المنشور

تحالفات التقدمي راسخة أساسها الاستقلال الفكري والتنظيمي



تقديم : 


 يعد موضوع التحالف السياسي للمنبر التقدمي مع غيره من القوى السياسية المعارضة في البحرين من أكثر الموضوعات تعقيدا وحساسية في نضاله الإستراتيجي من أجل العدالة الاجتماعية بمفهومها الطبقي الواسع ، ومن اجل التحول الديمقراطي نحو الملكية الدستورية ، فهذا النضال يحتاج الى دقة متناهية في تشخيص الواقع السياسي الموضوعي الملموس الذي يعمل في اطاره التقدمي باعتباره حزبا يتبنى الفكر العلمي الجدلي . وهذا الفكر هو في جذوره وأسسه يؤكد ويشدد على ضرورة اقامة التحالف وتجنب الانعزال. إذ يعد التحالف هنا أداة رئيسية لابد منها لعملية التغيير نحو تحقيق الأهداف الإستراتيجية الذي يناضل التقدمي من أجلها .

غير أن المنهج المادي الجدلي يؤكد على أن أقامة مثل هذا التحالف يجب أن يأخذ في الحسبان بشكل موضوعي مجموع العلاقات بين جميع الطبقات في المجتمع وبالتالي حسبان الحساب للدرجة الموضوعية لتطور هذا المجتمع ذلك أن وجود أحزاب سياسية مختلفة ومتنافسة يكمن أساسا في البنية الاقتصادية للمجتمع ، فتظهر الاحزاب السياسية الى حيز الوجود وتجتذب الدعم وتواصل وظيفتها كممثلة لمصالح طبقية ، وإن التحليل الطبقي الدقيق لمجتمع البحرين سيجعل من المنبر التقدمي قادرا على تشخيص القوى المؤيدة والقوى المضادة وبالتالي التحديد الصحيح لامكانيات التعاون مع هذه القوى او تلك واقامة التحالف معها على هذا الاساس.

غير إن الموضوع هنا لا يتعلق بتحالف المنبر التقدمي الاجتماعي الطبقي الذي يقوم على أساس الاهداف والمصالح الطبقية بهدف تحقيق مكاسب جديدة لصالح القوى الطبقية المتحالفة بل يتعلق بتحالفه السياسي الذي تشترطه الوقائع والمهام الفعلية في اللحظة التاريخية المحددة .
 
تنسيق فاعل ومشاركة واقعية

وقد شارك المنبر التقدمي منذ التأسيس في التنسيق السداسي بين القوى السياسية المعارضة ، وبفعالية في مشتركات القضايا الوطنية ،أبرزها ملف التعديلات الدستورية ، وقدم وثيقة لتعديل الدستور مرتبطة بواقع الفصل التشريعي الأول ، كما شارك المنبر في الملفات المتعلقة بحقوق الإنسان  برؤية نقدية متقدمة لقانون الجمعيات السياسية ، وقانون التجمعات والمسيرات ، وشاركها في ملف التجنيس وقضايا التعذيب والعدالة الانتقالية ، وملفات أخري يتشارك في طرحها وأن اختلف أحيانا مع القوى السياسية في أساليب النضال من اجل معالجتها ، وكان هو من أطلق فكرة مؤتمر الحوار الأول بين جميع القوى السياسية في البحرين واستمراريته في مؤتمر الحوار الأول ، وصاغ ووقع على العديد من البيانات المشتركة للأحداث التي كان تعصف بالوطن وفي الفعاليات والندوات المتعلقة بهذه الأحداث .

كما شارك المنبر التقدمي في التحرك الذي شهدته البحرين منذ الرابع عشر من فبراير 2011، بقرار ديمقراطي صدر من  للجنة المركزية في اجتماعها المنعقد بتاريخ 15/2/2011  من منطلق كما جاء في القرار وفي وثيقة المراجعة النقدية (  الالتزام بالمطالب المشروعة في الملكية الدستورية، في إطار الشرعية الدستورية والقانونية، وبالحقوق المعيشية للمواطنين والتي كانت عناوين هذا التحرك في البداية، وانسجام هذه المطالب مع أهدافنا ومطالبنا السياسية التي ينص عليها نظامنا الأساسي وبرنامج عملنا ) .
 
وكان التقدمي يرى كما ورد في وثيقة المراجعة النقدية  ( إن فرصة سانحة قد نشأت في البلاد للدفع بإصلاحات سياسية ودستورية جذرية، تحت زخم التحرك الشعبي والمتغيرات في المحيط العربي .. ، ولكن هذه الفرصة أعاقتها عوامل عدة، في مقدمتها الذهنية الأمنية التي تعاملت مع المطالبات الشعبية منذ بدء انطلاقها في 14 فبراير الماضي بروح القمع والتنكيل بالمحتجين، وأدت إلى سقوط عدد من الضحايا والجرحى مما دفع بالأمر نحو التأزم، وعدم إبداء الجمعيات السياسية المعارضة للمرونة الضرورية في التعاطي مع جهود ولي العهد لإطلاق حوار وطني بعد تكليفه بذلك من قبل جلالة الملك، وتفاعل الأحداث بعد ذلك حتى تحولت القضية الى ورقة تجاذب إقليمي وحتى دولي، وبلغ الأمر ذروته بالخط التصعيدي لبعض الفئات المنخرطة في هذا التحرك، والتي طرحت في مرحلة لاحقة منه شعارات اسقاط النظام، التي تبناها ما عرف ب”الائتلاف من أجل الجمهورية وقد أكد المنبر التقدمي في إطار المواقف الجماعية للجمعيات السياسية او في الاتصالات التي أجراها قادته مع الأطراف المتشددة في المعارضة على موقفه بضرورة التمسك بالمواقف التي اتفقت عليها المعارضة، وعدم دفع الأمور نحو التصعيد من خلال بعض الفعاليات أو الشعارات، مما أدى إلى إضعاف وتشتيت الجهود الموجهة نحو الإصلاح الذي كنا نرى أنه كان ممكنا وواقعياً. )
 
نقد ذاتي في وثيقة ملزمة

ولعل المنبر التقدمي هو التنظيم الوحيد من بين القوى السياسية الذي مارس النقد والنقد الذاتي وبشجاعة لمشاركته في أحداث فبراير ، إذ أشارت وثيقة المراجعة النقدية بوضوح إلى أن ( المنبر قد أخطأ في عدم الإعلان عن موقفه هذا للرأي العام وللمجتمع في بيان مستقل ليكون على بينة من موقفنا، ومن الجهود التي بذلناها ضد التصعيد الذي بلغه التحرك حتى لو كان هذا الموقف سيثير حفيظة المشاركين في التحرك المذكور والمعتصمين في الدوار، وسيشتت الموقف الموحد للمعارضة ، حيث لم يكن كافياً أن يذود المنبر عن موقفه في إطار اللقاءات والاتصالات، والمساهمة في الجهود التي بُذلت لمنع التصعيد ) .
 
وقد أقر المؤتمر العام هذه الوثيقة وصادق عليها وأصبحت من قرارات المؤتمر الملزمة للجنة المركزية ومكتبها السياسي التي يتعين التقيد بها ، وهي وثيقة هامة ، تجعل بالإضافة إلى أحكام النظام الداخلي ، وما رسمه البرنامج السياسي من نهج ومبادئ وأهداف ، كافية للمحافظة على هوية التقدمي واستقلاله التنظيمي والفكري ، وتجعل من المخاوف بأن يتحول التقدمي ( إلى المعسكر الطائفي الذي تقوده جمعية الوفاق أو يكون عبدالنبي سلمان امتداد لفكر هذه الجمعية ) هي تخاريف متهالكة لا محل لها على الإطلاق ، فليس من يحدد سياسية التقدمي ويرسمها فرد أو مجموعة الأفراد ، أو يحددها الحياء أو الخجل ، أو عاطفة التهاني والتبريكات ومن يقرأ محاضر اجتماعات اللجنة المركزية والمكتب السياسي ، وبياناته المتعددة من مجمل القضايا الوطنية يجد إلى اي مدى كان التقدمي واضحا وواقعيا في اتخاذ القرار ، وليس في مقدور اللجنة المركزية الراهنة أن تحييد عن قرارات المؤتمر العام باعتباره السلطة العليا و ليس في مقدورها أيضا أن تحييد عن أهداف ومبادئ وهوية المنبر التقدمي التي أكد ونص عليها برنامجه السياسي .
 
التقدمي ملك لجميع أعضاءه

وإذا كنا نقدر ونحترم كل رفيق كان قد قدم استقالته من عضوية المنبر أو من اللجنة المركزية على خلفية موقف المنبر من أحداث فبراير ، أو على خلفية نتائج انتخاب اللجنة المركزية في المؤتمر العام السادس ، فانه لا يصح على الإطلاق وصف هؤلاء بالانتهازية أو بأنهم يمينيون ومتآمرون وهدفهم النيل من كيان المنبر ، لكنه في نفس الوقت لا يصح التهويل من هذه الاستقالات كما فعلت جريدة الأيام في صفحتها الأولى وفي بعض المقالات . كما لا يجوز وصفها بأنها استقالات ( باطلة ) ، كما وصفها كاتب مقال ( درس في بناء الحزب ) الذي نتفق معه على أنه ( من الجنون بمكان أن يتخلى الجسد عن احد أعضائه. إن الحزب الثوري ملك للأعضاء الثوريين.. ملك للطبقة العاملة الثورية.. وليس ملكا لفلان وعلان أو ملكا لأمينه العام! ) ، غير أن المستقيلين هم أول من يعلم تمام العلم إن المنبر التقدمي منذ التأسيس وحتى اللحظة  لم يكن ملكا لفلان أو ملكا للامين العام ، كما نتفق معه بأن ( على الذين قدموا استقالاتهم من حزبهم الثوري ( أن يعودوا إلى صفوف حزبهم …. ) وان ( إصلاح الخلل لا يأتي من خارج الحزب وبالاستقالة.. وإنما العمل داخل الحزب بتعزيز إرادته التقدمية الديمقراطية العلمانية ووحدته على طريق الوطنية والأممية ونبذ الطائفية … ) غير أن على مقدم هذه النصيحة الثورية إن كان جادا في بناء الحزب ، أن يترك عنه خرافة الاعتقاد بأن المنبر التقدمي كان أو سيكون رهينة لأجندة ولاية الفقيه.. أو الارتزاق على فتات مائدة جمعية الوفاق الإسلامية… إذ لم يعد يصدق المنبريون هذه الخرافة المجترة ، اجترارا متكررا لدرجة التقزز.
 
نعم كنا ننشد توافقا في توزيع المسئوليات في اللجنة المركزية وفي المكتب السياسي ، غير انه من المؤسف له أن نتحدث ونتحاور كفرقين منقسمين في تنظيم عريق قدم الكثير من التضحيات من أجل الوطن ، انقسام يؤدى إلى الاستقالة ، ولعل وجود  هذا الانقسام مرده ليست فقط أحداث فبراير ، أو طاولة انتخابات اللجنة المركزية ، أو خلاف فكري ، فهذه ما هي إلا نتائج لأسباب قديمة عاشها التنظيم خلال العمل السري ومنها أسباب شخصية عكست بظلالها خلال العمل العلني بدء من مؤتمر اللجنة التحضيرية لعقد المؤتمر التأسيسي للمنبر ، مرورا بالمؤتمرات التالية حتى المؤتمر العام  الأخير ، وكاتب هذا المقال عايش وعاين تلك اللوبيات والاصطفافات بين بعض الرفاق في المنبر ، وهو واقع يشتد ويتعاظم بالذات عند عقد المؤتمرات العامة ، وللأسف أصبح ذلك كالعرف العام ترسخ وتغذت به الشبيبة ، وهو عرف سيء نال وأثــّر على البنية التنظيمية لحزب كان يتعين أن يحظى بصلابة وحدته الداخلية .

 
ترسيخ ثقافة المركزية الديمقراطية

وللخروج من هذا الواقع ، فأن مسائل عدة يتعين التمسك بها ونحسب أن أبرزها و أهمها هي ترسيخ ثقافة المركزية الديمقراطية في التنظيم ، هذه الثقافة التي لم نستطع أن نتعلمها وأن نطبقها في ظروف واقعنا العلني ، وهو ما أغفله وتجاهله كاتب مقال ( درس في بناء الحزب )  رغم إنها من أهم الأسس التنظيمية التي لا تقوم  ولا تنمو و لا تتطور الأحزاب التي تتبنى الفكر العلمي الجدلي إلا بها ،والمركزية الديمقراطية  تعني في مفهومها الواسع   :
 
·       تشكيل كافة هيئات الحزب بالانتخاب من أدنى هيئة من الهيئات إلى أعلى البناء التّنظِيمِيّ.
·        ممارسة الرقابة الحزبية من أدنى إلى أعلى ومن أعلى إلى أدنى.
·        التزام الهيئات الدنيا بقرارات الهيئات العليا المنتخبة والتزام كافة منظمات الحزب بقرارات المؤتمر الوطني العام، وبقرارات اللجنة المركزية في الفترة بين المؤتمرين.
·        التزام الأقلية برأي الأغلبية مع ضمان حق الأقلية في التعبير عن رأيها وأن تناضل لتحقيقه من خلال الهيئات والأطر والقنوات التنظيمية والمؤتمرات.
·        الجماعية في القيادة وفي اتخاذ القرار والمسؤولية الفردية في التنفيذ.
·        تقديم التقارير الدورية من العضو لهيئته، ومن كل هيئة للهيئات الأعلى.
·        انتهاج أسلوب النقد والنقد الذاتي
 
ولا يشد النظام الأساسي للمنبر التقدمي عن هذا المفهوم للمركزية الديمقراطية ، فقد نص عليها بوضوح في هذا النظام ، وعلى الرغم أن البعض من اللذين أصابهم اليأس بانهيار النموذج الاشتراكي وتنظيمه اللينيني يرى أن مبدأ المركزية الديمقراطية بات من الماضي نتيجة لهذا الانهيار غير إن هذا الرأي لا تسانده الممارسة. وقد كشفت تجربة المنبر التقدمي في الحياة السياسية العلنية أهمية مبدأ المركزية الديمقراطية لصون وحدته الداخلية ، ليس على مستوى هيئاته القيادية فحسب بل على مستوى أعضاءه في الهيئات القاعدية والقطاعية ، إذ على الرفيق الحزبي المناضل بمجرد قبوله عضوا في المنبر التقدمي أن يقبل بضرورة التقيد بمبدأ المركزية الديمقراطية ، وعليه أيضاً أن يقبل بالآليات التي تضع القرارات موضع التنفيذ. وهذا لا يعني الانتقاص من آرائه أو اقتراحاته، أو من آراء ومبادرة الجماهير، بل بالعكس هذا يعزز من مناخ الديمقراطية ، وتنوع الآراء، وزيادة الثقة بالتنظيم الذي انتمى إليه ، ولا يعني ذلك أيضا قيام مركزية دون ديمقراطية ، غير أن الديمقراطية في عمل الحزب تعتمد على تحديد الحرية الفردية لصالح القرارات التي تتخذها الأغلبية، يعني، لا يمكن أن تُنفذ الديمقراطية بدون مركزية. ذلك أن تقييد حرية الفرد ضمن الجماعة هي سمة الديمقراطية.
 
 ولا يعني هذا المبدأ أيضاً، الانقياد المركزي الأعمى وراء القيادة. بل يعني صحة ممارسة المبدأ، وحق الرأي الآخر في المبادرة والاعتراض والمحاسبة ضد أي هيئة أو أي مسئول ، واللجوء إلى كل وسائل النظام الداخلي لتبيان الأخطاء أو المخالفات، مع الحفاظ على مبدأ النقد والنقد الذاتي. وذلك كله يتم فقط في إطار الهيئات والأحكام التي نص عليها النظام الداخلي ، ولا يتم في أطار الاستقالات أو الابتعاد عن المشاركة في هيئات التقدمي وأنشطته .
 
والمركزية الديمقراطية، ليست مجرد صيغة تنظيمية انتقائية، أو مبدأ حديدي، بل هو مبدأ ضروري في حزب ثوري يخوض صراعاً طبقياً مريراً وشاقاً ضد الطائفية للخروج من الأزمة الراهنة ومن أجل العدالة الاجتماعية وتحول ديمقراطي حقيقي .
 
قراءة الواقع

كما تأتي قراءة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البحرين ، وواقع القوى السياسية ، قراءة تأخذ في الحسبان الدرجة الموضوعية لتطور هذا المجتمع ، مهمة عاجلة للقيادة الجديدة بمشاركة كافة الأعضاء ، كي نصل بهذه القراءة لتحديد موقفنا من مجمل القضايا الشاخصة في مجتمع البحرين ومن الأزمة السياسية التي يمر بها ، ومن تحالفات المنبر التقدمي مع غيره من القوى السياسية . وهي المهمة التي أكد عليها الرفيق حميد خنجي في مداخلته القيمة في اللقاء الداخلي ، وهي تحتاج لفعل التنفيذ دون تأخير .

 

اقرأ المزيد

الفلـــول


الثورات التي عرفها التاريخ، الناجزة منها أو التي تعثرت بفعل الاختلال في توازن القوى وعدم نضوج شروطها، تميزت بالمحتوى الانساني وفلسفة العدالة والانقلاب على الظلم السياسي والاجتماعي، وبالمفكرين والشعراء والرومانسيين الحالمين في مجتمع عادل تتحقق فيه حرية الانسان وكرامته ويتساوى فيه المواطنون أمام القانون. هي سمة الثورات البرجوازية والاشتراكية وتلك التي قامت ضد الاقطاع والانظمة الدكتاتورية على حد سواء، مما اعطى فكرة الثورة هذه الهالة التي تصل أحيانا الى درجة القدسية ويصبح روادها رمزا لملايين الناس الطامحين للحرية والعدالة الاجتماعية والسياسية. هي الثورات التي حملت أهدافا وبرامجَ لبناء نظم جديدة على أنقاض القديم وحملت مبادئ وقيماً أكثر تقدمية مما سبقتها.
 
نبحث هنا عن شيء من هذه السمات في التطورات العربية من حيث المحتوى الفكري التغييري ومن حيث المكون القيادي المبدع والانسان فلا نرى الا شعارات وغضب ومطالب عادلة وحفنة من الشعراء المبدعين من صلب الكادحين تُردد أشعارهم أغان تصدح بها أصوات بعض المغنين من الشباب في الميادين وقد تلمست حريتها بعد أن كانت تسجيلات على أشرطة يتداولها الناس سرا وفي الغرف المغلقة.
 
ما أجمعت عليه قوى «الربيع» هو إسقاط النظام ” الشعب يريد… “، ولكن ماذا يريد هذا الشعب بعد إسقاط النظام؟ ما هي برامج هؤلاء الناطقين باسم الشعب وما هو النظام السياسي والاقتصادي والاخلاقي الذي سيقوم بعد سقوط النظام؟ من هي القوة التي تتولى ادارة اسقاط النظام ومن ثم ادارة المرحلة الانتقالية عبورا الى النظام الجديد؟ من هي العقول التي تحتضن فكر التجديد وفلسفته وتنير الطريق امام الجماهير وتنقلها من حالة الهيجان الى العمل البناء؟ خلت جميع الانتفاضات في المنطقة من الفكر والمفكرين والبرامج الثورية.
 
والاحزاب التي تأسست وناضلت للوصول الى هذه اللحظة الثورية بقيت عاجزة وجرفها تيار الشعبوية فطغى شعار الاسقاط على أية شعارات أخرى ولما تنحى حسني مبارك تحت ضربات «الشعب يريد…»، تسلحت قوى الحراك بشعار اسقاط آخر وهو «يسقط يسقط حكم العسكر» وحين اقترب موعد انسحاب المجلس العسكري بتسليم السلطة الى الرئيس المنتخب ظهر شعار «الشعب يريد اسقاط الفلول»، والشعب في دوامة التجمعات والهتافات والدولة على حافة الانهيار ودعاة الخلافة والدولة الدينية يتهيأون للسلطة على صهوة الحراك الشعبي الذي لازال بعد أكثر من عام جسدا بلا رأس.
 
حين تفتقد الثورة أو أي حراك ثوري الى الفكر والبرامج والقيادة الواعية تتحول الى حالة هيجان تدميرية كردّة فعل على الظلم والفقر والاستبداد وتسود روح الانتقام ويُسترخص الدم لتتشكل بيئة خصبة لجماعات الاقصاء والتكفير وعصابات المال والطامحين الى الثروة والسلطة وأجهزة الاستخبارات الأجنبية بأذرع مدنية, ويزج بالمجتمع الى التناحر الطائفي والفئوي ويصبح كل فرد عدوا للآخر تحت شعار «الاجتثاث».
 
ولما كانت تطورات «الربيع العربي» لم تؤد الى حسم عملية التغيير وافتقدت البرامج الوطنية والقيادات الجامعة فإن القوى التي وصلت الى السلطة أو تكاد لجأت الى ازاحة خصومها السياسيين بما تهيأ لها من حيلة وقوة لعل ابرزها مصادرة حقوق الآخر ونفيه وتصفيته، فكان شعار الاجتثاث والعزل سلاحا يشهر في وجه كل من يخالف أصحابه. في الوضع الطبيعي تؤسس الثورة لحكم جديد بارادة الشعب الحرة في صناديق الاقتراع دون الحجر على أحد إلا من ارتكب جرائم ضد الشعب من خلال محاكمة عادلة تتوفر فيها كافة الضمانات القانونية.
 
في واقعنا المؤلم أصبح القانون أول ضحايا «الثوار» والعدالة مشانق تعرض في الميادين وخناجر يردى بها الأسرى والمخطوفون في ثورات «التحرير». وحين تسنى الامساك بالسلطة قذفت في وجه المعارضين قوانين الاجتثاث والعزل و” قوائم العار”، وهي ليست اختراعا «ربيعيا» فحقوق الملكية تعود للديمقراطي الفذّ بول برايمر مؤلف قانون «اجتثاث البعث» في العراق. هذا القانون الذي هلل له البعض ولا يزال مسؤولا عن عمليات التصفية والطرد من الوظيفة ومصادرة المنازل وتشريد الملايين خارج الوطن. لقد طالت الحملة آلاف المواطنين العراقيين من كبار الضباط الى صغار الموظفين ليحل محلهم ابناء التنظيمات الطائفية والميليشياوية والوصوليون ومن أفسد الحياة السياسية، و ليرمى بآلاف العاطلين الى أحضان الارهاب والاجرام. هو الفكر الاقصائي الذي ينخر السياسيين العراقيين على امتداد بلاد الرافدين.
 
وفي مصر أقر الاخوان والسلف في البرلمان الذي هيمنوا عليه، قبل أن تحله المحكمة الدستورية، قانون العزل السياسي الذي فُصّل خصيصا للمرشح أحمد شفيق المنافس الاقوى والاشرس للاخوان. هو ذات القانون الذي أقرته الحكومة الليبية لتجريم «تمجيد القذافي» الذي صب الزيت على الحرب القبلية المشتعلة في عموم ليبيا «الديمقراطية «, وتم إلغاؤه لاحقاً.
 
القوى التي تسن قوانين العزل والاجتثاث والتي تشرّع للقمع والاضطهاد وتتجاوز الدساتير والقوانين إنما تدوس على أهم المبادئ الثورية ألا وهي العدالة وسيادة القانون، وتحول الضحية الى جلاد وتكرس نظاماً قمعياً تقوده قوى تدّعي الحرية والتغيير. ونحن هنا لا نجادل في أمر حل الأحزاب التي كانت وعاءً وغطاءً للطغاة وإنما نجادل في ثورية هؤلاء الذين جاءوا الى السلطة أو هم في الطريق اليهـــا تــحت شعار التغيير ومدى التزامهم بالقيم الثورية والانسانية.
 

اقرأ المزيد

القراءات التأشيرية والقراءات التهويمية


استمعت مؤخرا لحوار أجرته احدى المحطات الاذاعية الأجنبية الناطقة بالعربية مع نخبة من الخبراء السياسيين المصريين على هامش استعدادات مصر لخوض الجولة الأولى من أول انتخابات رئاسية مصرية تُجرى بعد تنحية الرئيس السابق حسني مبارك. وقد تم تكريس الوقت المخصص للبرنامج لاستعراض ومقارنة ثلاثة عهود من الحكم تعاقبت على مصر منذ اطاحة الملكية في عام 1952..عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وعهد الرئيس الراحل أنور السادات وعهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، ومحاولة عقد مقارنة بين العهود الثلاثة، وما الذي يمكن أن يخبئه العهد الرابع القادم لمصر في ضوء ما انتهت اليه تداعيات الأحداث منذ “الخروج الشعبي الكبير” من خيارات انتخابية، وترتيبا تنموية مصيرية، سوف ترسي في نهايتها على أحدها الذي سيؤسس للعهد المصري الجديد أو الجمهورية الرابعة ان شئتم (اسقاطا على تسميات العهود الرئاسية في فرنسا).
 
ومع ان المقارنات كانت معقولة في تقييماتها للمظاهر المعروفة لما أنتجه كل عهد من العهود الثلاثة، الا ان مداخلة أحد المشاركين في الحوار هي التي كانت لافتة، ربما بسبب اصرار صاحبها على اسلوب تقرير “الحقائق” دون مساءلتها وتكرار ذات العبارات التقريرية المقررة بصورة حاسمة بأن الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر لم يكن يملك مشروعا بقدر ما كانت لديه طموحات!
 
وكان يمكن لهذا القول التقريري القاطع أن يكون مقنعا لو أن مردده قد أقرنه بقرائن ثبوتية، أما وقد اكتفى صاحبه بترديده باصرار عجيب، فهو لا يعدو أن يكون كلاما مرسلا ليس له ما يسنده لا من الواقع ولا من زاوية المنهاج العلمي في تقصي الظواهر والحالات والمواضيع المدروسة وتحليلها.
 
والحال ان التقييم كان شخصيا أكثر منه تقييما لتجربة تنموية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية امتد بها العمر في الحكم ثمانية عشر عاما. وحتى مع التسليم بالطابع الفردي للحكم الناصري، فان التقييم الشخصي في هذه الحالة سوف يصبح مقبولا ومعقولا جدا لو أن المقيِّم تحرى الموضوعية في استعراض ايجابيات الشخصية محل التقييم بجانب سلبياتها وليس اللجوء للتعسف في بناء الموقف الرغائبي المسبق والذي لم يكن خلوا من الكيد بالمطلق.
 
على أية حال، لندع هذا جانبا ونحاول البحث عن اجابة على السؤال البالغ الأهمية والتي تستزيدها أهميةً، الأحداث التي تغلي بها الساحة المصرية منذ فجر العام الماضي، وهو: هل كان لدى جمال عبدالناصر ما يمكن ان نطلق عليه، ليس اعتباطا وانما علميا، مشروعا يمكن الاستدلال عليه وعلى أوجه تجليه؟
 
أعز الله وأمد في عمرك يا أستاذنا الفاضل علي الشيراوي، البحريني والعربي القومي الأصيل، فلقد كنت باخلاصك وتفانيك الوطني كمدرس لنا في مادة التاريخ، سببا في تشكيل وعينا الخام وفهمنا لتاريخ أمتنا الحديث بكل ايجابياته وسلبياته وبضمنه المبادىء أو الأهداف الاساسية لثورة 23 يوليو التي فجرتها مجموعة من الشباب الغاضب في الجيش المصري على فساد مؤسسة الحكم الملكي توافقت فيما بينها وشكلت تنظيما سريا أطلقوت عليه تنظيم الضباط الأحرار، والأهداف كما نتذكرها الى اليوم هي: القضاء على الاقطاع، القضاء على الاستعمار، القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، اقامة حياة ديمقراطية سليمة، اقامة جيش وطني قوي، اقامة عدالة اجتماعية.
 
وكما هو واضح، فان أولئك الضباط الشباب لم يكونوا سُذّجا ولا مجرد مغامرين اعتباطيين مغرر بهم عندما خططوا ورسموا ونفذوا تحركهم للاستيلاء على الحكم. ومع ان أهدافهم تلك لم تكن عادية بالمطلق وانما انطوت على فعل وتحول ثوري جذري في البنى التقليدية السياسية والاقتصادية وموازين القوى الاجتماعية والثقافية في مصر، الا انهم استطاعوا بشجاعتهم واقدامهم ان ينفذوها بنسبة 70% تقريبا. وهذه هي المؤشرات الكمية والنوعية، اعتبارا بأن أي عملية، مهما كان نوعها، غير قابلة للقياس، لا يمكن الاعتداد بصحتها سوى بالكلام المرسل لا على التعيين:
 
-         اجلاء قوات الاحتلال البريطاني من مصر، وامتلاك القائد الحقيقي للثورة وزعيمها المتوج فيما بعد، وهو جمال عبدالناصر، من جرأة تحويل مسار وصناعة التاريخ ما أهله للتقدم لانهاء سيطرة رأس المال البريطاني والفرنسي على أهم مرفق مائي في العالم وأكثرها حيوية واستراتيجية من الناحيتين الاقتصادية والأمنية ونعني بذلك قناة السويس، واعادة ملكيتها الكاملة لأول مرة منذ أن حفرتها سواعد المصريين، الى  الحيازة المصرية الخالصة، وهو ما أدى الى قيام بريطانيا وفرنسا ومعهما اسرائيل لشن عدوان 1956 على مصر الذي لم يسفر سوى عن تثبيت سيادة مصر النهائية على مرفقها المائي. واليوم فان قناة السويس تشكل ثاني أهم مصدر من مصادر ايرادات الخزينة المصرية بعد الهيدروكربون (الغاز الطبيعي أساسا) بايرادات بلغ اجماليها في عام 2011 5.22 مليار دولار بزيادة حوالي نصف مليار عن عام 2010 وفقا لرئيس مجلس ادارة القناة أحمد فاضل (وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية 15/1/2012). ولك أن تقارن من زاوية اقتصاديات التكاليف بين هذا الايراد المالي ذي المصدر المتجدد والمستدام (Renewable and sustainable financial revenue) وبين اجمالي التحويلات المالية السنوية للعمال المصريين في الخارج الى بلادهم والمقدرة بحوالي 7.8 مليار دولار! وانه حتى لو استبعدنا الكلفة الباهظة جدا لحصد هذا الايراد ببيع قوة عمل ضخمة جدا قوامها حوالي 2.7 مليون مهاجر مصري (احصاء 2009)، فانه لابد من التوضيح بأن هذا الايراد لا يدخل خزينة الدولة ولا يشكل جزءاً ثابتا ومضمونا منها على عكس دخل القناة، ولكن مع الاستدراك أيضا بأن تحويلات العاملين في الخارج تشكل ركيزة أساسية لدعم ميزان مدفوعات الدولة.
-          
-         اصدار قانون الاصلاح الزراعي في 9 سبتمبر/أيلول 1952، حيث تم بموجبه تأميم أراضي كبار الاقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين. ويندرج في هذا الاطار القرار الذي لا يقل جرأة واقداما عن قرار استعادة مصر لملكيتها الكاملة على مرفق قناة السويس، والذي اتخذه جمال عبدالناصر ورفاقه في مجلس قيادة الثورة، وهو المتعلق بالسير قدما في انشاء سد أسوان العالي أو السد العالي بمساعدة 400 خبيرا من الاتحاد السوفييتي والذي شطب ثلث قيمة هذا المشروع التنموي الاستراتيجي الحيوي التي بلغت مليار دولار، بعد رفض البنك الدولي تمويل المشروع. وبخلاف زيادته للرقعة الزراعية أفقيا ورأسيا وتمكينه القطاع الفلاحي المصري من زراعة محاصيل أكثر وبواقع ثلاث زرعات كل سنة نتيجة توفيره المياه، ومساهمته في زيادة طاقة توليد الكهرباء للاقتصاد المصري، فقد عمل السد على حماية مصر من الفيضانات والجفاف أيضا نتيجة لتقليل بحيرة ناصر من اندفاع مياه الفيضان وتخزينها عوضا عن ذلك للاستفادة منها في سنوات الجفاف.
-          
-         تعميم التعليم المجاني الذي استفادت منه الطبقات الفقيرة في المجتمع المصري، وهو ما أسهم في خلق مئات آلاف الكوادر التي تنعم بها مصر اليوم في جميع حقول العلم والمعرفة تقريبا.
 
-         وللحديث صلة   -أان
 

اقرأ المزيد

تسويات لا مفر منها


جرى التعارف على وصف ما شهده العالم العربي ويشهده منذ أكثر من عام بالربيع العربي، وهو تعبير يحمل شحنة ايجابية وتفاؤلية عالية، لم يبرهن الواقع، حتى اللحظة على الأقل، انها كانت في محلها تماماً بالنظر إلى ما انطوت عليه التغييرات من تعقيدات، وما حملته، وهذا هو الأخطر، من مؤشرات من أن يكون الحمل الذي ظنناه واعداً ليس كذلك، مع تزايد الخشية من أن تحملنا هذه التغييرات إلى الوراء، بدل أن تفتح لنا أبواباً نحو المستقبل.
 
مع ذلك لن نميل للتشاؤم المطلق، وسنفضل هنا التفاؤل الحذر، أو التشاؤل وفق التعبير الذي اجترحه الراحل إميل حبيبي، فنقول ان طريق التغيير في العالم العربي ليست معبدة، وانه في غياب الثقافة الديمقراطية بعد عقود الاستبداد والفساد الطويلة سنمر بمرحلة انتقالية صعبة، علينا تحمل تبعاتها، من اجل أن تنجلي عما هو أفضل، ولكن من أجل تحويل هذا التشاؤل إلى تفاؤل حقيقي، بدل أن يتبدد ويصبح تشاؤما مطلقاً ثمة موجبات لا مناص من إلإقدام عليها.
 
ونحن ننطلق هنا من امرين، أولهما أن التغييرات التي شهدتها بلدان عربية معينة، انحصرت، في الكثير من الحالات في تغيير الوجوه، لا في تغيير السياسات، وان ميزان القوى لم يحسم في غالبية هذه البلدان لصالح القوى التي دعت إلى التغيير وضحت من أجله، فهذا الميزان، في أحسن حالاته، ما زال في حال من التساوي بينها وبين القوى الاجتماعية والسياسية التي كانت تمسك بكافة مفاصل السلطة، ونقول أن هذا في أحسن الحالات، لأنه في حالات أخرى ما زال هذا الميزان مختلاً لصالح تلك القوى الأخيرة، وهذا يعني انه في ظل التوازن الدقيق الناشئ لا بد من توفر الاستعداد للقبول بتسويات وصيغ توفيقية، توفر على هذه البلدان مخاطر الاحتراب الأهلي والانقسامات المجتمعية الحادة التي قد تمزقها، وهدف هذا النوع من التسويات هو الحفاظ على الكيان الوطني للدولة، لأن في تصدع هذا الكيان أو انهياره، لا قدر الله، انهيار للوطن والمجتمع لا يرضاه أي مخلص.
 
أما الأمر الثاني الذي منه ننطلق فيتمحور في حقيقة ان ظروف الانقسام المجتمعي، االذي تمظهر في صور مذهبية وطائفية في البلدان التي تشهد حراكاً سياسيا بلغ في بعض صوره حد الأزمة الوطنية الشاملة، جعل من قوى التغيير موزعة على أكثر من معسكر، ففي ظرف مثل الظرف السوري، على سبيل المثال، لا يصح تبسيط الأمور باعتبار المعارضة محصورة في القوى المناوئة للنظام بحمل السلاح ضده مثلاً، فشرائح معارضة اخرى أيضاً تدعو للتفريق بين معارضة النظام وحق السوريين في حكم ديمقراطي وبين استباحة سوريا للتدخل الأجنبي وتعريض الكيان الوطني للدولة للانهيار.
 
لذا نلحظ في الساحة العربية خطابين: أحدهما يعيد إنتاج الأزمة ويؤجج مناخاتها لتبقى بيئة التوتر سائدة في المجتمع، يراوح في مداراتها وغير قادر على تجاوزها، وخطاب يدعو لتجاوز هذه الأزمة، من خلال التوقف عند الأخطاء، والعمل في سبيل تصحيحها، عبر آلية حوار وطني شامل يستوعب الأطراف الفاعلة في المجتمع، القادرة على أن تكون شريكاً في إخراج البلدان المأزومة من أزمتها.

اقرأ المزيد

وداعاً لمرحلة %99.9


كتبنا هنا غير مرة عن وجهة نظرنا في التطورات السياسية في مصر، وعن المخرجات المتوقعة للعملية الانتخابية هناك. هذه المخرجات لم تعد متوقعة، وانما باتت واقعاً باعلان فوز الدكتور محمد مرسي رئيسا للجمهورية، ولسنا هنا في وارد الحديث عن دلالات ذلك، فهو امر جرى الحديث حوله كثيراً، ولكننا بصدد التوقف عند النسبة المئوية التي فاز بها مرسي، وعن تلك التي نالها منافسه الفريق أحمد شفيق، فبالكاد تجاوزت أصوات الرئيس المنتخب نسبة 51%، من مجموع المقترعين، مما جعل الفارق بينه وبين منافسه محدوداً للغاية.
 
هي المرة الأولى في تاريخ مصر الحديثة التي يُعلن فيها عن فوز رئيس للجمهورية بمثل هذه النسبة، بعد أن تعودنا خلال عقود على نتائج باعثة على السخرية، حين يعلن عن فوز الرئيس بنسبة لا تقل عن 99,9%، والحق اننا لم نكن في غالب الأحوال إزاء انتخابات، تتنافس فيها الأحزاب والقوى السياسية على تقديم مرشحين وبرامج تتوجه الى الناخبين طالبة منحها ثقتهم، إنما بصدد استفتاءات صورية، لا يذهب اليها إلا القلة من الناخبين، لأن الجميع يعرف النتيجة سلفاً، وعلى ثقة تامة من أن ذهابه أو عدم ذهابه لمراكز الاقتراع لن يغير شيئاً من النتيجة.
 
لم يكن هذا داء مصر وحدها، وانما هو داء مُعمم عربياً، ففي كل بلدان الحزب الواحد، سار الأمر على هذا المنوال، واستمرأ الحكام ذلك، فأدخلونا في حقبة لا نظير لها في أي بقعة من بقاع العالم، هي حقبة الجمهوريات الوراثية، فلم يعد الرئيس يكتفي بولايته المؤبدة، وانما بات يخطط لتوريث الحكم لابنه أيضاً، وفي الحالة السورية جرى استدعاء أعضاء مجلس الشعب عن بكرة أبيهم ليغيروا مادة في الدستور، لتفصل على مقاس بشار الأسد الذي لم يكن قد بلغ الأربعين لحظة الموت المفاجئ لوالده، فصوت نواب الشعب بالاجماع وبدون اعتراض حتى ولو بصوت واحد، قبل أن يوارى جثمان الرئيس المتوفى الثرى.
 
مثل هذا السيناريو كان مرسوماً له أن يتكرر في مصر مع جمال حسني مبارك، وفي ليبيا مع سيف الاسلام معمر القذافي، وفي اليمن مع أحمد علي عبدالله صالح، ولكن لمصر كان فضل الريادة في منع تعميم هذا الفصل الأكثر سخرية في النظام «الجمهوري» العربي، حين أطاحت ثورة 25 يناير بالرئيس السابق حسني مبارك، ومعه أطاحت بأحلام التوريث التي استحوذت على اذهان الحلقة المحيطة بالرئيس من صناع القرار، ومن المستفيدين والمتمصلحين من بقاء الأمور على ما هي عليه.
 
لقد طويت هذه الصفحة للأبد، أو هكذا نأمل لأن الشعوب العربية لن تسمح بعودتها، ونأمل أن تُطوى إلى الأبد أيضاً مرحلة الـ 99.9% في التصويت بنعم على الرئيس، وأن تشهد مصر وسواها من البلدان المعنية انتخابات رئاسية كل أربع سنوات، تضمن فيها الشفافية والنزاهة، تؤسس لمبدأ تداول السلطة، وتحدد رئاسة الجمهورية بولايتين فقط، لا يجوز بعدهما للرئيس إعادة ترشيح نفسه.

 الأمل أن تكون القاعدة الأولى على هذا الطريق الطويل قد أُرسيت.
 

اقرأ المزيد

نتضامن مع ضحايا التعذيب وأسرهم ونطالب بالتعويض والإنصاف – بان كي مون


بعد مرور خمسة وعشرين عاماً على بدء نفاذ اتفاقية مناهضة التعذيب، لاتزال هذه الممارسة القاسية واللا إنسانية واسعة الانتشار.
 
وفي كل يوم، يتعرض الأفراد، نساءً ورجالاً وأطفالاً، للتعذيب أو سوء المعاملة بقصد تدمير شعورهم بالكرامة وبقيمتهم الإنسانية. وفي بعض الحالات، يكون ذلك جزءًا من سياسة متعمدة للدولة ترمي إلى زرع الخوف وترويع سكانها.
 
وفي بلدان كثيرة للغاية، تُقابَل مطالب الناس المشروعة بالحرية وحقوق الإنسان بالقمع الوحشي. وحتى حينما تتغير الأنظمة، كثيراً ما يستمر التعذيب وتبقى ثقافة الإفلات من العقاب.
 
وبمناسبة هذا اليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب، نعبِّر عن تضامننا وعن دعمنا لمئات الآلاف من ضحايا التعذيب وأفراد أسرهم في أنحاء العالم ممن يتحملون هذه المعاناة.
 
ونشير أيضاً إلى التزام الدول لا بمنع التعذيب فحسب وإنما أيضاً بتزويد جميع ضحايا التعذيب بسبل الانتصاف والتعويض وخدمات إعادة التأهيل الاجتماعي والنفسي والطبي وغيرها من أشكال إعادة التأهيل الملائمة على نحو فعال وعاجل. والآن فإن كلاً من الجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان قد حث الدول بقوة على إنشاء ودعم مراكز أو مرافق إعادة التأهيل.
 
ويدعم صندوق الأمم المتحدة للتبرعات لضحايا التعذيب مئات المنظمات والهيئات التي تمد يد العون لضحايا التعذيب وأفراد أسرهم في جميع مناطق العالم. بيد أن الصندوق شهد انخفاضاً ملحوظاً في المساهمات المقدّمة له على مدى السنتين الماضيتين.
 
وإنني لأشجّع بقوة الدول على عكس هذا الاتجاه على الرغم من تقلب الأوضاع المالية العالمية في الوقت الراهن. وعن طريق الدعم الملموس لضحايا التعذيب، سيثبت المجتمع الدولي عزمه الأكيد والتزامه القاطع بمكافحة التعذيب والإفلات من العقاب.
 
 
صحيفة الوسط البحرينية –

 الكاتب: بان كي مون

 26 يونيو 2012م

اقرأ المزيد

من أجل مصالحة وطنية حقة


هل يمكن الحديث عن مصالحة وطنية تجمع فئات المجتمع مرة أخرى دون الدخول في دهاليز السياسة التي أصبحت كسد منيع تمنع تسرب أي مشاعر إنسانية يكنها بعضنا للآخر؟

إلى أي مدى يمكن أن يصل الخلاف بين البحرينيين، وما هي الخيارات المتاحة أمام الناس؟ وهل صحيح أن الغالبية العظمى من الفئتين لا ترضى بالحوار الوطني الذي قد يشكل مخرجاً من الأزمة الحالية؟

لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة الصعبة بشيء من اليقين، ولكن من المؤكد وجود متطرفين، يبذلون كل ما بوسعهم لمنع أي تقارب وغلق الباب أمام أية مبادرة، بحيث يتم تسقيط وتخوين كل من يدعو إلى الحوار أو المصالحة الوطنية، حتى وإن كان من قيادات الموالاة.

ومع ما يراه البعض من أن أي حلٍّ للأزمة لابد أن يبدأ بحل الشق السياسي، وأن جميع الخلافات الأخرى يمكن أن تحل متى ما تم التوصل إلى اتفاق حول الإصلاحات الدستورية، إلا أنني أرى أن التقارب بين فئات الشعب البحريني يمكن أن يلقى الكثير من النجاح، لو ترك الناس على طبيعتهم وعلاقاتهم الإنسانية، دون أن تتم تغذيتهم بشكل يومي بشحنات من الكره والكذب والتحريض، دون أن يتم الحديث باسمهم وتوجيههم نحو العداء للآخر.

ولنتصور هل سيصل الوضع إلى هذه الدرجة من تفشي العنف وتعليق المشانق والهجوم على المحلات التجارية، لو كان الخطاب الإعلامي مختلفاً عمّا كان عليه، وهل ستصل حالة العداء المتبادلة لهذا الحد لو كان الإعلام منصفاً ونزيهاً وأميناً على نقل الواقع كما هو دون تزييف أو تحريف، ودون أن ينصب نفسه مدعياً عامّاً وقاضياً ومنفّذاً للعقوبات؟

لقد نجح البعض في تحويل الحراك الشعبي إلى معركة طائفية، واستطاع بذلك تجاوز الاستحقاقات، ولكنه خلق مشكلة أكبر بكثير من هذه الاستحقاقات، حين أطلق مارد الطائفية وشجّع انقسام المجتمع على نفسه.

للأسف فإن استمرار الأزمة لأكثر من 15 شهراً دون وجود أفق للحل، جعل منها معركة لكسر العظم بين المعارضة والحكومة من جهة وبين المعارضة والموالاة من جهة ثانية، ومع ما تملكه هذه الأطراف من مراكز قوى تجعلها في منافسة الأضداد، فإنه من المستبعد غلبة أي منها بشكل تام على المدى المنظور، وكل ما سينتج عن هذه المعركة هو المزيد من الضحايا، إن لم يتم تحكيم العقل، والقبول بالحوار والمصالحة الوطنية.
 

صحيفة الوسط البحرينية – 26 يونيو 2012م

اقرأ المزيد

الفرد مخفور للجماعة


في نظام السجون في الصين قاعدة تعرف باسم «السجين الحر»، فكرتها نابعة من أن إدارات السجون تختار من بين السجناء الذين يقضون أحكام الأشغال الشاقة أكثرهم نشاطاً وهمة في إنجاز الأشغال الموكلة إليه لتكافئه بأن تجعل منه مراقباً على بقية السجناء وهم ينفذون هذه الأعمال.
 
يبدو هذا التعبير المركب الذي صاغه الصينيون عن السجين الحر تعبير طريف. فالحرية نقيض السجن، ولا يمكن للإنسان أن يكون طليقاً طالما لا يزال ينفذ عقوبة السجن حتى لو سمي حراً. على الرغم من ذلك فإن السجان، سواء أكان في الصين أم في سواها من البلدان، إنما يشتغل وهو يطبق هذه الفكرة على جانب سايكولوجي مهم. انه يداعب لدى السجين المعني شهوة الحرية وشهوة السلطة في آن. فوضعه كمراقب لزملائه يتيح له هامشاً من الحرية ليس متاحاً لهم، حتى لو كان يقضي الليل معهم في الزنزانة ذاتها، أما شهوة السلطة فتكمن في ما يمارسه من نفوذ على الآخرين، حتى لو كانوا زملاءه ورفاقه، وهي ممارسة ترضي في نفسه غروراً ما.
 
لكن تعبير «السجين الحر» ليس طريفاً فحسب، وإنما هو تعبير عميق أيضاً لأنه يحثنا على التأمل في أوضاع الطلقاء من الناس، لنرى ما إذا كانوا حقاً أحراراً، أم انهم خاضعون لعبودية لا تقل صرامة وقسوة عن تلك القيود المفروضة على السجين. وهذا يذكرنا بتلك الأطروحة النافذة لهربرت ماركوز التي صاغها بين نهاية الستينات ومطالع السبعينات من القرن الماضي عن «الإنسان ذي البعد الواحد» الذي هو نتاج الأنظمة الشمولية، وإذا كانت الحياة نفسها قد حكمت على التجربة الشمولية بالفشل، لأنها بين أسباب عديدة، لم تحترم حق الإنسان في الحرية، فإن تجربة البلدان التي تصنف بأنها ديمقراطية وحرة، هي ليست كذلك تماماً، فاطلاق العنان لعفريت السوق أن يحكم المجتمعات قد أخضع الانسان لمنطق الآلة، حيث بات هذا الإنسان امتداداً لها وليس العكس، كما يجب أن يكون. كأن هذه المجتمعات أطلقت طاقات جبارة، الكثير منها شرير، خرجت عن مقدرة الإنسان على التحكم فيها، فمجتمع الإنسان ذي البعد الواحد هو مجتمع قمعي ولكن في صورة جديدة، حيث تؤدي وفرة البضائع وإمكانات الإنتاج الضخم وكذلك الـتأثير المهول لوسائل الاعلام الحديث ووسائط الإتصال الى جعل سيطرة المجتمع على أفراده أكبر وأشد مما سبق، وتأخذ هذه السيطرة شكل الاحتواء العقلي والغريزي للفرد الذي يصبح مخفوراً للجماعة، مسلوب الارادة أمام سطوة نفوذها الذي يتغلغل في الثنايا وأدق التفاصيل التي قد لا تكون مرئية بالعين المجردة، وربما هنا بالذات يكمن المصدر الأهم لخطورتها.
 

اقرأ المزيد

الكتلة الثالثة الغائبة


ليست مجريات الأمور في مصر، خاصة بعد الاستقطاب الثنائي في دور الإعادة للانتخابات الرئاسية بين الفريق أحمد شفيق ومرشح الاخوان المسلمين محمد مرسي، هي ما كشف عن عمق المأزق الناجم عن غياب الكتلة الثالثة، كتلة التوازن بين تطرفين، ولكنها دفعت بتجليات هذه الأزمة إلى الصدارة، وأظهرت ما نجم عن عدم حضورها، موحدة وفعالة ومؤثرة، من أسوأ الأثر ليس على مستقبل العملية السياسية في مصر وحدها، وانما في العالم العربي برمته، وهو يشهد هذا المخاض التغييري، في مرحلة حاسمة من تاريخنا.
 
أفراد ومكونات هذه الكتلة موجودة في المجتمع، وهي كتلة تملك قاعدة اجتماعية واسعة، لو جرت تعبئتها بصورة فعالة، ولكنها موجودة فقط على شكل قوة كامنة، بسبب تشتتها وعجزها في توحيد صفوفها في إطار جامع، وهو أمر أدى إلى شل اخفاقها في أن تكون نداً لطرفي الاستقطاب الحاد الناشىء في غير بلد عربي.
 
فأحداث مصر الأخيرة، ومسار الانتخابات الرئاسية فيها دفعت بقطاعات واسعة من المصريين، احتجاجاً على ما اعتبروه «ديكتاتورية الخيارين»، إلى اللجوء إلى واحدٍ من أمرين: مقاطعة الانتخابات أو إبطال الصوت. تنوعت خيارات هذا القطاع فى الجولة الأولى للانتخابات، فمجموعة منهم ذهبت إلى حمدين أو خالد علي أو العوا، لكن جميعهم اتفقوا على إبطال الصوت أو عدم الذهاب للصناديق فى الجولة الثانية. وحسب جريدة «المصري اليوم» في تقريرٍ لها بهذا الخصوص فان «مواطنين بسطاء أصحاب ورش وسائقو تاكسى وباعة، أو نشطاء سياسيين معروفين على وسائل التواصل الاجتماعى رفضوا جميعاً الاختيار بين ما وصفوه بـ” السيء ” و” الأسوأ “، مُقررين انتظار فوز واحد من الاثنين، للدخول فى جولات معارضة سلمية قوية ضده، مؤكدين أن خطأ ما حدث فى الانتخابات وهو اللعب بشروط النظام السابق نفسها، وهو ما أفرز فى النهاية خيار هذا النظام: أنا أو الإخوان المسلمون، مُوضحين أن مصر بعد الثورة كانت تستحق اختياراً مدنياً لا عسكريا وألا يستخدم الدين فى ألعاب السياسة».
 
لكن لا المقاطعة ولا إبطال الصوت أثَّرا في النتائج النهائية، وهما وإن كانا تعبيراً عن موقف احتجاجي جدير بالتنويه، لأنه يعكس مقدار خيبة الأمل في الأمور، بعد المسار الذي اليه إندفعت، ألا انهما لم يخرجا بالاستقطاب الثنائي من إطاره، فباتت الأصوات الهائلة لهذه الكتلة الثالثة، التي قد تكون هي الأكبر في المجتمع، أصواتا مُهدرة، لم تجرِ الاستفادة منها في عملٍ ملموس، يؤدي الى خرق المسار المرسوم من اللاعبين الكبيرين: المجلس العسكري والأخوان.
 
أزمة مصر السياسية الراهنة هي التعبير الأكثر وُضوحا ودرامية عن غياب الكتلة الثالثة، الرافضة للاستبداد القديم، وللشمولية التي تنطوي عليها برامج الكثير من القوى الاسلامية في لحظة صعودها الراهن، وهي أزمة تتجلى في مختلف بلدان العالم العربي بنسبٍ تزيد أو تنقص، وبتجليات تتفاوت، قوة أو ضعفاً، بين بلد عربي وآخر، لا تظهر في لحظات التغيير الحاسمة فحسب، وانما في ظروف التطور المعتادة أيضاً، لتظل كابحاً جدياً بوجه أي اختراق جذري، حاسم، للمنظومة المهيمنة، التي تغير جلدها، لكنها هي نفسها لا تتغير.
 
 

اقرأ المزيد

مســــارات الأزمــــة


هناك مساران لأزمتنا الوطنية فإما الانفلات والتشرذم وتمزيق الوطن أو التأسيس لانطلاقة جديدة تحمي المجتمع وكيان الدولة وتضع البلاد على طريق الانفراج وتحقيق الطموحات المشروعة للشعب. لا زلنا نثق في قدرة أبناء هذا الوطن على احتواء أزمتهم والاصطفاف مجددا في النضال المشترك والمشروع من أجل تعميق الوحدة الوطنية وصيانتها وفي سبيل تعزيز الديمقراطية واستئصال الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية.
 
ليست لأية فئة او قوى داخل السلطة أو خارجها، باستثناء أصحاب المصالح الضيقة، في استمرار الأزمة والاحتقان الطائفي ونزعة العنف التي تغذيها بعض الجهات والأقلام وبعض الفضائيات، فامتداد الأزمة يعمق الفرز الطائفي ويغذي العنف والعنف المضاد وثقافته، فضلا عن الأضرار السياسية والاقتصادية وانكشاف الوطن أمام المخاطر الخارجية من كل صوب. ليس أمام الجميع من مخرج سوى الحوار الوطني الشامل بأطرافه وموضوعاته، دون شروط مسبقة وبدون محرمات أيضا. هذه السفينة ملك للجميع ولا بد من التوافق على مسارها ووجهة رسوها. لا خلاف على أن الأزمة سياسية بامتياز ولكن التعاطي معها لم يكن سياسيا على الدوام، إذ طغى التأزيم والعنف والمعالجة الأمنية والتهويل على حساب المعالجة السياسية الموزونة المستندة الى قراءة واقعية لطبيعة المجتمع والتوازنات السياسية والاجتماعية، وللبعد الإقليمي وصراعات القوى الكبرى واستراتيجياتها. وكان لما سمي بالربيع العربي أثره البالغ في خلق الأوهام التي لا تزال تهيمن على عقول البعض حول الثورة والإسقاط بما حجب الرؤية عن التفريق بين الممكن والمستحيل، بين متطلبات المرحلة الوطنية وسيرورة التطور الاجتماعي الطبيعي.
 
من هنا فإن انعكاسات المواجهة السياسية كانت وخيمة على النسيج الاجتماعي وسهلت على القوى الطائفية أن تنتعش وتستقطب الشارع تحت مظلتها في إطار مذهبي إقصائي، ووظفت المنابر الدينية لتحقيق مآربها الآنية والبعيدة وبعضها اليوم يضع شروطه للحوار والتي تؤدي في الواقع الى اجهاضه. لقد انعكس الخلاف السياسي اختلافا بين المكونات الطائفية في العائلة الواحدة ومواقع العمل ومؤسسات المجتمع المدني والقوى السياسية على اختلاف انتماءاتها الفكرية وداخل القطاعات الاقتصادية وهيئاتها. لم ينج اطار اجتماعي أو سياسي من لوثة الطائفية ونزعة الإقصاء، ولم يعد المشكل السياسي وحده يتطلب المعالجة الناجعة فالمشكل الاجتماعي يستصرخ المعالجة كونه يشكل قاعدة البناء السياسي وهدفه.
 
ضمن المساعي الوطنية المجتمعية للخروج من الحالة المرَضية التي أصابتنا ننوه الى مبادرة تشكيل «المؤسسة البحرينية للمصالحة والحوار المدني» التي أعلن عنها الأستاذ سهيل القصيبي بتاريخ  13 يونيو الجاري. تأتي أهمية هذا المشروع من كونه تلمّّس عمق الجرح وانطلق من مجرد التشخيص الى الاسهام في جهود المعالجة الحقيقية. وهي مبادرة لا تدعي الحل السياسي لانها حصرت مهامها أساسا في «الوصول الى التوافق الاجتماعي، وتحقيق التجانس بين جميع الطوائف، وتسهيل تبادل الأفكار بين أطياف المجتمع، بهدف التشجيع على المصالحة الوطنية والحوار المدني» وفي المدى البعيد «مواجهة التحديات الاجتماعية المتعددة التي تواجه البحرين».
 
وتطرح المؤسسة كما أوضح القصيبي برنامج عمل متنوع يخدم أهداف المؤسسة الخيرة التي نؤيدها ونعتقد بأنها ستلقى الترحيب والمعاضدة من كل الحريصين على وحدة الوطن وتماسك المجتمع بالتوازي مع كافة المبادرات الأخرى. وما يبرر هذا التقييم الايجابي والمتفائل كون المبادرة تحظى بدعم ومباركة ولي العهد صاحب المبادرة المعروفة والتي لا نفهم كيف يكرر البعض رفضها كأرضية للحوار بحجة أن «الزمن قد تغير».
 
هذه فرصة أخرى ينبغي عدم تفويتها وهي تتلاقى مع بعض التسريبات الأجنبية والمحلية عن توجه يزداد ترسخا لدى كافة الأطراف بضرورة الحوار الجاد غير المشروط إذ لا خيار أمام الوطن اليوم غير الصمود والانتصار.
 

اقرأ المزيد