المنشور

“كورونا” وصناديقنا السّياديّة

بالنظر إلى التداعيات والآثار التي أحدثتها جائحة ” كورونا”على مدى اكثر من سبعة عشر شهراً حتى الآن، وعلى مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية المختلفة، هناك أمور عديدة اتضحّ للجميع تقريبًا كم هي مهمة ولا يمكن الاستغناء عنها او إهمالها بالنسبة لمختلف الشرائح الاجتماعية بغض النظر عن حجم الدولة او حتى امكانياتها، معالم ضعفها او قوتها.

فقد بات واضحا للجميع الآن وبشكل خاص للمتابعين للشأن العام المحلي كم هو مهمّ وحيوي أن تكون الدولة قادرة على إشاعة عوامل الاستقرار والثقة لدى مختلف مكوّناتها الاجتماعية والتدليل على قدراتها الفعلية في تجاوز المحن والتحديات والمصاعب وتقليل المخاوف من انفلات الأمور والفوضى.

لقد تابعنا جميعا الى اين يتجه الناس وإلى اين يرنو المزاج الشعبي بشكل عام في بحثه عن حلول واجابات لا تقبل الانتظار أحيانًا، وتحتاج إلى قرارات تنفيذية عاجلة، وكيف يبرز بشكل تلقائي دور القادة والنخب والهياكل الإدارية الكفؤة، وتختبر فاعلية السياسات والاستراتيجيات الوطنية، بعيداً عن الترويج الإعلامي أو حتي المزايدات السياسية التي قد تحدث أحياناً، نتيجة عوامل الشد والجذب المعتادة في المجتمع، بل كيف تتوحد الجهود الوطنية وتخبو التشنجات والانقسامات الحادة لصالح توجهات أكثر رشدًا ووعيًا للبحث عن حلول من شأنها ان تعزز عوامل الثقة وتعيد عوامل التلاحم المفتقدة للحفاظ على المكتسبات وبقدر ما تسمح به الظروف والتحديات القائمة.

بالنسبة لنا في البحرين، وبغض النظر عن الظروف الضاغطة بشدّة والتي عايشناها كما عايشها العالم من حولنا بصور شتى، فقد كان القاسم المشترك بالنسبة لنا في ظل عتمة الظروف الاستثنائية والخسائر المادية والبشرية المكلفة التي لازلنا نعيش فصولها بطرق مختلفة جراء تداعيات الجائحة، أن هناك الكثير من الأمور الإيجابية والوسائل الناجحة والتي أصبحت مجربة بشكل كافٍ، ولعلّ دور الدولة فيها كان جليا ومحوريا، ودلل على استطاعة الدولة، أي دولة، ان أرادت أن تقود مجتمعها إلى برّ الأمان بشيء من الحكمة والثقة وحسن الإدارة وتسخير كافة الإمكانيات للتغلب على كل ما يمكن ان يهدد استقرار وطمأنينة وتراجع مجتمعها.

فمنذ بروز مخاطر الجائحة بشكل جدي لدينا في البحرين لمس الجميع حجم الجهود التي قامت بها الدولة بكل مؤسساتها، وقام بها المجتمع أيضًا، في تحجيم التحديات التي برزت دون سابق انذار، والتي بالفعل كانت جديدة على المجتمع بأسره، على الأقل من زاوية كيفية إيجاد الحلول والتغلب على المصاعب وتوظيف الجهود والوسائل المتاحة، ورصد الأموال والميزانيات التي هي مقياس حقيقي يمكن مقاربته مع قدرات الدولة ووعي المجتمع والاستعداد الضمني لهياكل ومؤسسات المجتمع في شحذ الجهود وصهرها في بوتقة الدفاع عن المصالح الحيوية للوطن وأهله والمقيمين على أراضيه.

وبالفعل تابعنا كيف تشكّلت الفرق الوطنية الرسمية والأهلية، وفتحت أبواب التطوع على مصاريعها دون حواجز او قيود حتى انخرط في العمل اكثر من ثلاثين الف متطوع ومتطوعة ومن مختلف الشرائح والتخصصات وبنكران ذات ودون خوف او تردد، كما قامت الدولة ممثلة في السلطة التنفيذية ومعها السلطة التشريعية بجناحيها النواب والشورى بعقد العديد من الاجتماعات التنسيقية والتشاور والمتابعة، وتمّ تمرير القوانين والتشريعات المطلوبة وبالتالي رصدت الميزانيات والحزم المالية والاقتصادية وعلى دفعات، وبعد اجراء الدراسات المطلوبة لرصد أماكن العوار والتراجع والعمل على اصلاح الوضع الاقتصادي باعتباره رافعة حقيقية للوضع الاجتماعي.

وكانت الأهداف بالنسبة لجلّ المشتغلين في هذه المهام الوطنية واضحة، لعلّ من أبرزها كيفية الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي للأسر والأفراد في المجتمع وعدم السماح بإفلاس الشركات، وبالتالي عدم إيجاد مبررات لها للقيام بتسريحات غير مقبولة للعمالة الوطنية جراء تعطل غالبية الأعمال والشركات، إضافة الي استمرار برامج الدعم وبرامج الضمان الاجتماعي للأسر المحتاجة، علاوة على دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة عبر حزمتي الدعم المالي والاقتصادي، الأولى والتي بلغت اكثر 4.3 مليار دينار والثانية التي أقرّت منذ اكثر من أسبوعين والتي بلغت 485 مليون دينار وما تبعهما من إضافات وحزم مالية وإجراءات وتوجيهات، كان هدفها الأساس هو كيفية الحفاظ على حالة الاستقرار في السوق والمجتمع مع توفير السيولة اللازمة والثقة لدى المواطن والمقيم والمستثمر في ظل الظروف القائمة.

ومن بين المؤشرات التي يسهل رصدها في ظلّ ما أحدثته الجائحة بدا واضحاً للعيان أن هناك حاجة ماسة لشرعنة ومراجعة بعض الأمو ر التي ارتبط بها نجاح البحرين في العبور حتى الآن بنجاح،رغم شحّ الميزانيات والقدرة المالية، ولعلي اذكر من بينها ضرورة مراجعة توجهات وبيع أصول الدولة عبر برامج الخصخصة والتي هي ضمانة لاستمرار حالة الاستقرار المجتمعي نتيجة عدة اعتبارات، كما برزت أيضا أهمية الصناديق السيادية وضرورة ابتداع طرق اكثر نجاعة للحفاظ عليها وتنميتها، فقد تابعنا الدور المحوري الذي لعبه صندوق التعطل بما وفره ويوفره من أموال طائلة تصب في دعم الاقتصاد الوطني وتوفير السيولة المطلوبة لدعم الأجور والشركات وعدم السماح بإفلاسها لا سمح الله، علما أن هذا الصندوق بالذات قد تعرض أكثر من مرة لدعاوى تطالب بحله لأسباب غير وجيهة بالمرة، لكن نحمد الله ان تلك الدعاوى أصبحت جزءا من الماضي، وبالمثل عمل صندوق العمل تمكين وصندوق احتياطي الأجيال في دعم الدولة والمجتمع.

خلاصة القول، إننا أمام تجارب وعبر ودروس علمتنا إياها جائحة “كورونا” وعلينا ان نتعظ منها وهي كثيرة ومتعددة وتحتم علينا التبصر فيها جيداً والبناء عليها نحو مستقبل أفضل لوطننا.

اقرأ المزيد

هل من الأصول بيع أصول النفط والغاز

معظم الذكور المتقاعدين أو من يقترب من حالهم، أطال الله أعمارهم، مرّ بما يسمى PSA (Prostate-Specific Antigen (PSA) Test)، أي، اختبار مستضد البروستاتا النوعي لمعرفة حال البروستاتا. الاقتصاد النفطي في منطقتنا يمر أيضا بامتحان PSA الصعب منذ العقد الأول للقرن الحالي. والاختصار هنا يعني Production Sharing Agreement (PSA)، أي، اتفاقيات المشاركة بالإنتاج. وكان التمرين العام الأول لتطبيق مثل هذه الاتفاقيات في العراق الشقيق، باعتباره الحلقة الأضعف في المنطقة، وحيث كان العراق تحت الاحتلال الأميركي رسميا منذ عام 2003، ويحكمه عمليا بول برايمر تحت مسمى رئيس الإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق. في ديسمبر 2006 صادق مجلس الوزراء العراقي على مسودة قانون النفط والغاز المعروضة عليه والمتضمنة عقد المشاركة بالإنتاج، ودَفَع بها إلى مجلس النواب للمصادقة. وبذلك تراجع العراق عمليا عن أحد أكبر منجزاته التحررية الوطنية بتأميم النفط في أوائل سبعينات القرن الماضي.
وقد تعرضت المنظمة الدولية للشفافية في الصناعات الاستخراجية ومنظمة الشفافية في العوائد النفطية إلى هذا النمط من عقود PSA بالنقد المرير، لما يعنيه من إجحاف بحق الدول المنتجة والمصدرة ولصالح شركات النفط العالمية. ويعود تاريخ عقود المشاركة بالإنتاج إلى ستينات القرن الماضي ابتداء من أندونيسيا (1966). لكن أندونيسيا تمكنت من تحسين شروط العقود المجحفة بعد مرور عشر سنوات، تحت تأثير عمليات تأميم شركات النفط في ليبيا التي جرت بين عامي 1971 و 1974 والعراق (1972). وبتأثير من ذلك ارتفعت مطالبات بلدان الخليج وغيرها المنتجة والمصدرة للنفط بحصة أفضل من العائدات. ولوقف العمل بعقود الامتيازات التي جعلت النفط أشبه بالملكية الخاصة للشركات الأجنبية كان أمام بلدان الخليج خياران: التأميم المباشر أو المشاركة مع الشركات الأجنبية مع شراء حصصها تدريجيا. وقد اختارت الثاني. واستمرت الشركات الأجنبية تعمل على أساس عقود خدمات. وبذلك حققت بلداننا سيطرة أكبر على مواردها الطبيعية، وجعلت سياسة الإنتاج والتصدير وفق قرارات السيادة الوطنية.
الآن يعيد التاريخ نفسه. فكما تأثرت بلداننا بوثبة التأميم التقدمية في عالم النفط، كذلك تأثرت بحركة العراق الارتدادية عن التأميم والعودة إلى الخلف بصيغة عقود المشاركة بالإنتاج PSA. وفي مملكة البحرين، كما في بلدان خليجية أخرى سميت الاتفاقيات اختصارا EPSA (Exploration And Production Sharing Agreements ) أي، عقود الاستكشاف والمشاركة في الإنتاج، وقد بدأ التحرك نحوها منذ عام 2008. وقد تمت المصادقة أخيرا على اتفاية من هذا النوع بين مملكة البحرين وشركة النفط Eni .
مقارنة سريعة لهذه الاتفاقية حتى باتفاقيات الطراز القديم من PSA ، على مثال أندونيسيا 1966، نجد أن أقسى ما في هذه العقود هو حد استرداد الكلفة للشركات. في العقود القديمة يصل أقصى هذا الحد إلى 40% من النفط المنتج. أما المادة 14 – 4 (ب) في اتفاقيتنا المقرة تتيح للشركة حق “استرداد التكلفة” في نطاق 50 – 60% من النفط المنتج، بناء على “معامل نسبي” تم تعريفه في الاتفاقية بشكل معقد، وبإيجاز على أنه نسبة الإيراد التراكمي إلى تكاليف النفط التراكمية (R factor). كما أن صادرات الشركة من حصتها من النفط لا تخضع للرسوم. وبينما حُددت حصة أندونيسيا من الربح بـ 65% والشركة 35% (تمّ تعديلها عام 1976 لتصبح حصة الحكومة 85% التي عادت فانخفضت إلى 65% مع تراجع الأوضاع السياسية للنظام في أندونيسيا)، فلدينا تتراوح حصة البحرين بين 35 و 65%، بناء على “المعامل النسبي” إياه. أي أن حصة الشركة من الربح لن تقل عموما عن 45 – 50%. ناهيك عن أن الاتفاقية لا تتضمن مقدار الريع للمملكة باعتبارها مالكة الأرض.
وإذ يجري الحديث عن ضريبة دخل تدفعها الشركة، فليس من المعروف كيف ستتحقق في ظل عدم وجود قانون للضريبة على دخل الشركات في البحرين. وفي حين حدد مدى سريان اتفاقيات أندونيسيا بعشرين عاما، فيبدو أن الاتفاقية مع شركة إيني قد تمتد إلى أبعد.
الفخ الكبير يكمن في تقدير التكلفة. فهي تشمل الرواتب والخدمات والامتيازات، المبالغ فيها عادة، للموظفين الأجانب وعائلاتهم الذين تجلبهم الشركة معها. وهذه مناسبة لتكرار ما سبق وقلناه من أن بلادنا ليست فقط بحاجة إلى قانون للحد الأدنى للأجور، بل والحد الأقصى أيضا. كما تشمل مصاريف مكاتب الشركة وموظفيها خارج البلاد ذات العلاقة بأعمالها في البحرين. ونظرا لكبر حجم الشركة العالمية فإن هذه المكاتب قد تقدم الخدمات لأعمال الشركة ليس فيما يخص البحرين وحدها. وكذلك مختلف جوانب التكلفة التي يعود تقديرها للشركة في الأساس.
وبعد إقرار لجنة الشؤون المالية والاقتصادية البرلمانية للاتفاقية “استحثت” الحكومة مجلس النواب على استعجال التصديق عليها خلال جلستين متتاليتين (وضمن جدول أعمال يشمل قضايا أخرى) تحت مبررات قرب انفضاض دورة الجلسات البرلمانية وعدم تأخير خطط كل من الحكومة والشركة والخشية من أن التأخير قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد والأجهزة والمعدات اللازمة، وكذلك للإسراع في تحقيق النتائج وجني المردود. كادت الشركة أن توصَف بالمضحي لإقدامها على مخاطرة توقيع هذه الاتفاقية حيث أن حظوظ الحصول على النفط والغاز المصاحب غير معروفة، كما أن أسعار النفط متدنية للغالية. لكن الحكومة، من الجهة الأخرى، قالت بأن التقارير الأولية للشركة إيجابية. وهذا يعني أن درجة المخاطرة قد تراجعت. أما بشأن أسعار النفط والغاز فلنا وقفة.
لنوضح الواضح بأكثر وضوحا. منذ زمن ونحن نشهد عودة أسعار النفط إلى الارتفاع. وقد اجتازت الآن حاجز السبعين دولارا للبرميل (د/ب)، ومعظم التوقعات تشير إلى صعودها صوب 100 د/ب. وباعتقادنا أن ذلك سيستمر لفترة غير منظورة لعوامل موضوعية وذاتية.
العوامل الموضوعية
بدأ العالم يشهد إقلاعا اقتصاديا، وخصوصا في الصين مما سيصعد الطلب على النفط والغاز. والقول بأن إجراءات تحسين المناخ ستؤدي سريعا إلى تراجع الوقود الأحفوري في ميزان الطاقة العالمي يبدو مبالغاً فيه بعض الشيئ. فالجدل حول صدقية دعاوى تحسين المناخ لا يزال محتدما في أميركا ذاتها ( أنظر مقالة ليزا فريدمان، نيويورك تايمز، 23 يونيو 2021). كما أن التحول عن الوقود الأحفوري لا يزال يُحمِّل كثيرا من المؤسسات الصناعية أعباء ثقيلة في ظل الأوضاع الاقتصادية العالمية الراهنة. من جانب آخر، يؤكد تقرير أوبيك (ОПЕК World Oil Outlook, 08 oct 2020) أن الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم) يمثل 72.2% من ميزان الطاقة العالمي. وسينمو الطلب على النفط والغاز والفحم والطاقة النووية والمصادر المتجددة مجتمعة، من 289.1 مليون برميل (مكافئ نفطي) يوميا عام 2019 إلى 361.3 مليون برميل مكافئ عام 2045. وسيظل النفط صاحب أكبر حصة في ميزان الطاقة، رغم أن حصته ستنخفض من 31.5% عام 2019 إلى 27.5% عام 2045، وسترتفع حصة الغاز خلال نفس الفترة من 23.1% إلى 25.3%. فبالأرقام المطلقة، قد ينمو الطلب على النفط خلال نفس الفترة من 91 مليون إلى 99.5 مليون برميل يوميا، والطلب على الغاز من 66.9 مليون الى 91.2 مليون برميل مكافئ يوميا.
العوامل الذاتية
دعونا نراها من زاوية السياسة المالية-الاقتصادية الأميركية (العالمية). أعتقد إلى حد بعيد بصحة الرأي القائل أن ما استحث الرئيس بايدن لتعجيل لقائه بنظيره الرئيس بوتين هو، مهما بدا ذلك غريبا، جموح التضخم النقدي في الولايات المتحدة الذي بدا غير قابل للتحكم بعد أن وصل إلى 5%، بسبب الإصدار النقدي المنفلت. بايدن يريد أن يقنع بوتين بأن لدى بلديهما مصلحة مشتركة في ارتفاع أسعار النفط والغاز لأمد طويل. وهذا بالطبع بالضد من مصلحة أوروبا والصين. لكن ذلك سيسمح للمصارف الأميركية والأنجلوسكسونية بشكل عام بكسب المال والسيطرة على عملية تراجع الدولار وإبطائها. كما يرغب الأميركيون بتسوية تحول دون تحوُّل تجارة النفط إلى اليورو للحفاظ على دور ومكانة الدولار في التجارة الدولية. وبهذا تستطيع أميركا تصدير التضخم إلى أوروبا وتحميلها قسطا من تكاليف الفترة الانتقالية.
قراءة لهذه وغيرها من العوامل الموضوعية والذاتية برأسٍ صاحٍ يجب أن تجعلنا نعيد الحسابات في كثير من الأمور للإمساك بالفرص التي يتيحها المناخ الاقتصادي العالمي الراهن على كل عِلاَّته، بدلا من تخويف الذات وإعطاء الشركات الأجنبية ما لا تستحق.
وأخيرا، نقطة تتعلق بجوهر التفكير الاقتصادي السائد لدينا. هذه الاتفاقية وغيرها من المشاريع الاقتصادية تبدأ من حساب الكلفة وتنتهي بحساب المردود المالي الذي ما أسهل أن يجد قنوات تصريفه في أوجه ليست اقتصادية وتنموية عموما. ولفرط الأسى، هذا هو أحد أهم أسرار تسارع تنامي الدين العام، الذي يقلب الأمان سقام. بعيدا عن السياسة، والود من عدمه، لننظر إلى الاتفاقيات الاستراتيجية الكبرى التي تبرمها بلدان عديدة مع جمهورية الصين الشعبية. ليس سرا أن الصين تحصل بموجبها على مواد الطاقة بأسعار قد تكون متهاودة كثيرا عن الأسعار العالمية. على أن المردود بالنسبة لأطراف الشراكة الآخرين ليس المالي هنا، بل برامج الاستثمارات الشاملة التي تبدأ من البنية التحتية وتنتهي بالتكنولوجيات المتقدمة، وبينهما برامج التنمية الصناعية والزراعية والصحية والتعليمية والخدماتية الأخرى والثقافية والبيئية وبناء القاعدة العلمية – التقنية والكادر الوطني المؤهل للاضطلاع بهذه المهام. وتكون الصين عادة مستعدة لدعم تمويل كل تلك المشاريع. وإذا ما أبرمت اتفاقية بين الصين وبلد ثان، فإنها تجتذب استثمارات بلدان ثالثة أخرى للانخراط في مشروع التعاون الاستراتيجي.
ومع أهمية أن يسود مثل هذا التفكير لدى صانعي القرار، إلا أنه لا يكفي لوحده. فمثل هذه المهام الكبرى لا تتحقق بدون إشراك مؤسسات المجتمع وتفعيل طاقاته الخلاقة. فماذا لو أُعطي للسلطة التشريعية الوقت الضروري الكافي للدراسة والاستشارات التي هي من حقهم؟ وماذا لو تمّ، مثلا، أخذ رأي جمعيات الاقتصاديين والمحامين والمهندسين في مثل هذه الاتفاقية؟ أما كان من الممكن أن يقترحوا ما يحسن شروطها في أضعف الحالات؟
ها وقد تحدثنا عن كل ذلك، بقي أن نتساءل: ماذا عن الاتفاقيات المماثلة، القادمة في الطريق؟

اقرأ المزيد

الفعل والقتل

في عام 1986 أصدر الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين الطبعة الثانية من ديوان الشاعر الشهيد سعيد العويناتي: “إليك أيها الوطن.. إليك أيتها الحبيبة”، الذي كانت طبعته الأولى قد صدرت في البحرين عن دار الغد عام 1976، أي في نفس العام الذي استشهد سعيد في نهايته، وقدّم للطبعة الثانية الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف الذي توفي الشهر الماضي، ويذكر أنه أضيفت إلى هذه الطبعة ثلاث قصائد، كتبها سعيد بعد صدور الطبعة الأولى، ويعتقد أنها آخر ما كتب.
في استذكار للشاعرين سعدي وسعيد، تعيد “التقدمي” نشر المقدّمة التي كتبها سعدي يوسف للطبعة الثانية من “إليك أيها الوطن.. إليك أيتها الحبيبة”.
المحرر

في أواسط السبيعينات، وببغداد..عرفته.
أيامها، كنتُ في “المركز الفلوكلوري”، بعيداً عن الضجيج منصرفاً عنه إلى ضجيج خفىٌ في الروح ربما كان أعلى صوتاً.
أتذكر أن سعيداً نشر آنذاك قصيدة في صحيفتنا اليومية، وكان للقصيدة مفاجأتها، لديٌ، أنا الذي اعرف من أهل الشعر في البحرين أسماء محدودة عزيزة، ليس بينها اسم سعيد العويناتي.
أسررت لصديق رغبتي في التقاء الشاعر الشاب. ولم تمرٌ ايامً عديدة، حتى التقيته، حيث كنت أعمل. كان ذا صوت واضح خفيض، وعينين مستقرتين، وتواضع مكتملٍ. تحدثنا عن الشعر في البحرين، وعدني بأن يزودني مما لديه من مطبوعات متصلة بحديثنا. وقد برٌ بوعده، بل قدٌم لي أكثر مما اقتضى الوعد: ديواناً من الشعر الشعبي أيضاً.
وتوالت لقاءاتنا حتى تواترات، وحتى أخذ يطلعني على قصائد له جديدة، وكنا نتداول أمرها، ونتداول الأمور بعامة، ثقافة وسياسة، وأنباء عن البلد المحتدم.
وكنت أعجب لهدوئه واستقراره وثقته، في وقت لم تكن الأيام، هناك، مدعاة هدوء واستقرار وثقة.
قال لي يوماً إنه سيذهب إلى أوروبا، أوروبا الاشتراكية في الغالب، ليتابع دراسةً، وكان النبأ مفرحاً.
ثم جاءني يوماً، مودعاً.
إلى أين؟ أللدراسة؟ قال نعم، لكني سأزور البحرين زورةً قصيرةً، أرى فيها الأهل والأصدقاء، وبعدها أذهب إلى حيث استكمل دراسة. وكان حدثني عن صحيفة هناك كتب فيها.
سألته إن كان مطمئناً إلى رحلته. قال، انه لن يطيل المكث في البحرين:
هكذا كان الوداع.
سعيد العويناتي أطال المكث في وطنه.
سعيد العويناتي قتل في 12/12/1976
سعيد العويناتي هُشمّ رأسه تعذيباً.
في ديسمبر 1976، كان شاعر هو عبد اللطيف اللعبي، سجيناً في السجن المدني بالقنيطرة (المملكة المغربية) يقول في رسالة موجهة إلى ولده ياسين، مؤرخة في الثامن والعشرين من ديسمبر1976: “أن تكتب معناه في العمق، أنك تتقاسم مع الآخرين شيئاً ما. كما لو أنك توجه الدعوة للتفاهم والمحبة والإقدام على فعلٍ ما”.
سعيد العويناتي في ديوانه الوحيد (اليك أيها الوطن….إليك ايتها الحبيبة)، يحقّ له أن يعتبر ما كتبه عبد اللطيف اللعبي موجهاً إليه، فهو، شأن شأن الناس، يتقاسم مع الآخرين شيئاً ما، إلا أن ما يتقاسمه مع الآخرين هو الأمر الصعب، هو الاختيار العذب والقاسي في آن. هذا الاقتسام يستغرق المجموعة، ابتداء من “زويا” حتى القصيدة الأخيرة “للخروج من الصمت”، ولسعيد مدخله الأثير هنا، مدخله الذكي؛ انه يعتمد الشخصي أولاً، لينطلق منه. من هنا يأتي الإقناع في النص الشعري.
حين أدقّ عليك الباب فتفتحه
ادخل مرتعشاً، في عينيك كتابك
أو مبتلاً بالمطر النازل من سعف النخل
ومن زرقة ماء البحر
هل تذكر ذلك؟
“حين اردٌ الماء مرتعشاً”
حتى في الموضوع الذي يستلزم صراحة اكبر، وتعجُّلاً نحو العام، نجد سعيداً يتأنى، ويظل أميناً إلى مدخله الأثير، قد تنتهي القصيدة بالهتاف أو الصرخة، لكن هذين لا يأتيان إلا بعد جهد بذل، قدر الإستطاعة، بحيث تجد الانتقالة تبريرها. في قصيدة “أغنية إلى الكوكب المتواري” يكون المدخل المشترك ذكرى الطفولة.
هل تذكر تلك الريح البريّة
يا من كنت معي فوق رمال البحر
وفي الطرقات تغني
والأطفال عصافير تسرح فيما بين العامين.
وترسم لوحات للنخل المتمدد من آلاف السنوات
بهذي الجزر المملؤة بالأصداف..
ويتدرج في تصعيد الذكرى، وتوظيفها، لينتقل إلى الحدث، إلى “الإقدام على فعلٍ ما” كما يقول اللعبي، ويأتي التصريح تلميحاً ذكياً في نهايات لقصيدة؛
هاك سماء بلادي
خذها لك
يامن كنت على مقربة منا
والفتيات يطفن بباب البحرين
يرددن هتافاً يحمل اسمك ..
على أي حال، لا أريد أن أحمّل سعيداً فوق طاقته. لا أريد ان أقول إنه شقّ طريقه حتى النقطة التي نتوقف معه، عندها، طويلاً. لقد استشهد، وهو في أوائل بحثه الشعري. أقول: بحثه الشعري، لأنه كان يبحث، حقاً، عن قصيدته. وفي ديوانه أمثلة قليلة على بحث متجرد طموح، قصيدته “لحظة تأمل في الذاكرة” أنموذج لما كان يمكن أن يُشكّل (بعد جهدٍ طويل) ملمساً متميزاً لأنامل الشاعر.

في إحدى قصائد ستيفن سبندر، نجد المقطع الآتي:
نظرتُ من النافذة.
إلى خواء عالمٍ يتفجر.
الأحجار والحصا، مقذوفة، نافورة إلى اعلى
تميل بها الريح
جفّ من ذهنك كل احساس
سوى أنك وحيد
لاشيء ثابت لتثبت عليه العينُ
صرت، ثانيةً، طفلاً.
يرى للمرة الأولى كيف تحدث أسوأ الأشياء.
كان قدر سعيد العويناتي، ليس أن يرى للمرة الأولى “كيف تحدث أسوأ الأشياء”. كان قدره أن يرى الأشياء السيئة تحدث آلاف المرات، وكل يوم بحيث لم يعد فيها ما يدهش، او يفاجئ.
والطفولة (طفولته، المفعمة برائحة البحر والنخل والمطر، الطفولة التي كانت مدخله إلى القصيدة، والحياة…) رحلت مبكرةً، قبل أن يستنفذها، أو يمضي طويلاً في استكناهها واستخدامها. والوحدة، الضرورية للشاعر فنياً، وجدت نفسها متنحية إزاء ضرورات أكثر الحاحاً.
بالرغم من هذا كله، ظلّ الشعر لدى سعيد هاجساً شديد الالحاح، هاجساً أول، بارزاً تماماً بين الأولويات العديدة.
***
يقول هنري ميللر “إن فعل القتل، سيبلغ غايته سريعاً، وعندما يختنق صوت الشاعر، يفقد التاريخ معناه، وينفجر وعد الدينونة، مثل فجر جديد مخيف، على وعي الإنسان”.
***
في محاكمة غرامشي، قال له القاضي: “إني أريد أن أعطلّ هذا العقل عشرين عاماً”. وحكم عليه بالسجن تلك الأعوام.
وفي البحرين قتلوا شاعراً شاباً، كي يعطلوا تطوّره اللاحق الأكيد.
***
وفي الذكرى العاشرة لاستشهاد سعيد العويناتي، ومع صدور الطبعة الجديدة لمجموعته اليتيمة، يحقّ لنا القول إن فعل القتل لم يبلغ غايته، ما دام سعيد العويناتي في أفئدة شعبه ورفاقه. وسنظل نتابع مآثره وآثاره، ولن تظل المجموعة اليتيمة يتيمة، فطبعتها الجديدة تضم ثلاث قصائد مضافة لسعيد، ثلاث شارات له، ثلاث شارات إلينا.

سعدي يوسف
30/12/1986

اقرأ المزيد

أشاد بالطرح الوطني لكتلة “تقدّم” – بمناسبة اليوم الدولي للعمل البرلماني ” التقدمي” يجدد دعوته لتطوير التجربة البرلمانية ومجلس نيابي كامل الصلاحيات

بمناسبة اليوم الدولي للعمل البرلماني الذى اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك بموجب قرارها 72/278 الصادر في شهر مايو 2018 والمصادف في 30 يونيو من كل عام، وهو التاريخ الذي يتزامن وذكرى تأسيس الاتحاد البرلماني الدولي، المنظمة العالمية للبرلمانات الوطنية، يؤكد المنبر التقدمي على أهمية الدور الذي تقوم به المجالس البرلمانية المنتخبة انتخاباً حراً وديمقراطياً في تمثيل شعوبها، وتكريس الديمقراطية التشاركية كمسار حتمي لأي إصلاحات تستهدف إرساء قيم الديمقراطية والأمن والحرية، وقيم المراقبة والمساءلة وكل ما ينهض بواقع هذه الشعوب، انطلاقا من وظائف هذه المجالس كسلطات تشريعية تمثل الشعوب في سن القوانين ومحاربة الفساد والدفاع عن حقوق الإنسان ورسم السياسات العامة التي تنهض بواقع هذه الشعوب ومستقبل الأجيال.

ويشدد التقدمي في هذه المناسبة على أهمية تطوير التجربة البرلمانية في البحرين بشكل يمّكن البرلمان من خلال أعضاءه وآلياته وصلاحياته ونزاهة انتخاباته في التأسيس لبرلمان قوي يعمق الممارسة الديمقراطية، وينهض بحقوق والكرامة، ويعزز التنمية المستدامة، ويخدم ما يعزز وحدتنا الوطنية ويتصدى بقوة وثبات لكل من يحاول أن يمس التوافق الوطني ويزرع بذور الفتنة والانشقاق والتمييز، ويسعى إلى كل ما يستجيب لتطلعات الشعب، ويرفض كل خطوة يراد منها تهميش أو ضعف وإضعاف هذه التجربة بأي شكل من الأشكال. بل ويسعى بصدق وثبات الى توسيع دور القاعدة الشعبية بفرض صلاحيات وإمكانات تشريعية ورقابية في آلية العمل داخل المجلس بما يحقق الغاية التي من أجلها وجدت السلطة التشريعية.

وانطلاقاً من إيمان صادق بالوطن والشعب وما يتوافران عليه من إمكانات وقوى حية، وحرصاً على التفاعل الإيجابي مع أي مبادرة لدعم وتعزيز أي مبادرة تمس الحاجة للإصلاح السياسي وتطوير التجربة البرلمانية عبر مجلس نيابي كامل الصلاحيات دون التباس، فى التشريع والرقابة والمساءلة ومحاربة الفساد، فإننا خاصة فى ظل مستجدات وتحديات واضحة للعيان نستشعر الأسى لحالة برلمانيين لم يتخلوا طواعية عن ما تبقى من صلاحيات في المساءلة والاستجواب، بل تبنوا أمام العديد من القضايا والملفات مواقف “تحت الطلب” بعيدًا عن الخيار الديمقراطي الحقيقي بما يثير لدى الأوساط الشعبية الهواجس والقلق عن دورهم الفعلي داخل المجلس نظرًا للقرارات والمواقف التي يتبنونها بعيدًا عن الرؤية الوطنية التي يتفق عليها الاجماع الوطني ، وإذا كنا نثمن جهود كتلتنا البرلمانية “تقدّم” وما تبذله من مساع في الطرح الوطني تحت قبة البرلمان، وتبنيها المواقف المنسجمة مع رؤانا الوطنية وتطلعات شعبنا والتي تطرح في البرلمان، فإن هذه الكتلة رغم العوائق والاعتبارات والحسابات التي تفرض نفسها في مسارات العمل البرلماني الراهن، ونؤكد بهذه المناسبة بأن كتلة “تقدّم” ستظل تمضي بثبات فى مواقفها وأطروحاتها الوطنية داخل قبة البرلمان وخارجها، وسيكون المنبر التقدمى والقوى الوطنية الحية مساندة وداعمة للكتلة، ولكل برلماني يتبنى قضايا الوطن والشعب.

كما أننا بهذه المناسبة، وأمام كم لا يستهان به من الخيبة والمرارة لما اعترى تجربتنا البرلمانية من أوجه قصور في الصلاحيات ومواقف وأداء بعض البرلمانيين، نؤكد على أهمية دور الناخب ومشاركته الايجابية البعيدة كل البعد عن كل الاعتبارات والحسابات التي يحاول البعض فرضها علينا والتي أعاقت تجربتنا البرلمانية من التطور وفتح الآفاق التي ننشدها جميعا في مسار العمل البرلماني، وهو الدور الذي نلح على استدعاءه فى انتخابات العام المقبل من أجل تحقيق هدف النهوض الفعلي لتجربتنا البرلمانية، داعين كل الأطراف المعنية من مواطنين وكتل وتيارات وجمعيات ومؤسسات أهلية للعمل وفق رؤية وطنية جامعة تلتف وتدعم المترشحين المؤهلين والقادرين على تبني الملفات والقضايا الوطنية والدفاع عن حقوق المواطنين ومصالح المتقاعدين والفئات الضعيفة وفي طليعتهم العاطلين والعمال والكادحين، إلى جانب قيامهم بكل كفاءة واقتدار بدورهم فى التشريع والرقابة والمساءلة ومحاربة الفساد ويكونون حصيلة انتخابات تتم بحرية كاملة، ونزاهة مطلقة، ووعي مستقبلي.

إننا نتطلع إلى أن المجلس النيابى دوماً مجلس وحدة وطنية، مجلس ليس فيه نائب يحسب على هذه الطائفة او تلك الفئة، أو هذه المنطقة أو تلك، بل كلهم نواب بحرينيون، ولاؤهم جميعاً للبحرين، لا يقدمون اقتراحاً، ولا تشريعاً، ولا يتخذون موقفاً إلا لمصلحة البحرين، و شعب البحرين الذى يمثلونه، مؤكدين بأن هذا لا يعني أبداً أن تكون آراء كل أعضاء المجلس النيابي متفقة فى كل أمر أو موقف، وأن اجتهاداتهم موحدة فى كل اتجاه، وقراراتهم جماعية في كل موقف، فالوحدة الوطنية لا تترسخ إلا بتعدد الآراء والاجتهادات والمواقف في سبيل مصلحة الوطن، شريطة الالتزام بديمقراطية الحوار وأغلبية القرار.

وانطلاقاً من إيمان ” التقدمي” الراسخ بذلك وبالمبادئ والقيم التي تنهض بها المجتمعات الديمقراطية وتبنى مؤسساتها البرلمانية في إطارها السليم بما يمكّن هذه المؤسسات من تأدية مهامها كسلطات رديفة مع باقي المؤسسات، فإننا ندعو إلى ما يلي:
1- العمل الجدي في الدفع بكل ما يطور وينهض فعلياً بواقع تجربتنا البرلمانية وبما يلبي ويخدم تطلعات شعب البحرين.
2- إزالة كافة القيود والحواجز التي تحد وتكبل المجلس النيابي وصلاحياته في التشريع والرقابة والاستجواب والمساءلة بوجه عام.
3- إزالة القيود والتشريعات التي حالت ولازالت تحول دون ترشح فئات واسعة من الشعب والتي أقرها المجلس النيابي في ظروف استثنائية وبات استمرارها غير مبرر ويقوّض تطور الحياة النيابية ويجعلها
منقوصة ومجتزأة.
المنبر التقدمي – البحرين
30 يونيه 2021

اقرأ المزيد

السؤال البرلماني بين الحق الدستوري وقيود اللائحة الداخلية

ينصّ دســتور مملكــة البحريــن في المادة (91) على أن “لكل عضو من أعضاء مجلس الشورى أو مجلس النواب أنْ يوجِّه إلى الوزراء أسئلة مكتوبة لاستيضاح الأمور الدَّاخلة في اختصاصاتهم. وللسائل من أعضاء مجلس النواب وحده حقُّ التعقيب مرة واحدة على الإجابة، فإنْ أضاف الوزير جديداً تجَدَّد حقُّ العضو في التعقيب. ولا تكون الإجابة على أسئلة أعضاء مجلس الشورى إلا مكتوبة.
والسؤال هو أحد الأدوات الرقابية التي تكفل لعضو السلطة التشريعية القيام بمهامه في ممارسة دوره الرقـابي علـى أداء السـلطة التنفيذيـة، وذلك عن طريق: التزوّد بالمعلومــات والإحصائيات والاطلاع على الأسباب والإجراءات التي اتخذتها مختلف الاجهزة التنفيذية، كما تُمكن النائب من مراقبة أداء السلطة التنفيذية في تنفيذ الدستور وتطبيق القوانين. وقد تساهم في التقدم باقتراحات لتعديلات تشريعية في القوانين لمواكبة التحديات والتطورات التي تتطلبها مسيرة العمل العام في البلد.

وقد نظّمت اللائحة الداخلية لمجلس النواب آلية استخدام هذا الحق وشروطه وهو ما نصت عليه المواد ما بين (133 الى 143) في الفرع الثاني من اللائحة، والتي تضمنت العديد من الشروط، ومنها ما يمكن اعتباره مقيداً لصلاحيات النواب.

والجدير بالذكر أن بعض هذه القيود كانت في أصل القانون، أي منذ صدوره بمرسوم عام 2002 في المادة (143)، وبعضها صدر في تعديلات بمراسيم وافق عليها مجلس النواب بالمرسوم بقانون رقم 49 لسنة 2018 والذي جاء ليضيف قيوداً على صلاحيات النواب.

أولاً: ما نصت عليه المادة (143) (يسقط السؤال بزوال صفة مقدمه، أو من وجه إليه، أو بانتهاء دور الانعقاد الذى قدم السؤال خلال ).

لقد نتج عما نصّت عليه المادة (143) في الفقرة الأخيرة، بسقوط السؤال بانتهاء دور الانعقاد المقدم فيه السؤال، سقوط عدد كبير من أسئلة النواب في الأدوار والفصول التشريعية المتعاقبة، وصلت نسبته في الفصول الأربعة السابقة إلى ما يفوق 40% من مجموع الأسئلة المقدّمة، وذلك إما بسبب انتهاء الدور وعدم الاجابة عليه، وذلك بنسبة 12.5 % من مجموع الاسئلة المقدمة، أو أنه تمت الإجابة عليها إلا أنها لم تعرض في الجلسة، وهي بنسبة 30%، مما أدى إلى الانتقاص من حقّ النواب في استخدام حقهم في التعقيب على الوزير المختص بما قد يضيف أو يسلط الضوء على نقص في الإجابة أو عدم تطابقها مع ما لدى النائب من معلومات أو حقائق وهو ما تثبته الاحصائية عن الفصول التشريعية الأربعة السابقة.
احصائية لوضعية الأسئلة البرلمانية المقدمة من أعضاء مجلس النواب منذ الفصل التشريعي الأول حتى نهاية الفصل الرابع

وضعية الأسئلة البرلمانية ف1 ف2 ف3 ف4 مجموع الفصول النسبة المئوية النسبة المئوية 2
تمّ الرد ونظر في الجلسة 246 220 278 252 996 45.5 49.5
اكتفاء النائب بالرد 0 7 18 23 48 2.2
اجابة الوزير شفاهة 4 12 14 9 39 1.8
تمّ الرد ولم ينظر في الجلسة 98 289 96 154 637 29.1 50.5
تمّ الرد بعد انقضاء الدور 0 4 2 0 6 0.3
عدم اختصاص 6 16 23 19 64 2.9
لم يحن موعد الانتهاء 0 0 0 14 14 0.6
انتهت الفترة ولم يتم الرد 0 0 0 9 9 0.4
ارجاع السؤال لتحديد الموضوع 0 2 6 4 12 0.5
ارجاع السؤال لوجود الموضوع في لجنة 1 1 1 0 3 0.1
تمّ الرد بوجود مخالفة قانونية 1 1 0 0 2 0.1
سقط بانتهاء الدور 31 120 43 80 274 12.5
عالق 0 0 0 3 3 0.1
سقط بالتعديل الوزاري 12 0 35 0 47 2.1
سحب 0 13 3 6 22 1
سقط بزوال صفة مقدمة 0 0 14 0 14 0.6
مجموع الأسئلة 399 685 533 573 2190

هذا بالإضافة إلى أنها تعطي الوزراء إمكانية التخلص من عدد كبير من هذه الأسئلة، خاصة تلك الأسئلة التي يتم توجيهها في الأشهر التي تسبق رفع الدور التشريعي، وبذلك ينتقص من عدد الاسئلة المقدمة من النواب، رغم أن هذه الأسئلة تتعلق بالصالح العام، وهذا لا نجد له مبرراً.
فالمعمول به في معظم البرلمانات في العالم هو بقاء الأسئلة التي لم تتم الإجابه عنها إلى دور الانعقاد التالي، وهو كذلك متبع في دول شقيقة، كمجلس الأمة الكويتي، والمجلس الوطني الاتحادي الإماراتي على سبيل المثال. هذا بالإضافة إلى البرلمانات المتقدمة في الممارسات الديمقراطية
ثانياً: ما نص عليه التعديل في المادة (134): والذي أقره مجلس النواب في جلسته رقم 22 في الدور الأول من الفصل التشريعي الخامس والمنعقدة بتاريخ 14 مايو 2019، حيث أضاف شروطاً جديدةً للشروط الواجب توفرها في السؤال، وبما يمثل قيوداً على السؤال البرلماني وتضيقاً على إمكانية استخدامه كأداة رقابة، حيث حصر موضوع السؤال بوقت تحديد الواقعة في الفصل التشريعي الحالي دون سابقه، حتى وإن كان من يتولى المسؤولية الوزير نفسه ما لم يكن موضوع السؤال مستمراً خلال الفصل التشريعي الحالي، وكذلك حصر تقدير صلاحية السؤال بهيئة المكتب، وبذلك يتم تفويت إمكانية احتكام العضو للمجلس ككل، وتغليب دور هيئة المكتب على الجلسة العامة في هذا الجانب.

اقرأ المزيد

بديلٌ للرصاص

فاطمة محسن

تربطني بك علاقة قدرية، كان الألم صغيراً كسني عمري، لكني كنت أفزع منه والتجئ لأحضانك، أنهل من كلماتك فتهدأ روحي وكلما كبرت كلما ازداد ألمي مما جعلني لا أفارق حضنك، أعانق كلماتك، صورك، لوحاتك الجميلة، أنهل من علم الجمال، قدرتك التعبيرية تفوق كل الفنون لطالما كنت معجبة بكل الفنون.

التصوير، الموسيقى، المسرح والتشكيل كانت هذه الفنون تطوف بي عوالم الإبداع فتترك في القلب مياهاً صافية تتفجر على صخور القسوة المسيطرة على عالمي، لكنك كنت دائماً هاجسي ومصدر قلقي وكانت لغتك المتناسقة في سياق فني وروحي تقربني منك أكثر وتنسيني الكثير من ألمي كنت أقبل حروفك، موتيفاتك الفنية البحتة.

وحين يضج صدري بالألم كنت تدخلني عالما غريبا من الرمزية والفلسفة تلون كل ذلك بسمات تعبيرية، وجدانية، انطباعية تصور عالم روحي المتهالكة معاناتي، تأملاتي، مزاجيتي كنت تنساق لداخلي بجمال حواسك وأصواتك وحين يستبد بي القلق والمرض تداوي نفسي بلعبة المخيلة تشغفني بسحر اللون والصورة تسافر بي لعوالم الرومانسية فتجعل جسدي وروحي في حالة توازن حتى حين تتكلم بشكل كلاسيكي وأكاديمي كنت تأسرني وتبدد ضباب الفراغ والضياع ترقى بإنسانيتي وتبرزها.

كنت ملاذاً يشبه البياض لروحي المتآكلة من صدأ الظلم والقهر والعنف تحارب بداخلي الحقد وتهطل مطر شفافيتك على صمتي فتغريني بفتنة البوح على بياض قلبك بما يثقل ذاكرتي من عمق الخسارات. جنونك عاقل وعقلك مجنون كنت حريتي وشهقة الحب الأولى.

أيها الشعر.. كنت دائماً قادراً على نشر الضوء في ليل الروح فهل تصبح اليوم بديلاً للرصاص.

اقرأ المزيد

هنريك غروسمان وقانون الإنهيار الرأسمالي

في دراسته (قانون التراكم والانهيار)، عمد غروسمان إلى نقد توجهين نظريين في الاقتصاد الماركسي: النظرية التناغمية (التي تتمثل بهيلفردنغ وبوخارين، إلخ) ونظرية شح- الاستهلاك (كاوتسكي، روزا لكسمبورغ، هوبسن، إلخ)، ولهذين التوجهين مصادرهما المباشرة من الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، حيث الأول يمثل امتداداً لريكاردو وساي بينما الثاني لسيسموندي.

في نقده يتوصل غروسمان إلى صيغة يجد فيها بأن قانون التراكم والانهيار هو في الحقيقة واحد، ايّ كون التراكم الرأسمالي دائماً يؤدي إلى الانهيار الرأسمالي. من الواضح بأن هذا الهمّ مشترك بالمحاولة النظرية التي تقدمت بها روزا لكسمبورغ في مؤلفها (تراكم رأس المال)، ولكن لا ينطلق غروسمان من مثل المنطلق النظري إذ محاولته تتضمن التحليل التجريدي لقانون التراكم والانهيار؛ بينما روزا لكسمبورغ افترضت حضور عوامل أخرى في إعادة الإنتاج المتوسعة (نموذجها لم ينحصر بطبقتين، وافترضت وجود مناطق لا-رأسمالية، وأدخلت التجارة الخارجية ضمن التحليل).

بمَ يتألف التحليل التجريدي هذا؟ يلبي غروسمان كل المتطلبات العلمية لتحليل إعادة الإنتاج المتوسعة: وجود طبقتين فقط، غياب التجارة الخارجية، الإنتاج والتبادل ما بين قطاعين فقط، غياب الريع الزراعي، ثبات معدل القيمة الزائدة، ثبات رأس المال المتحرك، ثبات دوران رأس المال مرة واحدة في السنة. ولأنه انطلق من نموذج باور لإعادة الإنتاج المتوسعة فإنه بالتالي أبقى على ثبات معدل التراكم ليتطور رأس المال الثابت ضعف رأس المال المتحرك، وذلك ايضاً تلبية للمتطلبات الأساسية للاقتصاد الماركسي.

يحصل بأن مع البقاء على هذه المتطلبات لا بد للتراكم أن يؤدي في لحظة من اللحظات إلى عدم القابلية على الاستمرار، وفي نموذج غروسمان يحصل ذلك بعد 34 سنة من استمرارية التراكم. وفقاً لذلك، توصل غروسمان إلى استنتاجين: الأول، لا يُمكن أن نفسر فائض- الإنتاج، وبالتالي فائض- التراكم، إلا على أساس فهم حقيقي لقانون القيمة. هذا يعني بأن الميل نحو هبوط معدل الربح يتحدد مباشرة بقانون القيمة، ومن غير هذا الفهم سنجد أنفسنا في التناقض الذي وضعت لكسمبورغ نفسها فيه ما بين نموذج التراكم وهبوط معدل الربح. ولأن هذا الميل يتحدد بقانون القيمة، فإن قضية فائض-الإنتاج تصبح، إذن، قضية التناسب ما بين القيمة الزائدة والتركيب العضوي لرأس المال من حيث يكون هبوط معدل الربح مؤشراً للانخفاض النسبي للقيمة الزائدة من حيث لم تعد بحالها قادرة على تغطية مدى تضخم التركيب العضوي.

أما الاستنتاج الثاني فهو يرتبط بفرضية غروسمان الأساسية: لما كان قانون القيمة يفرض هذه العلاقة، فإن هذا يعني بأن الانهيار الرأسمالي متضمن في التحليل التجريدي للرأسمالية.

إن الاستنتاج الأول هو صحيح لا ريب في ذلك، ولكن النزعة الخاطئة في فكر غروسمان موجودة عند الثاني. إنه أدرج الانهيار الرأسمالي، ايّ أدرج عملية انقطاع إعادة الإنتاج المتوسعة، في عملية إعادة الإنتاج المتوسعة بالتحديد كشكلها النظري المحض، أو كقدرها النظري في سبيل إثبات ثورية فكر ماركس. ولكن ثورية هذا الفكر تكمن بالتحديد في تحليل إعادة الإنتاج المتوسعة من دون انهياره إذ النظام الرأسمالي، مثل جهاز اللاوعي، لا يتخيل ابداً زواله.

على العكس من التناغميين الذين يفترضون بأن في ”أرض الواقع“ من الممكن أن يستمر معدل الربح في الهبوط بشكل مطلق، نقول بإن ذلك ممكن فقط في النظرية. إن الوقوع في ما وقع به غروسمان تعني الموازاة المباشرة ما بين مفهوم الأزمة الرأسمالية والميل نحو هبوط معدل الربح، ايّ كما لو كان هذين المفهومين مرادفان لبعضهما الآخر. بينما يصرح علم التاريخ بأن الرأسمالية لا بد أن تؤدي إلى الأزمة، ولكن هذا التصريح لا يمكن أن يتوازى مع: الرأسمالية هي هي الأزمة. إنه كما لو كان هناك من يقول: “وجود الإنسان لا بد أن ينتهي في وقت ما إذن الإنسان هو كائن ميت”، حيث مصير وظائف القلب والعقل وحركة الدم كلها هو التوقف عن الحركة. ولكن تحليل التكوين العضوي البشري لا يفترض موت هذا التكوين رغم أنه لا ينكر إمكانية موته، لا وبل يؤكد حتمية ذلك، إذ إن غرضه تحليل عمل هذا التكوين العضوي الجسماني بالتحديد، ايّ تحليل هذه الأعضاء في عملها.

اقرأ المزيد

متاهات حيدر

النفس البشرية معقدة بما يكفي للخوض في تفاصيلها، وتفسير منعطفاتها المتعددة حتى نهاية الحياة. وتحتل هذه العقد مجمل التصرفات اليومية الناجمة عن مركبات أفكار غالباً ما تتكون في مراحل الطفولة الأولى، وحين لا تحسن رعايتها والعمل على إصلاحها مبكراً، تتمادى في الكبر، وتبدو في البناء الأساسي للشخص في تفكيره، وردود فعله، ومخزونه اللا واعي الذي يمول به الجزء الأكبر من سلوكه. لن يبدو هذا الأمر مخيفاً إذا ما فكرنا أن لدى الجميع هذه العقد التي نشأت للظروف المحيطة بالفرد، أو للحساسية الشديدة التي تجعل العقدة علامة فارقة يتصرف بناء عليها الشخص، أو أن يضمها في خزنة التناسي ليستطيع إكمال حياته، ويبدو سليماً، معافى، ويمثل صورة السوي المثالي.
يغوص عرض “حيدر”، منذ وقته الأول، في نفس بطله المسمى بعنوان النص والعرض أيضاً، “حيدر”، دون إضافة ترادفها في اللغة العربية “أسد”، في حين أن مصدر الكلمة يأتي من “حدر”، ويعني ما انحدر من الأرض. وعلى نقيض المعنيين، تبين الهيئة التي ظهر عليها الممثل إرهاقه الذهني، حيث يهذي بـ”أبي الذي.. أبي الذي”، ثم يردفها بجمل غير معلوم إن كانت موجهة إلى الأب، أم إلى الخالق، وباعتبار أن الشخصية غير سوية حين يعاتب “لماذا تركتني هنا؟ لماذا نسيتني؟ ألا يكفيك كل هذا الوجع، وكل هذا الأنين؟ لماذا اخترتني إذاً؟ أي هدف ترمي إليه؟ إذا كان دمي يكفّر عن خطايا وذنوب البشر، فقد جف دمي..”. وأياً كان الموجَّه إليه العتب، فإن هذه البداية تكشف عن شخصية مضطربة، مرتبكة، تتعالج في مستشفى لهذه الحالات، فلا يطول المقام في التمهيد كثيراً بين نثر بصوت مؤدَّى بطريقة تمثيلية لـ”جمانة القصاب”، جاء مثل الراوي الشارح للحدث، والمعبر عن مكنون النفس، بغير تداخل مادي على الخشبة مع باقي الممثلين، مع موسيقى حية مشحونة بالشجن المرتبط بالعاطفة وتداعياتها لآلة التشيلو، مع العازف “حامد سيف”، وقد جاء هذان العنصران إضافة مهمة وحيوية للعرض في مصاحبة الممثل طوال الوقت، والدخول في الأداء، دون مبالغة، وبدقة هائلة تحسب للمخرج وللعمل.
وحين تتردد سيرة الأب بين حيدر وطبيبه والممرضة، تستدعي الذاكرة -تلقائياً- عقدة الأب، التي تنحو صوب الاعتمادية الكلية على الأب، وعلى طريقة إدارة حياة أسرته في القسوة والعنف، الأمر الذي يترك أثره بلا شك في أولاده، وقد عبر عنها الممثل في وصف أبيه بأنه “كان طويل الساقين والذراعين، ولم أكن أعرف أنه يملك وجهاً..” في معرض نقاشه مع الطبيب الذي لا يبدو هو الآخر خالياً من ذات العقدة، ولكن بقدر أخف من “حيدر”، أو ربما قال جملته “كنت أمسك يد أبي حينما أسقط في المستنقع وراء البستان.. كانت هذه اللمسة الوحيدة”، وقد تكون جملة تخفف عن عبء مريضه، وتحفزه لمزيد من الحديث عن ذاته، وبالتالي علاجها، لكنها لا تخلو من إشارة إلى قسوة متباينة بين أب وآخر، تضع آثارها على حياة ابنيهما؛ حيدر والطبيب، في جودة الحياة التي يمر وقتها بناء على ما حصل للفرد في ماضيه رغماً عن إرادته، وبين ما يختاره حتى تلتئم جروحه سريعاً، فيمر على محطات التوجه الديني، أو نقيضه الفكري، أو الخلط بينهما بتطرف، أو حتى كتابة “مقال عن المحرمات”، عن أشياء لا يفهمها، ولكنه يضطهد من قبل الجميع لأسباب لم يفهمها! عدا العنف الجسدي الذي يبدو أنه أخذ من ذاكرة الممثل الحسية جزءاً لا يستهان به، انعكس على مجمل تصرفاته المرتبكة في أن يخاف الأذية الجسدية والضرب من قبل أي أحد، وبلا سبب، متقمصاً شخصية المهزوز، عديم الثقة بنفسه وبالآخرين أيضاً.
لكن، هل كان حيدر يعاني من عقدة الأب فقط؟ إن بعض الإشارات التي ذهب إليها العرض هي ملامح لعقدة الأم أيضاً، والتي تحيل إلى عقدة أوديب الشهيرة، والمتعلقة بالابن تجاه أبيه، بسبب القيود التي يفرضها الأب على الطفل الذكر؛ من أن يستحوذ الابن على أمه بالكامل، ويستبعد الطفل أباه -لا شعورياً- من مشاركته في حب أمه. تبيّن هذا في أكثر من ملمح، منها ما جاء على لسان البطل، حين وصف والده بأنه كان يكره أمه، ويستمتع في التحكم بها، وازداد هذه الكره حينما ولدت حيدر، ورآه والده في مرة وهو يرضع من ثدي أمه، فرغب في قطع الثدي بشدة! لأنه شعر أنها تحررت، ولم تعد تكترث. ويكبر حيدر ليدرك أن “خط سيره عفن؛ ذلك أن الأطفال لا يكبرون دون أمهاتهم” كما تردد الراوية.
وانعكس كذلك على تجاربه مع الأنثى في حياته “المرأة ضرورية”، كما يردد، ونرى تجاربه في تلك الفتاة المعجب بها، والتي واعدته بلطف المحبين، وأثناء حديثهما يلمس وجهها بالتدريج ليحتفظ بجزء من جلد وجهها تحت ظفره، حتى يكشف عن القناع الذي تتغطى به، أو تلك الجارة العجوز التي حاولت انتهاك طفولته بتحرش لم يدرك معناه بالكامل، لكن أدرك بفطرة الطفل الخائف المشوش أنه فخ للوقوع في خطأ لا يدركه، ولكنه يعي أنه أمر مشين، وعلاقته بالممرضة التي تحوطه طول الوقت، وغيرها. أما علاقته الغريبة بعمته التي أرسِل لها -قسراً- بعد وفاة أمه، فهي التي تحمل علامات الاستفهام الكبرى، إذ أظهر العرض العمّة “إيمان قمبر” -التي قامت بمجموع كل الأدوار النسائية في العرض-، وعلاقة لا تبدو سوية، من خلال نبرة الصوت، وطريقة اللمس من العمة التي تأتي في مقام ولي الأمر هنا، لابن أخيها الذي لا يتعدى الثماني سنوات، وتعنيفه حين طلبت منه تقبيلها، واستخدام الحليب لاستحمامه، في مغزى قد يؤوَّل بعيداً جداً عن العلاقة السوية الخالية من النزعة المادية النفعية بين ذكر وأنثى، دون تصريح مباشر، أو علامة أخرى تعزز هذا الرأي، مما يجعل المسألة معلقة؛ هل هي حقيقة بينة موجودة، ومرّ بها حيدر، أم أنها محض تهيؤات تتداخل فيما بينها، تدور في ذهنه، ويشركنا معه فيها؟
ولأن الحياة تخضع كل إنسان لهذه الاختبارات العصية على النسيان، والممتحنة للصبر، والوعي، والقدرة على الإدارة، يضع العرض أسئلته فيما يخص تجربة بطله؛ فيما إن تعرض أيّ “حيدر” في الحياة لتجربة مماثلة عن ماهية ردة الفعل المثالية للعيش بشكل سوي وأنيس -حتى ولو بشكل سطحي- مع باقي البشر، عن مدارة تقرحات الطفولة والكبر، والانسجام معها، أو اخفائها، أو أن تبدو كعقل حيدر المتجسد في لون ملابسه الرمادية المشتقة من الحيرة، والوقوف في منطقة النصف؛ بين الأبيض الواضح، والأسود الصريح الغامض، ومجسمه على خشبة المسرح على هيئة مخ مثقوب من كل مكان، خطوط دقيقة، لكنها كثيرة متقاربة، وتسمح بتسرب الأفكار وفضحها، حتى وإن لم يكن هذا مناسباً للإعلان أمام الآخرين.
ورغم ارتكاز الأداء التمثيلي على “حيدر” (صالح الدرازي)، في أداء لافت، ممتنع، سهل، معقد، بسيط، مريض، مرتبك، وحريص على أن يبدو مكتملاً في التعبير عن الحالة النفسية التي مرّ بها منذ الطفولة وحتى وقته، إلا أن إدخال الشخصيات الأخرى المتمثلة في الأب/ الطبيب/ مدير المستشفى وكذلك الأم/ العمة / الممرضة والحبيبة، في عبدالله السعداوي وقمبر، كانت تقنية موفقة، تمنع المونولوج الطويل الذي قد يشيع جواً من الأسى، وأيضاً لكسر حاجز السرد المتواصل للثيمة الواحدة “معاناة مريض نفسي”، وإحساسه الدائم أن الآخرين هم المرضى الذين يجب إحضارهم للمستشفى ومعالجتهم بدل أن يتم حبسه هو وتعذيبه بجلسات كهربائية لا يستحقها، وتوجسه المبرر مع كل مراحل حياته؛ في طفولته مع والدته/ النشأة، يتيم ومحروم من حنان الأم، مع قسوة غير مبررة من الأب/ العيش مع الجدة التي ذهبت بصحبة الموت سريعاً، ثم العمة التي أربكته طريقتها غير السوية، وموتها لاحقاً.
وإذا كانت التفاحة هي الرمز المألوف في الإغواء وخروج آدم من جنته، يستخدم العرض البرتقالة لسبب مقارب، ولكنه مختلف، عن أن هذه الفاكهة وسيلة إخصاء، تهدد بفناء البشرية الذين سيتبقى منهم جزء قليل سيتولاهم الله فيما بعد ليلحقهم بمن ذهبوا. واستخدمت البرتقالة أيضاً كمخايلة عن تعبير جنسي موازٍ عند حيدر، ثبتت حركته بعد أن ضبطه والده في هذا الفعل الذي يقتضي منه “التطهر” مما لا يفهمه. وقام المخرج بإلغاء السيمفونية الخامسة لبيتهوفن التي دعا لها النص المكتوب، مع أنها تعزز المعنى في الرغبة بالتحرر من القيد، ونيل حياة جديدة، كما كان للموسيقار الألماني، رغم كل الصعوبات التي واجهها في حياته؛ من قسوة الأب، وظروف عائلية عصيبة، وأمراض مستعصية في وقت لاحق، أن يفتح باباً جديداً للحياة، ويعطي الأمل لكثيرين مثل حيدر، الذي يبتهل صادقاً في آخر العرض “خذني أو كن دليلي”.

لمشاهدة العرض كاملاً:

طاقم العمل: تأليف: أمين صالح/ إخراج: محمد شاهين/ تمثيل: صالح الدرازي/عبدالله السعداوي/ إيمان قمبر/ سينوغرافيا: علي حسين/ تأليف موسيقي: حامد سيف

اقرأ المزيد

الأخلاق والطغيان الأخلاقي

في رواية “موت صغير” الحائزة على جائزة البوكر لسنة 2017 والتي تتحدث عن سيرة الشيخ محيي الدين ابن عربي، تُخبره شيخته فاطمة بنت المثنى حين كان سالكاً في طريق الاستقطاب بأنه لبلوغ وتده – والوتد هنا هو المرشد الروحي – عليه أن يُطهر قلبه، فيعمل ابن عربي على تطهيره من جميع المفاسد إلا أن الوتد لا يجيء ولا يفصح عن نفسه. تسأله الشيخة: كيف طهرّت قلبك؟ فيجيب: “حمَّلته على مكارم الأخلاق وصفاء السريرة وحسن النية حتى صيرته رافضاً كل صورة”. فردت عليه الشيخة بأن تلك نصف الطهارة، ولكي تتم نصفها الآخر عليك أن تصير قلبك قابلاً كل صورة.
قدّمت لنا تجربة ابن عربي في تاريخنا الإسلامي نموذجا سامياً للإسلام الروحاني الذي يتخطى الاختلافات ويرى الواحد في الكثرة، حيث صار قلبه وصيّر قلوب الكثيرين قابلة لكل صورة. علاوة على وحدة الوجود عند ابن عربي، أسس شيخ آخر يدعى حمدون القصّار طريقةً أخرى في تهذيب النفس، إنه يقول: “إذا رأيت سكراناً فتمايل لألا تبغى ويبغى الناس عليه”. أي تمايل مع السكران لكي لا تجعله وحيداً في الساحة وتحرض الخلق كما تحرض نفسك على الطغيان والظن بأنَّك ومن معك أفضل منه. عرفت الطريقة القصّارية بالملامتية أيضا، لأنها تقوم على لوم النفس والانشغال بتهذيبها للوصول إلى السمو الروحي: “من انشغل بذكر عيوب الناس شغلته عن ذكر عيوبه”.
هذه هي القاعدة التي جاءت منها أيضا نصيحة اخوان الصفا في تهذيب العلماء حين قالوا في رسالتهم الموسوعية التي ضمَّت من كل علم شيئا: “ولا تشتغلن بذكر عيوب مذاهب الناس، ولكن انظر هل لك مذهب بلا عيب!”. ولما سألوا الحسن البصري: من شر الناس. أجاب: “من ظن أنه خيرهم”. وصدقاً ما قال، يوجد الكثير من الشر حين نرى الخير الذي فينا.
إن القيم الأخلاقية تشكل عُصابا عند الكثير من الناس يدفعهم نحو الطغيان الأخلاقي مع من هم دونهم، إلا أنهم امام التعامل مع غيرهم يسقطون سريعاً في المستنقع ليبينوا لنا كيف أن هذه القيم تحمل في طياتها ذاتاً متضخمة تسقط بها للأسفل. إن هذا العُصاب يجعل بيننا وبين الفهم حجاباً لأننا دائما في حال محاكمة للآخر.
في حياتي كان للطغيان الأخلاقي حضوراً منذ الطفولة، كان لنا في القرية جار مدمن على شرب الكحول، رحمه الله، توفي وحيداً قبل سنوات، ولم تكن له زوجة تعينه على مشاق الحياة، أما جنازته فكانت صغيرة على قدر التابوت. عرفناه رجلاً في حاله، لم يؤذِ أحد لكن الكثير كانوا يؤذونه إن لم يكن بالفعل فبالقول، وإن لم يكن أمامه فمن خلفه. يوم كنا صغاراً لعبنا بمحاذاة منزله، كان يجيء إلينا من مقرّ عمله بالمطار محملاً بأشياء تُسعدنا، ألعاب ومأكولات، وعرفت منه لأول مرة طعم سندويتشات المارتديلاً، أما حين كان يعطيني شيبس الفونزيس كانوا يأخذونه مني ليغسلوه سبعاً بغية تطهيره من النجاسة! كبرت وأدركت أكثر كم أن القلوب الطاهرة لا تنجسها النجاسات الخارجية، بينما نجاسة القلوب لا يمكن تطهيرها بالأردية والاغتسال، فأخطر النجاسات لا تأتينا من الخارج بل ما ينبعث من الداخل.
في إحدى السنوات قبل وفاته حدث جدال بين اثنين من أقاربي على إثر دخول جارنا هذا مأتماً. كان أحدهما أكثر تشدداً من الآخر فقال بأنه لا يمكن “للخمار” ان يدخل المأتم لأنه ينجسه، ويسيء للمأتم وسمعته أيضا. بينما قال الآخر: لِم لا، عسى أن يكون دخوله باب هداية له. أما أنا فكنت أرى المأتم باب الله المفتوح الذي يسع العالم كله، سواءً اهتدى الداخل إليه أو لم يهتدِ، فمن ذا الذي يخلو من المعاصي. ومن ذا يعرف من هو الأكثر مقربة إلى الله. أشيخ المنبر أكثر طهراً أم هذا الخمار. من يدري؟!
في واحدة من أبرز الحوادث التي شهدت فيها طغيانا أخلاقيا فاقعاً كان حين استيقظت في صباح الخامس عشر من يونيو الماضي على خبر انتحار الناشطة المصرية المدافعة عن حقوق المثليين سارة حجازي، أخذت اتصفح التعليقات على خبر الوفاة فكانت معظمها تتمنى لها جهنم وبئس المصير، وأخرى تكيل على قبرها سيل لعنات لا نهاية لها. كانت التعليقات بعد مماتها كافية لمعرفة السبب الذي قادها للانتحار. قلت: نحن أيضا شركاء في الجريمة. نحن من قتلنا سارة، لم تقتل سارة نفسها.
في معرض حديثنا عن سارة حجازي وتهكمي من تنمر الناس عليها وهي جثة تحت التراب، قال لي أحد الأصحاب في محاولة لاستفزازي: “لا تأخذ الموضوع من ناحية شخصية، ولكن لو كان ابنك أو ابنتك لديهما هذه الميول هل ستقبل بذلك؟”.
البعض لا يدرك لحد الآن أن هذه معاناة جسدية حقيقية، لا يستطيع البعض تحديد جنسه حتى في أبسط الأشياء مثل دخول الحمامات العامة: هل علينا دخول حمامات الإناث أم الذكور؟ فإذا كان هذا يحدث على المستوى الجسدي فكيف بالمستوى الذهني الذي لا ينفصل عن الحالة الجسدية؟!
إن كل هذا الخوف من الهوية الجنسية والميول المثلية يتعلق بالنظر إليها كمرض معدٍ سينتشر سريعا بين الناس، وبأنها مسألة منافية للأخلاق لأنها خارجة عن القانون الطبيعي، ولكن هل هناك قدسية للقانون الطبيعي؟ وهل هو بهذا الجمال والحدية؟ ألا تخرج من هذا القانون الطبيعي اعاقات جسدية ظاهرة وتشوهات وطفرات جينية يصعب علاجها أو يؤدي علاجها بالخطر على حياة الإنسان؟ لن أطيل هنا لأشرح درسا في الجندر، بل لمن يريد ذلك عليه أن يرجع للأبحاث العلمية التي تفسر العشوائية في الطبيعة وتعدد الهويات الجنسية التي فيها، ليس في عالم الإنسان فقط بل في عالم الحيوان أيضا.
لأردّ على سؤال صاحبي الذي أراد به استفزازي كان علي أن أقارب مقاربةً قد تبدو للبعض ساذجة، إلا أنها تجيء بفائدة خصوصا مع أولئك الذين ينظرون للمثلية كتشوه في الصورة التي يجب أن يكون عليها الرجل والمرأة. أردت من صاحبي أن يتخيل ابنته وهي تعاني من تشوه خلقي ظاهر على بدنها، ويصعب علاجه او تجميله، أعتقد أن كل أب سيصاب بحرقة وسيبحث عن حل عند الأطباء في محاولة لجعل ابنته كغالبية الناس، ولو أن هذه الابنة تعرضت للتنمر الاجتماعي ألن تكون حرقة كل أب أكبر، ليس بسبب مظهرها بل بسبب ما تتعرض له، سيحاول كل أب الوصول لأي من أولئك المعتدين وتلقينهم درسا؟!
ما أضيقنا نحن الذين نستيقظ صباحا لنقرأ خبرا عن شخص ميت لا ندرك عن معاناة أهله وموته وحياته شيئا، ولا ندرك ما الذي كان يحدث حقاً داخل جسده فقط لنشتمه ونكيل على قبره سيل لعنات بينما نستمتع بشرب كوب قهوتنا الصباحي. كم مرة علينا أن نسقط أخلاقياً بحجة أننا ندافع عن الأخلاق. من يدافع عن الأخلاق حقاً عليه أن يتحلى بصفة الرحمة فيرأف بالخلق. وحين يبرز جيش الرب عليك الا ترفع سيفاً بل قدّم قربة ماء واسقي العطاشى في الطريق من المساكين والمعدمين الذين لا يلتفت إليهم أحد، لأن الله ليس بحاجة إلى جنود كالسلطان، إنما إلى القلوب الرحيمة التي تهوّن على الإنسان مشاق الرحلة الدنيوية.

اقرأ المزيد

التحرر من التعب

يخبرنا نيتشه: “لقد سئمنا من الإنسان …”. هل يمكن أن تكون الحداثة خلقت مجموعة من البشر المنهكين؟ هل فرط نشاط حداثتنا يخفي التعب الشديد تحت بريق مظاهره؟ إذا كنا متعبين جدًا، فأين يمكن أن نجد الإيمان لاستئناف الطريق ؟ أين نستيقظ؟

نتحدث كثيراً عن الملل الذي خلفه الوباء الحالي، ونحن نعني في حقيقة الأمر “التعب”. الكلمة المتكررة على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي هي “الملل”، إلا إننا ينبغي علينا في الحقيقة استبدالها بكلمة “التعب”، كدلالة على تدهور الوضع الإنساني، وتعب الإنسان من مواجهة الحياة بكل تعقيداتها وكوارثها. التعب، ما هو إلا دليل على فرط نشاط سابق، فضل المرء أن يستنفذه في ما يلهيه بدل تكريسه في مواجهة ما عليه انجازه. بكلمات أخرى، نحن نضيع حياتنا في عمل أشياء مغايرة عن ما فوضتنا الحياة لعمله، وهذا ما يؤدي بنا الى التعب. نحن منهكون من الاستجابة بشكل دوري لما يلهينا عن مواجهة حقيقة الحياة، التي نفضل أن ننساها ونحن نفعل أشياء ذات منافع قليلة علينا وعلى البشرية. الشخص الجالس عن الأريكة ليس بالضرورة مرتاحًا، بل هو على الأغلب منهك من الخوف، الخوف من أن كل هذا ماضٍ وهو كذلك.

تحدّث نيتشه مطولاً عن هذا التعب وهو يعني تراكم التعب الفيزيولوجي والسيكولوجي، الذي ينتج عنه جبن أو عدم قدرة على مواجهة الصعوبات. الابتعاد عن هذه الصعوبات يزيد من التعب لأنه لا يحله، وإنما يؤجله ويسهم في تراكمه. هناك في التعب ما فيه فائدة وحثّ على الانتاج، تعب يشبه ذلك الخاص بنيتشه وهو يمشي مسافات للظفر بالقدرة على التفكير:

“أعلّم الآخرين على قول “لا”. لأي شيء يجعلنا ضعفاء وعلى قول “نعم” في مواجهة ما يقوينا، و يبرر الشعور بالنشاط و الحيوية. حتى الآن، لم ندرس أيًا من هذه القواعد واكتفينا بالفضيلة، نكران الذات، الشفقة، إنكار الحياة… كل هذه القيم أجبرتني على سؤال نفسي هذا السؤال: (إلى أي مدى دخلت أحكام المنهكين إلى عالم القيم؟). كانت النتيجة التي توصلت إليها مفاجئة إلى حدٍ بعيد، حتى بالنسبة لي، أنا الذي شعرت بالألفة حتى في العوالم الأكثر غرابة: لقد عرفت بأنه بالإمكان تحويل الأحكام العليا إلى أحكام مستنفدة”

في “إرادة القدرة”، يبرز نيتشه امتعاضه من طريقة الإنسان في التعامل مع الأمور التي يريد تجنبها. وضع الإنسان أمام أعينه سلسلة قيم، كالفضيلة والصدق والشفقة …الخ، لاستئصال كل شعور سيء إلا أن هذا الشعور مهم لإنسانيتنا، وتجاهله يجلب المزيد من الشر. الاختباء تحت عباءة الحلم بما بعد الحياة يحرمنا من عيش الحاضر الذي ينبغي علينا مواجهته بحلوه ومرّه. مشهد الإنسان المتعب أصبح عبئًا على الفيلسوف الذي تعب من رؤية الإنسان في هذه الحالة، حتى حمل على نفسه واجب تغيير هذا الحال.

عندما يصل الإنسان إلى أعلى مستويات التعب، يولد فيه الحماس لتغيير هذه الحال والعمل على التخلص من هذا الإنهاك. هذا في رأي نيتشه هو الإنسان المتفوق القادر على إعادة مشاهد التعب وتخطيها، كمن يعيد الحياة والموت أكثر من مرة ولا يسأم من ذلك. الإنسان المتفوق، ليس هو الإنسان المنطقي، ولكن هو الإنسان الذي لا يستسلم، هو الإنسان المتحمس ومتمالك النفس في آن.

لا يتحرر الإنسان من تعبه إلا إذا أطلق حماسه للعمل والإنتاج، وكما قال نيتشه على لسان زرادشت: “الإنتاج والعمل يحرران من المعاناة، وهذا ما يجعل الحياة خفيفة”. فلنعمل إذاً على تخفيفها.

اقرأ المزيد