يحتاج إلى فتح المجال للسلطة التشريعية لأن تأخذ دورها الطبيعي في المسائلة والرقابة بدون أريحية ودون تعقيدات بيروقراطية وكمائن قانونية. والحلقة الأخرى من سلسلة الرقابة والمحاسبة يجب أن تشمل المجتمع المدني، إعادة تمكين المجتمع المدني ومنح مؤسساته الثقة والفرصة للتعبير بأريحيه انطلاقاً من مفهوم الديمقراطية التشاركية، والذي لو أحسنا التعامل وفقه سيخف ضغط مسؤولية الرقابة عن كاهل الجهاز الحكومي والذي سيتفرغ للتنفيذ والعمل. ولا يمكن أن تكتمل حلقات الرقابة والمسائلة على الجهاز الحكومي دون تعزيز واقع الصحف، دعم الصحف ومن خلفها وسائل الاعلام الأخرى التقليدية منها والحديثة يصب في تكامل عملية الرقابة والمسائلة، ومحاصرة المخالفات والإجراءات غير القانونية فبدلاً من وجود أداة وحيدة للرقابة سيصبح لو تمّ ذلك أربع أدوات بأذرعها للرقابة ولملاحقة كل فاسد ومخالف للقانون.

اقرأ المزيد

هل مات فقيدكم ب “كورونا” ؟

هل مات فقيدكم ب كرونا ، اي نوع من اللقاح ، كم جرعة ؟ متى ؟، كم يوم بعد الجرعتين؟، هل تلقى الجرعة التنشيطية؟ كم عمره؟ هل لديه أمراض كامنة: سكر ضغط، سرطان، سيكلر، سمنة؟ هل كان في العناية القصوى؟، كم يوم؟، هل كان تحت جهاز التنفس الصناعي أم الاعتيادي؟ كم يوم؟، أي مستشفى؟ كيف اصيب؟، من الذي نقل له العدوى؟، هل سلمت عائلته أو زوجته أو أولاده؟ مَن نجا ومَن أصيب؟ من خالط؟ هل هي الإصابة الأولى؟ “كوفيد” القديم أو المتحور الجديد ؟ اصابة في البيت أم في العمل أم من الشارع؟ هل هو شخص ملتزم بالتعليمات والاحترازات والتباعد والكمامة أم مستهتر بها؟، هل هو مدخن؟ مدمن كحول مثلا؟، أهو متزوج وهل لديه أولاد ؟
تلك نماذج من الأسئلة المعتادة التي يتلقاها ذوو المتوفيين أو المصابين بكوفيد حين يتواصلون مع الناس الناس، أسئلة تبدو للوهلة الأولى بريئة في مجتمع صغيرويعرف بعضه بعضاً وترمي إلى التشارك في المصاب والمواساة والمؤازرة وواجب العزاء.
الأسئلة أعلاه خاصة جداً وتفصيلية جداً وتقف على حياة هذا الإنسان، وقد لا يعرف حيثياتها حتى الأقربون منه، ورغم أنها أسئلة قد تبدو معتادة ومن حق الناس معرفتها، فإنها أيضاً تزعج الناس وتجرحهم وتحرجهم وتضعهم في موقف صعب كونها أسئلة تدخل عميقاً في حياة الآخر، وتخوض في سيرته الذاتية وأمراضه وتتطفل على أسراره التي يحرص الكثيريون على إبقاءها طي الكتمان في الصحو والمرض، في الحياة وفي الموت.
من قال إن الناس لا ترى في المرض خصوصية وإن للميّت حرمة، وإن له في ذمة أهله حقوق يجدر بهم الحفاظ عليها، وتلك أبسط حقوق الإنسان، بيد أن أسئلة الناس التلقائية تشير إلى تعاظم المخاوف من جائحة شديدة الانتشاروالخطورة، جائحة وضعت العالم كله أمام تحديات غير مسبوقة. أسئلة الناس لا ترمي إلى اشباع الفضول الغريزي في المعرفة والتلصص بقدر ما ترمي إلى تفادي الأخطاء والتعلم من الدروس والاعتبار.
لاحظوا أن من كان يصاب بكورونا في السابق كان بإمكانه ان يخفي اصابته، ينزوي في بيته او يُحجر أو يتنقل حراً دون احترازات وقائية، لأن الجائحة كانت في بواكير نشأتها، ويصح القول إننا كنا في نزهة مع سلالة كوفيد القديمة قياساً بما نشهده الآن مع السلالة الجديدة “متحور دلتا “
إن زمن الوباء الشامل جعل مسألة الخصوصية وحقوق الإنسان تتراجع كثيراً لصالح معرفة كل التفاصيل والبيانات الخاصة بمرضى كوفيد، فنحن جميعاً على مركب واحد، نعاني الأمر ذاته وقد نكون الرقم المقبل، والناس تعيش حالة من الخوف والرعب، وتود التأكدّ من سلامة تعاطيها مع المرض، وهل تلقت اللقاح المناسب أم لا ؟، وهل قامت بالاحترازات الضرورية كما يجب؟ وهل عليها أن تمارس على نفسها المزيد من التشدد مستفيدة من أخطاء الآخرين لتلافي سقطات الآخرين، هل تصنف نفسها ضمن الفئات العمرية والصحية الخطرة وذات الاحتمالية العالية للاصابة والوفاة أم لا، إن تفاصيل وفيات كورونا من عدمه قد اختفت من منصات التواصل ومن تقارير المنظومة الصحية في بلدنا، الناس هي التي صارت تبحث عن المعلومة وتتكهن وتخمن وتسأل وتتحرى، لا إشباعا للفضول كما أشرت ولكن كنوع من الاطمئنان.
وهكذا غابت كل أسباب الموت وبقيت كورونا، وبدا إنّ كل راقد في المستشفى هو مريض كرونا بالضرورة؟
وكل صفارة اسعاف هي لمريض كورونا وكل انبوبة اكسجين مخصصة لمرضى كورونا، وكل حالة وفاة هي لمصاب بكورونا، وهو أمر غير صحيح بالمطلق، فلا تزال المقابر تستقبل الوفيات ولا تزال المشافي تعج بالأمراض المتنوعة الكامنة المستترة والظاهرة والواضحة للعيان، بيد أن كوفيد سيطر على المشهد الطبي والصحي، وتصدررقم الوفيات، وقد كان أقسى على المرضى وكبار السن وضعاف المناعة وغير المطعمين أو أولئك الذين لم تقاوم اجسادهم قسوة الفيروس المتحورالفتاك، والذين انتقلوا في لحظة إصابة عابرة من دائرة الصحة إلى سرير المرض، نعم ضاعت خصوصية المرضى وحقوقهم الإنسانية بسبب تفشي وباء كوفيد، وصار سؤال: كيف توفي مريضكم سؤالاً طبيعياً ومعتاداً في معركة الحرب على كوفيد التي لا تعرف نهايتها .

اقرأ المزيد

“كورونا” وصناديقنا السّياديّة

بالنظر إلى التداعيات والآثار التي أحدثتها جائحة ” كورونا”على مدى اكثر من سبعة عشر شهراً حتى الآن، وعلى مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية المختلفة، هناك أمور عديدة اتضحّ للجميع تقريبًا كم هي مهمة ولا يمكن الاستغناء عنها او إهمالها بالنسبة لمختلف الشرائح الاجتماعية بغض النظر عن حجم الدولة او حتى امكانياتها، معالم ضعفها او قوتها.

فقد بات واضحا للجميع الآن وبشكل خاص للمتابعين للشأن العام المحلي كم هو مهمّ وحيوي أن تكون الدولة قادرة على إشاعة عوامل الاستقرار والثقة لدى مختلف مكوّناتها الاجتماعية والتدليل على قدراتها الفعلية في تجاوز المحن والتحديات والمصاعب وتقليل المخاوف من انفلات الأمور والفوضى.

لقد تابعنا جميعا الى اين يتجه الناس وإلى اين يرنو المزاج الشعبي بشكل عام في بحثه عن حلول واجابات لا تقبل الانتظار أحيانًا، وتحتاج إلى قرارات تنفيذية عاجلة، وكيف يبرز بشكل تلقائي دور القادة والنخب والهياكل الإدارية الكفؤة، وتختبر فاعلية السياسات والاستراتيجيات الوطنية، بعيداً عن الترويج الإعلامي أو حتي المزايدات السياسية التي قد تحدث أحياناً، نتيجة عوامل الشد والجذب المعتادة في المجتمع، بل كيف تتوحد الجهود الوطنية وتخبو التشنجات والانقسامات الحادة لصالح توجهات أكثر رشدًا ووعيًا للبحث عن حلول من شأنها ان تعزز عوامل الثقة وتعيد عوامل التلاحم المفتقدة للحفاظ على المكتسبات وبقدر ما تسمح به الظروف والتحديات القائمة.

بالنسبة لنا في البحرين، وبغض النظر عن الظروف الضاغطة بشدّة والتي عايشناها كما عايشها العالم من حولنا بصور شتى، فقد كان القاسم المشترك بالنسبة لنا في ظل عتمة الظروف الاستثنائية والخسائر المادية والبشرية المكلفة التي لازلنا نعيش فصولها بطرق مختلفة جراء تداعيات الجائحة، أن هناك الكثير من الأمور الإيجابية والوسائل الناجحة والتي أصبحت مجربة بشكل كافٍ، ولعلّ دور الدولة فيها كان جليا ومحوريا، ودلل على استطاعة الدولة، أي دولة، ان أرادت أن تقود مجتمعها إلى برّ الأمان بشيء من الحكمة والثقة وحسن الإدارة وتسخير كافة الإمكانيات للتغلب على كل ما يمكن ان يهدد استقرار وطمأنينة وتراجع مجتمعها.

فمنذ بروز مخاطر الجائحة بشكل جدي لدينا في البحرين لمس الجميع حجم الجهود التي قامت بها الدولة بكل مؤسساتها، وقام بها المجتمع أيضًا، في تحجيم التحديات التي برزت دون سابق انذار، والتي بالفعل كانت جديدة على المجتمع بأسره، على الأقل من زاوية كيفية إيجاد الحلول والتغلب على المصاعب وتوظيف الجهود والوسائل المتاحة، ورصد الأموال والميزانيات التي هي مقياس حقيقي يمكن مقاربته مع قدرات الدولة ووعي المجتمع والاستعداد الضمني لهياكل ومؤسسات المجتمع في شحذ الجهود وصهرها في بوتقة الدفاع عن المصالح الحيوية للوطن وأهله والمقيمين على أراضيه.

وبالفعل تابعنا كيف تشكّلت الفرق الوطنية الرسمية والأهلية، وفتحت أبواب التطوع على مصاريعها دون حواجز او قيود حتى انخرط في العمل اكثر من ثلاثين الف متطوع ومتطوعة ومن مختلف الشرائح والتخصصات وبنكران ذات ودون خوف او تردد، كما قامت الدولة ممثلة في السلطة التنفيذية ومعها السلطة التشريعية بجناحيها النواب والشورى بعقد العديد من الاجتماعات التنسيقية والتشاور والمتابعة، وتمّ تمرير القوانين والتشريعات المطلوبة وبالتالي رصدت الميزانيات والحزم المالية والاقتصادية وعلى دفعات، وبعد اجراء الدراسات المطلوبة لرصد أماكن العوار والتراجع والعمل على اصلاح الوضع الاقتصادي باعتباره رافعة حقيقية للوضع الاجتماعي.

وكانت الأهداف بالنسبة لجلّ المشتغلين في هذه المهام الوطنية واضحة، لعلّ من أبرزها كيفية الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي للأسر والأفراد في المجتمع وعدم السماح بإفلاس الشركات، وبالتالي عدم إيجاد مبررات لها للقيام بتسريحات غير مقبولة للعمالة الوطنية جراء تعطل غالبية الأعمال والشركات، إضافة الي استمرار برامج الدعم وبرامج الضمان الاجتماعي للأسر المحتاجة، علاوة على دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة عبر حزمتي الدعم المالي والاقتصادي، الأولى والتي بلغت اكثر 4.3 مليار دينار والثانية التي أقرّت منذ اكثر من أسبوعين والتي بلغت 485 مليون دينار وما تبعهما من إضافات وحزم مالية وإجراءات وتوجيهات، كان هدفها الأساس هو كيفية الحفاظ على حالة الاستقرار في السوق والمجتمع مع توفير السيولة اللازمة والثقة لدى المواطن والمقيم والمستثمر في ظل الظروف القائمة.

ومن بين المؤشرات التي يسهل رصدها في ظلّ ما أحدثته الجائحة بدا واضحاً للعيان أن هناك حاجة ماسة لشرعنة ومراجعة بعض الأمو ر التي ارتبط بها نجاح البحرين في العبور حتى الآن بنجاح،رغم شحّ الميزانيات والقدرة المالية، ولعلي اذكر من بينها ضرورة مراجعة توجهات وبيع أصول الدولة عبر برامج الخصخصة والتي هي ضمانة لاستمرار حالة الاستقرار المجتمعي نتيجة عدة اعتبارات، كما برزت أيضا أهمية الصناديق السيادية وضرورة ابتداع طرق اكثر نجاعة للحفاظ عليها وتنميتها، فقد تابعنا الدور المحوري الذي لعبه صندوق التعطل بما وفره ويوفره من أموال طائلة تصب في دعم الاقتصاد الوطني وتوفير السيولة المطلوبة لدعم الأجور والشركات وعدم السماح بإفلاسها لا سمح الله، علما أن هذا الصندوق بالذات قد تعرض أكثر من مرة لدعاوى تطالب بحله لأسباب غير وجيهة بالمرة، لكن نحمد الله ان تلك الدعاوى أصبحت جزءا من الماضي، وبالمثل عمل صندوق العمل تمكين وصندوق احتياطي الأجيال في دعم الدولة والمجتمع.

خلاصة القول، إننا أمام تجارب وعبر ودروس علمتنا إياها جائحة “كورونا” وعلينا ان نتعظ منها وهي كثيرة ومتعددة وتحتم علينا التبصر فيها جيداً والبناء عليها نحو مستقبل أفضل لوطننا.

اقرأ المزيد

هل من الأصول بيع أصول النفط والغاز

معظم الذكور المتقاعدين أو من يقترب من حالهم، أطال الله أعمارهم، مرّ بما يسمى PSA (Prostate-Specific Antigen (PSA) Test)، أي، اختبار مستضد البروستاتا النوعي لمعرفة حال البروستاتا. الاقتصاد النفطي في منطقتنا يمر أيضا بامتحان PSA الصعب منذ العقد الأول للقرن الحالي. والاختصار هنا يعني Production Sharing Agreement (PSA)، أي، اتفاقيات المشاركة بالإنتاج. وكان التمرين العام الأول لتطبيق مثل هذه الاتفاقيات في العراق الشقيق، باعتباره الحلقة الأضعف في المنطقة، وحيث كان العراق تحت الاحتلال الأميركي رسميا منذ عام 2003، ويحكمه عمليا بول برايمر تحت مسمى رئيس الإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق. في ديسمبر 2006 صادق مجلس الوزراء العراقي على مسودة قانون النفط والغاز المعروضة عليه والمتضمنة عقد المشاركة بالإنتاج، ودَفَع بها إلى مجلس النواب للمصادقة. وبذلك تراجع العراق عمليا عن أحد أكبر منجزاته التحررية الوطنية بتأميم النفط في أوائل سبعينات القرن الماضي.
وقد تعرضت المنظمة الدولية للشفافية في الصناعات الاستخراجية ومنظمة الشفافية في العوائد النفطية إلى هذا النمط من عقود PSA بالنقد المرير، لما يعنيه من إجحاف بحق الدول المنتجة والمصدرة ولصالح شركات النفط العالمية. ويعود تاريخ عقود المشاركة بالإنتاج إلى ستينات القرن الماضي ابتداء من أندونيسيا (1966). لكن أندونيسيا تمكنت من تحسين شروط العقود المجحفة بعد مرور عشر سنوات، تحت تأثير عمليات تأميم شركات النفط في ليبيا التي جرت بين عامي 1971 و 1974 والعراق (1972). وبتأثير من ذلك ارتفعت مطالبات بلدان الخليج وغيرها المنتجة والمصدرة للنفط بحصة أفضل من العائدات. ولوقف العمل بعقود الامتيازات التي جعلت النفط أشبه بالملكية الخاصة للشركات الأجنبية كان أمام بلدان الخليج خياران: التأميم المباشر أو المشاركة مع الشركات الأجنبية مع شراء حصصها تدريجيا. وقد اختارت الثاني. واستمرت الشركات الأجنبية تعمل على أساس عقود خدمات. وبذلك حققت بلداننا سيطرة أكبر على مواردها الطبيعية، وجعلت سياسة الإنتاج والتصدير وفق قرارات السيادة الوطنية.
الآن يعيد التاريخ نفسه. فكما تأثرت بلداننا بوثبة التأميم التقدمية في عالم النفط، كذلك تأثرت بحركة العراق الارتدادية عن التأميم والعودة إلى الخلف بصيغة عقود المشاركة بالإنتاج PSA. وفي مملكة البحرين، كما في بلدان خليجية أخرى سميت الاتفاقيات اختصارا EPSA (Exploration And Production Sharing Agreements ) أي، عقود الاستكشاف والمشاركة في الإنتاج، وقد بدأ التحرك نحوها منذ عام 2008. وقد تمت المصادقة أخيرا على اتفاية من هذا النوع بين مملكة البحرين وشركة النفط Eni .
مقارنة سريعة لهذه الاتفاقية حتى باتفاقيات الطراز القديم من PSA ، على مثال أندونيسيا 1966، نجد أن أقسى ما في هذه العقود هو حد استرداد الكلفة للشركات. في العقود القديمة يصل أقصى هذا الحد إلى 40% من النفط المنتج. أما المادة 14 – 4 (ب) في اتفاقيتنا المقرة تتيح للشركة حق “استرداد التكلفة” في نطاق 50 – 60% من النفط المنتج، بناء على “معامل نسبي” تم تعريفه في الاتفاقية بشكل معقد، وبإيجاز على أنه نسبة الإيراد التراكمي إلى تكاليف النفط التراكمية (R factor). كما أن صادرات الشركة من حصتها من النفط لا تخضع للرسوم. وبينما حُددت حصة أندونيسيا من الربح بـ 65% والشركة 35% (تمّ تعديلها عام 1976 لتصبح حصة الحكومة 85% التي عادت فانخفضت إلى 65% مع تراجع الأوضاع السياسية للنظام في أندونيسيا)، فلدينا تتراوح حصة البحرين بين 35 و 65%، بناء على “المعامل النسبي” إياه. أي أن حصة الشركة من الربح لن تقل عموما عن 45 – 50%. ناهيك عن أن الاتفاقية لا تتضمن مقدار الريع للمملكة باعتبارها مالكة الأرض.
وإذ يجري الحديث عن ضريبة دخل تدفعها الشركة، فليس من المعروف كيف ستتحقق في ظل عدم وجود قانون للضريبة على دخل الشركات في البحرين. وفي حين حدد مدى سريان اتفاقيات أندونيسيا بعشرين عاما، فيبدو أن الاتفاقية مع شركة إيني قد تمتد إلى أبعد.
الفخ الكبير يكمن في تقدير التكلفة. فهي تشمل الرواتب والخدمات والامتيازات، المبالغ فيها عادة، للموظفين الأجانب وعائلاتهم الذين تجلبهم الشركة معها. وهذه مناسبة لتكرار ما سبق وقلناه من أن بلادنا ليست فقط بحاجة إلى قانون للحد الأدنى للأجور، بل والحد الأقصى أيضا. كما تشمل مصاريف مكاتب الشركة وموظفيها خارج البلاد ذات العلاقة بأعمالها في البحرين. ونظرا لكبر حجم الشركة العالمية فإن هذه المكاتب قد تقدم الخدمات لأعمال الشركة ليس فيما يخص البحرين وحدها. وكذلك مختلف جوانب التكلفة التي يعود تقديرها للشركة في الأساس.
وبعد إقرار لجنة الشؤون المالية والاقتصادية البرلمانية للاتفاقية “استحثت” الحكومة مجلس النواب على استعجال التصديق عليها خلال جلستين متتاليتين (وضمن جدول أعمال يشمل قضايا أخرى) تحت مبررات قرب انفضاض دورة الجلسات البرلمانية وعدم تأخير خطط كل من الحكومة والشركة والخشية من أن التأخير قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد والأجهزة والمعدات اللازمة، وكذلك للإسراع في تحقيق النتائج وجني المردود. كادت الشركة أن توصَف بالمضحي لإقدامها على مخاطرة توقيع هذه الاتفاقية حيث أن حظوظ الحصول على النفط والغاز المصاحب غير معروفة، كما أن أسعار النفط متدنية للغالية. لكن الحكومة، من الجهة الأخرى، قالت بأن التقارير الأولية للشركة إيجابية. وهذا يعني أن درجة المخاطرة قد تراجعت. أما بشأن أسعار النفط والغاز فلنا وقفة.
لنوضح الواضح بأكثر وضوحا. منذ زمن ونحن نشهد عودة أسعار النفط إلى الارتفاع. وقد اجتازت الآن حاجز السبعين دولارا للبرميل (د/ب)، ومعظم التوقعات تشير إلى صعودها صوب 100 د/ب. وباعتقادنا أن ذلك سيستمر لفترة غير منظورة لعوامل موضوعية وذاتية.
العوامل الموضوعية
بدأ العالم يشهد إقلاعا اقتصاديا، وخصوصا في الصين مما سيصعد الطلب على النفط والغاز. والقول بأن إجراءات تحسين المناخ ستؤدي سريعا إلى تراجع الوقود الأحفوري في ميزان الطاقة العالمي يبدو مبالغاً فيه بعض الشيئ. فالجدل حول صدقية دعاوى تحسين المناخ لا يزال محتدما في أميركا ذاتها ( أنظر مقالة ليزا فريدمان، نيويورك تايمز، 23 يونيو 2021). كما أن التحول عن الوقود الأحفوري لا يزال يُحمِّل كثيرا من المؤسسات الصناعية أعباء ثقيلة في ظل الأوضاع الاقتصادية العالمية الراهنة. من جانب آخر، يؤكد تقرير أوبيك (ОПЕК World Oil Outlook, 08 oct 2020) أن الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم) يمثل 72.2% من ميزان الطاقة العالمي. وسينمو الطلب على النفط والغاز والفحم والطاقة النووية والمصادر المتجددة مجتمعة، من 289.1 مليون برميل (مكافئ نفطي) يوميا عام 2019 إلى 361.3 مليون برميل مكافئ عام 2045. وسيظل النفط صاحب أكبر حصة في ميزان الطاقة، رغم أن حصته ستنخفض من 31.5% عام 2019 إلى 27.5% عام 2045، وسترتفع حصة الغاز خلال نفس الفترة من 23.1% إلى 25.3%. فبالأرقام المطلقة، قد ينمو الطلب على النفط خلال نفس الفترة من 91 مليون إلى 99.5 مليون برميل يوميا، والطلب على الغاز من 66.9 مليون الى 91.2 مليون برميل مكافئ يوميا.
العوامل الذاتية
دعونا نراها من زاوية السياسة المالية-الاقتصادية الأميركية (العالمية). أعتقد إلى حد بعيد بصحة الرأي القائل أن ما استحث الرئيس بايدن لتعجيل لقائه بنظيره الرئيس بوتين هو، مهما بدا ذلك غريبا، جموح التضخم النقدي في الولايات المتحدة الذي بدا غير قابل للتحكم بعد أن وصل إلى 5%، بسبب الإصدار النقدي المنفلت. بايدن يريد أن يقنع بوتين بأن لدى بلديهما مصلحة مشتركة في ارتفاع أسعار النفط والغاز لأمد طويل. وهذا بالطبع بالضد من مصلحة أوروبا والصين. لكن ذلك سيسمح للمصارف الأميركية والأنجلوسكسونية بشكل عام بكسب المال والسيطرة على عملية تراجع الدولار وإبطائها. كما يرغب الأميركيون بتسوية تحول دون تحوُّل تجارة النفط إلى اليورو للحفاظ على دور ومكانة الدولار في التجارة الدولية. وبهذا تستطيع أميركا تصدير التضخم إلى أوروبا وتحميلها قسطا من تكاليف الفترة الانتقالية.
قراءة لهذه وغيرها من العوامل الموضوعية والذاتية برأسٍ صاحٍ يجب أن تجعلنا نعيد الحسابات في كثير من الأمور للإمساك بالفرص التي يتيحها المناخ الاقتصادي العالمي الراهن على كل عِلاَّته، بدلا من تخويف الذات وإعطاء الشركات الأجنبية ما لا تستحق.
وأخيرا، نقطة تتعلق بجوهر التفكير الاقتصادي السائد لدينا. هذه الاتفاقية وغيرها من المشاريع الاقتصادية تبدأ من حساب الكلفة وتنتهي بحساب المردود المالي الذي ما أسهل أن يجد قنوات تصريفه في أوجه ليست اقتصادية وتنموية عموما. ولفرط الأسى، هذا هو أحد أهم أسرار تسارع تنامي الدين العام، الذي يقلب الأمان سقام. بعيدا عن السياسة، والود من عدمه، لننظر إلى الاتفاقيات الاستراتيجية الكبرى التي تبرمها بلدان عديدة مع جمهورية الصين الشعبية. ليس سرا أن الصين تحصل بموجبها على مواد الطاقة بأسعار قد تكون متهاودة كثيرا عن الأسعار العالمية. على أن المردود بالنسبة لأطراف الشراكة الآخرين ليس المالي هنا، بل برامج الاستثمارات الشاملة التي تبدأ من البنية التحتية وتنتهي بالتكنولوجيات المتقدمة، وبينهما برامج التنمية الصناعية والزراعية والصحية والتعليمية والخدماتية الأخرى والثقافية والبيئية وبناء القاعدة العلمية – التقنية والكادر الوطني المؤهل للاضطلاع بهذه المهام. وتكون الصين عادة مستعدة لدعم تمويل كل تلك المشاريع. وإذا ما أبرمت اتفاقية بين الصين وبلد ثان، فإنها تجتذب استثمارات بلدان ثالثة أخرى للانخراط في مشروع التعاون الاستراتيجي.
ومع أهمية أن يسود مثل هذا التفكير لدى صانعي القرار، إلا أنه لا يكفي لوحده. فمثل هذه المهام الكبرى لا تتحقق بدون إشراك مؤسسات المجتمع وتفعيل طاقاته الخلاقة. فماذا لو أُعطي للسلطة التشريعية الوقت الضروري الكافي للدراسة والاستشارات التي هي من حقهم؟ وماذا لو تمّ، مثلا، أخذ رأي جمعيات الاقتصاديين والمحامين والمهندسين في مثل هذه الاتفاقية؟ أما كان من الممكن أن يقترحوا ما يحسن شروطها في أضعف الحالات؟
ها وقد تحدثنا عن كل ذلك، بقي أن نتساءل: ماذا عن الاتفاقيات المماثلة، القادمة في الطريق؟

اقرأ المزيد

الفعل والقتل

في عام 1986 أصدر الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين الطبعة الثانية من ديوان الشاعر الشهيد سعيد العويناتي: “إليك أيها الوطن.. إليك أيتها الحبيبة”، الذي كانت طبعته الأولى قد صدرت في البحرين عن دار الغد عام 1976، أي في نفس العام الذي استشهد سعيد في نهايته، وقدّم للطبعة الثانية الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف الذي توفي الشهر الماضي، ويذكر أنه أضيفت إلى هذه الطبعة ثلاث قصائد، كتبها سعيد بعد صدور الطبعة الأولى، ويعتقد أنها آخر ما كتب.
في استذكار للشاعرين سعدي وسعيد، تعيد “التقدمي” نشر المقدّمة التي كتبها سعدي يوسف للطبعة الثانية من “إليك أيها الوطن.. إليك أيتها الحبيبة”.
المحرر

في أواسط السبيعينات، وببغداد..عرفته.
أيامها، كنتُ في “المركز الفلوكلوري”، بعيداً عن الضجيج منصرفاً عنه إلى ضجيج خفىٌ في الروح ربما كان أعلى صوتاً.
أتذكر أن سعيداً نشر آنذاك قصيدة في صحيفتنا اليومية، وكان للقصيدة مفاجأتها، لديٌ، أنا الذي اعرف من أهل الشعر في البحرين أسماء محدودة عزيزة، ليس بينها اسم سعيد العويناتي.
أسررت لصديق رغبتي في التقاء الشاعر الشاب. ولم تمرٌ ايامً عديدة، حتى التقيته، حيث كنت أعمل. كان ذا صوت واضح خفيض، وعينين مستقرتين، وتواضع مكتملٍ. تحدثنا عن الشعر في البحرين، وعدني بأن يزودني مما لديه من مطبوعات متصلة بحديثنا. وقد برٌ بوعده، بل قدٌم لي أكثر مما اقتضى الوعد: ديواناً من الشعر الشعبي أيضاً.
وتوالت لقاءاتنا حتى تواترات، وحتى أخذ يطلعني على قصائد له جديدة، وكنا نتداول أمرها، ونتداول الأمور بعامة، ثقافة وسياسة، وأنباء عن البلد المحتدم.
وكنت أعجب لهدوئه واستقراره وثقته، في وقت لم تكن الأيام، هناك، مدعاة هدوء واستقرار وثقة.
قال لي يوماً إنه سيذهب إلى أوروبا، أوروبا الاشتراكية في الغالب، ليتابع دراسةً، وكان النبأ مفرحاً.
ثم جاءني يوماً، مودعاً.
إلى أين؟ أللدراسة؟ قال نعم، لكني سأزور البحرين زورةً قصيرةً، أرى فيها الأهل والأصدقاء، وبعدها أذهب إلى حيث استكمل دراسة. وكان حدثني عن صحيفة هناك كتب فيها.
سألته إن كان مطمئناً إلى رحلته. قال، انه لن يطيل المكث في البحرين:
هكذا كان الوداع.
سعيد العويناتي أطال المكث في وطنه.
سعيد العويناتي قتل في 12/12/1976
سعيد العويناتي هُشمّ رأسه تعذيباً.
في ديسمبر 1976، كان شاعر هو عبد اللطيف اللعبي، سجيناً في السجن المدني بالقنيطرة (المملكة المغربية) يقول في رسالة موجهة إلى ولده ياسين، مؤرخة في الثامن والعشرين من ديسمبر1976: “أن تكتب معناه في العمق، أنك تتقاسم مع الآخرين شيئاً ما. كما لو أنك توجه الدعوة للتفاهم والمحبة والإقدام على فعلٍ ما”.
سعيد العويناتي في ديوانه الوحيد (اليك أيها الوطن….إليك ايتها الحبيبة)، يحقّ له أن يعتبر ما كتبه عبد اللطيف اللعبي موجهاً إليه، فهو، شأن شأن الناس، يتقاسم مع الآخرين شيئاً ما، إلا أن ما يتقاسمه مع الآخرين هو الأمر الصعب، هو الاختيار العذب والقاسي في آن. هذا الاقتسام يستغرق المجموعة، ابتداء من “زويا” حتى القصيدة الأخيرة “للخروج من الصمت”، ولسعيد مدخله الأثير هنا، مدخله الذكي؛ انه يعتمد الشخصي أولاً، لينطلق منه. من هنا يأتي الإقناع في النص الشعري.
حين أدقّ عليك الباب فتفتحه
ادخل مرتعشاً، في عينيك كتابك
أو مبتلاً بالمطر النازل من سعف النخل
ومن زرقة ماء البحر
هل تذكر ذلك؟
“حين اردٌ الماء مرتعشاً”
حتى في الموضوع الذي يستلزم صراحة اكبر، وتعجُّلاً نحو العام، نجد سعيداً يتأنى، ويظل أميناً إلى مدخله الأثير، قد تنتهي القصيدة بالهتاف أو الصرخة، لكن هذين لا يأتيان إلا بعد جهد بذل، قدر الإستطاعة، بحيث تجد الانتقالة تبريرها. في قصيدة “أغنية إلى الكوكب المتواري” يكون المدخل المشترك ذكرى الطفولة.
هل تذكر تلك الريح البريّة
يا من كنت معي فوق رمال البحر
وفي الطرقات تغني
والأطفال عصافير تسرح فيما بين العامين.
وترسم لوحات للنخل المتمدد من آلاف السنوات
بهذي الجزر المملؤة بالأصداف..
ويتدرج في تصعيد الذكرى، وتوظيفها، لينتقل إلى الحدث، إلى “الإقدام على فعلٍ ما” كما يقول اللعبي، ويأتي التصريح تلميحاً ذكياً في نهايات لقصيدة؛
هاك سماء بلادي
خذها لك
يامن كنت على مقربة منا
والفتيات يطفن بباب البحرين
يرددن هتافاً يحمل اسمك ..
على أي حال، لا أريد أن أحمّل سعيداً فوق طاقته. لا أريد ان أقول إنه شقّ طريقه حتى النقطة التي نتوقف معه، عندها، طويلاً. لقد استشهد، وهو في أوائل بحثه الشعري. أقول: بحثه الشعري، لأنه كان يبحث، حقاً، عن قصيدته. وفي ديوانه أمثلة قليلة على بحث متجرد طموح، قصيدته “لحظة تأمل في الذاكرة” أنموذج لما كان يمكن أن يُشكّل (بعد جهدٍ طويل) ملمساً متميزاً لأنامل الشاعر.

في إحدى قصائد ستيفن سبندر، نجد المقطع الآتي:
نظرتُ من النافذة.
إلى خواء عالمٍ يتفجر.
الأحجار والحصا، مقذوفة، نافورة إلى اعلى
تميل بها الريح
جفّ من ذهنك كل احساس
سوى أنك وحيد
لاشيء ثابت لتثبت عليه العينُ
صرت، ثانيةً، طفلاً.
يرى للمرة الأولى كيف تحدث أسوأ الأشياء.
كان قدر سعيد العويناتي، ليس أن يرى للمرة الأولى “كيف تحدث أسوأ الأشياء”. كان قدره أن يرى الأشياء السيئة تحدث آلاف المرات، وكل يوم بحيث لم يعد فيها ما يدهش، او يفاجئ.
والطفولة (طفولته، المفعمة برائحة البحر والنخل والمطر، الطفولة التي كانت مدخله إلى القصيدة، والحياة…) رحلت مبكرةً، قبل أن يستنفذها، أو يمضي طويلاً في استكناهها واستخدامها. والوحدة، الضرورية للشاعر فنياً، وجدت نفسها متنحية إزاء ضرورات أكثر الحاحاً.
بالرغم من هذا كله، ظلّ الشعر لدى سعيد هاجساً شديد الالحاح، هاجساً أول، بارزاً تماماً بين الأولويات العديدة.
***
يقول هنري ميللر “إن فعل القتل، سيبلغ غايته سريعاً، وعندما يختنق صوت الشاعر، يفقد التاريخ معناه، وينفجر وعد الدينونة، مثل فجر جديد مخيف، على وعي الإنسان”.
***
في محاكمة غرامشي، قال له القاضي: “إني أريد أن أعطلّ هذا العقل عشرين عاماً”. وحكم عليه بالسجن تلك الأعوام.
وفي البحرين قتلوا شاعراً شاباً، كي يعطلوا تطوّره اللاحق الأكيد.
***
وفي الذكرى العاشرة لاستشهاد سعيد العويناتي، ومع صدور الطبعة الجديدة لمجموعته اليتيمة، يحقّ لنا القول إن فعل القتل لم يبلغ غايته، ما دام سعيد العويناتي في أفئدة شعبه ورفاقه. وسنظل نتابع مآثره وآثاره، ولن تظل المجموعة اليتيمة يتيمة، فطبعتها الجديدة تضم ثلاث قصائد مضافة لسعيد، ثلاث شارات له، ثلاث شارات إلينا.

سعدي يوسف
30/12/1986

اقرأ المزيد

السؤال البرلماني بين الحق الدستوري وقيود اللائحة الداخلية

ينصّ دســتور مملكــة البحريــن في المادة (91) على أن “لكل عضو من أعضاء مجلس الشورى أو مجلس النواب أنْ يوجِّه إلى الوزراء أسئلة مكتوبة لاستيضاح الأمور الدَّاخلة في اختصاصاتهم. وللسائل من أعضاء مجلس النواب وحده حقُّ التعقيب مرة واحدة على الإجابة، فإنْ أضاف الوزير جديداً تجَدَّد حقُّ العضو في التعقيب. ولا تكون الإجابة على أسئلة أعضاء مجلس الشورى إلا مكتوبة.
والسؤال هو أحد الأدوات الرقابية التي تكفل لعضو السلطة التشريعية القيام بمهامه في ممارسة دوره الرقـابي علـى أداء السـلطة التنفيذيـة، وذلك عن طريق: التزوّد بالمعلومــات والإحصائيات والاطلاع على الأسباب والإجراءات التي اتخذتها مختلف الاجهزة التنفيذية، كما تُمكن النائب من مراقبة أداء السلطة التنفيذية في تنفيذ الدستور وتطبيق القوانين. وقد تساهم في التقدم باقتراحات لتعديلات تشريعية في القوانين لمواكبة التحديات والتطورات التي تتطلبها مسيرة العمل العام في البلد.

وقد نظّمت اللائحة الداخلية لمجلس النواب آلية استخدام هذا الحق وشروطه وهو ما نصت عليه المواد ما بين (133 الى 143) في الفرع الثاني من اللائحة، والتي تضمنت العديد من الشروط، ومنها ما يمكن اعتباره مقيداً لصلاحيات النواب.

والجدير بالذكر أن بعض هذه القيود كانت في أصل القانون، أي منذ صدوره بمرسوم عام 2002 في المادة (143)، وبعضها صدر في تعديلات بمراسيم وافق عليها مجلس النواب بالمرسوم بقانون رقم 49 لسنة 2018 والذي جاء ليضيف قيوداً على صلاحيات النواب.

أولاً: ما نصت عليه المادة (143) (يسقط السؤال بزوال صفة مقدمه، أو من وجه إليه، أو بانتهاء دور الانعقاد الذى قدم السؤال خلال ).

لقد نتج عما نصّت عليه المادة (143) في الفقرة الأخيرة، بسقوط السؤال بانتهاء دور الانعقاد المقدم فيه السؤال، سقوط عدد كبير من أسئلة النواب في الأدوار والفصول التشريعية المتعاقبة، وصلت نسبته في الفصول الأربعة السابقة إلى ما يفوق 40% من مجموع الأسئلة المقدّمة، وذلك إما بسبب انتهاء الدور وعدم الاجابة عليه، وذلك بنسبة 12.5 % من مجموع الاسئلة المقدمة، أو أنه تمت الإجابة عليها إلا أنها لم تعرض في الجلسة، وهي بنسبة 30%، مما أدى إلى الانتقاص من حقّ النواب في استخدام حقهم في التعقيب على الوزير المختص بما قد يضيف أو يسلط الضوء على نقص في الإجابة أو عدم تطابقها مع ما لدى النائب من معلومات أو حقائق وهو ما تثبته الاحصائية عن الفصول التشريعية الأربعة السابقة.
احصائية لوضعية الأسئلة البرلمانية المقدمة من أعضاء مجلس النواب منذ الفصل التشريعي الأول حتى نهاية الفصل الرابع

وضعية الأسئلة البرلمانية ف1 ف2 ف3 ف4 مجموع الفصول النسبة المئوية النسبة المئوية 2
تمّ الرد ونظر في الجلسة 246 220 278 252 996 45.5 49.5
اكتفاء النائب بالرد 0 7 18 23 48 2.2
اجابة الوزير شفاهة 4 12 14 9 39 1.8
تمّ الرد ولم ينظر في الجلسة 98 289 96 154 637 29.1 50.5
تمّ الرد بعد انقضاء الدور 0 4 2 0 6 0.3
عدم اختصاص 6 16 23 19 64 2.9
لم يحن موعد الانتهاء 0 0 0 14 14 0.6
انتهت الفترة ولم يتم الرد 0 0 0 9 9 0.4
ارجاع السؤال لتحديد الموضوع 0 2 6 4 12 0.5
ارجاع السؤال لوجود الموضوع في لجنة 1 1 1 0 3 0.1
تمّ الرد بوجود مخالفة قانونية 1 1 0 0 2 0.1
سقط بانتهاء الدور 31 120 43 80 274 12.5
عالق 0 0 0 3 3 0.1
سقط بالتعديل الوزاري 12 0 35 0 47 2.1
سحب 0 13 3 6 22 1
سقط بزوال صفة مقدمة 0 0 14 0 14 0.6
مجموع الأسئلة 399 685 533 573 2190

هذا بالإضافة إلى أنها تعطي الوزراء إمكانية التخلص من عدد كبير من هذه الأسئلة، خاصة تلك الأسئلة التي يتم توجيهها في الأشهر التي تسبق رفع الدور التشريعي، وبذلك ينتقص من عدد الاسئلة المقدمة من النواب، رغم أن هذه الأسئلة تتعلق بالصالح العام، وهذا لا نجد له مبرراً.
فالمعمول به في معظم البرلمانات في العالم هو بقاء الأسئلة التي لم تتم الإجابه عنها إلى دور الانعقاد التالي، وهو كذلك متبع في دول شقيقة، كمجلس الأمة الكويتي، والمجلس الوطني الاتحادي الإماراتي على سبيل المثال. هذا بالإضافة إلى البرلمانات المتقدمة في الممارسات الديمقراطية
ثانياً: ما نص عليه التعديل في المادة (134): والذي أقره مجلس النواب في جلسته رقم 22 في الدور الأول من الفصل التشريعي الخامس والمنعقدة بتاريخ 14 مايو 2019، حيث أضاف شروطاً جديدةً للشروط الواجب توفرها في السؤال، وبما يمثل قيوداً على السؤال البرلماني وتضيقاً على إمكانية استخدامه كأداة رقابة، حيث حصر موضوع السؤال بوقت تحديد الواقعة في الفصل التشريعي الحالي دون سابقه، حتى وإن كان من يتولى المسؤولية الوزير نفسه ما لم يكن موضوع السؤال مستمراً خلال الفصل التشريعي الحالي، وكذلك حصر تقدير صلاحية السؤال بهيئة المكتب، وبذلك يتم تفويت إمكانية احتكام العضو للمجلس ككل، وتغليب دور هيئة المكتب على الجلسة العامة في هذا الجانب.

اقرأ المزيد