المنشور

شروط الاستقرار لم تعد محض محلية



يشكل
الاستقرار الهدف الأول الذي تعمل حكومات العالم أجمع على تأمينه بشكل ناجز
غير متقطع ، من أجل أن يتفرغ المجتمع وينصرف بكليته نحو العمل المنتج.
الحديث هنا لا يدور حول الاستقرار المطلق ، فمثل هذا الاستقرار صعب المنال
حتى في أكثر المجتمعات مثالية في الانسجام والوئام المجتمعي والتوافق
البديع بين مختلف مستويات سلطات صنع القرار. الاستقرار المقصود إذاً،
وبصورة منطقية وموضوعية ، هو الاستقرار ما فوق النسبي المتمتع بقدر كبير من
الاستدامة والسيادة.


ذلك أنه حتى في كنف حالات الاستقرار التي تنعم بها عديد البلدان
المتقدمة والأخرى الصاعدة، بفضل توصلها إلى المقاربة المطلوبة والناجعة
للمواءمة بين دولة الحقوق ودولة الواجبات لدى أفراد مجتمعاتها ، فإن الأمر
لا يخلو من حوادث منعزلة أو حتى متوالية التضخم، ولكن بفاصل زمني محدود ،
تقطع سيرورة هذا الاستقرار النسبي ، من قبيل الإضرابات الجزئية أو العامة
أو التظاهرات المحدودة أو المتسعة النطاق ، أو اندلاع أعمال عصيان وشغب
وتخريب قد تمتد لفترة زمنية محدودة وإلى مناطق خارج نطاق أماكن اندلاعها أو
قد تقصر زماناً ومكاناً.


فما طبيعة الاستقرار الذي تنشده كافة الدول
والمجتمعات دونما نجاح ناجز في مطاولته حتى أضحى في ضوء القلاقل والتصدعات
والنوازل التي تحيق اليوم بمجتمعات عالمنا المعاصر، بمثابة السلعة الثمينة
النادرة التي يعز الحصول عليها؟.. وما سبل ووسائل التمكين من بلوغ مناه
والإمساك به برفق غير متفلت؟


هو، على ما نزعم، مجموعة من المكونات التي
تنتظم مداره وتدور في فلكه بدقة متوازية مع دقة وحساسية وتعقيد العلاقات
البشرية بفعل الضغط الهائل والتكالب على موارد حيزها الجغرافي. وهذه
المكونات هي في الحقيقة عبارة عن سلة الشروط الواجب توافرها لبلوغ غاية
الاستقرار، تماماً كما هي على سبيل المثال التقريبي، المكونات الشرطية التي
يستلزم توفرها للحكم على طبيعة مناخ الاستثمار السائد في بلد ما والتي تضم
مجموعة مؤشرات قياسية أساسية ، إما أن تزكي أو أن تنزع صفة الإيجابية في
المناخ الاستثماري السائد في البلد محل التقييم. 


هذه الاشتراطات أو المقومات تتمحور بصورة كلية حول بند أساسي عريض
عنوانه «انتفاء أو إزالة أو تحييد بؤر التوتر بين كافة مكونات الدولة
والمجتمع». ومع أن استهداف هذه الغاية هو من صميم وظائف الدولة وأجهزتها
الفاعلة، إلا أن الدولة وحدها لا تستطيع القيام بها وتحمل ثقل أعبائها
وأوزارها وحدها. فهي، كما ترون، مهمة صعبة في غاية التعقيد النابع أصلاً من
تعقيدات نوازع النفس البشرية التي ما انفكت تطارد فرائس طموحاتها
وتطلعاتها، المشروعة منها، والجامحة المخلّة بموازين المكنونات الذاتية،
والأخرى غير المشروعة. فالمسألة بحاجة إلى جهد ثقافي تراكمي جبار يخفف من
وطأة هذه النوازع الباعثة على التضاد والصراع ، ويؤصل ويشيع فضيلة القناعة
في الثقافة الشعبية. وكل هذا بموازاة إدارة حصيفة وعادلة للموارد وتوزيع
منصف لعصارة الجهد التنموي الكلي المتمثل في إجمالي الناتج المحلي. 


ومع
ذلك سوف نسارع ها هنا للتقرير بأن الدولة، حتى لو اهتدت وتوفقت قيادتها
الحصيفة لمكونات هذه المعادلة الدقيقة المؤمِّنة للاستقرار النسبي إياه،
فإنها وبرغم ذلك لن تكون قد انتهت من مهمتها. ذلك أنها لو استدارت قليلاً
وتلفت حولها فستجد أن بانتظارها اشتراطات أخرى خارجية يتعين تأمينها هي
الأخرى.


هذه الاعتبارات المطلوب تأمينها هي الأخرى، تماماً بنفس أهمية
وضرورة تأمين الاشتراطات المحلية ، هي عبارة عن التحصل على «قبول عام أو
عدم ممانعة»، للمسار السياسي/ الاقتصادي/ الاجتماعي الذي وقع عليه الاختيار
لتأمين الاستقرار المستدام المنشود. 


فالقوى الإقليمية والدولية النافذة في فضاء العلاقات الدولية، تملك من
النفوذ والأدوات المحلية المستقوية بدعم الخارج لتعزيز تموضعها وموقفها
وأوراقها في الصراعات الداخلية، ما يسمح لها بإعاقة أو على الأقل التشويش
على المسار توطئة لإفشاله، سواء بصورة سافرة أو ضمنية. هنا سوف يتعين العمل
على تفادي استخدام هذه القوى لتعابير دبلوماسية ذات دلالة ، بغية إيصالها
رسائل تعبر بها عن امتعاضها أو عدم موافقتها أو عدم ارتياحها من توجه الحكم
الرشيد حتى فيما خص حق الدولة السيادي في توفير شروط استقرارها. عبارات من
قبيل «الإعراب عن القلق»، أو «الإعراب عن القلق العميق» من الخطوات التي
أقدمت عليها حكومة الدولة المعنية لتأمين معادلة استقرارها الداخلي
المستدام، أو «الإعراب عن الثقة في قدرة حكومة الدولة المعنية على العمل
بما يخدم ويحقق مصالح شعبها ويستجيب لتطلعات الأسرة الدولية»، أو «الإعراب
عن الأمل في أن تتخذ حكومة الدولة المعنية خطوات بنّاءة تحفظ السلم الأهلي
ولا تخل بالاستقرار في المنطقة».. إلخ ، من مثل هذه المفردات التي يفهمها
الوسط الدبلوماسي بما هي تعبير ملطف ومختصر عن عدم الرضا.


ذلك أن تأمين
الشروط المحلية للاستقرار المستدام من دون استكمالها باستيفاء شروطه
الخارجية، يضع مشروع الاستقرار في حالة الاستعصاء ، تماماً كما هو حال
المواقع العسكرية المكشوفة في الحروب الممتدة. فهي تبدو من الناحية النظرية
خلال فترات هدوء جبهات القتال وأخذ طرفي النزاع هدنة ضمنية ، تبدو نظرياً
ساقطة عسكرياً بالنسبة للطرف الكاشف لها، ولكنها ليست كذلك من الناحية
العملية ، نظراً لافتقارها للغطاء السياسي الخارجي، الإقليمي والدولي، الذي
يمكن أن يبدي ردة فعل سلبية تجاه اجتياحها.


ومن نافلة القول إن إدارة
الاستقرار أضحت اليوم عملية في غاية الصعوبة مع تطور عملية تجزئة وتوزيع
السلطات إلى سلطات محلية (بلدية) وسلطات تشريعية ، ومنظمات مجتمع مدني
وغيرها من مراكز القوى الصغيرة الأخرى. فلربما تطلّب الأمر، والحال هذه،
تخصيص جهاز صغير وحديث وفعّال لإدارة متطلبات الاستقرار على الصعيد الوطني،
وآخر لإدارة شقها المتعلق بالصعيد الدولي، وثالث لإدارة متطلباته على
الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، بحيث تعمل هذه الأجهزة بصورة متكاملة
ومتناغمة. وفي الجهة المقابلة سوف يتطلب الأمر تحلي أطراف الصراع الكلاسيكي
على تقاسم عصارة الجهد التنموي الكلي الذي يختزله إجمالي الناتج المحلي
السنوي، بالواقعية فيما خص هذه القسمة التي تتعين استجابتها نسبياً لمبدأي
العدالة والمساواة المدبجين في المواثيق والمعاهدات الدولية. 
اقرأ المزيد

الثقافة في مجتمعات الخليج العربي من العزلة إلى النفط*


يرى طه حسين «أن جزيرة العرب تشتمل على نوعين مختلفين من الحياة العقلية: أحدهما محافظة قديمة لا تزال قوية بحكم الجهل، وانتشار الأمية، والأخرى مجددة لا تزال ناشئة بحكم الاتصال بأوروبا والبلاد الإسلامية الراقية. وسيشتد الصراع بين هذين النوعين من الحياة، ولكن النصر محقق للحياة الجديدة؛ لأن جزيرة العرب قد فتحت للحضارة الأوروبية، ولن تستطيع أن تغلق أبوابها بعد اليوم في وجه هذه الحضارة. وقد يقال: إن جزيرة العرب قد فُتحت للحضارة الإسلامية في القرون الأولى، ثم أُغلقت من دونها، فما الذي يمنع أن تُفتح للحضارة الحديثة الآن ثم تُغلق من دونها بعد حين؟ والجواب على ذلك يسير سهل: فقد كانت الحضارة الإسلامية القديمة تدخل بلاد العرب على ظهور الإبل وفي الكتب المخطوطة، أما الآن فهي تقتحم هذه البلاد بالسيارات، والبخار والتلغراف، والتلفون، والكتب المطبوعة، والصحف والمجلات، وأنّى للبادية أن تقاوم هذه القوى المختلفة؟ المستقبل إذن للحياة الجديدة لجزيرة العرب وسيكون هذا المستقبل قريباً في بعض البلاد وبعيدًا في بعضها الآخر، ولكنه سيكون على كل حال». سؤال طه حسين وجيه، لكن الحق أن البادية استطاعت أن تقاوم ذلك، والدينامية المحافظة التي أنشأتها هذه البادية، من وجهة النظر الاجتماعية والأدبية، أعادت وتعيد إنتاج هذه المقاومة، ولأن طه حسين ركزَّ بحثه على قلب الجزيرة العربية، أي الحجاز ونجد، مع إشارات متفرقة إلى أحد أطرافها، وهو اليمن، فإنه لم يدرس حقيقة أن الهيمنة البريطانية التي دامت نحو قرنين من خلال نظام الحماية على إمارات الخليج العربي، لم تؤد إلى فتح هذه الإمارات على العالم الخارجي على نحو ما فعل الفرنسيون في بلدان المغرب العربي التي أخضعوها لسيطرتهم، أو على نحو ما حدث مع الآثار الحاسمة لحملة نابليون على مصر، وإنما حرصوا من خلال ما أطلقوا عليه سياسة الإبقاء على الوضع القائم بعد التحكم في طرق المواصلات الدولية، إلى تكريس عزلة هذه المنطقة.

لذا يبدو صحيحًا القول إنه «لولا الثروة التي تحققت على إثر اكتشاف البترول لظلت منطقة الخليج والجزيرة العربية كاملة «محدودة وهامشية، ولظل مجالها محصورا في أرض قاحلة كان لطائفة ضئيلة فيها أن تغالب حياة مهددة من تلقاء ذاتها بالانطفاء أو الصمود في شظفٍ من العيش متكيفة مع قساوة قحط الصحراء» (عبد الوهاب المؤدب: أوهام الإسلام السياسي – ت: محمد بنيس والمؤلف- دار توبقال 2002) الصفحات 45 -64

إن انبثاق النفط وتصديره في منطقة الخليج سيغدوهو الانقلاب التاريخي الحاسم في فك عزلة المنطقة، بعد ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، وانفتاحها على العالم الخارجي، أخذا بعين الاعتبار أن السيطرة الاستعمارية كرست هذه العزلة وأبقتها كما هي، وسيبدو لافتاً سعي الإنجليز خلال فترة هيمنتهم المديدة إلى عزل المنطقة عن محيطها العربي خاصة؛ لأنه الأكثر قابلية للتأثير في خلق الوعي الثقافي والاجتماعي بين أبنائها، والدارسون للتاريخ الثقافي لبلدان المنطقة سيلاحظون أنه لتحقيق التفاعل مع الحواضر العربية في مصر وبلاد الشام والعراق، لجأت النخبة التجارية المتعلمة التي كانت تشتغل على تجارة اللؤلؤ في مدينة بومباي الهندية، حيث كان أفراد هذه النخبة يقيمون شهورا طويلة من السنة، جسراً ومنطلقًا للتفاعل مع المركز الثقافي العربي.

في كتابه: «رسائل الرعيل الأول من رواد اليقظة في الإمارات» يورد عبد الله الطابور نص القصيدة التي كتبها التاجر والشاعر الإماراتي إبراهيم المدفع عن مدينة «بومباي» الهندية، وهي قصيدة تشف عن مدى تعلق أبناء الخليج من الذي عاشوا هناك بتلك المدينة.
يقول المدفع: بومباي يا مرتع الغزلان من قدم/ وملتقى كل محبوب ونشوان، بومباي يا من لها في القلب منتجع/ وذكريات بها التاريخ ملآن». ويتذكر الشاعر صحبه من أبناء الخليج الذين آخاهم وصادقهم فترة إقامتهم بالمدينة: «كانت مجالسهم بالأمس عامرة/ من نخبة القوم أصحاب وإخوان، فمن دبي كذا البحرين مع قطر/ كذلك شارقة أيضاً وعجمان، كذا الكويت وبوظبي كذا عدن/ ورأس خيمة أيضاً بل وجيزان، كذا أم القواني والحسا وكذا/ من مسقط وعمان بل خرسان»..
ويصل الشاعر في تذكره وتحسره مبلغاً لا يعود بوسعه تحمله: «فمنهم من قضى في هاهنا ومضى/ ومنهمو قيل قد آوته أوطان، فقلت والدمع من غيني منهمر/ كفى كفى لا تعد للنفس أشجان».

وهذه القصيدة تكاد تقدم صورة مكثفة عما يمكن أن ندعوه نواة مجتمع خليجي مصغر في الهند في أوائل القرن العشرين، شكل قاطرة للتحديث والتطور؛ لأن أفراد هذه النواة التي اتسعت هم من قادوا مظاهر التحول الاجتماعي والثقافي في أوطانهم الخليجية وبذروا فيها بذرة الوعي الوطني.

وإلى قصيدة إبراهيم المدفع عاد الدكتور عبد الله المدني في كتابه: «معالم الدور الهندي في الخليج العربي في النصف الأول من القرن العشرين» ليستخلص أن «العزلة التي فرضتها بريطانيا على منطقة الخليج للحيلولة دون تواصل أجدادنا مع أشقائهم في دنيا العروبة، جعلت من الصعب إيجاد قنوات اتصال مستمرة ومباشرة ما بين أبناء الخليج، لكن التجار والمصلحين الخليجيين في الهند استطاعوا كسر تلك العزلة عبر إيجاد قناة اتصال غير مباشر يمر بالهند»، ويشير إلى أن الصحف والمجلات العربية الصادرة في بغداد والقاهرة ودمشق تصلهم إلى الهند من خلال اشتراكات شهرية، ثم يحولونها إلى أبنائهم وإخوتهم ومعارفهم في الخليج بواسطة المسافرين».

إن نبوءة طه حسين عن اشتداد الصراع المحتمل بين الثقافة التقليدية المحافظة والثقافة المحدثة في الجزيرة العربية تبدو صحيحة تماماً، فيما نريد أن ندعوه بتعايش الثقافتين التقليدية والحديثة في مجتمعات الخليج والجزيرة العربية، مع أن طبيعة التركيبة السكانية المعقدة في غالبية مجتمعاتنا الخليجية، قد تحملنا، في سياق آخر غير هذا، للتحدث عن تعدد في الثقافات ناجم عن تعدد الجنسيات والملل والأقوام المقيمة بين ظهرانينا، والآتية من سياقات لغوية وثقافية وحضارية أخرى، ومختلفة في الكثير من تفاصيلها عن تفاصيل مكوناتنا الثقافية والاجتماعية والتاريخية.

تجاور الثقافتين التقليدية والحديثة ليست حالة خاصة ببلداننا الخليجية، فهي ظاهرة نجد نظيراً لها في كل البلدان العربية والإسلامية بدون استثناء، لا بل في جميع البلدان النامية، مما خلق حالاً من التضاد، وأحيانا الصراع الحاد، بين الجديد والقديم في الثقافة بفعل الصدمة الناجمة عن احتكاك المجتمعات التقليدية، بعد طول عزلة، بالمؤثرات الخارجية وتحت ضغط حاجات التطور الاجتماعي والثقافي الداخلي ودينامياته.

ولا تشكل دول الخليج العربي استثناء في هذا المجال، بل لعل الأمر يتجلى هنا في أكثر صُوره فداحةً، بسبب التحول السريع والعاصف الذي أحدث خضةً نفسية واجتماعية كبيرة، فحتى عهد قريب كانت الثقافة السائدة في مجتمعات الخليج ثقافة شفاهية، وكانت رموز هذه الثقافة تستجيب لحاجات البيئة المحدودة في مجتمع كان أقرب إلى السكون منه إلى الحركة.

لم يؤد اهتمام الغزاة الأوروبيين بهذه المنطقة، مع تصاعد التنافس بين القوى الاستعمارية على مناطق النفوذ في العالم، والذي انتهى كما نعلم جميعاً بنجاح البريطانيين في فرض حمايتهم على المنطقة، والهيمنة التي امتدت مديداً عليها، إلى إنهاء ما عانته المنطقة من عزلة، دون المساس الجدي بجوهر الهياكل الاجتماعية وأنماط العيش في المنطقة، فلم يغد الهدف أكثر من استخدام هذه المنطقة رأس جسر لعملياتهم في بلدان ومناطق أخرى، ولم يكلف المستعمرون أنفسهم عناء إقامة بنية أساسية حديثة، وإدخال الخدمات التعليمية والصحية وسواها، ناهيك عن الخدمات الثقافية التي كانت في عداد الترف.

أحدثت فجئية التحولات الاقتصادية الاجتماعية وسرعة وتيرتها من الآثار على هذا الصعيد ما لم يحدث سابقاً، فخلال عقود قليلة جرى ما يشبه الانقلاب القيمي الذي نجم عنه تصدع في منظومة القيم، واندثرت الكثير من الحرف، لصالح شيوع نمط إنتاج جديد، جلب معه ثقافةً فيها الكثير من مظاهر التشوه، بوصفها في الغالب الأعم ثقافة استهلاكية تتوسل السهولة والاسترخاء والاتكالية، ومع الوقت صُدّرت صورة سلبية عن المجتمعات الخليجية بوصفها مجتمعات نشأت مع اكتشاف النفط، فيما الدراسة التاريخية تشير إلى وجود نماذج تعبيرية ثرية ومتعددة في حقول الثقافة، والحرف، والأشعار والأمثال الشعبية التي تلخص الخبرة الشعبية المديدة في الفترة السابقة لاكتشاف وتسويق النفط، وأن جزءاً كبيرًا من هذه النماذج قد اندثر، فيما يهدد الاندثار ما تبقى منها.

لذا تنشأ الحاجة الماسة إلى دراسة تاريخنا الثقافي في الخليج وتسليط الضوء على رموز هذا التاريخ ومعالمه، بيد أن مثل هذه الدراسة لن تكون ميسرة ما لم يجر تأصيل منهج البحث نفسه؛ لأن كثيراً من الكتابات في هذا المجال ما زالت تفتقد المنهجية وتميل إلى الانطباعية وأحيانًا الجمع العشوائي. وإذا كانت هذه الجهود تحقق فائدة، في أنها تيسر للباحث المادة الخام المطلوبة للدراسة، إلا أنها تظل بحاجة لأن تنتظم في نسق منهجي معرفي يدرس التاريخ من حيث هو فعالية إنسانية، ومن حيث هو حراك اجتماعي متصل، وللثقافة في هذا الحراك دور اللحمة التي تعبر عن الوجدان الشعبي العام عبر رموزها وتعابيرها المختلفة.

 *جزء من بحث مطول قيد الإعداد
 

اقرأ المزيد

صراع على الثروة لا على الدين


تُعيد الهَبَات ضد الفساد والمفسدين في العراق ولبنان وربما في غيرهما من البلدان الاعتبار للقضية الجوهرية في التناقض القائم في مجتمعاتنا، الذي هو تناقض اجتماعي بين القلة التي تستأثر بالثروات والأغلبية الساحقة من الناس المحرومة من شروط العيش الحر الكريم، وهو التناقض الذي كان في أساس انفجار الانتفاضات الشعبية فيما مضى، لكن جرى، بقدرة قادر، تحويل الأمر إلى صراعات بين المذاهب والطوائف يكون الفقراء والشباب وقوداً لها، فيما مصالح وثروات من يدعون تمثيلهم تتضاعف.

في ساحة التحرير في بغداد وفي وسط العاصمة اللبنانية يتحد المسلمون والمسيحيون، السنة والشيعة وغيرهم من ملل وأقليات، حول القضية التي وحدتهم فيما سبق ويجب أن توحدهم دائماً في أن يكونوا صفاً واحداً في العمل من أجل توزيع عادل للثروات، وبناء دول مدنية لا دينية أو طائفية وفي هذا مصدر قوة هذه الهبات، التي تبرهن أن الفساد لا دين أو مذهب له، وما يجري ليس أكثر من استخدام للأديان والمذاهب والطوائف في التمويه على جوهر الأمر، وخداع البسطاء من الناس وتخديرهم أو إلهائهم بالشعارات الدينية.

يجب نقل ساحة النقاش والعمل إلى مجالها الحيوي: فضح ومحاربة الفساد الناجم عن بقاء المسؤولين والوزراء في مناصبهم لسنوات طوال وأحياناً لعقود متوالية، ما يخلق شبكات من المنافع الراسخة العصية على الرقابة والمساءلة، ويؤدي إلى تراكم الثروات غير المشروعة ويغري بالتطاول على المال العام واستنزاف ميزانيات الدول في أعمال ومصالح خاصة.

مكافحة آفة الفساد لن تتم، بصورة جدية، إلا عندما يجري الاقتراب الفعلي من الحالات الصارخة، الكبيرة له، الممثلة في فساد قمم السلطات والحكومات، واستهداف مقومات هذا الفساد في البنى والهياكل الرئيسية في الحكومات والمجتمع، وهو ما يفعله العراقيون واللبنانيون اليوم حين يشيرون بالبنان إلى رموز النخب السياسية والمالية التي تسرق المال العام، وتفقر البلاد والعباد.

على صلة بهذا، يجب أن يكون الظرف الموضوعي الناشئ اليوم رافعة للقوى والتيارات المدنية والتقدمية التي تقاعست طويلاً عن أداء دورها، لتذود عن برامجها الاجتماعية في الدفاع عن مصالح شعوبها، والمعبرة عن شرائح المجتمعات كاملة، بديلاً لبرامج زعماء الطوائف.

ينشأ اليوم جيل عربي شاب جديد منفتح على المعرفة ووسائل الاتصال الحديثة، لكنه محبط من انسداد الأفق أمامه، يرنو إلى دور هذه القوى المدنية لتأخذ به نحو المستقبل.
 


حرر في: 25/08/2015

اقرأ المزيد

هل هي بداية نهاية المعجزة الصينية؟


في أواسط ديسمبر من العام الماضي قفزت أسعار الأسهم في البورصة الصينية خلال اسبوعين فقط بنسبة 20%. وكان ذلك استجابة من السوق لإجراءات الحكومة الصينية التي تضمنت حقن الاقتصاد بجرعة فائضة من السيولة بلغت نصف تريليون يوان (نحو 162 مليار دولار)، وخفض سعر الفائدة المصرفية اعتبارا من 21 نوفمبر/‏تشرين الثاني 2014 في إطار سياسة نقدية مرنة استنها بنك الشعب الصيني (البنك المركزي). كما أسهم تراجع جاذبية سوق العقار الصيني في توجه الصينيين للاستثمار في الأسهم، حيث سُجِّل في الأسبوع الأول من ديسمبر/‏كانون الأول الماضي افتتاح نحو 600 ألف حساب للاتجار في الأسهم، بواقع أربع مرات أكثر مما تم تسجيله في شهر يوليو/‏تموز الماضي، واقترض المستثمرون والمضاربون الجدد حوالي 900 مليار يوان لتوظيفها في تجارة الأسهم.

بالمقابل، وخلال ثلاثة أسابيع، انهارت البورصات الصينية وفقدت 30% من قيمتها حتى منتصف يونيو الماضي، ما أثار الذعر في أوساط المستثمرين الصينيين الأفراد الذين اقترضوا أموالهم للمضاربة بها في الأسهم. كما علقت مئات الشركات الصينية تعاملاتها في أسهمها المدرجة في هذه البورصات في محاولة لوقف جنون عمليات البيع (طلب حوالي 700 شركة تعليق عمليات التداول على أسهمها المدرجة). ما شرّع الباب واسعا أمام مختلف التكهنات، لاسيما في الصحافة الغربية التي تنظر إلى الصين كمنافس مذموم، ومنها أن هذا الانهيار ربما يكون مقدمة لانتشار أثره إلى بقية قطاعات الاقتصاد الصيني، ثاني اقتصاد في العالم والماكنة الضخمة المحركة للاقتصاد العالمي. مع ملاحظة أن البورصات الصينية كانت قبل هذا الانهيار ببضعة أسابيع تحلق في العالي كما لم تفعل أي بورصة في العالم، ووصلت في سبع سنوات إلى ذروتها في أواسط يونيو من العام الماضي، فيما كان الارتفاع الذي سجلته بورصة شانغهاي في 12 شهراً، قياسياً، إذ بلغت نسبته 150%.

فما الذي جرى وأدى إلى هذه «الخضة» العنيفة التي أطارت النوم من عيون تجار البورصات العالمية؟.. كثيرة هي التعليلات المبنية على تحليلات مختلفة. منها أن ما يميز البورصات الصينية عن العالمية، أن 80% من المستثمرين فيها هم من التجار الصغار (الصينيين أساسا) الذين تشجعوا برخص كلفة الاقتراض من البنوك، أي أن البورصات الصينية، أقل مؤسساتيا. ومنها ما يُنسب إلى تراجع جاذبية الاستثمار في سوق العقار الصيني بسبب اجراءات ضبط حكومية قيدت افراط البنوك في تمويل الاتجار في العقار. كما أن «لبررة» (Liberalization) التعاملات في البورصة قد جذب الكثير من الأفراد والشركات اليها، فتم خلال الستة شهور الأخيرة تسجيل رقم قياسي لشركات الأعمال المدرجة على بورصتي شنغهاي وشنزن. فيما اعتبر البعض أن الارتفاع المهول في أسعار الأسهم الصينية ليس مرده الأساسيات الاقتصادية بقدر استناده إلى زخم اللحظة وقوة الاندفاع المتحفز بإجراءات وعلائم ذات طابع إيجابي.

تدخلت السلطات الصينية من خلال شركة تمويل الأسهم الصينية (China Securityies Finance Corporation – CSFC) الممولة من قبل البنك المركزي الصيني، فقامت بشراء كميات ضخمة من أسهم الشركات الصغيرة والمتوسطة المدرجة التي تعرضت أكثر من غيرها لخسائر مالية فادحة. جاء تدخل الحكومة الصينية ليعكس حجم القلق الذي ساور ويساور القادة الصينيين الذين يجاهدون أصلاً لتفادي هبوطا ارتطاميا للاقتصاد (Hard economic landing)، أو في أقله تباطؤاً اقتصادياً حاداً (Sharper economic slowdown). وهم يعملون بكل قوة من أجل استعادة البورصات الصينية لتوازنها، لارتباط ذلك بمستقبل الاقتصاد وبمصداقية الحكومة الصينية.

الآن، هل ما حدث للبورصات الصينية مقطوع الصلة عن الماكنة الضخمة للاقتصاد الصيني؟.. واقعاً فإن المسؤولين الصينيين، بمن فيهم رئيس الحكومة لي كيكيانغ Li Keqiang الذي أشرف بصورة مباشرة على متابعة أزمة البورصة، يتفادون الحديث عن أزمة. إنما الحقيقة أن طاقة الاقتصاد الصيني على توليد النمو الانفجاري قد تراجعت (نما الاقتصاد في العام الماضي بنسبة 7.4% مقارنة بنسبة 14% في عام 2007). ومع ذلك لا يمكن استبعاد عدم وجود رابط بين الاثنين. فعندما قفزت البورصة الصينية بأكثر من 100% في عام واحد كان الاقتصاد الصيني يسجل أبطأ نمو في 6 سنوات. وقد خفضت الحكومة توقعاتها بشأن النمو لهذا العام إلى 7% فقط، هو النمو الأبطأ منذ أكثر من عشرين عاما. صحيح أن الاقتصاد الصيني ظل ينمو خلال العقود الثلاثة الماضية بمعدل وسطي نسبته 10% سنوياً، إلا أن معدل النمو الحالي لازال محل حسد معظم دول العالم لأنه لازال يعد الأعلى بين معدلات النمو العالمية. كما أن نمو الاقتصاد الصيني اليوم بطاقاته الاضافية التراكمية، يفوق في الواقع معدلات نموه قبل إضافة هذه الطاقات التراكمية، فنمو هذا العام بنسبة 7% سوف يضيف انتاجاً إلى الاجمالي أكثر ما أضافته وتيرة نمو ال 14% التي حققها الاقتصاد في عام 2007.

ولكن ما يقلق العالم مع ذلك هو التباطؤ الاقتصادي الصيني باعتباره علامة من علامات الضعف، كما تقرأها الأسواق عادة، خصوصا الأسواق القريبة من السوق الصينية.

إنما هل هذا القلق مبرر؟.. إذا كانت المحركات الثلاثة المسؤولة عن النمو في الصين على مدار السنوات الماضية، وهي العمالة الرخيصة ورأس المال (الاستثمار) والانتاجية، قد تغيرت طبيعتها، حيث وصلت قوة العمل الصينية النشطة اقتصاديا إلى ذروتها في عام 2012، والاستثمار إلى ذروته أيضا (49% من إجمالي الناتج، وهو مستوى لم تحققه سوى قلة قليلة من الدول)، فضلا عن تضاؤل الفجوة التكنولوجية بين الصين والدول المتقدمة المقرون بارتفاع كلفة العمالة، فإن من المتوقع أن يعكس ذلك نفسه على وتيرة النمو. ولكن من جهة ثانية هناك ما قد يعزز هذا القلق وهو حجم الدين العام الصيني. وهذا موضوع إشكالي كبير يستأهل إفراد مساحة لتناوله وتحليل تأثيراته المتوقعة على الاقتصاد ومنها فرص هبوطه الارتطامي.


حرر في: 23/08/2015
 

اقرأ المزيد

هَبَة ضد أمراء الطوائف


في لبنان، بعد العراق، تتخذ التحركات الاحتجاجية ضد الفساد وسرقة المال العام وتقاعس الدولة عن أداء التزاماتها عنواناً في غاية الأهمية، هو رفض سطوة زعماء الطوائف، ومنهجهم في الحكم الذي أفرز إما حكومات من لون مذهبي واحد، أو بهيمنة له، كما هي الحال في العراق، أو بمحاصصة طائفية بين وجاهات الطوائف والمتنفذين فيها، كما هي حال لبنان.

كنت أتمنى أن أضع لمقالي هذا عنوان: «أفول زمن أمراء الطوائف»، لولا أن سطوة الواقع ما زالت أقوى من الحلم، ولولا أن الحياة علمتنا ألا نفرط في تفاؤلنا وآمالنا، لكثرة ما جرت مصادرة هذه الأحلام. ورغم ذلك فإن ما يجري في العراق ولبنان، ونأمل أن تهب رياحه على بلدان عربية أخرى، يحمل في طياته نذراً مبشرة عن وعي الناس بحجم الدمار الذي أدى إليه حكم زعماء الطوائف، فالكيل قد طفح لدى هؤلاء الناس من آفات الفساد الذي تتمرغ فيه النخب المذهبية والطائفية التي عملت على تضليل الناس بالشعارات والأقنعة الدينية.

في بلد مثل العراق يسبح على بحيرة من النفط، لم تنفق هذه النخب شيئاً يذكر في إعادة تأهيل البنية التحتية المتهالكة في بلد أنهكته الحروب والحصار والطغيان، وفشلت فشلاً ذريعاً في تلبية أبسط الاحتياجات المعيشية لأبنائه، وكشفت عن عجزها في الاختبار الأهم وهو الدفاع عن الوطن وسيادة الدولة على أراضيه، فسلمته في ساعات لوحوش «داعش»، لكنها برعت في الاستحواذ على عوائد النفط وتقاسمها بين رموزها المتعطشة للثراء الفاحش السريع.

وفي لبنان يعجز زعماء المحاصصات الطائفية لأسابيع متتالية عن حل مشكلة مثل مشكلة النفايات في بيروت، التي هي واحدة من أجمل مدن الشرق، لا بل والعالم، والتي كان يضرب بها المثل في النظافة والرقي والتحضر، وفي إطار صراعهم على تقاسم الكعكة، تعمدوا إبقاء المدينة في حال يرثى لها.

في زمن سابق، كان من يصنعون الرأي العام ويؤثرون في تشكيل الوعي لدى الأفراد في الأقطار العربية، هم زعماء سياسيون وقادة لأحزاب وهيئات، تقترب وإن بمقادير مختلفة، من فكرة الحداثة والتقدم والعدالة الاجتماعية، الذين يمثلون الناس جميعاً بصرف النظر عن انتماءاتهم الطائفية والمذهبية وعلى أساس برامج وشعارات وأهداف وطنية عامة. ومحلهم يحتل صدارة المشهد السياسي اليوم أمراء الطوائف العاجزون، حتى في الدفاع عن مصالح الطوائف التي يدعون تمثيلها.


حرر في: 24/08/2015

اقرأ المزيد

قانون الحماية من العنف الأسري

 

النهوض بالمرأة يرتبط بتحررها من أسر عقلية التخلف والاستبداد والنصوص الجامدة في الدين، ولا يمكن ان تمارس المرأة دورها الحقيقي إلا في ظل حريتها وحقوقها المتساوية مع الرجل، وفي مقابل ذلك، فإذا كان هناك من يحمل المرأة مسؤولية المطالبة بحقوقها في مجتمع تسوده السلطة الذكورية، فان هذه المسؤولية تظل ناقصة ما لم يساندها الرجل المستنير ومنظمات المجتمع المدني التي لا تفرق بين حقوق المرأة والرجل، لان حقوق المرأة وكافة الحقوق في المجتمع ما لم تنسجم مع قيم الديمقراطية وحقوق الانسان فان الاستبداد والتعسف والظلم تكاليفها باهظة على المرأة والرجل وامن واستقرار المجتمع!.

وإزاء الاضطهاد والتمييز الواقع على المرأة فان المخرج الوحيد لمساواتها وانصافها على صعيد كافة مجالات الحياة يكمن في تحررها من قيود الموروثات التي كرستها التشريعات والانظمة الابوية والاصولية الاسلامية المتشددة ليس ضد المرأة فحسب بل ضد الدولة المدنية والمجتمع والثقافة التي تحترم حقوق المرأة، ويكمن ايضاً في التشريعات الحديثة المنصفة لحقوق المرأة في المجتمع وهو حجر الاساس لأي مشروع اصلاحي يهدف إلى صون الحقوق المدنية والسياسية.  

وفي هذا الشأن من الأهمية بمكان الاشادة بمبادرة جلالة الملك لاصداره قانون الحماية من العنف الاسري الذي كما تقول مستشارة الاتحاد النسائي البحريني مريم الرويعي «يأتي في وقت احوج ما تكون المرأة اليه نظراً لازدياد حالات العنف ومعاناة النساء معربة عن املها ان يكون بداية لاصدار الشق الثاني من قانون الاحوال الشخصية وايضاً تعديل قانون الجنسية البحريني بما يعطي للمرأة مواطنة كاملة اسوة بالرجل كما نص عليه دستور مملكة البحرين بحيث تستطيع ان تنقل جنسيتها إلى ابنائها مباشرة عند زواجها من غير البحريني اسوة بالرجل الذي يستطيع ان ينقل جنسيته إلى ابنائه وزوجته الاجنبية».     

نعم، ان حماية المرأة البحرينية من كافة اشكال العنف الاسري في امس الحاجة إلى مثل هذا القانون وإلى ممارسات واعية تقود إلى مراقبة تنفيذ هذا القانون الذي يعد انجازاً وانتصاراً للمرأة البحرينية التي تعاني من عنف الاسرة والمجتمع على حد سواء!.      
  
مرة أخرى نقول ان نهوض المرأة في مجتمعنا مرتبط بتحررها اجتماعياً واقتصادياً ولا يمكن ان تتقدم اية تنمية في المجتمع من دون اشراك المرأة التي هي نصف المجتمع وبالتالي نحن بحاجة إلى مراجعة لجميع القوانين والتشريعات التي لا تتوافق مع النهج الاصلاحي الديمقراطي الذي يكرس الحريات والحقوق ويحد من ممارسات كرست النظرة الدونية للمرأة «ممارسات ارتبطت بالتمييز والتهميش لدورها من خلال قوانين وقيم مرتبطة بالقرون الوسطى!.  
        
وفي مواجهة العنف الاسري وهو في نظر الباحثين والمهتمين بحماية النساء والاسرة عامة من مخاطر احد انواع العنف واهمها واخطرها، وهو أحد الجرائم الواقعة ضد الاسرة تأتي اهمية ومن مبدأ المساواة الذي يفرض حماية جميع افراد الاسرة وليس النساء من اعمال العنف – قانون حماية المرأة العنف الاسري الذي ترك صدى واسعاً في المجتمع البحريني، وهو كما يراه نواب وشوريون ومنظمات نسائية وحقوقية ومحامون خطوة مهمة على طريق استكمال المنظومة التشريعية الخاصة بالاسرة والمجتمع.    

ويعتبر مجلس الشورى «نقلاً عن احدى الصحف المحلية» ان مشروع القانون الذي يتألف من 21 مادة حدد بشكل واضح ماهية جرائم العنف الاسري وانواعها، وضمن عدم افلات المعتدي من قبضة القانون تحت مظلة الحق الشرعي بالتأديب للزوجة أو الأولاد، اذا تجاوز هذا الحق بالاعتداء الجسدي او الجنسي او النفسي الذي لا يقره الشرع ولا القانون ولا العرف السائد في المجتمع البحريني!.

في حين تقول الاختصاصية في العنف الاسري د.بنه بوزبون «ان هذا القانون الذي طال انتظاره يتوج جهوداً دؤوبة، وبما يعكس التطور الحضاري للبحرين التي بدأ فيها التعليم للرجل والمرأة قبل نحو مائة عام وعرف عن اهلها التسامح وطيب المعشر ونبذ العنف» وفي ذات السياق اشارت بوزبون إلى ان دراسات ميدانية اظهرت قرابة 30 في المائة من النساء متضررات من العنف سجلن حالاتهن لدى المجلس الأعلى للمرأة ومراكز العنف الاسري «فما بالنا بحالات العنف خلف الابواب والتي لا تجرؤ المرأة على الافصاح عنها».

وبإصدار هذا القانون نقول: مبروك للمرأة، وكل التمنيات بتحقيق مكاسب جديدة تنصف حقوق المرأة وتضمن مساواتها مع الرجل وهو لا ينفصل عن التحولات الديمقراطية المطلوب تكريسها في المجتمع.
 
الأيام   23 اغسطس 2015

اقرأ المزيد

الفساد حين يكون محنة شعوب ..!!


نستأنف الحديث عن «الفساد» فهذا الذي يجري في بعض البلدان، وتحديداً في العراق، واكرانيا، والبرازيل، يستحق التوقف ويقتضي انتباهاً وتركيزاً لعلنا نفهم ما بات يجوز الطموح اليه من مواجهات صريحة وكلام جدي في معرض الحديث عن هذا الملف، لأن اي كلام عن إصلاح او تجديد او تطوير او تحديث او ديمقراطية لن يكون له معنى او اعتبار، طالما ظل الفساد  يطل برأسه في واقع اي مجتمع، وبقي الفاسدون يتسابقون يميناً ويساراً على حنفيات المال الخفي، ويجرون وراء عمولات وامتيازات ومنافع شخصية ومقاعد ومناصب، يغتالون القيم ويضربون المعايير ويغيبون المبادئ، ويضعون الأخلاق في قفص اتهام، ويكبلون إمكانيات الفعل البناء الحقيقي ويجعلونه سلعة في سوقهم السوداء ..!!
 
من الحواري، الى الشوارع، الى الميادين الصغيرة، ثم الكبيرة خرج المواطنون في تلك البلدان يهتفون ضد الفساد، يحملون لافتات لا لسرقة اموال الشعب والوطن، داعين الى محاسبة الفاسدين مهما كان شأنهم، وحجمهم  ومقامهم، ونفوذهم، وسيرتهم، ومن كانوا محنكين باستغلال المناصب، او مدججين بالتسلط وقدرتهم على جعل  الدولة مجرد مطية، وجعلوا الفساد في كل مكان، في الفكر والتطبيق، في الهدف والأسلوب وفي السياسة والمنطق، والضمير، في أساس البناء، في المقاول والمتعهد، في الحكومة والنظام والدولة، ولهذا كان لابد من حالة استنفار، فقد ضج الناس من الفساد وسوء الادارة الحكومية، طالبوا بمحاربة فعلية للفساد والفاسدين وعدم جعل هذا مجرد طقس يضاف الى الطقوس التي تقزم او تميع او تضيع هدف محاربة الفساد الذي يجعل الأوطان والشعوب تعاني، مما لا يحتاج الى معرفة او تعريف ..!!
 
فى العراق الشقيق، انفجر الشارع العراقي، استشعر أبناءه بان الفساد يكاد ان يجعلهم عصفاً مأكولاً، سئموا تمادي الفاسدين، ضجوا من التهاون والتواطئ واللامبالاة بالمسؤولية، فاض بهم الكيل، خرجوا في مظاهرات عارمة في مناطق شتى أعلنوها صرخة مدوية بوجه سياسيين وسراق المال العام ومنهم من فعلوا ذلك تحت عباءة الدين، لذلك لم يكن مستغرباً ان يحمل البعض لافتات «باسم الدين باكونة الحرامية» .. نددوا بكل مظاهر الفساد الفجة، بكل هذا التدني فى الخدمات جراء الفساد، أصروا على حقهم في محاسبة المقصرين والمخطئين ومن يتستر عليهم ومن ينتمي اليهم، وكل من جر البلاد والشعب الى الويلات من وزراء ونواب ورؤساء أحزاب ومحافظين وأعضاء مجالس محافظات، ومن وزعوا المناصب كحزمة محاصصات حزبية او فئوية او طائفية بائسة وقبيحة، واهتموا بالولاءات وأبعدوا الكفاءات، وسيسوا القضاء ومسوا استقلاليته. وأعاقوا تكريس مبدأ العدالة بين المواطنين، أليست هذه هي المطالب المعلنة التي أدت الى ما سمي بالانقلاب الأبيض لرئيس الوزراء العراقي حين تجرأ واعلن عن إصلاحات لافتة أقرها مجلس النواب. 
 
ربما من المناسب ان نلتفت الى قائمة أغنى 17 شخصية سياسية في العراق الذي نشرته مؤخراً جي بي سي نيوز، وكيف ان كل واحد من هؤلاء امتلك عشرات المليارات من الدولارات نقداً، وأموال غير منقولة على شكل سندات وعقارات داخل وخارج العراق، ومزارع ومعامل وفنادق وقصور، وخيول عربية واستثمارات في شركات نفطية، وهو الأمر الذى آثار العشرات من التساؤلات المشروعة التي تفرض نفسها، والتي لا تخفى على ذوي الألباب والفطنة، ولعل ذلك احد اهم الأسباب التي جعلت جموع العراقيين بكل أطيافهم يخرجون رافضين النهب دون رقيب، استمرار منطق العشيرة والقبيلة والطائفة، وهو المنطق الذي رأوه بانه أدى الى الانغماس في مشاريع الفساد والتعايش معه ، والتي تجلت في التهم بالمحسوبية، سوء الخدمات والسرقة لكل من واتته الفرصة من حيث لا يحتسب.
 
ذلك حدث ويحدث في العراق، والنتيجة اجراءات اعلن عنها بدءاً من تقليص المناصب ، وفتح الملفات بصورة جدية غير مسبوقة – هذا ما قيل – ما يعطي بارقة أمل بوجود إصلاح – هذا ما قيل أيضاً – ولكن أسوأ وأخطر ما في المشهد العراقي هو ظهور من هم أطراف في معادلة الفساد بمظهر المصلحين والمطالبين بالإصلاح، والمدافعين عن مصالح الشعب، وجعلوا محاربة الفساد مجرد ظاهرة صوتية ..!!
 
نأتي الى أوكرانيا ، التي هي سباقة بالثورات والابتكارات، فقد اقدم الشعب الأوكراني على سلوك لم يسبقهم إليه أي شعب في العالم، فبعد ان طفح بهم كيل الفاسدين، وانتشرت مظاهر الفساد والرشوة في بلادهم ووصلت الى مناحٍ شتى في مسار حياتهم، ومعيشتهم واعمالهم، وبعد ان بات المسؤولون الفاسدون معروفين جيداً عندهم، قاموا بجمع المسؤولين الفاسدين ولصوص المال العام وقاموا بإلقائهم في صناديق القمامة وتصويرهم بالصوت والصورة ونشروها عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، باعثين رسالة لها معنى ومغزى، من لا تطله يد القانون من الفاسدين فان صندوق الزبالة فى انتظاره ..!!
 
أما في البرازيل، فقد كان لافتاً ذلك الخبر الذي نشر مؤخراً ومفاده ان سكان بلدة «ماطا غراندي» بولاية دي لاكوس البرازيلية استاءوا من الحكم القضائي الذي برأ مستشارا برلمانيا من تهمة اختلاس المال العام، فقرروا القصاص منه بطريقتهم، حيث عمدوا الى ربطه بعمود كهرباء وسط البلدة، بواسطة حبال قوية حتى يكون عبرة لمن يعتبر ..!! واعلن هناك بان الناس تعبت من هذا التهريج، واذا استمر الحال على ما هو عليه، واستمر الفاسدون في السرقة فسيلزم المزيد من أعمدة النور في المدينة ..!! ذلك أمر قد يؤذن بانه لن يكون امام الفاسدين في هذا البلد او ذاك ممن تفوح رائحتهم الا أكوام الزبالة وأعمدة الكهرباء ..!!   
 
الفساد محنة بلدان، يؤخر مجتمعاتها، ويشكل أخطر التحديات التي تواجهها، ويعيق نمو اقتصادها، ونحن لسنا بمنأى عنه، يكفي التمعن في حيثيات تقارير ديوان الرقابة المالية والادارية، المؤسف حقاً اننا لازلنا نتعاطى مع كل التجاوزات الفجة التي تكشفها هذه التقارير على انها مجرد ملاحظات ستخضع للدراسة، والمؤسف أيضاً أن أي حديث يفرض عن نفسه عن أي فساد هنا أو هناك لا يتطرق او لا يشير بأصابع اتهام الى فاسدين ..!! فهل نجعل محاربة الفساد على رأس الأولويات .. ليس أمامنا إلا أن نظن خيراً بالآتي من الأيام ..
 


حرر في 18 أغسطس 2015

اقرأ المزيد

«الطلياني» رواية الانكسارات الفردية والجماعية


في أي عمر يمكن للكاتب أن يكتب رواية؟ سؤال يوحي به فوز الأكاديمي والباحث التونسي شكري المبخوت بالنسخة العربية من جائزة «البوكر» في دورتها الأخيرة، عن روايته الأولى والوحيدة، حتى اللحظة ” الطلياني”.

ليس المبخوت كاتباً شاباً يُعرف للمرة الأولى، على الأقل على مستوى وطنه تونس، وعلى الصعيد الثقافي المغاربي عامة، ولكنها المرة الأولى التي يكتب فيها رواية بعد أن حقق صيتاً ومكانة في مجالات البحث الأكاديمي والنقد الأدبي، وكانت هذه الرواية من الجودة ما أهّلها لتنال «البوكر» وسط منافسة قوية  مع روايات أخرى مهمة.

طالما نظرتُ، كما ينظر غيري كثيرون، بشيء من الغرابة لـ«جرأة» الكثير من الشبان والشابات، خاصة في بلداننا الخليجية، حيث تتوافر إمكانات النشر أكثر مما هي عليه في البلدان العربية الأخرى، في إصدار روايات، من دون أن يمروا بتجارب سابقة في الكتابة، فالرواية فن صعب، يحتاج إلى رؤية معرفية بانورامية لا يتوفر عليها، عادة، إلا الكاتب الذي «اشتغل» على نفسه بالقراءة والاطلاع ومراكمة الخبرات والتجارب الحياتية التي توسع من أفقه ورؤيته.

ومن وجهة نظر ريجيس دوبريه فإننا حين نمتلك حلاً أو إجابة لمشكلة ما، نكتب كتاباً فكرياً أو بحثاً، لكن عندما نعيش مشكلة ما أو عندما لا نعرف هذه المشكلة بوضوح فإننا نكتب رواية، فهناك مسائل لا يمكن حلها أو حسمها داخل الوجود مثل الموت والحب، وفي حالات مثل هذه ينبغي أن نكتب الرواية، وتأتي هذه الفكرة في إطار مناقشات عامة عن العلاقة بين أجناس الكتابة، وتقدم جنس الرواية مثلا، فيما تتراجع مكانة الشعر في الحياة الثقافية.

وتأتي رواية «الطلياني» في إطار صعود ملفت للإصدارات الروائية، التي تتراوح في المستوى، ولم يعد الأمر محصوراً في الحواضر الثقافية العربية التقليدية كمصر وسوريا ولبنان، بل صرنا شهوداً على أعمال روائية لافتة من «الأطراف» العربية مشرقاً ومغرباً، وأذكر أني حين عبرت منذ سنوات، لزميلة تونسية مشتغلة بالنقد الأدبي، عن ثنائي على رواية لكاتب تونسي كنت قد قرأتها، يومها، للتو، قالت: لن تندم أبداً حين تقرأ أي رواية تونسية، قاصدةً  أن الشوط الذي قطعته الرواية في تونس يجعل من المتعذر أن تصادف رواية ضعيفة.

لعل الزميلة ألقت عبارتها بين الجد والهزل، فيما يمكن أن ندرجه في نطاق الفخر بمنجزات الوطن الذي ينتسب اليه المرء، تونس في حالة زميلتنا هذه، لكن ليست الرواية التي قرأتها يومذاك فقط، وإنما ما تلاها من روايات قرأتها للكاتب نفسه، أو لكتاب آخرين من تونس، تجعل من كلامها صحيحاً، وهذا ما أعادت التأكيد عليه رواية شكري المبخوت هذه.

هذه الرواية، شأنها شأن روايات تونسية أخرى قرأتها، بينها روايات الحبيب الصالحي، ورواية حسن بن عثمان: «أطفال بورقيبة» تعنى  بتحولات المجتمع التونسي في مرحلة ما بعد الاستقلال، مروراً بالحقبة البورقيبية، التي مهما قيل بشأنها من سلبيات، فإنها الحقبة التي وضعت فيها ركائز الحداثة التونسية، وانتهاء بعهد زين العابدين بن علي، الذي تكثفت فيه التناقضات حتى بلغت حد الانفجار في الربيع التونسي مطالع 2011، وهو تكثيف عبر عنه الحبيب الصالحي، من قبل، في روايته: «نساء البساتين» التي ألح فيها على مراقبة مَعلمين بارزين، مركز الشرطة والجامع المحاذي، في نظرة لماحة لمكانة سلطتين تتنازعان النفوذ، الدولة البوليسية والمؤسسة الدينية، ما يجعلنا نفهم بعد ذلك كيف حدث انه عندما تصدعت الدولة البوليسية تحت وقع خطى الجماهير الهادرة التي أطلقها إلى شوارع تونس محمد البوعزيزي، كانت السلطة الدينية هي الأكثر جاهزية لقطف ثمار ما جرى.

فرغم القمع الشرس، كانت تلك السلطة الدينية توسع دائرة نفوذها، مستغلة حقيقة أن التحديث، خاصة بعد تنحية بورقيبة، بات مفروضاً بسطوة الدولة، وليس نابعاً من بنى المجتمع التحتية، فيما يستغرق بسطاء الناس البحث عن لقمة العيش التي عزَّت بفعل إخطبوط الفساد الذي استشرى.

بصورة من الصور يتحرك شكري المبخوت في الدائرة ذاتها، ولكنه اختار زاوية أخرى لمقاربة تحولات مجتمعه، حين جعل من المناضل اليساري محوراً في بنية الرواية، متحركاً بذلك في فضاء يمكننا من خلاله الوقوف على تحولات تيار فكري مهم في الحياة العامة، هو التيار اليساري، لا في تونس وحدها وانما في البلدان العربية الأخرى التي عرفت بصعود التيارات اليسارية فيها في مرحلة مهمة من تاريخنا العربي، وقد علل المبخوت اختياره لهذه المقاربة بالذات بكون اليسار مُجسِداً للقيم الكونية الحديثة، رغم الانكسارات التي واجهها ويواجهها تحت ضغط أكثر من عامل: القبضة الأمنية الصارمة التي استهدفت مواقع ومناضلي هذا التيار بالقمع والاقصاء، الصعود المدوي للتيارات الاسلامية تحت سمع وبصر الحكومات، وفي حالات كثيرة بتشجيع منها، حين وجدت فيها ضالتها لمحاصرة نفوذ اليسار في صفوف الشبيبة وفي المواقع الثقافية ومؤسسات المجتمع المدني، وأخيراً بسبب ما وقعت فيه التيارات اليسارية ذاتها من أخطاء.

لم تكن تونس استثناء من هذا، بل لعلها تشكل بيئة نموذجية لدراسة وتقصي تلك التحولات، منذ أن كان اليسار مهيمناً على الحركة الطلابية في الجامعة، وذا نفوذ في الحركة النقابية، فضلاً عن حضوره في الحياة الثقافية والفكرية في المجتمع، وهو واجه ذات الاختبارات التي واجهها اليسار في البلدان العربية الأخرى، ربما في أدق التفاصيل، وهو ما سعت الرواية لقوله من خلال شخصية عبدالناصر المعروف بـ«الطلياني» لما كان عليه من وسامة.

من خلال التحولات في حياة الطلياني الذي تموضع في مؤسسة صحفية خاضعة للهيمنة الحكومية بعد أن غادر كلية الحقوق في الجامعة، التي كان يتعمد التخلف عن تقديم امتحاناته ليبقى فيها أطول أمد ممكن لقيادة العمل الطلابي، يأخذنا الكاتب للتعرف على مهارات المنظومة السياسية المهيمنة في احتواء اليسار وتدجينه، خاصة بعد أن أصبح يخسر مواقعه أمام تقدم الاسلاميين، الذين انفتحت شهيتهم لا للاستحواذ على المواقع المجتمعية وحدها، وإنما للظفر بالسلطة السياسية ذاتها. فعبدالناصر ـ الطلياني الذي عرفناه مناضلاً  طلابياً متفانياً، يطل علينا، فيما بعد، صحفياً ماهراً دون أن نعثر على أية اشارة الى أن نضاله استمر، بل نجده خارجاً عن أي سياق تنظيمي، غارقاً في المغامرات العاطفية مستغلاً وسامته ولباقته، ومعوضاً عن العقد النفيسة الدفينة الناشئة من محاولة اغتصابه وهو فتى صغير من إمام جامع البلدة التي نشأ فيها.

بعض من كتبوا عن الرواية حاولوا أن يروا فيها شهادة ضد دور اليسار التونسي، والعربي عامة، وهذا ما لا نوافق عليه، فالكاتب لم ينطلق من أرضية الخصومة لليسار، إنما على العكس تماماً، فهو أراد  باختياره شخصية بطله أن يرصد تحولات المجتمع في تونس خلال الحقبة التي تناولها الرواية، من خلال تتبع مسار أحد التيارات الفاعلة فيه، مستعيناً بأدوات التحليل المختلفة، خاصة السيكولوجية منها وهو يسبر أغوار شخصيات الرواية كلها، لا البطل وحده، والحق اني لم أستسغ حمولة المفردات الماركسية التي طغت في الصفحات الأولى من الرواية التي جاءت على لسان شخصيات الرواية، لأني شعرت بأن الكاتب استغل عدته الفكرية في إقحامها في الحوار، ربما لتحدره من الجذر السياسي والفكري نفسه الذي تحدر منه بطله الطلياني، ولكنها حملت شحنة تقريرية كان بالإمكان تفاديها، وربما وشت بشيء من السخرية تجاه تلك المفردات، وهو ما لا أحسب أن الكاتب توخاه، حكماً مما أدلى به من أحاديث وشهادات بعد فوز الرواية، وحكماً أيضاً من سيرته الفكرية المعروفة.

ليس شكري المبخوت أول من جعل المناضل اليساري وانكساراته محوراً في العمل الروائي، فلقد فعل ذلك قبله روائيون عرب آخرون، بينهم، مثلاً، حنا مينه في «الثلج يأتي من النافذة»، ومثله فعل عبدالرحمن منيف  في «شرق المتوسط» و»الآن هنا»، وغيرهما فعل آخرون، لكن المبخوت لم يهدف في «الطلياني» رصد أو تقصي القمع الشديد الذي تعرض له المناضلون اليساريون في بلدانهم، وتسليط الضوء، من وراء ذلك، على محنة الحريات وغياب الديمقراطية، كما فعل سابقوه، وإنما ذهب أبعد في رصد إشكاليات نشاط اليسار في بيئة معقدة، واقفاً عند أثر الإرتكاسات النفسية والضغوط الاجتماعية والسياسية على وعي وسلوك المناضل اليساري، ومآلات الاحباط وفقدان الثقة في إمكانيات التغيير التي وقع فيها الكثير من منتسبي اليسار جراء التحولات في الوضع العالمي وفي بلدانهم أيضاً، وهو الأمر الذي تبدى واضحاً في عجز اليسار أو ضعفه في التعامل مع الإنعطافة الكبرى التي يشهدها عالمنا العربي، التي غاب عنها دور هذا اليسار أو كاد.
 
تبدو «الطلياني» متسقة مع الفضاء الذي يتحرك فيه الكثير من المنجز الروائي في تونس، وهي ليست بالضرورة العمل الروائي التونسي الأفضل، لكن فوز رواية من تونس بالبوكر العربية مستحق، خاصة وأن روايات تونسية أخرى سبق لها أن بلغت القائمة القصيرة للبوكر في أعوام سابقة، ويبدو مفهوماً أن تونس بالذات، لا غيرها، تفوز بجائزة عن رواية ترصد مقدمات ما تعارفنا على وصفه بالربيع العربي، فهي مهد هذا الربيع، وهي الأكثر تأهيلاً للتغلب على الارتدادات السلبية الناجمة عن حجم التغيير الكبير الذي وقع، والأهم من هذا أن البيئة الابداعية والثقافية في هذا البلد أهل لأن تقدم أعمالاً تستوقف لا لجان التحكيم وحدها، وإنما مجمل حركة النقد والقراءة في العالم العربي.

اقرأ المزيد

الأمور المرتجاة


في أحد نصوصه يقول شكسبير على لسان إحدى شخصياته: «إذا ما الكدح أعياني هربت إلى سريري، تجد فيه أعضائي المنهكة بترحالها راحتها العزيزة، ولكن الرحلة تبدأ، عندها، داخل رأسي تشغل الذهن بعد أن قضى الجسم شغله».
والحق أن في ذهن كل منا تشتعل مثل هذه الشواغل عندما نأوي إلى أسرتنا في المساء أو ننفرد بذواتنا، للدرجة التي ينتابنا فيها ذلك الإحساس بالرغبة «في الخروج من حياتنا كما نخرج من بيوتنا للسير في الشوارع» بتعبير أحد الكتاب.
والشواغل التي تشتعل في الذهن هي أشد وطأة من تلك الأعباء التي ينوء بها الجسد، لأن استغراقك في نوم عميق قد يعوض لجسمك ما كان فقده من طاقة أو ما يعانيه من إرهاق، ولكن شواغل الذهن ليست من النوع الذي يتبدد بسرعة، إنها سريعة في تسربها إلى الذهن واستيطانه، وشديدة البطء في مغادرته.

لو تأملنا في عدد الآمال والأحلام المرتجاة في حياتنا لوجدناها كثيرة، ولوجدنا أنها تطال تفاصيل كثيرة تخصنا. ولو تأملنا أكثر لوجدنا أن أغلبية هذه الأحلام مؤجلة، وفي الغالب يأتي هذا التأجيل لأننا لسنا وحدنا من يقرر تحقيق المرتجى من هذه الأحلام. وهذا المرتجى هو على ما يبدو تلك الشواغل التي يضج بها الذهن في لحظة انفرادنا بأنفسنا، في اللحظة التي نأوي فيها إلى أسرتنا لننام، أو في اللحظة التي يتعين علينا فيها مواجهة الذات.

تأتي فكرة التأجيل على الأرجح من وعينا بتلك المسافة الشاسعة التي تفصل بين الرغبات – الأحلام وبين الممكن – المتاح، لذا يسكننا ذلك الشعور الغامض بأن أعمق الرغبات مكبلة وعصية على التحقيق، كأن كل نجاحاتنا الصغيرة والكبيرة في الحياة ما زالت أعجز من أن تجلب لنا السعادة المشتهاة، ونبدو عاجزين عن التصالح مع أشياء كثيرة محيطة بنا. السعادة تأتي فقط حين يتصالح المرء مع ذاته، ولكن من دون هذه المصالحة، ثمة عوائق وحواجز وصعاب.

علينا أن نقول، على الرغم من ذلك، إنه يجب أن يكون لدينا دائماً ما هو مرتجى ومؤجل، لأننا لا نستطيع الإمساك بالأمور كلها دفعة واحدة، ولأن ذلك وحده يجعل للحياة هدفاً ومغزى وغاية متجددة إليها نسعى. ربما لأن التأجيل الذي يأتي بمحض اختيارنا الحر هو تأجيل واعٍ، بخلاف ذلك التأجيل المفروض علينا حين يُصادر منا عزيز الأماني.
 


حرر في: 23/08/2015
 

اقرأ المزيد

كلام في البديهيات!!


ها نحن مجددا نقع في أسر الكلام البديهي الذي لا يتوقف عن اعادة تدوير نفسه، وكأننا نمتلك موهبة طرح وتداول البديهيات، وهو أمر يتجلى بكل المستويات والتبريرات والشعارات الفارغة من مضامينها في كل شأن ومجال.. نكررها، نعيدها، نستثمرها، ونحسب ان هذا أحد أوجه الخلل الكثيرة التي لا تنضب في واقعنا، وتخلق مناخات تمسنا في العمق ..!!

هي مشكلة حقاً ان نجد انفسنا مضطرين الى إثبات البديهيات، ومشكلة ايضاً ان يغيب عن فطنة هؤلاء الذين يمعنون ويتمادون في المضي الى اثبات البديهيات انهم يجيزون لأنفسهم الغفلة عن حركة العالم وعدم ادراك ما للوقت من أهمية على واقع الحال ومجريات الأمور، وأسوأ ما في الإنسياق وراء البديهيات انها تعطلنا عن تقدم يفيد، تجعلنا نغرق في الاجترار والمراوحة والتوهان في الكلمات الفضفاضة التي اتقن البعض في طرحها للتلطي وراءها واخفاء عجزهم في الانجازات المطلوبة، ما اكثر البديهيات التي جعلتنا نتعايش مع الأخطاء، ومع الكلام المراوغ الذي يترتب عليه تغييباً للمسؤوليات، او التفافاً على حقائق، او استدراجاً لفخاخ منصوبة، لذلك لم يكن غريباً انه في كثير من الحالات، بل في معظم الحالات من ظهر وهو كمن يداوي كل علة بالكلام في البديهيات، ووجدنا من يتجشم عناء الكلام والشرح في البديهيات من دون ان يتقن التصرف في موارد الزمن وذكاء الناس ..!!

لنتفق أولاً، ان البديهيات هي التي لايمكن النقاش او الجدال فيها، او هي التي لا تستحق الطرح أساساً، او هي التي لا تحتاج الى دليل او تحليل، او هي التي في حكم الروتين لا يمكن الاختلاف عليها، او لا تحتمل ان تكون ملتبسة او حمالة أوجه او موضع صراع من أي نوع بين أصحاب الأدوار او غيرهم ممن لم تنفك النيات الخفية تصطرع بينهم ..!! 

على هذا الأساس ، نقول ان من البديهي – مثال ليس إلا – ان موضوع الحريات لا يقبل القسمة، فإما ان نكون مع الحريات، وإما نكون ضدها، وان كل خطوة تتخذ للتضييق على الحريات هو مشروع مواجهة فى أي بلد كان..، هذا كلام بديهي بقدر ما هو بديهي الكلام عن أحقية الاختلاف، بديهي جداً ان نختلف، وقيل ان الاختلاف نعمة، وبديهي ان يكون هناك مختلفون لا يقبلون او يتقبلون اختلافنا، وبديهي ان هناك في أي مجتمع من لا يسمع الا ما يريد ان يسمعه، ولا يرى الا ما يريد ان يراه ولا يقرأ الا ما يريد ان يقرأه، ولا ينظر الى أي قيمة او معيار مهني لأي شيء الا من زاويته وإلا فالتصنيف والتهمة على الرف.

أيضاً وكمثال آخر، من البديهي القول إن الشخصية العامة ليست محصنة من النقد، بل ان الشخصية العامة أشبه بمنطقة حرة يمكن ان يواجه بكل صور النقد والانتقاد، وعلى من لا يتحمل النقد، ويضيق صدره بكل رأي ان يبتعد عن العمل العام، وطالما انه شخصية عامة فعليه ان يتحمل تبعات هذا المنصب، في الدول المتقدمة الشخصية العامة لا يحميها القانون من اي نقد، بل ان القانون يجعل حماية الشخصية العامة مستحيلة، ليس فقط حفاظاً على حرية الاعلام وحرية التعبير، بل لارتباط ذلك بثقافة المساءلة والمحاسبة وتقييم الأداء ودعم قيم الشفافية، وخلق بيئة تكون فيها المعلومات المتعلقة بالظروف والقرارات والسياسات والاعمال متاحة ومفهومة للرأي العام. واحسب ان هذا يعني اولاً وأخيراً انهم بذلك لا يمارسون ترويض الفشل والإبقاء عليه ..!!

النائب فى البرلمان شخصية عامة وليس محصناً من النقد – ها نحن نعود الى بديهية جديدة لعلها بيت القصيد -، وطالما ان النائب الذي يفترض ان يمثل الشعب شخصية عامة فعليه ان يتحمل تبعات هذا المنصب، بل هو اول من يفترض ان يتقبل النقد ويشجع عليه، واذا كنا نعلم – وهذا موثق ومنشور – بان نواباً في فترة من الفترات اتهموا بعض من انتقدهم بأنهم مزايدون، ولا يقدرون التضحيات التي يقوم بها النواب، كما نعلم ان هناك نواباً اتجهوا لمقاضاة بعض من رأوا بانهم تجاوزوا حدود النقد وحدود العمل والأداء الى التطاول والشتم والسب والشخصنة، وما يمس العوائل والزوجات والبنات بالتجريح والخوض في الأعراض وقبيح الكلام وكل ما يدل عن عفونة نفوس وعقول وأحلام مريضة، ويدخل في حيز المخالفات القانونية، وهو كلام لايمكن قبوله بأي حال ولا يمكن ان يصنف في دائرة النقد، الا ان هذا لا ينبغي ان يكون مبرراً لأمانة مجلس النواب او اي جهة كانت بان تتحول الى فزاعة لكل من يتناول مجلس النواب او أعضاءه في الصحافة المحلية، والتأكيد لنا دوماً بان نواب الشعب يؤدون دورهم بكل امانة ووطنية ومسؤولية غير قابلة للتشكيك ..!!، وكأن ثمة محاولة للإيحاء تعطي معنى يقول، بات واجباً عليكم التوقف عن انتقاد النواب حتى وان كان في حدود النقد المباح، بذريعة ان أداء النواب غير قابل للطعن والتشكيك ..!!، أليس الحكم على اداء النواب من حق الناس، فهم الرقباء على أداء نوابهم، وهم ليسوا بحاجة الى من يحدد سيرهم حين يبدون النقد او الرأي فيهم كممارسة ديمقراطية يفترض ان تتعزز. 

لابد من مراجعات، ولابد من تجاوز ثقافة البديهيات.. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن مستعدون لذلك ..؟ !! 


 
حرر في 11 أغسطس 2015
 
 

اقرأ المزيد