المنشور

رفقا بعقولنا..!!


يبدو أننا صرنا نتكلم لغتين، ونصوغ خطابين، ونرقص بالتالي على حبلين..

الحديث تحديداً عن ما يمكن ان يعرف بسياسات نفي المشكلات في الوعي العام، عبر تعمية المشكلات، او التهوين منها، او التقليل من شأنها، او عدم الاعتراف بوجودها أصلاً، الأمر الذي يؤدي الى استمرارها وتفاقمها، ويمكن ان نسترسل في ضرب عشرات الأمثلة، في كل مجال وميدان.

نتوقف تحديداً هذه المرة عند أمرين، الاول عند كل الكلام الجميل المكرر والشعارات المنمقة التي بتنا نحفظها عن ظهر قلب حول متانة الوضع الاقتصادي وبيئة الاعمال الميسرة، والإجراءات المحفزة للمستثمرين، والأمر الثاني حول حالة الترقب والقلق التي تنتاب المواطن جراء ما هو منتظر من اجراءات تقشفية، ونتمعن بعد ذلك فيما يربط بين هذا الأمر وذاك..

فيما يخص الأمر الاول، لغة وخطاب مسؤولين كثر، إن لم يكن كل المسؤولين، فانهم لا ينفكون بمناسبة ومن دون مناسبة من ترديد الكلام عن اقتصادنا المتين، وبيئة الاعمال المحفزة، ومناخ الاستثمار الجاذب، والإجراءات الهادفة لتعزيز ثقة المستثمرين، وكيف اننا أصبحنا من اكثر البيئات جذبا للاستثمار فى المنطقة فى ظل توافر البيئة القانونية المتطورة المتسمة بالوضوح والبعد عن التعقيد، ووجود نظام قضائي يتسم بسرعة البت في المنازعات.

هذا الفريق من المسؤولين وجدناهم أيضا يتحدثون عن القطاع الخاص كما لو انه يعمل في بيئة عمل مثالية، تخلو من الشوائب، ويؤكدون على تشجيع القطاع الخاص، وإزالة العقبات التي قد تواجهه، ويذهبون الى تأكيد الشراكة بين الحكومة وهذا القطاع، من زاوية الإدراك بصلاحية هذه الشراكة وتأثيراتها على الوضع الاقتصادي والتنمية، وغير لك من الكلام الطيب والشعارات التي لسنا في وارد استعادتها بل التذكير بها، لعل الذكرى تنفع المؤمنين..!!

ولكن، قبال هذه اللغة، وهذا الخطاب، لا نستشعر نحن المواطنين العاديين بان كثيراً مما هو متداول، مما سمعناه وقرأناه في سياق تلك اللغة، وذاك الخطاب، له صلة بالواقع، يكفي تلك التصريحات التي نشرت في الآونة الأخيرة في صحافتنا المحلية والتي توالت على ألسنة بعض من كبار رجال الاعمال والمستثمرين، والتي لم تصدر الجهات الرسمية المعنية توضيحاً او تصحيحاً او نفياً حيال ما تضمنته، وإنما التزمت الصمت وكأنها لم تقرأ ولم تسمع رغم ان ثمة إشارات الى بيروقراطية، بل والى انحرافات، وكل ما لا يجب ان يمر مرور الكرام..!!

عندما يظهر مستثمر من المملكة العربية السعودية ليكشف على الملأ وبالتفاصيل عن مضايقات وعقبات وقيود بالجملة وهو في منتصف طريق مزاولته مشروع مركز صحي ومن مختلف مؤسسات الدولة المعنية بتقديم كل التسهيلات الضرورية للمستثمرين، ويحذر من مغبة صرف أنظار المستثمرين عن توجيه أموالهم الى الأسواق البحرينية جراء إعاقات مفتعلة، وعندما ظهر رجل اعمال بحريني محذراً من ان القطاع الخاص البحريني لا يتحمل تزايد الضغوط عليه، ويلفت الانتباه الى ان صغار التجار منهكون، وان المؤسسات الصغيرة تمر بظروف صعبة وقاسية، وحين يكشف رئيس لجنة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة عن إغلاق كثير من هذه الشركات في هذا العام، ويتوقع المزيد من تصفية هذه النوعية من الشركات في العام المقبل الذي يطل علينا بعد ايام، وعندما يعلن رئيس جمعية البحرين لتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بان مركز المتعثرين التابع للجمعية تلقى اتصالات بإغلاق 700 شركة، وعندما يطالب مستثمر بحريني بتقليل القيود على الاستثمارات ويحذر من إفلاس وموت الكثير من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ويبدي استياءً من زيادة عبء البيروقراطية الحكومية، وهذا بحسب المستثمر البحريني يجعل المستثمرين في حالة حذر وترقب وإحجام، وعندما يتحدث تجار ومستثمرون ومحامون عن قضايا منازعات معطلة في المحاكم منذ سنوات، وذلك كله وغيره موثق ومنشور لم ترد عليه اي جهة رسمية معنية بأي شكل من الأشكال، فان ذلك يعني بان ثمة خلل قائم وان هناك ما يستوجب التوقف والمراجعة وقياس الفاعلية والمحاسبة وعقاب المقصرين واعادة النظر في الكثير من الأمور.. 

أستطيع ان أتخيل كم التساؤلات وعلامات التعجب التي تطرح تباعاً والتي احسب انها تعبر في أدنى التوصيفات عن قلق ودهشة إزاء هذا الذي يقال بالمقارنة مع هذا الذي يلمس على ارض الواقع، واذا كنا لا نجد غضاضة في ان يكون لأي مسؤول، او ان تكون لأي جهة من جهات القرار حساباتها في التعامل مع اي شأن او ملف، ولكن يحق لنا ولغيرنا التساؤل عن طبيعة المعايير التي تقوم عليها تلك الحسابات والاجتهادات، وما اتخذ من اجراءات وقرارات، وما لم يتخذ، وهل الأطراف المعنية قد أدت دورها من دون تقييم او تقويم او مساءلة او شفافية حتى وإن كانت مثيرة لشيء من الإرباك او البلبلة والمراوحة، وان كل ما علينا ان نظل نمارس تفخيم الذات ونداوم على التغني بالإنجازات، ولا نقول اكثر من ذلك..!!

الأمر الثاني لعله يكمل الصورة، كل ما علينا فقط إلا ان نتابع هذه الأيام تصريحات وزراء ومسؤولين تفاقم من حالة من القلق التي يعيشها المواطن، هذا القلق الذي لا يتوقف إلا ليبدأ من جديد، فهم يتحدثون تارة بلغة خلاصتها بان وضع المواطن لن يمس، وان حاله سيكون على خير ما يرام، وتارة يتحدثون بلغة تبشره بضرائب ورسوم وتقشف ودمج وتسريحات، ووجدنا أطرافاً رسمية تتفنن في البحث عن مشاريع رسوم جديدة تفرض على الناس، تجاراً ومواطنين، فقد قرأنا عن رسوم تبحث او ستفرض على رسوم الترخيص للبائع الجائل، ورسوماً لخدمات الصرف الصحي، حتى أكياس القمامة المفروضة من البلدية والتي تحتسب جبراً ضمن فاتورة الكهرباء والماء ستتضاعف قيمتها، ناهيك عن رسوم اخرى ينظر في أمرها وهذا أمر لم يعد بحاجة الى شرح او إثبات..!! 

يبقى ان نقول، اذا كانت الطموحات العالية مشكلة، فان الإحباطات الشديدة مشكلة اكبر، ولم يعد من المصلحة في هذا الوقت، وهذا الظرف بالذات، ان نظل نمارس تمويه المشكلات، والمشهد برمته يوضح الى اي مدى نحن بحاجة الى إعادة النظر في كافة أمورنا ومشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، ولابد من الاعتراف بهذه المشكلات وتحديدها على وجه الدقة للبدء في المعالجات والحلول الحصيفة والحاسمة ذات القيمة والوزن والتأثير والتي يحسب لها ألف حساب، بعيداً عن (لا) النافية ولا الناهية التي يتسلح بها بعض المسؤولين إزاء اي مصارحات حول حقيقة أوضاعنا الاقتصادية، هؤلاء لا يهمهم سوى المسكنات الوقتية التي لا تبني «الروافع» اللازمة للانطلاق الاقتصادي والمالي المدروس.. المهم ان نكون جادين.. والجدية وعدم محاصرة وعي الناس هما القاسم المشترك الذي يربط بين الأمرين المذكورين، فرفقاً بعقولنا..!!
 
 29 ديسمبر 2015
 
 

اقرأ المزيد

حكاية عن الرفاهية


في مطالع هذه الألفية استقال من منصبه وزير الاقتصاد في حكومة ولاية برلين بألمانيا، واسمه جريجور جيزي مخلفاً وراءه أزمة وتساؤلات، والرجل كان أحد كوادر الحزب الاشتراكي الذي حكم الشطر الشرقي من ألمانيا قبل إعادة توحيدها إثر سقوط جدار برلين، ولكنه انخرط في الحركة الاحتجاجية ضد الحزب بعد أن أدرك أن أوجه الفساد بلغت مبلغاً لا يطاق.
 
بعد انهيار النظام الحاكم في شرقي ألمانيا واجه الحزب أزمة حقيقية، لكن جيزي لم يتنكر لفكرته، ولم يلتحق بالقوى الصاعدة التي أرادت الثأر من الماضي، وإنما اختار الطريق الأصعب: البقاء في الحزب وتجديده وضخ دماء جديدة إليه، وسرعان ما صعد نجم جيزي كسياسي وخطيب مفوه، مكَّن حزبه من أن يأتي في الصدارة في أول انتخابات نيابية، وأن يصبح هو وزيراً.
 
في ذروة مجده أعلن الرجل تنحيه عن مهامه القيادية في الحزب، ليعود عضواً فيه فحسب، رغم إلحاح أعضاء حزبه عليه بالبقاء في منصبه.
 
في كل الدنيا المتحضرة يستقيل القادة، رؤساء كانوا أو وزراء، من مناصبهم حين يشعرون بأنهم سبب في إخفاقات تعرضت لها الأحزاب أو الحكومات التي يرأسونها، أو حين يتقدم بهم العمر، فيمنحوا أنفسهم فرصة الاستمتاع بما تبقى لهم من سنوات في كتابة مذكراتهم أو رعاية حدائق بيوتهم، أو اللعب مع أحفادهم وغيرها من متع الحياة.

لكن لا شيء من هذا ينطبق على صاحبنا جريجوز جيزي، فقد قاد حزبه إلى نجاحات بينة، وكان وزيراً كفؤاً، وإلى ذلك فإن عمره كان حينها دون سن التقاعد، وكان السبب الذي قدمه في رسالة استقالته من مناصبه غير مألوف.

قال جيزي إنه بحكم سفراته المتعددة، كونه وزيراً للاقتصاد وعضواً في البرلمان، تجمَّع عنده ما يعرف لدى شركات الطيران بالأميال الإضافية التي بموجبها يمكن الحصول على تذاكر سفر مجانية، وأنه مع الوقت صار يستفيد من هذه التذاكر في سفرات خاصة به وبأفراد أسرته.

ورغم أن الأمر قانوني جداً، وليس فيه أي شبهة للفساد أو السرقة أو الرشوة أو الاحتيال، لكن جيزي قال إنه بدأ يشعر بالرفاهية، ولا يريد أن يتآلف مع هذه الرفاهية التي ما كانت ستأتيه  لولا منصبه، لذا فإنه يفضل الاستقالة والعودة إلى وظيفته محامياً، وعضواً عادياً في الحزب.

هذه حكاية عن الرفاهية، وعن العلاقة بينها وبين المنصب، لا ضير في قصها، فلعل فيها ما يفيد.
 
28/12/2015

اقرأ المزيد

معاول هدم أكثر منها وسائل تواصل


تتصفح أحد مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، فتتفاجأ بإمطارك بمقذوفات «نارية» لا أول لها ولا آخر من «أحدث» ما أنتجته صناعة المعارضات السياسية، الكيدية غير الموضوعية، من مفردات لغوية، خطابية سوقية، تتوسل التحريض والتشهير والقذف والسباب والتسقيط، وسائل لاستمالة أفئدة الجمهور العام، الساخط أصلاً، بدرجات متفاوتة بتفاوت منابته الاجتماعية، على أوضاعه المعيشية الأساسية المتردية بفعل سوء وفساد الإدارة الحكومية الكلية، ودخول معظم بلدان العالم العربي منذ خمس سنوات في منطقة مشبعة بالاضطراب، وفي أحسن الأحوال اللااستقرار، المترافقين مع الانعكاسات بالغة السوء للأزمة المالية/الاقتصادية العالمية لعام 2008، والآثار السلبية لانهيار أسعار النفط مطلع النصف الثاني من عام 2015.
 
القصد ينصرف هنا إلى أحد المواقع الإنترنتية الذي يمثل بصورة واضحة وفاقعة لا لبس فيها، جماعة الإخوان المسلمين في مصر. تتصفحه فلا تجد سوى تداول أخبار ذات نزعة هجومية تحريضية مصوغة بمفردات خشنة تعبر عن نمطية خطاب طيف واسع من المعارضات العربية المتقادم غير المتجدد.. أخبار تنشد إشاعة اليأس، ومفاقمة الإحباط لدى الناس من الغد، ومراكمة السخط علَّ الزمن يسرع في إيصاله إلى ذروته التراكمية المطلوبة لرفع درجة غليانه وتحويله إلى صاعق تفجير يعيد للجماعة أملها في إعادة اختطاف الشارع وأخذه إلى مجاهل التاريخ ومتاهاته عوضاً عن إخراجه من أزماته ومأزقه التنموي، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، الهدف الذي خدعت جمهور العوام بقدرتها، وحدها، على إصابته بطريقة الفانوس السحري.

وقطعاً لدابر الهوى المتجني، نسوق فيما يلي عينة من بعض العناوين الصارخة لأخبار ذلكم الموقع: سجون الانقلاب مليئة بالأسى والجراح والتعب قهر ووجع وألم.. (الأربعاء 25 نوفمبر/تشرين الثاني).. حكم العسكر همبكة وفهلوة وتهجيص وكذب. السيسي وحكومته يسمحان لمتخصصين روس بالمشاركة في تفتيش المطارات.. (الثلاثاء 24 نوفمبر). انتخابات العسكر تكتب شهادة وفاة حزب «النور». الأزمة المصرية السودانية تتجه نحو مزيد من السوء.. (الاثنين 23 نوفمبر). المصريون يتجاهلون الانتخابات.. الإقبال الضعيف والتجاوزات سمة انتخابات برلمان العسكر.. (الأحد 22 نوفمبر).. الاعتقالات مستمرة، زفة دعائية للضبعة النووية.. (السبت 21 نوفمبر).. الانقلاب يستورد دجاجاً مسرطناً للمصريين… مصر تدخل مرحلة الخطر. المفاعل النووي فنكوش جديد.. (الخميس 19 نوفمبر). بعد التهديدات الروسية لا أسمع لا أرى لا أتكلم.. (الأربعاء 18 نوفمبر). غرق 60% من دلتا مِصر خلال القرن الحالي. تنظيم الدولة الإسلامية في مصر المعروف إعلامياً باسم «ولاية سيناء» يعلن مسؤوليته عن تفجير فندق بمدينة العريش، مركز محافظة شمال سيناء (شمال شرق)، إذ وقع تفجير في فندق بمدينة العريش، صباح اليوم الثلاثاء، عقب انفجار سيارة مفخخة استهدفته، تفجير آلية للجيش جنوب مدينة العريش. هروب 3 شركات صينية من مصر بسبب فشل حكومة الانقلاب. مجموعة من القرارات اتخذها النظام لزيادة القبضة الأمنية وتهجير أهالي سيناء. 

لا يكتفي الموقع الإخواني، كما هو واضح، بهذا الضخ الفج للعناوين والأخبار الباغية إظهار حالة الاضطراب وعدم الاستقرار في مصر في ظل النظام الحالي، مع أنه برسم الوقائع المادية على الأرض المبنية على ملامسة ومشاهدة عيانية، فإن حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر حالياً، هي أفضل بما لا يقاس عن تلك الحالة الفوضوية التي أشاعتها سنة واحدة فقط من حكم «الإخوان» لا يكتفي بذلك وإنما يصل به الفجور في الخصومة لحد إذاعة وترويج أخبار الأعمال الإرهابية التي ينفذها فرع تنظيم «داعش» الإرهابي في مصر المسمى «ولاية سيناء»، بنوع من التشفي المريض في ضحايا هذه العمليات الإرهابية من قضاة وموظفين عموميين ومن الدولة المصرية التي يبغون كسر هيبتها ومن ثم الرقص على تشظياتها. 

هو خطاب معارض أقل ما يقال عنه إنه خطاب غير مسؤول، بل إنه مدمر بكل ما تحمل كلمة تدمير من معنى. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على خطورة ائتمان «الإخوان» على مقدرات مصر وأمنها الاقتصادي والاجتماعي. فإذا كان هذا هو حالهم وهم خارج السلطة، فكيف سيكون حال البلاد وهم في سدة سلطتها؟!.. ولعلنا نتذكر هنا كيف أن الإخوان المسلمين أنشؤوا في ظرف سنة واحدة حالة من الفرز والاستقطاب السياسي والديني والطائفي كانت كفيلة بإحالة مصر إلى دولة أخرى تحكمها المؤسسات الرسمية في الأمام وفي الخلف الميليشيات وواجهاتها الدينية والسياسية، لولا أن تم إبعادهم من السلطة قبل فوات الأوان.


  
 حرر في:    25/12/2015

اقرأ المزيد

معاناة ما نكتب


سأل أحد الصحفيين غسان كنفاني مرة السؤال التالي: هل تحب الكتابة أم تكرهها؟ أجاب غسان بما معناه أنه عندما يعود إلى بيته بعد انتهاء عمله في مجلة «الهدف» ينتابه شعور بالإرهاق، مما يمنعه من ممارسة الكتابة، لذلك فإنه يفضل القراءة. وقال إنه يترتب عليه أن يقرأ ساعتين على الأقل لأنه لا يستطيع الاستمرار دون ذلك، لكن بعد الانتهاء من القراءة يشعر بأن الخلود إلى النوم أو مشاهدة فيلم سخيف أفضل بالنسبة له، لأنه، باختصار، لا يستطيع الكتابة بعد نهاية عمله.
 
قائل هذا الكلام كاتب عذب وبارع، متدفق، لكنه مع ذلك لم يقل إنه يحب الكتابة، بل أوحى لنا بأنه إلى النفور منها أميل من الإقبال عليها. ولن نقبل، بسهولة، أن غسان كان يكره الكتابة بالفعل، لأنه هنا يتحدث عن معاناتها التي تجعله يُفضل مشاهدة فيلم سخيف عليها، لأنها تتطلب منه شدّاً ذهنياً وتوتراً عصبياً.

ليس هذا فحسب، فهو، على الأرجح، يتحدث هنا عن الشعور العالي بالمسؤولية تجاه الكتابة وتجاه القارئ الذي سيقرؤها، ما يجعله لا يقبل عليها إلا عندما يكون جاهزاً لذلك.

في حوار آخر يعود إلى عام 1960، قال غسان: أفكر في كتابة قصتين: الأولى قصة إنسان مخذول، خذلته القيم التي اعتقد أنها مقياس الحياة الوحيد، وإذا بها قيم لا تعتبر في عالم الحضارة المعاصر، أنني لم أتوصل بعد إلى اصطياد الحادثة الملائمة، لكني أحتاج إلى أن أصل منها إلى التعبير عن الانخداع الكامل الذي يحسه إنسان صُفع بشيء آمن به، فإذا به عند الآخرين لا يساوي شيئاً، وليس يهمني أن يكون هذا الشيء خطأً أو صواباً، يهمني فقط أنه إيمان يحمل على دعائمه كل طموح ذلك الإنسان.

أما موضوع القصة الثانية فقد سمع به غسان من صديق رواه له «ببساطة حرقت محجري» كما يقول، ويتساءل: «أترى أستطيع أن أنقلها ببساطة إلى محاجر الآخرين، لأنني لم أصل بعد إلى صوغ جميع تفاصيل هذه القصة، لكنني أشعر بأني أستطيع أن أفهمها بإخلاص وصدق، بل وأعانيها».

وفي كلامه أعلاه شبكة مصطلحات وعبارات ذات شحنة دلالية عالية: «اصطياد الحادثة الملائمة» ،«يهمني فقط أنه إيمان» ،«فهم القصة بإخلاص وصدق معاناتها».

 هذه الأمور كلها تجعل المبدع نافراً من الكتابة، غير مقبل عليها، قبل أن تكون قد استوت في داخله، وأن يكون قد تمثلها
.


24/12/2015

اقرأ المزيد

روما القديمة.. روما الجديدة


أسوأ توظيف لمفهوم «القابلية للاستعمار» الذي صاغه المفكر الجزائري مالك بن نبي، ذهب بنا إلى تبرئة الاستعمار من كل جرائمه وكوارثه ونهبه لثروات البلدان والشعوب التي استعمرها، كأن الاستعمار ما كان سيكون لولا أن الشعوب ذاتها جاهزة لأن تٌستعمر، لا بل وترضى بالاستعمار خياراً لها. وهناك من يذهب أبعد فيقرن الاستعمار بالتحضر، فلولاه لظلت الشعوب المستعمرة قابعة في الجهل والتخلف، مع أن الاستعمار غادر هذه البلدان وهي ترزح في كل ذلك.
 
نعم شقَّ الاستعمار بعض الشوارع في البلدان التي استعمرها، ونعم فتح بعض المدارس والمستشفيات التي غالباً ما قامت بها فرق التبشير التي أتت لا لغايات خيرية كما يبدو في ظاهر الأمر، إنما لأغراض ثقافية صرفة، من بين أهدافها تشكيل نخب محلية يمكن الاعتماد عليها في ترسيخ ركائز الاستعمار في البلدان المستهدفة، وتشكيل الرأي العام في بلدان تعاني شعوبها الفقر والأمية والمرض والجهل.
 
لم ينكر مالك بن نبي أبداً دور الاستعمار في صناعة التخلف، خاصة في بلده الجزائر، بل إنه رأى أن «القابلية للاستعمار» بحد ذاتها نتاج لذلك الاستعمار نفسه، وليست سبباً فيه، ولكنه أراد بهذا المفهوم تفكيك البنى التقليدية المحافظة التي تسهل على الاستعمار مهمته، لكنه لم يغفل أبداً أنه ما من شعب على وجه الأرض إلا وقاوم المستعمرين بصور شتى، بدءاً من المقاومة المدنية السلمية على طريقة المهاتما غاندي في الهند، أو بالكفاح المسلح على النحو الذي فعله الشعب الجزائري ذاته الذي قدَّم نحو مليوني شهيد للظفر بحريته واستقلال وطنه، وكما يفعل الشعب الفلسطيني البطل اليوم في مواجهة الاحتلال الصهيوني لأراضيه.
 
عالج عبدالله العروي هذه الإشكالية وهو يدرس تاريخ المغرب كاملاً، ذاهباً إلى زمن الإمبراطورية الرومانية، وهو يعالج إخفاقها فيما يصفه ب «رومنة» المغرب، حيث ذهب المؤرخون الغربيون إلى الزعم بأن ذلك عائد إلى خصائص نفسية لدى سكانها الأمازيغ، برغبة إخراج مقاومة المغاربة، آنذاك، لروما من دائرة رفض الهيمنة الأجنبية، شأن كل الشعوب التي تتمسك بسيادتها على أراضيها.

تحت ذريعة «تحضير» السكان المحليين قامت روما القديمة باستنزاف الأرض والقضاء على الغابات وتفقير السكان، وهو ما فعله المستعمرون الجدد حين استحوذوا على ثروات البلدان التي أخضعوها لهيمنتهم، لكن بدلاً من عنوان «التحضر» حلت مفردة «الدمقرطة» التي سوغت، فيما سوغت، للولايات المتحدة وحلفائها احتلال العراق وتدميره بعد أن أحكمت القبضة على نفطه.



22/12/2015
 

اقرأ المزيد

ضوابط انبعاثات السيارات.. مسار آخر ضاغط على النفط


تتوالى الضغوط على النفط من كل جهة، في وقت فقد فيه سعر برميل النفط نحو 60% من قيمته التداولية منذ مطلع العام الجاري. من بين هذه الضغوط المرتبطة بالسياسات الجديدة المعتمدة من قبل كبريات الدول المستهلكة لمصادر الطاقة وبضمنها النفط، لمكافحة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المتسببة، بحسب تقارير الهيئة الحكومية لتغير المناخ، في ارتفاع درجة حرارة الكوكب الأرضي إلى مستويات تهدد بحدوث كوارث طبيعية يمكن أن تكون مدمرة لعدد من البلدان الجزرية والساحلية – من بين هذه الضغوط، المبادرات والمشاريع الجريئة لتقليل كمية الغازولين المستخدم في السيارات ووسائل النقل الأخرى باعتبارها مقاربة رئيسية لخفض انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون الذي تنفثه السيارات في الغلاف الجوي.
 
تعتبر أوروبا، ومنظومتها الاقتصادية التكاملية، الاتحاد الأوروبي، صاحبة الصوت الأعلى في المطالبة العالمية باتخاذ إجراءات راديكالية، جريئة، للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (6 غازات هي على التوالي بحسب حصتها الأوفر في هذه الانبعاثات: غاز ثاني أوكسيد الكربون CO2 (مصادره الوقود الأحفوري وصناعة الأسمنت وأنشطة استغلال الإنسان للأرض والغابات)؛ غاز الميثان CH4 (مصدره الوقود الأحفوري والنفايات وإحدى طرق زراعة الرز)؛ وأوكسيد ثنائي النتروجين (Nitrous N2O) ومصدره الأسمدة الكيماوية والعمليات الصناعية وعمليات الاحتراق الداخلي للآلات؛ ومركبات الكربون الهيدروفلورية والمصدر الرئيسي لانبعاثات هذا الغاز هي صناعة الألمنيوم، وهو وإن كان لا يضر طبقة الأوزون، بل إنه على العكس يستخدم كبديل للغازات المسببة لتآكل طبقة الأوزون، إلا أنه يدخل ضمن الغازات المشمولة في بروتوكول كيوتو نظراً لبقائه في الجو مدة طويلة وتحوله إلى غاز احتباس حراري؛ ومركبات الكربون المشبعة بالفلور؛ وﺳﺎدس ﻓﻠﻮرﻳﺪ اﻟﻜبرﻳﺖ.

ولما كان غاز ثاني أوكسيد الكربون يحوز النسبة العظمى من إجمالي انبعاثات الغازات الستة المذكورة آنفاً (82% في الولايات المتحدة، ويصل إلى نحو 70% في المتوسط العالمي)، ولما كان الوقود الأحفوري مصدره الأساس بحسب ما قررته الهيئة الحكومية لتغير المناخ وبضمنه النفط، ولما كان قطاع النقل والمواصلات أحد أبرز القطاعات المستهلكة للوقود (للنفط في صورته المكررة «الغازولين»)، حيث تبلغ حصة انبعاثات السيارات 12% من إجمالي الانبعاثات الأوروبية من ثاني أوكسيد الكربون – فقد اتجهت إرادة المُشَرِّع الأوروبي إلى وضع تشريعات للحد من استهلاك وقود المركبات ورفع كفاءة استخدامه. ومن هذه التشريعات المُستَهدَف تحقيقها في عام 2015 الجاري، عدم السماح لجميع السيارات الجديدة المسجلة في الاتحاد الأوروبي بنفث انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون تزيد على 130 غراماً من ثاني أوكسيد الكربون في الكيلومتر الواحد اعتباراً من عام 2015 الجاري، أي ما يعادل استهلاك 5.6 ليتر من البترول لكل 100 كم، أو 4.91 لكل 100 كم من الديزل. علماً بأن متوسط انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون التي تطلقها السيارات التي بيعت في عام 2014 كان 123.4 غرام من ثاني أوكسيد الكربون للكيلومتر. ومنذ تطبيق هذا التشريع انخفضت انبعاثات السيارات بواقع 17 غراماً من ثاني أوكسيد الكربون في كل كم واحد، أي بنسبة 12%. وتم وضع ضوابط مشابهة لسيارات النقل الكبيرة والشاحنات. واعتباراً من عام 2021 سيكون الهدف خفض انبعاثات السيارات من ثاني أوكسيد الكربون إلى 95 غراماً لكل كم واحد، أي استهلاك نحو 4.11 ليتر لكل مئة كم من البنزين أو 3.61 ليتر من الديزل لكل مئة كم. وحاصل جمع نتائج أهداف التخفيض لعامي 2015 و2021، يشكل خفضاً نسبته 18% و40% على التوالي مقارنة بعام 2007 لأسطول السيارات في أوروبا الذي كان متوسط انبعاثاته 158.7 غرام من ثاني أوكسيد الكربون لكل كم واحد. واذا ما زاد متوسط انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون لدى مصنعي السيارات عن الحد المسموح به كل عام منذ 2012، فإنهم سيدفعون غرامة بواقع 5 يورو عن كل أول غرام/‏كيلومتر، و15 يورو عن ثاني غرام/‏كيلومتر، و25 عن ثالث غرام/‏كيلومتر، و95 يورو عما يليها. واعتبارا من عام 2019 ستكون الغرامة 95 يورو عن أول غرام/‏كيلومتر. بالمقابل فإن منتجي السيارات الذين يطورون تقنيات لخفض الانبعاثات من السيارات، سيحصلون على شهادات (كوبونات) انبعاثات توفيرية. وفي وسع منتجي السيارات أن يتعاونوا في هذا المجال لتحقيق هدف الخفض والحصول على هذه الشهادات. ويُطلق على معايير انبعاثات المركبات في الاتحاد الأوروبي يورو 1، يورو 2، يورو 3، يورو 4، ويورو 5.
 
الولايات المتحدة التي لم تنضم إلى بروتوكول كيوتو كي لا تلزم نفسها بحصة خفض الانبعاثات المقررة عليها، هي الأخرى وضعت لنفسها معايير لانبعاثات السيارات تشرف عليها وكالة حماية البيئة الأمريكية، حتى إن بعض الولايات مثل ولاية ماساسوشيتس، أبدت تحدياً لضوابط وكالة البيئة الأمريكية.

ومؤخراً انتقدت وسيلة إعلامية اقتصادية بريطانية، هي مجلة «الإيكونومست»، ما أسمته بالتدليس الذي تمارسه مؤسسات الاتحاد الأوروبي في طريقة احتساب كمية خفض انبعاثات السيارات الأوروبية من ثاني أوكسيد الكربون، واعتبرتها مخادعة ومبالغاً فيها. وزعمت بأن تطبيق معايير صارمة في هذا المجال لن تُمَكِّن الأوروبيين من بلوغ هدفهم المضروب في عام 2021 والمتمثل في الوصول إلى متوسط انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من السيارات قدره 95 غراماً لكل كم واحد، وإن بعض شركات انتاج السيارات الفرنسية والألمانية تضغط على حكومتيهما من أجل تأخير موعد هدف التخفيض الجديد المفترض بدء سريانه اعتباراً من عام 2025.
 
وفي تقديرنا، أن توافق أعضاء المؤسسة التشريعية الهندية على سَن هذين التشريعين، والسرعة التي تم إقرارهما بها في برلمان عُرف ببطء حركته وقراراته، يعكس استفاقة مبكرة لدى كل من السلطة التنفيذية (الحكومة) والسلطة التشريعية، في ما يتعلق بضرورة التصرف السريع وبمسؤولية إزاء تمخضات الانفلات بعيداً عن الدور التقليدي الذي ظلت تضطلع به الدولة الهندية منذ ما بعد الاستقلال كدولة راعية لشبكة برامج الرعاية الاجتماعية الموازية لديناميات النمو الاقتصادي الصلدة.
 
 
حرر في:  24/12/2015

اقرأ المزيد

ماذا عن الفكر؟


جيد، ولا شك، لا بل ومبهج هذا الإقبال من قبل المهتمين من الشباب على قراءة الروايات، التي باتت أكثر أجناس الكتب جاذبية في معارض الكتب وفي المكتبات. وجيد ومبهج أيضاً أن نرى أندية وحلقات القراءة التي يشكلها الشباب من الجنسين في العديد من البلدان العربية، وبينها البلدان الخليجية، ممن يتحلقون حول قراءة روايات معينة ثم يناقشونها من أوجهها المختلفة.
 
أنا شخصياً من الميالين لقراءة الروايات أيضاً، وأجد فيها ما يثري البصيرة ويبهج الروح ويوسع الأفق، فالبانوراما الواسعة التي توفرها الروايات، هذا إذا كانت جيدة بالطبع، تبسط أمامنا التاريخ والحاضر وتأخذنا إلى مكنونات النفس الإنسانية بما يعتمل داخلها من أشواق وعواطف وانكسارات، فيعرف المرء نفسه بصورة أفضل، لا بل ويحسن التعبير عنها أفضل مما يفعل من ليس لديه هذا الشغف.

أذكر أن محمود درويش وهو الشاعر الذي تعمق في قراءة الشعر الإنساني، كما الشعر العربي، خاصة القديم منه، واستلهم الكثير من هذه القراءة في نصوصه، تحدث في أحد الحوارات معه عن تفضيله قراءة الروايات، التي كان يجد فيها المتعة والفائدة.

هذا كله لا يمنعنا من الخشية من أمر مهم يتعين الوقوف عليه، هو أن يؤدي هذا الولع بقراءة الروايات إلى إغفال أن الأدب، والثقافة عامة، ليسا الرواية وحدها.

هناك المخزون الشعري العظيم، العربي وغير العربي، وهناك شعراء كبار لا يليق بأي مهتم بالقراءة أن يغفل عن الاطلاع على نصوصهم، ثم هناك القصة القصيرة، ولها من التجارب الشيء العظيم عربياً وإنسانياً.

يجب ألا نغفل، ولو لوهلة، عن أسماء مثل أنطون تشيخوف الذي كان قاصاً ومسرحياً، وليس روائياً، ويجب ألا ننسى أسماء عربية أيضاً لامعة في هذا الفن، وحسبنا اسم يوسف إدريس.

ويمكن أن نستطرد فنقول إن إرنست همنغواي وغابرييل ماركيز وألبرتو مورافيا ونجيب محفوظ، كتبوا قصصاً قصيرة رائعة إلى جانب رواياتهم الرائعة.
ما يقلق أكثر من هذا كله هو أن يغفل الشباب عن قراءة الأعمال الفكرية والفلسفية التي تصوغ لنا الرؤى والتصورات حول العالم والكون وتطور المجتمعات.

ومن واجبنا نحن المخضرمين ممن لحقوا زمناً آخر، كانت فيه المعارك والسجالات الفكرية على أشدها، وكانت هناك منابر ودوريات وتجمعات تنشر وتترجم وتجادل في جديد الفكر الإنساني، أن ننبه الجيل الشغوف بالمعرفة الناشىء اليوم إلى أن الأدب مهم جداً، لكن الأدب دون الفكر لا يصنع مثقفاً.


21/12/2015
 

اقرأ المزيد

حان وقت الأسئلة الأصعب..!


ليس لأي وزير، او مسؤول، او جهة لوم المواطن اذا ما توجس، او شعر بقلق لعدم القدرة على الاستمرار في عادة الاتكال على الشعارات الطنانة التي تطمئنه وتبشره بان «مكتسباته» لن تمس، وبان المواطن لن يتأثر، وبأن هناك «التزام من الحكومة بالعمل على ألا يتأثر المواطن بأي من الاجراءات بشكل مباشر»، وذلك بعد ان أسقط وزير المالية الغموض حول الآثار المترتبة على ارتفاع الدَّين العام والخطوات التي ستتخذ والتي قد تنجب وابلاً من المفاجآت على خلفية واقع المديونية المرير.. ووجدنا من يجزم..!!

يكفي التوقف ملياً عند ما أعلنه وزير المالية بوعي استثنائي، طالما نحن في مرحلة كل ما فيها استثنائي وشائك وتفرض التفكير والبحث في الخيارات الأسلم والأجدى، والرشيدة والمسؤولة والمدروسة في آنٍ واحد، حتى نخفف قدر الإمكان من وطأة اي اجراءات تقشفية مرتقبة على المواطن، هذا المواطن الذي لم يمنح يوماً في إبداء اي رأي في الخيارات والبرامج والسياسات والمخارج التي تمسه من قريب او بعيد، وهو يدرك بان ما يحصل الآن هو ان الأمور تأتيه كأمر واقع، كما يدرك بأن السلطة التشريعية أعطت الضوء لرفع سقف الدَّين العام من 7 الى 10 مليارات دينار بعد حالة من الشد والجذب والمداخلات السريعة «الساخنة» التي أثارها بعض النواب ازاء تعقيدات تفاقم الدَّين العام، والتي خلاصتها بالنهاية ليس كأنها لم تكن، بل عبَّرت أيضا عن مواقف ضعيفة ومتذبذبة عمقت قناعة الكثيرين بان نوابنا لا يراهن عليهم في بلوغ مخارج بناءة، وبجانب ذلك يدرك المواطن بان زعم بعض من يصنفون بانهم اقتصاديون ومحللون بان البحرين في وضع قادر على تحمل تبعات اضطرابات الأسواق العالمية الاقتصادية والسياسية، هو كلام غير منطقي، بل هو كلام «مجاملات» من النوع الذي ألفناه وسئمناه في كل مجال وميدان، وبات من المصلحة تجاوزه وعدم التشجيع على استمراره..!!

نعود الى كلام وزير المالية، والأرقام المطروحة من وزارة المالية، والتي لا بد من التوقف عندها ملياً لكونها في أبسط تحليل مثيرة للقلق، فحين يبرر لنا الاقتراض من زاوية «ان الوضع المالي الراهن يتطلب اتخاذ اجراءات سريعة للتعامل مع انخفاض اسعار النفط بخلاف ما كان متوقعاً عند إعداد الموازنة العامة للدولة 2015 – 2016 بواقع 60 دولاراً للبرميل، حيث انخفض الى ما دون ذلك، مما يزيد العبء وحجم العجز المقدر في الموازنة، الأمر الذي لم يعد معه خيار آخر، إلا الاقتراض..».
وفي إشارة لافتة تنبئ بما لا يخفي على ذوي الألباب، تقول وزارة المالية: «إنه في حال صدور الدَّين العام والذي بموجبه تم تحديد الدَّين العام بواقع 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي فان على الحكومة ان تضبط مصروفاتها في حدود هذه النسبة، وقد يترتب على ذلك اتخاذ اجراءات سريعة لعدم تجاوز الاقتراض للحد المسموح به مما يضر بالوضع الاقتصادي، وان لدى الحكومة الخطط والبرامج للتعامل مع الوضع المالي الحالي يتطلب خلق صدمة للاقتصاد..»..!!

مسألة الصدمة يصعب تجاوزها، ولم يعلمنا لا وزير المالية ولا غيره ماهي طبيعة هذه الصدمة تحديداً­، وكيف نكون مهئيين ومستعدين لمواجهتها، وما هي الحلول المعينة التي يمكن تحملها، وما هي السياسات الإستباقية لمواجهة هذه الصدمة، أو اي صدمات اخرى مقبلة، سياسات مدروسة وجديرة بالثقة، كما ان وزير المالية بشرنا بـ«موجات» متتالية من الاجراءات التقشفية، الهدف منها زيادة الإيرادات وتقليل المصروفات للوصول الى نقطة التوازن والمحافظة على المستويات المقبولة للبطالة وزيادة الناتج الإجمالي، والمحافظة على متوسط زيادة الرواتب، وتطبيق مبدأ استرداد التكلفة الفعلية للخدمات وتوجيه الدعم للمستحقين وتعزيز دور القطاع الخاص وتسهيل اجراءات الاستثمار…

ذلك هو المعلوم والمعلن حتى الآن من قرارات وتوجهات، وهي تفرض تساؤلات، بل التساؤلات الأصعب المقرونة بكثير من الهواجس المقلقة، لعل في المقدمة منها، كيف يمكن ان تتخذ تلك الاجراءات، وتفرض رسوم على الخدمات، وعلى قطاع الاعمال دون ان يتأثر المواطن..؟ ثم هل هناك ما يضمن سلامة الهدف والممارسة وكفاءة الادارة المالية والاقتصادية خاصة في ظل ان الميزانية وضعت على أساس 60 دولاراً لبرميل النفط بينما الاسعار نزلت في الوقت الحالي الى ما دون 40 درلاراً، وان ليس في الأفق ما يشير الى انكماش الدَّين العام، بل توقع صعوده المستمر..؟ كما ان النمو الاقتصادي المتوقع الذي قيل بانه لن يقل عن 3 بالمئة، سيكون امام تحدي امكانية القدرة على توفير إيرادات تغطي الحاجة لسداد أقساط وفوائد الدَّين المتفاقمة، والباعث على تفاقم القلق ان القروض لا تذهب لإنفاق رأسمالي يوفر ايراداً للخزينة العامة، فهي إما لسداد ديون مع ما يترتب على ذلك من التزامات، او لسداد عجز في الموازنة العامة ناتج عن إنفاق جارٍ غير منتج، ثم ما هي استراتيجية وزارة المالية في مواجهة ارتفاع الدين العام الذي تضاعف خمس مرات، وسؤال عن القطاع الخاص الذي يعّول عليه كأحد أهم روافد تنويع مصادرالدخل، هل التربة صالحة لغرس نبتة قطاع خاص مبادر وجريئ ويتمتع ببيئة حقيقية حاضنة للإستثمار، قطاع لا يشكو من بيوقراطية وفساد وما يفرض عليه من فوق وتحت الطاولة وكل ما هو طارد للإستثمار، ثم الى اي مدى هي واقيعة هذه التصريحات التي تؤكد لنا بأن اقتصادنا قوي، وبأن مصالح المواطنين لم تمس..!

الكل سيمس ان عاجلاً أم آجلا.. اليس هذه الحقيقة المرة والمغيبة.

من بين ما هو سيئ، ان ليس هناك خطة معلنة واضحة الأهداف والمنطلقات والآليات لسداد الدَّين العام، بحيث يتوفر جدول زمني يستدل به البحرينيون على موعد بدء انخفاض نسب الدَّين العام وقيمه المطلقة، وماهية الخطوات التي يمكن القيام بها لمعالجة الآثار المترتبة على الوضع الاقتصادي الراهن وكيفية تلافي اي تأثير مستقبلي على الاقتصاد والمواطن وعلى سعر الدينار البحرين..!!

 أمام المعنيين بالسياسات المالية والاقتصادية مهام عاجلة، المهم ان تكون حصيفة ومدروسة تجعل المواطن لا يتأثر بحق.. هذا هو التحدي وهذا هو الرهان..


 
22  ديسمبر 2015

اقرأ المزيد

من يُلوث المناخ؟


وأنا أحضر لكتابة هذا المقال بحثتُ عن بيانات حول أكثر الدول إضراراً بالمناخ العالمي، وأكثرها سبباً في تلوثه، فعثرت على معلومات متناقضة. بعض المواقع يؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أولى الدول في ذلك، فيما يذهب تقرير لشبكة «بي بي سي» البريطانية إلى أن الصين تفوقت على الولايات المتحدة في هذا المجال في السنوات الأخيرة، فأصبحت أمريكا هي الثانية بعدها، لكن تقريراً ثالثاً يرجح أن تكون أستراليا هي الأولى من حيث تلوث المناخ بسبب اعتمادها على الفحم كمصدر أساسي للطاقة.
 
بصرف النظر عن هذه التقارير، يمكن القول باطمئنان إن الدول الصناعية المتقدمة هي المسؤول الرئيسي عما حلَّ بالبيئة على كوكبنا من تخريب وتدمير وتلويث، بصورة باتت تهدد مستقبل الحياة عليه، وهو ما حمل هذه الدول على التداعي لقمة المناخ التي عقدت في باريس مؤخراً بغية اتخاذ تدابير من شأنها، في حال الالتزام بها، إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد أن فقدت الأرض الكثير من غاباتها، وانقرض الكثير من الكائنات الحية على وجهها، ما أضرّ بالتوازن البيئي الذي تشكل عبر مراحل زمنية طويلة جداً.

مع ذلك، فإن الدول الصناعية الكبرى، الغربية منها خاصة، تصرفت بالكثير من الأنانية في قمة المناخ بغية تحميل البلدان النامية كلفة التغلب على التغيرات السلبية في المناخ، هي التي لا طاقة لها على تحمل أي أعباء في هذا المجال، ولا هي، في الأساس، من أدى إلى تلك التغيرات، وحتى إن وجدت لها حصة في ذلك، فليست هي الحصة الأساسية.

في أمر قريب من هذا، يذكرنا الأمر بحساب قام به، منذ نحو عشرين عاماً، رجل أعمال إنجليزي وجد فيه أن سعر الإنسان الفرنسي يساوي سعر 47 إنساناً فيتنامياً، وإن بدا هذا مستفزاً، فعلينا شرحه أولاً، فالقصد هو أن كلفة العامل أو الموظف الفرنسي تعادل كلفة 47 من نظرائه في الصين، ووفق هذا الحساب أيضاً فإن سعر العامل الميكانيكي الأمريكي يساوي سعر 60 عاملاً ميكانيكياً صينياً.

للمزيد من الشرح، يمكن الاستشهاد بأقوال مستشار اقتصادي أمريكي يدعى وردني جونز مضمونها أن إنساناً أبيض في بريطانيا مثلاً يجب أن يحصل على دخل 15 دولاراً في الساعة مقابل 3 دولارات للإنسان الآسيوي، مع أن المهام التي يؤديانها واحدة.

لكن حين نأتي إلى الاستحقاقات يريد الأغنياء من الفقراء أن يتحملوا الأعباء ذاتها.



20/12/2015
 

اقرأ المزيد

كارهو الذاكرة


قارئو تاريخ أوروبا الحديث يعرفون قصة الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينات القرن العشرين، يوم قاتل الجمهوريون مدعومين من أحرار أوروبا الذين ذهبوا للذود عن إسبانيا الحرة ضد فاشية فرانكو. لم يكلل كفاح الجمهوريين الإسبان ومناصريهم بالنصر. لقد أمكن للفاشية يومها أن تئد الجمهورية الوليدة، وانتصر فرانكو الذي مهَّد بنصره لصعود الهتلرية في ألمانيا وغزوها لأوروبا.
 
يذكر المؤرخون أن أحد أسباب هزيمة الجمهوريين الإسبان هو أن فرانكو اتخذ من المتاحف والأبنية الأثرية درعاً، ولم يكن لدى الثوار استعداد لقصف تاريخهم ومستقبلهم. لقد آثروا الإبقاء على هذه المتاحف والأبنية حية خالدة، أما الفاشية فليس من عادتها أن تقيم اعتباراً كبيراً لهذه الأمور.
 
قريباً من هذا تبدو أجواء مسرحية ألفها الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي في روما عام 1956، ويصف فيها ليلة في مدريد المحاصرة، حيث أخفى مناضلو الجيش الجمهوري لوحات برادو الثمينة في متحف عميق تحت الأرض خوفاً عليها من قنابل وقاذفات الفاشيين. ويُقال إن ألبرتي نفسه وزوجته كانا من ضمن من شاركوا في عملية إنقاذ هذه التحف.

وقد ذهب خيال الشاعر بعيداً وهو يكتب مسرحيته، حين تخيل شخصيات اللوحات تخرج من الإطار لتشارك في الحرب، دفاعاً عن حرية إسبانيا. ومن ضمن هذه الشخصيات الإسبان الذين حاربوا ضد جيوش نابليون الذين رسمهم غويه عام 1908 يتوجهون نحو السلاح ويقيمون المتاريس لحماية المدينة من جحافل فرانكو المدججة بالأسلحة.

سيعطي التاريخ فيما بعد أمثلة حية على أن قوى الحرب المعادية للحضارة الإنسانية مجردة من أي حساسية تجاه التاريخ ورموزه، ومن هذه الأمثلة قيام قوات التحالف في حرب الخليج الثانية في مطلع التسعينات الماضية بقصف الجسور المعلقة في بغداد، ومن بينها جسر الشهداء الذي يعرف بالجسر القديم، وهو من أجمل جسور المدينة وفي اتجاه واحد، لأنه لا يحتمل عبور السيارات في اتجاهين. 

هذا الجسر بالذات دخل في الحيز المضيء من الذاكرتين العراقية والعربية، فعليه سقط شهداء انتفاضة 1947 الذين قدموا حياتهم فداء لاستقلال العراق وحريته، وبينهم كان جعفر الجواهري شقيق شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري الذي خلد ذكرى شقيقه في المرثية الشهيرة.

سيتكرر المشهد ذاته لحظة وقف الجنود الأمريكان يتفرجون، باسمين، على الرعاع وتجار الآثار وهم ينهبون مقتنيات المتحف الوطني العائدة لآلاف السنين، فيما كانت دباباتهم تطوق وزارتي النفط والمالية مانعة الاقتراب منهما.


 
17/12/2015

اقرأ المزيد